مجموعة الرسائل والمسائل/لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة
لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة
(ومسائل أخرى فشت فيهم)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة سئلها الشيخ الإمام العالم العلامة، إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان، مفتي الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين: في جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها، ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظا لا تليق بالعقل والدين فمنها أنهم يقولون إن رسول الله ﷺ ألبس علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لباس الفتوة ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون إن اللباس أنزل على النبي ﷺ في صندوق ويستدلون عليه بقوله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " الآية - فهل كما زعموا أم كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين، فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي يسمون بها بعضهم بعضا من اسم الفتوة ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة، ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائز أم لا؟ وإذا قيل لا يجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟ وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم ويمنعهم من ذلك أم لا؟ مع إمكانه من الإنكار وهل أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنه أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟ وهل خلق النبي ﷺ من النور أم خلق من الأربع عناصر أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس لولاك ما خلق الله عرشا ولا كرسيا ولا أرضا ولا سماء ولا شمسا ولا قمرا ولا غير ذلك صحيح هو أم لا؟ وهل الأخوة التي يؤاخيها المشايخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل آخى رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أم لا؟ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطا شافيا مأجورين.. أثابكم الله تعالى.
لباس خرقة الفتوة مبتدع
الجواب: الحمد لله. أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة والسراويل أو غيره وإسقاء الملح والماء فهذا باطل لا أصل له ولم يفعل هذا رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه لا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين لهم بإحسان، والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي ﷺ بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمرا من الأمور التي لا تعرف عنه فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه، فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبي ﷺ تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وإنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش، فهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة فإن النبي ﷺ لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف ولا سماع دفوف وشبابات ولا رقص، ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك ولا قسمه على أصحابه وكل ما يروى من ذلك مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته.
فصل في شروط لباس خرقة الفتوة
والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث وأداء الأمانة وأداء الفرائض واجتناب المحارم ونصر المظلوم وصلة الأرحام والوفاء بالعهد أو كانت مستحبة كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية إن كلا منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله وفي الصحيح عنه أنه ﷺ قال: " ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " رواه البخاري. وفي السنن عنه أنه قال: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله، وإن كان مما نهى عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: " واوفوا بعهدي اوف بعهدكم " وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان كعقد البيع والإجارة والهبة وغيرهما أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئا مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلا.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودا أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.
فصل في الفتى والفتوة والزعيم والحزب والدسكرة وما قالوه فيها
وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: " إنهم فتية آمنوا بربهم ". وقوله تعالى: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ". ومنه قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه " لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق كقول بعضهم: طريقنا نتفتى وليس بتقوى، وقول بعضهم: الفتوة أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظما، ومودة لا مضارة، قول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء كلفظ الإحسان والرحمة والعفو والصفح والحلم وكظم الغيظ والبر والصدقة والزكاة والخير ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعاني، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب والخيانة والفجور والظلم والفاحشة ونحو ذلك.
لفظتا الزعيم ورأس الحزب ومعناهما
وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: " ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم فإن كان قد تكفل بخير كان محمودا على ذلك وإن كان شرا كان مذموما على ذلك.
وأما "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبا فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.
ذم الشرع للتفرق وأمره بالاتفاق والوحدة
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمه وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح عنه أنه قال: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ". وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قيل: يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: " تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ". وفي الصحيح عنه أنه قال: " خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشتمه إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه ويشيعه إذا مات ". وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوانا ".
وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وإن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وإن تناصحوا من ولاه الله أمركم ".
وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " صلاح ذات البين، هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها.
وأما لفظة "الدسكرة" فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم ولكن هي في عرف الناس يعبر عنها عن المجامع كما في حديث هرقل أنه جمع الروم في دسكرة، ويقال للمجتمعين على شرب الخمر أنهم في دسكرة، فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم لكنه من فروض الكفايات فإن قام من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم والأوجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه.
فصل في مم خلق النبي ﷺ وبم تتفاضل المخلوقات
والنبي ﷺ خلق مما يخلق منه البشر ولم يخلق أحد من البشر من نور بل قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الله خلق الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ".
تفضيل خواص البشر على الملائكة
وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط بل قد يخلق المؤمن من كافر والكافر من مؤمن كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين فلما سواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء، وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك، فهو وصالحوا ذريته أفضل من الملائكة وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء من نور، وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع فإن فضل بني آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " والآدمي خلق من نطفة ثم من مضغة ثم من علقة ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذي تشابه أول أمره وآخره، ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال.
وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحي الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات، فخلق بدنه من الأرض وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال هو العالم الصغير وهو نسخة العالم الكبير.
ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه ومن هنا قال من قال إن الله من أجله العالم، أو إنه لولا هو لما خلق عرشا ولا كرسيا ولا سماء ولا أرضا ولا شمسا ولا قمرا، لكن ليس هذا حديثا عن النبي ﷺ لا صحيحا ولا ضعيفا ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي ﷺ بل ولا يعرف عن الصحابة بل هو كلام لا يدرى قائله، ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: " سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة " وقوله: " الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا الله لا تحصوها " وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبني آدم ومعلوم أن لله فيها حكما عظيمة غير ذلك وأعظم من ذلك، لكن يبين لبني آدم ما فيها من المنفع وما أسبغ عليهم من النعمة، فإذا قيل فعل كذا لكذا لم يقتض أن لا يكون فيه حكمة أخرى وكذلك قول القائل لولا كذا ما خلق كذا، لا يقتضي أن لا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضي إذا كان أفضل صالحي بني آدم وأفضلهم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة من غيره، وصار تمام الخلق، ونهاية الكمال به حصل لمحمد ﷺ والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة. وسيد ولد آدم هو محمد ﷺ آدم فمن دونه تحت لوائه قال ﷺ: " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه، فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها هو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال إنه لأجله حلقت جميعها، وإنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك.
منع الغلو في الرسول وما هو خاص بالرب
وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شيء من الربوبية كان ذلك مردودا غير مقبول فقد صح عنه ﷺ أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " وقد قال تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم، إنما الله إله واحد " والله قد جعل له حقا لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب السيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ". وقال تعالى: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " فالإيتاء لله والرسول، وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده.
فصل في أخوة الإيمان والمؤاخاة بين الصحابة
وأما المؤاخاة فإن النبي ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى أنزل الله تعالى: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله "، فصاروا يتوارثون بالقرابة وفي ذلك أنزل الله تعالى: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " وهذا هو المحالفة واختلف العلماء عل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: " لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلى شدة ".
والثاني: أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه.
وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال إنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه آخى عليا ونحو ذلك فهذا كله باطل وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة وذلك نقل ضعيف إما منقطع وإما بإسناد ضعيف والذي في الصحيح هو ما تقدم ومن تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة تيقن أن ذلك كذب.
وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: " إنما المؤمنين أخوة " وقول النبي ﷺ: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه " وقوله: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه " وقوله: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه " ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة
والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان بناء على أن ذلك منسوخ أم لا، فمن قال: إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع. ومن قال إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال: إنه مشروع.
شروط السماع والإخاء عند الصوفية
وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول: على المشاركة في الحسنات، وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه ونحو ذلك، فهذه كلها شروط باطلة فإن الأمر يومئذ لله، هو " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا " وكما قال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ".
وكذلك يشترطون شروطا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها وما أعلم أحدا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال، لا حقيقة له في المال وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله فضلا عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك - وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع والله أعلم.
(قاله أحمد بن تيمية الحراني).