انتقل إلى المحتوى

مجموعة الرسائل والمسائل/حقيقة مذهب الاتحاديين/كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية

السابع: أنه " قال ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلا عالم بالله. وليس هذا العلم إلا الخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم. حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا - إلى قوله - ولما مثل النبي النبوة بالحائط من اللبن.

ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى. وما أشبهه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل: فخر عليهم السقف من تحتهم أن هذا لا عقل ولا قرآن. وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر. ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا. وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدة الوجود، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق وهو تعطيل الصانع حقيقة وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلا العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء. فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته.

ثم أخذ يبين ذلك فقال: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي نبيا ولا رسولا فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية هي أفضل من النبوة والرسالة، ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه:

مقام النبوة في برزخ... فويق الرسول ودون الولي

وقال في الفصوص في "كلمة عزيرية": "فإذا سمعت أحدا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول فإنه يعني بذلك في شخص واحد، وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلا منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه إذ لو أدركه لم يكن تابعا له". وإذا حوققوا على ذلك قالوا: إن ولاية النبي فوق نبوته وإن نبوته فوق رسالته، لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه.

ما أخطأ فيه الحكيم الترمذي في فرية خاتم الأولياء

وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع..

منها: أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما أدعوه باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الولاية " وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية، مثل دعوه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما. ثم أنه تناقض في موضع آخر لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك.

ومنها: أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله وخير الهدي هدي محمد ، وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته.

ومنها: ما ادعاه من خاتم الأولياء الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلال واضح. فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة. وخير القرون قرنه كما في الحديث الصحيح " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين " قال الترمذي حديث حسن وفي صحيح البخاري عن علي عليه السلام أنه قال له ابنه يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله ؟ فقال " يا بني أبو بكر " قال: ثم من؟ قال " ثم عمر " وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ".

وهذا باب واسع وقد قال تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) وهذه الأربعة هي مراتب العباد: أفضلهم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون. وقد نهى النبي أن يفضل أحد منا نفسه على يونس ابن متى مع قوله (ولا تكن كصاحب الحوت) وقوله (وهو مليم) تنبيها على أن غيره أولى أن لا يفضل أحد نفسه عليه. ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود عن النبي قال " لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى "، وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال قال رسول الله " ما ينبغي لعبد أن يكون خيرا من يونس بن متى " وفي لفظ " أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي قال " من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال - يعني رسول الله " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي - وفي لفظ: فيما يرويه عن ربه " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وهذا فيه نهي عام.

وأما ما يرويه بعض الناس " لا تفضلوني على يونس بن متى " ويفسره باستواء حال صاحب المعراج وصاحب الحوت فنقل باطل وتفسير باطل. وقد قال النبي " اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " وأبو بكر أفضل الصديقين.

بيان كلام الله ورسوله لأولياء الله ودرجاتهم

ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الآية فكل من كان مؤمنا " تقيا " كان لله وليا، وهم على درجتين: السابقون المقربون وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي أنه قال " يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض. وقد قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب: " اعلم أن لله عليك حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنها لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ".

والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله. وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح كما بيناه في غير هذا الموضع. وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا فليس الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإن كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول وآخذا عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرا. فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله.

أبو بكر فعمر أفضل الأولياء، وإلهام عمر وعدم عصمته

والأولياء وإن كان فيهم محدث كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال " إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر " فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام. ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافا عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول وترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول فيقال له: أصبت فيقول: ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه. فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا - فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع، ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة، ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث، لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة فلا يأخذ إلا شيئا معصوما محفوظا، وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه. وبهذا صار جميع الأولياء مفترقين إلى الكتاب والسنة، لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول، فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل وإن كانوا مجتهدين فيه والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم ويغفر لهم خطأهم.

ومعلوم أن السابقين الأولين أعظم اهتداء واتباعا للآثار النبوية فهم أعظم إيمانا وتقوى. وأما آخر الأولياء فلا يحصل له مثل ما حصل لهم.

والحديث الذي يروى: " مثل أمتي كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أو آخره " قد تكلم في إسناده، وبتقدير صحته إنما معناه بما في آخر الأمة من يقارب أولها، حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب، مع القطع بأن الأول خير من الآخر ولهذا قال " لا يدرى " ومعلوم أن هذا السلب ليس عاما لها فإنه لا بد أن يكون معلوما أيهما أفضل.

ادعاء مرتبة خاتم الأولياء الوهمية كثير من المضلين

ثم أن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص، وتابعه صاحب الكلام في الحروف، وشيخ من أتباعهم كان بدمشق، وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوج ابنته بعيسى بن مريم، وأنه خاتم الأولياء. ويدعي هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده، كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح.

بطلان زعمهم أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة

ثم صاحب الفصوص وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك، فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب، فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثا قد ألقي إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة.

وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه: من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء، وبالإيحاء، وهذا فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأوليان فإنهما للأنبياء خاصة، والأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة ويكون هذا الأخذ أعلى وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء، وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى.

وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فبنوا على أصلهم الفاسد: أن الله هو الوجود المطلق الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر - وإن كانت من وساوس الشيطان - يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى بن عمران، وفيهم من يزعمون أن حالهم من حال موسى ابن عمران، لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة وهم على زعمهم يسمعون الخطاب من حي ناطق كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال:

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

إثبات أهل السنة رؤية الرب في الآخرة، ومخالفة الجهمية والاتحادية

وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام، وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد، وإنما الحجاب متصل به، فإذا ارتفع شاهد الحق، وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه من الوجود المطلق الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم، ومن الوجود المخلوق. فيكون الرب المشهود عندهم الذي يخاطبهم -في زعمهم- لا وجود له إلا في أذهانهم أو لا وجود له إلا وجود المخلوقات. هذا هو التعطيل للرب تعالى ولكتبه ولرسله، والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم دهليز الزندقة والتعطيل. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه قال " واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة، وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه.

وفي رؤية النبي ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس، فعائشة أنكرت الرؤية، وابن عباس ثبت عنه صحيح مسلم أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين. وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره أنه أثبت رؤيته بفؤاده. وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة، ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة، ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية، فالنفي يقول به متكلمة الجهمية، والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية كالاتحادية وطائفة من غيرهم، وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى. ونحو ذلك، لأن مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين، فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح، ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح.

تفنيد كفرهم بتفضيل الأولياء على الأنبياء كالفلاسفة

ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه، إن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجل قدرا وأعظم إيمانا من أن يفتري هذا الكفر الصريح، ولكن أخطأ شبرا، ففرعوا على خطئه ما صار كفرا.

وأعظم من ذلك زعمه أن الأولياء والرسل من حيث ولا يتهم تابعون لخاتم الأولياء وأخذوا من مشكاته، فهذا باطل بالعقل والدين، فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم. وأعظم من ذلك أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك أن جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق.

فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة. واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر وتابير النخل، فهل يقول مسلم أن عمر كان أفضل من النبي برأيه في الأسرى؟ وأن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك؟ ثم ما قنع بذلك حتى قال: فما يلزم الكامل أن يكون له التقديم في كل علم وكل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم.

فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط. وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة وغالية المتصوفة وغالية المتكلمة الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم. وقد يقولون إن الشرائع قوانين عدلية وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء.

وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا من أعظم الكفر والضلال، وكان من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق وصاروا في أخبار الرسل، تارة يكذبونها، وتارة يحرفونها، وتارة يفوضونها، وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم.

ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم إلا الغالية منهم كما تقدم، فهؤلاء من شر الناس قولا واعتقادا.

وقد كان عندهم شيخ من أجهل الناس كان يعظمه طائفة من الأعاجم ويقال إنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي إنما فسره بوجه واحد وأنه هو أكمل من النبي وهذا تلقاه من صاحب الفصوص وأمثال هذا في هذه الأوقات كثير، وسبب ضلال المتفلسفة وأهل التصوف والكلام الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الأطناب في بيان ضلال هذا وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء.

فأما كفر من يفضل نفسه على النبي كما ذكر صاحب الفصوص فظاهر ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك ولكن يرى أن له طريقا إلى الله غير اتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر.

بطلان الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة

ولا حجة فيها لوجهين (أحدهما) أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل ولهذا جاء في الحديث الصحيح " أن موسى لما سلم على الخضر قال وأنى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قال إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه " ولهذا قال نبينا " فضلنا على الناس بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة "، وقد قال تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) وقال تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) الآية.

فمحمد رسول الله إلى جميع الثقلين: انسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، الأولياء منهم وغير الأولياء. فليس لأحد الخروج عن مبايعته باطنا وظاهرا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل، لا في العلوم ولا الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى، وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر.

قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة

الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفا لشريعته لم يوافقه بحال.

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي على عهد النبي أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت. وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل، ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم. وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين.

بطلان زعمه أن الحقيقة من حيث يأخذ ملك الوحي

الوجه الثامن: أنه قال: ولما مثل النبي النبوة بالحائط.. إلى آخر كلامه، وهو متضمن أن العلم نوعان:

أحدهما: علم الشريعة وهو يأخذه عن الله كما يأخذ النبي، فإنه قال: والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على عليه فلا بد أن يراه هكذا.

وهذا الذي زعمه من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع اتباعهم، فيه من الاتحاد ما لا يخفى على من يؤمن بالله ورسله، فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله، ويقول إنه أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه فينبغي موافقته لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي. وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحو ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة، وكان يقول مؤذنه: أشهد أن محمد ومسيلمة رسولا الله.

والنوع الثاني: علم الحقيقة، وهو فيه فوق الرسول، كما قال هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية وهو علم الباطن والحقيقة هو فيه فوق الرسول لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحي به إلى الرسول، والرسول يأخذه من الملك، وهو أخذه من فوق الملك، من حيث يأخذه الملك، وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلا من الرسول في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله.

ثم قال: فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع. ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى لا ترضى أن تجعل أحدا من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم هو وأمثاله ممن يدعي أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل، وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا وإنما يقول مثل هذا غلاتهم وأهل الحق منهم الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين.

بطلان زعمه أخذ كل من الأنبياء والأولياء عن خاتمهم

التاسع: قوله: فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين، ليوطن نفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء، وكلاهما ضلال، فإن الرسل ليس منهم من يأخذ من آخر إلا من كان مأمورا باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل والرسل الذين فيهم الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) الآية.

وأما إبراهيم فلم يأخذ من موسى وعيسى، ونوح لم يأخذ عن إبراهيم، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد وأن بشروا به وآمنوا به كما قال تعالى (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) الآية قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه.

الأحاديث الموضوعة في سبق خلقه لولادته في الدنيا

العاشر قوله: فإن تحقيقه موجود، وهو قوله " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين. - كذب واضح مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد، فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها ولا تكون موجود بحقائقها إلا حين توجد ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها، لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورا أعظم من غيره فإنه كان مكتوبا في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية، عن النبي قال " إني لعبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نورا ضاءت له قصور الشام " وحديث ميسرة الفجر: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ وفي لفظ متى كتبت نبيا؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " وهذا لفظ الحديث.

وأما قوله " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " فلا أصل له، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ وهو باطل، فإنه لم يكن بين الماء والطين إذ الطين ماء وتراب، ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه كتب نبوة محمد وقدرها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ".

وروي أنه كتب اسمه على ساق العرش ومصاريع الجنة فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة؟ وما يروي في هذا الباب من الأحاديث هو من هذا الجنس مثل كونه كان نورا يسبح حول العرش أو كوكبا يطلع في السماء ونحو ذلك كما ذكره ابن حمويه صاحب ابن عربي وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين وابن سبعين وأمثالهم ممن يروي الموضوعات المكذوبات باتفاق أهل المعرفة بالحديث. فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى أنه اجتمع بي قديما شيخ معظم من أصحاب ابن حمويه يسميه أصحابه سلطان الأقطاب وتفاوضنا في كتاب الفصوص وكان معظما له ولصاحبه حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب.

بعض من كفر ابن عربي وجعله ملحدا معطلا

الحادي عشر: قوله: وخاتم الولاية كان وليا وآدم بين الماء والطين - إلى قوله - فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية كنسبة الأولياء والرسل معه - إلى آخر كلامه - ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله الذي هو أعلا العلم وهو وحدة الوجود أنه مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين حالا خاصا ما عمم - إلى قوله - ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص فكذب على رسول اله في قوله: إنه قال: سيد ولد آدم في الشفاعة فقط لا في بقية المراتب " بخلاف الختم المفتري فإنه سيد في العلم بالله وغير ذلك من المقامات.

ولقد كنت أقول: لو كان المخاطب لنا ممن يفضل إبراهيم أو موسى أو عيسى على محمد لكانت مصيبة عظيمة لا يحملها المسلمون فكيف بمن يفضل رجلا من أمة محمد على محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته؟ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة. وهذا المفضل من أضل بني آدم وأبعدهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلام كثير ومصنفات متعددة، وله معرفة بأشياء كثيرة، وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة والمتصوفة والمتكلمة والمتفقهة والعامة، فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالا عند أهل الكلام والإيمان. والله أعلم.

جماع أمر ابن عربي وذويه هدم أصول الإيمان

وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر والتنقيص بالرسل والاستخفاف بهم والغض منهم والكفر بهم وبما جاؤوا به ما لا يخفى على مؤمن، وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري رحمة الله عليه يقول: رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله. ولقد صدق فيما قال، ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر، وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام: هو شيخ سوء مقبوح كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا - هو حق عنه ولكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق، وإلا فليس عنده رب وعالم كما تقوله الفلاسفة الإلهيون الذين يقولون بواجب الوجود، وبالعالم الممكن الوجود بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية الذين ينكرون وجود الصانع مطلقا ولا يقرون بوجود واجب غير العالم كما ذكر الله عن فرعون وذويه، وقوله مطابق لقول فرعون، لكن فرعون لم يكن مقرا بالله وهؤلاء يقرون بالله، ولكن يفسرونه بالوجود الذي أقر به فرعون، فهم أجهل من فرعون وأضل، وفرعون أكفر منهم، في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) وقال له موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر.

فأما الإيمان بالله فزعموا أن وجوده وجود العالم ليس للعالم صانع غير العالم، وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل، ومنهم من يأخذ العلم بالله الذي هو التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته، وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله. وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال:

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده... وبالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم... على لذة فيها نعيم يباين

زعم الاتحادية أن العابد والمعبود واحد

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في "الفتوحات المكية" التي هي أكبر كتبه:

الرب حق والعبد حق... يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب... أو قلت رب أنى يكلف؟

وفي موضع آخر: "فذاك ميت"، رأيته بخطه.

وهذا مبني على أصله فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف؟ وعلى أصله هو المكلف كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا، وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك:

إلي رسولا كنت مني مرسلا... وذاتي بآياتي علي استدلت

ومضمونها هو القول بوحدة الوجود ومذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال:

لها صلاتي بالمقام أقيمها... وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل عابد ساجد إلى... حقيقة الجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي فلم تكن... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

إلى قوله:

وما زلت إياها وإياي لم تزل... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

ومثل هذا كثير والله أعلم.

كبار العلماء الذين طعنوا في ابن عربي

وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي أبو الحسن علي بن قرباص أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني فوجده يصنف كتابا فقال: ما هذا؟ فقال هذا في الرد على ابن سبعين وابن الفارض وأبي الحسن الجربي والعفيف التلمساني.

وحدثني عن جمال الدين بن واصل وشمس الدين الأصبهاني أنهما كانا ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه ويردان عليه وأن الأصبهاني رأى معه كتابا من كتبه فقال: إن اقتنيت شيئا من كتبه فلا تجيء إلي، أو ما هذا معناه.

وأن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة التي انقلبت عن جوار معلم معها فقال: والله الذي لا إله إلا هو يكذب ولقد بر في يمينه.

وحدثني صاحبنا الفاضل أبو بكر بن سالار، عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد شيخ وقته، عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام أنهم سألوه عن ابن عربي، لما دخل مصر، فقال: شيخ سوء مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا.

وكان تقي الدين يقول: هو صاحب خيال واسع. حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء ممن سمع كلام ابن دقيق العيد.

وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال: كان يستحل الكذب، هذا أحسن أحواله.

وحدثني الشيخ العالم العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا فرأيته مخالفا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد، قال فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت والكل واحدد؟ قال لا فرق بين ذلك عندنا وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما فقلنا هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام.

وحدثني كمال الدين بن المراغي أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال: وكنت أقرأ عليه في ذلك فإنهم كانوا قد عظموه عندنا ونحن مشتاقون إلى معرفة فصوص الحكم فلما صار يشرحه لي قول هذا خلاف القرآن والأحاديث، فقال ارم هذا كله خلف الباب واحضر بقلب صاف حتى تتلقى هذا التوحيد - أو كما قال - ثم خاف أن أشيع ذلك عنه فجاء إلي باكيا وقال استر عني ما سمعته مني.

وحدثني أيضا كمال الدين أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي تلميذ الشيخ أبي الحسن فقال عن التلمساني: هؤلاء كفار هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع، قال وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده فقلت أنا لا آخذ عنه هذا وإنما أتعلم منه أدب الخلوة، قال لي: مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان على يد صاحب الأتون والزبال فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان كيف يكون حاله عند السلطان؟

وحدثنا أيضا قال: قال لي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد: إنما استولت التتار على بلاد المشرق لظهور الفلسفة فيهم وضعف الشريعة، فقلت له ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد وهو شر من مذهب الفلاسفة؟ فقال قول هؤلاء لا يقوله عاقل بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء - يعني أن فساده ظاهر فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء بخلاف مقالة الفلاسفة فإن فيها شيئا من المعقول وإن كانت فاسدة.

وحدثني تاج الدين الأنباري الفقيه المصري الفاضل أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله.

وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي والخسر وشاهى أن كلاهما زنديق - أو كلاما هذا معناه.

وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد:

إن كان منزلتي في الحب عندكم... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمنا... واليوم أحسبها أضغاث أحلام

وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولان: كيف الطريق؟ أين الطريق؟

وحدثني شهاب الدين المزي عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال: قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء - أو قال: فعلمت أن هذا.

وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول: ابن عربي شيطان.

وعنه أنه كان يقول عن الحريري: إنه شيطان.

وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين الباربلي أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين.

مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله