مجموعة الرسائل والمسائل/إبطال وحدة الوجود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها

بسم الله الرحمن الرحيم

سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله تعالى عنه عن كراس وجد بخط بعض الثقات قد ذكر فيها كلام جماعة من الناس فمما فيه:

قال بعض السلف: إن الله تعالى لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا، قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة واحتجب بها مجازا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل المجاز والفرق شهدها ستورا وحجبا.

قال: وقال في قصيدة له:

لقد حق لي رفض الوجود وأهله... وقد علقت كفاي جمعا بموجدي

ثم بعد مدة غير البيت بقوله:

لقد حق لي عشق الوجود وأهله *

فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبا فيرفضها، ثم يراها مظاهر ومجالي فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم:

أقبل أرضا سار فيها جمالها... فكيف بدار دار فيها جمالها

قال: وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبى نواس:

رق الزجاج وراقت الخمر... فتشاكلا فتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح... وكأنما قدح ولا خمر

لبس صورة العالم فظاهره خلقه وباطنه حقه. وقال بعض السلف: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين لا ترى، الله فقط والكثرة وهم. قال الشيخ قطب الدين ابن سبعين: رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة وهم.

للشيخ محي الدين بن عربي:

يا صورة أنس سرها مضائي... ما خلقت للأمر ترى لولائي

شئناك فأنشأناك خلقا بشرا... تشهدنا في أكمل الأشياء

وطلب بعض أولاد المشايخ للحر ما يرى من والده الحج فقال له الشيخ: طف يا بني ببيت ما فارقه الله طرفة عين.

وقال: قيل عن رابعة إنها حجت فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه. وفيه للحلاج:

سبحان من أظهر ناسوته... سر سناء لاهوته الثاقب

ثم بدا مستترا ظاهرا... في صورة الآكل والشارب

قال: وله:

عقد الخلائق في الإله عقائدا... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وله أيضا:

بيني وبينك إني تزاحمني... فارفع بحقك إنيي من البين

قال: وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: بهذه البقية التي طلب الحلاج رفعها تصرف الأغيار في دمه. وكذلك قال السلف: الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة. قالوا لمحيي الدين بن العربي:

والله ما هي إلا حيرة ظهرت... وبي حلفت وإن المقسم الله

وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة.

قال ابن الفارض في قصيدته "نظم السلوك":

وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى... بغير مراء في المرآة الصقيلة

أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر... إليك بها عند انعكاس الأشعة

قال: وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، فالأمر الذي بالوسائط قبله من شاء الله ورده من شاء الله تعالى، والأمر بغير واسطة لا يمكن خلافه، وهو قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " فقال له فقير: إن الله تعالى قال لآدم بلا واسطة لا تقرب الشجرة فقرب وأكل، فقال: صدقت وذلك أن آدم إنسان كامل. وكذلك قال شيخنا علي الحريري: آدم صفي الله تعالى كان توحيده ظاهرا وباطنا فقال فكان قوله تعالى: " لا تأكل " ظاهرا، وكان أمره " كل " باطنا، فأكل، فكذلك قوله تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرا، فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرا فلم يسجد، فغير الله عليه وقال: " اخرج منها " الآية.

قال: وقال شخص لسيدي حسن: يا سيدي إذا كان الله يقول لنبيه: " ليس لك من الأمر شيء " أيش نكون نحن؟ فقال: سيدي: ليس الأمر كما تظن، قوله: " ليس لك من الأمر شيء " أيش غير الإثبات للنبي كقوله تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى "، " إن الذين بايعوك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ".

وفيه لأوحد الدين الكرماني:

ما غبت عن القلب ولا عن عيني... ما بينكم وبيننا من بين غيره:

لا تحسب بالصلاة والصوم تنال... قربا ودنوا من جمال وجلال

فارق ظلم الطبع تكن متحدا... بالله وإلا كل دعواك محال

غيره للحلاج:

إذا بلغ الصب الكمال من الهوى... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

يشاهد حقا حين يشهده الهوى... بأن صلاة العارفين من الكفر

للشيخ نجم الدين بن إسرئيل:

الكون يناديك أما تسمعني... من ألف أشتاتي ومن فرقني

انظر لتراني منظرا معتبرا... ما في سوى وجود من أوجدني

وله:

ذرات وجود هي للحق شهود... أن ليس لموجود سوى الخلق وجود

والكون وإن تكثرت عدته... منه إلى علاه يبدو ويعود

وله:

برئت إليك من قولي وفعلي... ومن ذاتي براءة مستقيل

وما أنا في طراز الكون شيء... لأني مثل ظل مستحيل

للعفيف التلمساني:

أحن إليه وهو قلبي وهل يرى... سواي أخو وجد يحن لقلبه

ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري... وما بعده إلا لإفراط قربه

قال بعض السلف: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه.

وفيه: لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرا فلا توحيد له.

وفيه: سمعت من الشيخ محمد بن بشر النواوي أنه ورد سيدنا الشيخ علي الحريري إلى جامع نوى قال الشيخ محمد: فوجئت فقبلت الأرض بين يديه وجلست فقال: يا بني وقفت مدة مع المحبة فوجدتها غير المقصود لأن المحبة لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ثم وقفت مدة مع التوحيد فوجدته كذلك لأن التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبدا ولا معبودا.

وفيه: سمعت من الشيخ نجم الدين بن إسرائيل مما أسر إلي أنه سمع من شيخنا الشيخ علي الحريري في العام الذي توفي فيه قال: يا نجم رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات وحنكي تحت الأرض، ونطق لساني بلفظة لو سمعت مني ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة، فلما كان بعد ذلك بمدة قال شخص في حضرة سيدي الشيخ حسن بن الحريري: يا سيدي حسن! ما خلق الله أقل عقلا ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالهما، فقلت أنا هذه المقالة ما يقولها إلا أجهل خلق الله أو أعرف خلق الله. فقال: صدقت. وذلك أنه سمعت من جدك يقول رأيت كذا وكذا. فذكر ما روى نجم الدين عن الشيخ.

وفيه: قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه فلا حاجب ولا محجوب.

والمطلوب من السادة العلماء: أن يبينوا لنا هذه الأقوال وهل هي حق أو باطل؟ وما يعرف به معناها وما يبين أنه حق أو باطل وهل الواجب إنكارها؟ أو إقرارها؟ أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما حكم من اعتقد معناها. إما مع المعرفة بحقيقتها، وإما مع التأويل المجمل لمن قالها والمتكلمون أرادوا لها معنى صحيحا يوافق العقل والنقل ويمكن تأويل ما يشكل منها وحملها على ذلك المعني؟ وهل الواجب بيان معناها وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها؟ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها ويؤمنون بها مع عدم العلم بمعناها؟

[الجواب]

فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:

الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى مخالفتهما للمعقول والمنقول.

أحدهما: الحلول والاتحاد وما يقارب ذلك كالقول بوحدة الوجود كالذين يقولون إن الوجود واحد فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة كابن عربي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض صاحب القصيدة التائية "نظم السلوك" وعامر البوصيري السيواسي الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض والتلمساني الذي شرح مواقف النغري، وله شرح الأسماء الحسنى على طريقة هؤلاء وسعيد الفرغاني الذي شرح قصيدة ابن الفارض والششتري صاحب "الأرحال" الذي هو تلميذ ابن سبعين وعبد الله البلباني وابن أبي منصور المصري صاحب: فك الأزرار عن أعناق الأسرار، وأمثالهم.

الوجود والثبوت والإطلاق والتعيين

ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي ويزعم أن الأعيان ثابتة في العدم غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان في ظهور وجودها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها الذي هو نفس وجوده، وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء وقول من يقول وجود المخلوق هو وجود الخالق، ويقول فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.

وفيهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما يقوله القونوي ونحوه فيقولون إن الواجب هو الموجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقا إلا في الأذهان فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينا، وإن قيل إن المطلق جزء من المعنى لزم أن يكون وجود الخالق جزءا من وجود المخلوقات، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودا.

ومن قال إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما يقوله ابن سينا وأتباعه فقوله أشد فسادا فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا الأعيان، فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول.

وآخرون يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة يقولها المتفلسفة أو قريب من ذلك كما يقوله ابن سبعين وأمثاله.

تناقض أهل الوحدة وتصحيحهم للشرك

وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، ولا تخرج عن وحدة الوجود أو الحلول أو الاتحاد وهم يقولون بالحلول المطلق والوحدة المطلقة والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعنى كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بالإلهية علي أو الحاكم أو الحلاج أو يونس القيني أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية؛ فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم، ولهذا يقولون النصارى إنما كان خطأهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن المشركين عباد الأصنام إنما كان خطأهم لأنهم اقتصروا على عبادة بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقا على وجه الإطلاق والعموم، ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال ما هو أعظم من اليهود والنصارى، وهذا المذهب كثير في كثير من المتأخرين وكان طوائف من الجهمية يقولونه. وكلام ابن عربي في "فصوص الحكم"، وغيره وكلام ابن سبعين وصاحبه الششتري وقصيدة ابن الفارض "نظم السلوك"، وقصيدة عامر البصري وكلام العفيف التلمساني وعبد الله البلبالي والصدر القونوي وكثير من شعر ابن إسرائيل وما ينقل عن شيخه الحريري، وكذلك يوجد نحو منه في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وكثير من أهل السلوك الذين لا يعتقدون هذا المذهب يسمعون شعر ابن الفارض وغيره فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرا من الرجال.

معنى مباينة الله لخلقه

وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يعرفوا مباينة الله سبحانه للمخلوقات وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها.

ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال، فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وكما علم العلو والمباينة بالمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه في إقرارهم به وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.

المعطلة والحلولية من الجهمية والمتصوفة

والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونفاتهم وهم الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم.

والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون إنه بذاته في كل مكان كما تقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن العبادة تتضمن القصد والطلب والإرادة والمحبة وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يتطلب موجودا فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه.

وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعلوم المذكور بخلاف القصد والإرادة والعبادة فإنه ينافي عدم المعبود، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه يميل إلى النفي وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول وإذا قيل هذا ينافي ذلك، قال ذاك مقتضى عقلي ونظري، وهذا مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجدان لم يكن موافقا للعقل والنظر وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.

والقول الرابع: قول من يقول إن الله بذاته فوق العالم وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه مثل أبي الحكم بن برجان وأمثاله ما يشير إلى نحو من هذا كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا.

تحذير الجنيد من الحلول والوحدة

وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من مستأخري الصوفية. ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد لما سئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد المحدث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وقد أنكر ذلك ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين العبد والرب، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من يكون ليس بقديم ولا محدث، وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك والتمييز بين هذا وذاك لا يقتضي أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذاك الإنسان الآخر مع أنه أحدهما فكيف لا يعلم أنه غير ربه وإن كان هو أحدهما؟

الأصل الثاني الاحتجاج بالقدر على المعاصي على المأمور وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه ووعده وعيده.

والناس الذين ضلوا في القدر ثلاثة أصناف: قوم آمنوا بالأمر والنهي والوعد والوعيد وكذبوا بالقدر وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله كالمعتزلة ونحوهم.

وقوم آمنوا بالقضاء والقدر ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لكن عارضوا بهذا الأمر والنهي وسموا هذا حقيقة وجعلوا ذلك معارضا للشريعة.

وفيهم من يقول إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوي عنده هذا وهذا، وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم ولا يسوون بين العالم والجاهل والقادر والعاجز ولا بين الطبيب والخبيث ولا بين العادل والظالم يفرقون بينهما ويفرقون أيضا بموجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي، فلا يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر بل كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق مذهبك، تمذهبت به فلا يوجد أحد بالفلك في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في مخالفة هواه بل يعادي من آذاه وإن كان محقا ويجب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه ومحبته وبغضه وولايته وعداوته، إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد فإن ذلك مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه، وللشر الذي لا خير فيه، إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد ولا اقتص من باغ ولا أخذ لمظلوم من ظالم، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارض فيه، وهذا فيه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد.

مفاسد الاحتجاج بالقدر

فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد وما يضرهم والله قد بعث رسوله يأمر المؤمنين بالأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه اتبع ضده من البدع والأهواء، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل ليدحض به الحق لا من باب الاعتماد عليه لزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير.

وإن قال: أنا أعذر بالقدر من شهده وعلم أن الله خالق فعله ومحركه لا من غاب عن المشهود، أو كان من أهل الجحود.

قيل: فيقال لك: وشهود هذا وجحود هذا من القدر فالقدر متناول لشهود وجحود هذا. فإن كان موجبا للفرق مع شمول القدر لهما فقد جعلت بعض الناس محمودا وبعضهم مذموما مع شمول القدر لهما، وهذا رجوع إلى الفرق، واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من معك فيه، ثم مع فساد هذا الأصل، وتناقضه فهو قول باطل وبدعة مضلة.

الفرق بين معصيتي آدم وإبليس

فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرا في ترك الواجبات وفعل المحظورات بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله وكذب رسول الله ناظرا إلى أن ذلك مقدر عليه لم يكن ذلك غافرا لتكذيبه، ولا مانعا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به سواء كان المشرك مقرا بالقدر وناظرا إليه، أو مكذبا أو غافلا عنه، بل قد قال إبليس " فيما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين " فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببا لمزيد عذابه، وأما آدم عليه السلام فإنه قال " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر وترحمنا لنكونن من الخاسرين " قال تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " فمن استغفر وتاب كان آدميا سعيدا. ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا شقيا. وقد قال تعالى لإبليس: " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ".

وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق فإنه يسلكون أنواعا من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر فيضاهون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينا لم يشرعه الله ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله.

المخاصمون لربهم في القدر وأضدادهم

والصنف الثالث: من الضالين في القدر من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر والأمر والنهي كما يذكر ذلك على لسان إبليس، وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه، وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى: " من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " فالتقوى تتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور. وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وإن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به، وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى الطاعات، ويدعون ربهم رغبا ورهبا، ويجتبون محارمه، ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده، علما منهم بأن التوبة فرض على العبد دائما وإقتداء بنبيهم حيث يقول في الحديث الصحيح: " أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة " وآخر سورة نزلت عليه: " إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ".

وإذا عرف هذان الأصلان فعليهما يبنى جواب ما في هذا السؤال من الكلمات؛ ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات.

بدء الجواب عن كلمات أهل الوحدة

فقول القائل: " إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا " هو من أقوال الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكشيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقا فلا يتصور أن ذات الحق يكون خلقا بوجه من الوجود كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه.

وكذلك قول الآخر ظهر فيها حقيقة واحتجب عنها مجازا فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر فلا يتصور ظهور واحتجاب.

عدم التفريق بين الحق والخلق

ثم قوله: " فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورا وحجبا ". كلام ينقض بعضه بعضا فإنه إن كان الوجود واحدا لم يكن أحد الشاهدين عين الآخر ولم يكن الشاهد عين المشهود ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء: من قال إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له آخر فمن الذي يكذب؟ فأفحمه. وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه كان هو الذي يكذب ويظلم ويأكل ويشرب. وهكذا يصرح به أئمة هؤلاء كما يقول صاحب الفصوص وغيره أنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات ويوصف بالمصائب والنقائص، كما إنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم، قال: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية سواء كانت محمودة عقلا وعرفا وشرعا أو مذمومة عقلا وعرفا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق، فكلها حق له كما أن صفات المخلوق حق للخالق.

وقول القائل: لقد حق لي عشق الوجود وأهله، يقتضي أن يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب والخنازير والبول والعذرة وكل خبيث، مع إنه باطل شرعا وعقلا فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدا لا يغضب محرم شرعا.

تناقض ابن سبعين وابن عربي

وما ذكر عن بعضهم من قوله: " عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى " هو من كلام ابن سبعين وهو من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة.

وقول ابن عربي: " ظاهره خلقه، وباطنه حقه ". هو قول أهل الحلول وهو متناقض في ذلك فإنه يقول بالوحدة فلا يكون هناك موجودان أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجود والعين، تفريق لا حقيقة له بل هو من أقوال أهل الكذب والمين.

تناقض ابن عربي في الوحدة

وقول ابن سبعين: " رب هالك، وعبد مالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة وهم "، موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق ولهذا قال: وأنتم ذلك، فإنه جعل العبد هالكا أي لا وجود له فلم يبق إلا وجود الرب، فقال: وأنتم ذلك، وكذلك قال: الله فقط والكثرة وهم. فإنه على قوله لا موجود إلا الله، ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم ليس إلا الله بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله، وكان يسميهم الشيخ قطب الدين بن القسطلاني الليسية، ويقول احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال: الكثرة وهم. وهذا تناقض فإن قوله وهم يقتضي متوهما فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود. وكذلك: إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا مع إنه كفر فإنه يناقض قوله الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره فقد أثبت غير الله وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيرا لزمت الكثرة فلا تكون الكثرة وهما بل تكون حقا.

والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل فإن قوله: يا صورة إنس سرها معنائي، خطاب على لسان الحق يقول لصورة الإنسان يا صورة إنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها. وهذا يقتضي أن المعني غير الصورة وهو يقتضي التعدد والتفريق بين المعنى والصورة فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة كما يصرح به فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا تناقض.

وقوله: ما خلقك للأمر ترى لولائي، كلام مجمل يمكن أن يراد به معنى صحيح أي لولا الخالق لما وجد الكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا. فإن مراده الوحدة والحلول والاتحاد، ولهذا قال:

شئناك فأنشأناك خلقا بشرا... كي تشهدنا في أكمل الأشياء

فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية وهذا يشير إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق لكنه متناقض في كلامه فإنه لا يرضى بالحلول ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات وثبوتها حل في وجوده وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر فإنه لا فرق بين هذا وهذا لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه.

الحلول العام والخاص

وأما الرجل الذي طلب من والده الحج فأمره أن يطوف بنفس الأب: فقال طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط. فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين، فحرام بإجماع المسلمين. ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره.

وقوله: ما فارقه الله طرفة عين قط إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه المتناقض فإنه حينئذ لا فرق بين الطوائف والمطوف به، فلم يكن طواف هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب والخنازير والكفار والنجاسات والأقذار وكل خبيث وكل ملعون لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله، وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا أيضا من ذات الله، فقال: وثم خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص فاجتاز بكلب فركضه الآخر برجله فقال: لا تركضه فإنه منه. وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد وإذا قيل مظاهر ومجالي - قيل إن كان لها وجود غير وجود الظاهر المتجلي فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر والمظهر والمتجلي فيه فرق، وإن أراد بقوله: ما فارقه الله طرفة عين، الحلول الخاص، كما تقول النصارى في المسيح لزم أن يكون هذا الحلول ثابتا له من حين خلق كما تقوله النصارى في المسيح فلا يكون ذلك حاصلا له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين فلماذا يكون الحلول ثابتا له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب والشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة والتحقيق والتوحيد وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن فإذا كان هذا هو سبب الحلول وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا لا مقارنا لخلقهم وحينئذ فقولهم أن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط كلام باطل كيف ما قدر.

بطلان ما عزي إلى رابعة العدوية

وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت: أنه الصنم المعبود في الأرض - فهو كذب على رابعة ولو قال هذا من قاله لكان كافرا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو كذب فإن البيت لا يعبده المسلمون ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه. كلام باطل عليها، وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعنى فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت؟

وقول القائل: ما ولج الله فيه - كلام صحيح، وأما قوله ما خلا منه فإن أراد ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى فهو باطل وهو مناقض لقوله ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب أن لا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذا الموجودات كلها عندهم كذلك.

وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج:

سبحان من أظهر ناسوته... سر سنا لاهوته الثاقب

حتى بدا في خلقه ظاهرا... في صورة الآكل والشارب

فهذه قد تعين بها الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح وكان أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه فلما أنشد هذين البيتين قال: لعن الله من قال هذا، وقوله:

عقد الخلائق في الإله عقائدا... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

تجويز أهل الوحدة للجمع بين النقيضين

فهذا البيت يعرف لابن عربي فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به فإضافته إلى الحلاج صحيحة وهو كلام متناقض فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد، والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام أعظم من الأولياء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفتهم ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وإن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح، ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام يتخيلون في نفوسهم أمورا يتخيلونها ويتوهمونها فيظنونها ثابتة في الخارج وإنما هي من خيالاتهم والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له ولهذا يقولون أرض الحقيقة هي أرض الخيال كما يقول ذلك ابن عربي وغيره ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض وكان من شيوخهم.

وأما قوله:

بيني وبينك إني تزاحمني... فارفع بحقك إنيي من البين

فإن هذا الكلام يفسر بمعان ثلاثة: يقوله الزنديق، ويقوله الصديق فالأول مراده به رفع ثبوت إنيته حتى يقال إن وجوده هو وجود الحق وإنيته هي إنية الحق فلا يقال إنه غير الله ولا سوى. ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة إن الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة، فقيل وهذا القول مع ما فيه من الكفر، والإلحاد فهو متناقض ينقض بعضه بعضا فإن قوله: بيني وبينك إني تزاحمني، خطاب لغير مواثبات إنية بينه وبين ربه وهذه إثبات أمور ثلاثة.

وكذلك يقول: فارفع بحقك إنيي من البين، طلب من غيره أن يرفع إنيته وهذا إثبات لأمور ثلاثة.

وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد وهو الفناء عن وجود السوى فإن هذا فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء.

الفناء ثلاثة أقسام

والفناء ثلاثة أقسام: فناء عن وجود السوى وفناء عن شهود السوى وفناء عن عبادة السوى.

فالأول: هو فناء أهل الوحدة الملاحدة كما فسروا به كلام الحلاج وهو أن يجعل الوجود وجودا واحدا.

وأما الثاني: وهو الفناء عن شهود السوى فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين كما يحكي عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده وبمعبوده عن عبادته وبمشهوده عن شهادته وبمذكوره عن ذكره، فيظن من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن رجلا يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في الماء فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك إني. فهذا حال من عجز عن شيء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين ومن الناس من يجعل هذا من السلوك ومنهم من يجعله غاية السلوك حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه، وهذا غلط عظيم غلطوا فيه بشهود القدر وإحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي وعبادة الله وحده وطاعة رسوله فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار لم يكن محمودا على هذا ولكن قد يكون معذورا.

الفناء الشرعي الحق وأباطيل أهل الوحدة

وأما النوع الثالث: وهو الفناء عن عبادة السوى فهذا حال النبيين وأتباعهم وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم ويدخل في هذا أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي الذي بعث الله رسله وانزل به كتبه.

ومن قال: فارفع بحقك إنيي من البين، بمعنى أن يرفع هوى نفسه فلا يتبع هواه ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته بل يكون عمله لله لا لهواه وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته كما قال تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " فهذا حق محمود، وهذا كما يحكي عن أبي يزيد أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: خدايي كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال - أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك فيكون عملك لله واستعانتك بالله كما قال: " فاعبدوه وتوكل عليه ".

والقول المحكي عن ابن عربي: وبي حلفت وإن المقسم الله، هو أيضا من إلحادهم إفكهم: جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله فهو الحالف والمحلوف به كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه فهو المرسل والمرسل إليه والرسول وكما قال ابن الفارض في قصيدته "نظم السلوك":

لها صلواتي بالمقام أقيمها... وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل واحد ساجدا لي... حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان بي صلى سواي ولم تكن... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة

إلى أن قال:

وما زلت إياها وإياي لم تزل... ولا فرق بل ذاتي لذاتي حنت

وقد رفعت تاء المخاطب بيننا... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن... منادي أجابت من دعاني ولبت

كذب أهل الوحدة على المسيح

وأما المنقول عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه فهو كذب عليه وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى قوله إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض وذلك أن الله سبحانه يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله وهو عبد مخلوق لله قال لأصحابه: " إني أراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي " فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلقه وهو أبلغ من رؤية نفسه فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه؟ وأيضا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم، ثم ذلك الشوق كان قديما كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل وإن كان محدثا فلا بد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال الشوق أيضا صفة نقص ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى وقد روي: " طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق ". وهو حديث ضعيف.

قولهم خلق آدم كالمرآة لنوره ونور المسيح

وقوله: خلق من نوره آدم وجعله كالمرآة وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة - يقتضي أن يكون آدم مخلوقا من المسيح والمسيح خلق من مريم ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقا من ذريته؟ وإن قيل المسيح هو نور الله فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى فإن النصارى يقولون: إن المسيح هو الناسوت واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن، وهم يقولون: الاتحاد اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون إن آدم خلق من المسيح إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت جميعا وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضا فهم لا يقولون إن آدم خلق من لاهوت المسيح.

تمثيلهم لظهور الحق في الخلق بالمرآة

وأيضا فقول القائل إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح إن أراد به نوره الذي هو صفة لله فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئا موجودا منفصلا قبل خلق آدم فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقا من نور الله الذي هو المسيح، وأيضا فإذا كان آدم كالمرآة وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته لا أن آدم هو ذاته لا أن آدم هو ذاته ولا مثال ذاته ولا كذاته وحينئذ فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى فيرى مثال ذاته العلمي في آدم فالرب تعالى يعرف نفسه فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه سأل الله فلا يكون آدم هو المرآة بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة.

وأيضا فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح.

وأما قول ابن الفارض:

وشاهد إذا استجليت ذاتك من ترى... بغير مراء في المرآة الصقيلة

أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر... إليك بها عند انعكاس الأشعة

فهذا تمثيل فاسد وذلك أن الناظر في المرآة مثال نفسه فيرى نفسه وكذا المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة فقولهم بوجود باطل وبتقدير صحته ليس هذا مطابقا له وأيضا فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شيء فتخصيصهم بعد هذا آدم أو المسيح يناقض قولهم بالعموم وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص كالنصارى والغالية من الشيعة وجهال النساك ونحوهم، وأيضا فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة فالمرآة خارجة عن نفسه فرأى نفسه أو مثال نفسه في غيره والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى فليس هناك مظهر مغاير للظاهر ولا مرآة مغايرة للرائي.

وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق فإن قالوا المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شيء في شيء ولا ظهر شيء لشيء وكان قوله: وشاهد إذا استجليت نفسك أن ترى، كلاما متناقضا لأن هنا مخاطبا ومخاطبا ومرآة تستجلى فيها الذات فهذه ثلاثة أعيان فإن كان الوجود واحدا بالعين بطل هذا الكلام وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم.

فصل في أمر التشريع وأمر التكوين والواسطة فيهما

وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران أمر بواسطة وأمر بغير واسطة إلى آخره - فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة فإن الله كلم موسى وأمره بلا واسطة وكذلك كلم محمدا وأمره ليلة المعراج وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية،

وأما الأمر الكوني فقول القائل: أنه لا بواسطة خطأ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض وأمر التكوين ليس هو خطابا يسمعه المكون المخلوق فإن هذا ممتنع ولهذا قيل إن كان هذا خطابا له بعد وجوده لم يكن قد كون به بل كان قد كون قبل الخطاب وإن كان خطابا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع، وقد قيل في جواب هذا أنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدوما في العين.

ليس في التشريع أمر باطن غير الظاهر.

وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب، وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرا وباطنا فكان قوله " لا تقرب " ظاهرا وكان أمره " بكل " باطنا فيقال: إن أريد بكونه قال كل باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع أو دين فهذا كذب وكفر، وإن كان أراد أبه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر، وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم، وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن كل مثل قوله أنه قال للكافر: اكفر وللفاسق افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعا بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني - فالأمر الكوني ليس هو أمرا للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال فهو سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما لو قال للجماد كن فيكون فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف ما أمره به في الظاهر بل أمره بالطاعة باطنا وظاهرا، ونهاه عن المعصية باطنا وظاهرا، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرا، وكون ذلك بقوله: " كن " باطنا وظاهرا.

الاحتجاج بالقدر

وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر بل القدر يؤمن به، ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرا لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحدا أن يفعله فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.

ولو كان القدر حجة وعذرا لم يكن إبليس ملوما معاقبا ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ولا كان جهاد الكفار جائزا ولا إقامة الحدود جائزا لا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعا من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده لكن الشرائع تتنوع فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم. وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل.

بطلان الاحتجاج بالقدر شرعا وطبعا

أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه فإذا فعل فعلا بمجرد هواه وذوقه، ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء " قال الله تعالى: " كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون، قل ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين وإنما يتبعون الظن، والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر فإنه لو خرب أحد الكعبة أو شتم إبراهيم الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه كيف وقد عادوا النبي على ما جاء به من الدين وما فعله هو أيضا من المقدور؟ فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي وأصحابه فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر إن كان الاحتجاج به صحيحا ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.

محاجة آدم وموسى والقدر

وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ فحج آدم موسى - لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهي عنه بالقدر ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها كيف وقد قال موسى: " رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " وقال: " فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " وهذا باب واسع وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر، فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطبع المأمور، وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك "، وقال تعالى: " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور، فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنبا أخذ يحتج بالقدر فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموجودين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين، وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا، وأذل الناس إذا قهر، وأعظم جزعا ووهنا، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقابلة من أصناف الناس، والمؤمن إن قدر عدل وأحسن، وإن قهر وغلب صبر واحتسب، كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي التي أولها: بانت سعاد.. إلخ، في صفة المؤمنين

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم... يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

الاحتجاج بالقدر قلب للدين

وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي فقال: رأيته يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، وقد قال تعالى: " قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " وقال تعالى: " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا " وقال تعالى: " إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " وقال تعالى: " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور؛ والتقوى يدخل فيها فعل المأمور، فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقي الله بل يترك طاعته منبعا لهواه ويحتج بالقدر، ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، يقول أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك فتنسى نعمة الله عليك كي أنه جعلك مطيعا له وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل العبد حسنة فقال: أي وربي أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه: أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها، فإن قال أي ربي أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه: أنت عملها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي أنت قدرت علي هذه السيئة قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها فإن قال: أي إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك، وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع.

وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال، ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله.

وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكل باطنا فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهرا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرا فلم يسجد فغير الله عليه وقال: " اخرج منها " الآية. فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك ولم يقل أن الله ظلمني ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل، قال تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم " وقال تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال: " ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ".

وأما قوله: رآه غيرا فلم يسجد - فهذا شر من الاحتجاج بالقدر فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيرا بل قال: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " ولم تؤمر الملائكة بالسجود ولكون آدم ليس غيرا بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة والله تعالى: " علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وكانت لملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له ولهذا قالوا: دعوه دعا العبد ربه فآدم يقول: " ربنا ظلمنا أنفسنا "، والملائكة تقول: " لا علم لنا إلا ما علمتنا " وتقول: " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " الآية، وقد قال تعالى: " أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " وقال تعالى: " أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم " وقال: " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا " فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله ولا اتخاذ غير الله وليا ولا حكما فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غير يمكن عبادته واتخاذه وليا وحكما، وإنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى: " ولا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين " وقال: " لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا " وأمثال ذلك.

معنى {وما رميت إذ رميت..} إلخ

وأما قول القائل أن قوله: " ليس لك من الأمر شيء " عين الإثبات للنبي كقوله: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى إن الذين يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله: " ليس لك من الأمر شيء " أي فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه:

أحدها: إن قوله: " ليس لك من الأمر شيء " نزل في سياق قوله: " ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " وقد ثبت في الصحيح إن النبي كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت فلما أنزل الله هذه الآية ترك فعلم أن معناها أفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر بل إن شاء الله تعالى قطع طرفا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم، وهذا كما قال في الآية الأخرى: " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " ونحو ذلك قوله تعالى: " يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ".

الوجه الثاني: إن قوله: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " لم يرد به إن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم. ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر. ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين، ولكن معنى الآية أن النبي يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب وقال: "شاهت الوجوه" ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته، يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهما فأوصلها بقدرته.

الوجه الثالث: أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: " ربنا واجعلنا مسلمين لك " فالله هو الذي جعل المسلم مسلما.

وقال تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا " فالله هو الذي خلقه هلوعا لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد.

معنى {إن الذين يبايعونك} إلخ

الوجه الرابع: إن قوله تعالى: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " لم يرد به إنك أنت الله وإنما إنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال النبي : " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني " ومعلوم أن أميره ليس هو إياه ومن ظن في قوله: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " أن المراد به أن فعلك هو فعل الله أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو ومع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره، وذلك أنه لو كان المراد أن خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا فيكون الله قد بايع الله، وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو ويقول أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم ضلالهم غير مرة.

الحلول الخاص

وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال له: " ليس لك من الأمر شيء " وقال: " وإنه لما قام عبد الله يدعوه " وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " وقال: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا " وقال: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما ".

فقوله: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " يبين قوله: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " ولهذا قال: " يد الله فوق أيديهم " ومعلوم أن يد النبي كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي ولكن الرسول عبد الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم، ألا ترى أن كل من وكل شخصا بعقد مع الوكيل كان ذلك عقدا مع الموكل ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه كانوا معاهدين لمستنيبه ومن وكل رجلا في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد؟ وقد قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " الآية ولهذا قال في تمام الآية: " ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ".

فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح وإن الله إذا كان قد قال لنبيه: " ليس لك من الأمر شيء " فأيش نكون نحن؟ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".

وأما قول القائل:

ما غبت عن القلب ولا عن عيني... ما بينكم وبيننا من بين

فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض فإن مقتضاه أنه يرى الله بعينه وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: " واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت " وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا ولم يتنازعوا إلا في النبي مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي والصحابة وأئمة المسلمين.

ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه بعينه بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه وقوله: " أتاني البارحة ربي في أحسن صورة " الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء مفسرا وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسرا في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وقد ثبت بنص قرآني أن موسى قيل له: " لن تراني " وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء فمن قال إن أحدا من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتابا من السماء.

الأقوال في رؤية الرب ثلاثة

المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانا وأن أحدا لا يراه في الدنيا بعينه لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب في المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها، ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع.

والقول الثاني: قول نفاة الجهمية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.

والثالث: قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة.

وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم.

ثم من أثبت الذات قال: يرى متجليا فيها ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيدا بصورة وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله وإثبات المخلوقات ويجعلون المخلوق هو الخالق أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقا يقتضي أن يكون الرب معدوما وهذا هو جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

تناقض أقوال أهل الوحدة

وأما تناقضه فقوله:

ما غبت عن القلب ولا عن عيني... ما بينكم وبيننا من بين

يقتضي المغايرة وأن المخاطب غير المخاطب وأن المخاطب له عين قلب لا يغيب عنها المخاطب بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود.

وقوله: ما بينكم وبيننا من بين، فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا مظاهر ومجالي قيل فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد، وإن كان هو إياها فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما تناقض، وقول القائل:

فارق ظلم الطبع وكن متحدا... بالله وإلا كل دعواك محال

إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع وهو المخاطب بقوله: " وكن متحدا بالله وهو المخاطب بقوله: " كل دعواك محال " وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى.

استحالة اتحاد الخلق بالخالق وهو بائن منه

وإن أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لا بد أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك، لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجود أو الرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شيء من ذلك، ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها نقص تعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى والعزة وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه يستحيل عليه نقيض ذلك فاتحاد أحدهما

بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي وكل ذلك ممتنع وبسط هذا يطول.

ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم.

حديث تقرب العبد إلى الرب حتى يحبه

ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل الرب رب والعبد عبد " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتية يوم القيامة فردا ".

وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضي الله، ويغضب لما يغضب الله، ويأمر بما يأمر الله، وينهى عما ينهى الله، ويوالي من يواليه الله، ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله، ويبغض لله، ويعطي لله، ويمنع لله، بحيث يكون موافقا لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: " يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفسي عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ".

وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة منها أنه قال: " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه وهؤلاء ثلاثة.

ثم قال: " وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب لي بالنوافل حتى أحبه " فأثبت عبدا يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان العبد يسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به، وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث فالحديث مخصوص بحال مقيد وهم يقولون بالإطلاق والتعميم فأين هذا من هذا؟

قول أهل الوحدة في التجلي في الصور

وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا. فيجعلون هذا حجة لقولهم أنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة وهذا الحديث حجة عليهم - في هذا - أيضا فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة فالمنكرون الذين قالوا نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا هؤلاء الملاحدة يقولون إن العارف يعرفه في كل صورة فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم، وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: " وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون ".

ثم يقال لهؤلاء الملاحدة: إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكر وهو المنكر كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟

وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال: ما أبصر غيره أبول عليه، فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرجت عني.

ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت فقال الشيرازي للتلمساني: هذا أيضا من ذاته؟ فقال التلمساني: هل ثم شيء خارج عنها؟

وكان التلمساني قد أضل شيخا زاهدا عابدا ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان يقول: الوجود واحد، وهو الله، ولا أرى الواحد، ولا أرى الله. ويقول: نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحا يتلوه كما يتلو التسبيح.

وأما قول الشاعر:

إذا بلغ الصب الكمال من الهوى... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

فشاهد حقا حين يشهده الهوى... بأن صلاة العارفين من الكفر

فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول فإن الفناء والغيب هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر وبالمعروف عن المعرفة وبالمعبود عن العبادة حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان.

شهود أهل الوحدة الفاسد الباطل

وأما النوع الثالث: من الفناء وهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق - فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة، والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل قال: هذا لا يحمد أصلا بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدا ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر وأما قول القائل:

الكون يناديك ما تسمعني... من ألف أشتاتي ومن فرقني

أنظر لتراني منظرا معتبرا... ما في سوى وجود من أوجدني

فهو من قول هؤلاء الملاحدة وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو المخاطب المنادى وهو الأشتات المؤلفة المفرقة وهو المخاطب الذي قيل له: انظر، وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها، فهذا جمع بين النقيضين.

فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلا للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديما محدثا ولولا أن قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن أن يراد بذلك: ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك لكن قد علم أنه لم يرد هذا ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته وهكذا قول القائل:

وله ذات وجود الـ... ـكون الحق شهود

أنه ليس لموجو... د سوى الحق وجود

مراده أن وجود الكون هو نفس وجود الحق وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى فليس لشيء موجود من نفسه وإنما وجوده من ربه والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة - لكان قد أراد معنى صحيحا وهو الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين، وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض ولهذا يقولون الشيء ونقيضه وإلا فقوله: منه وإلى علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة فمن هو البادئ والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد، وقوله:

وما أنا في طراز الكون شيء... لأني مثل ظل مستحيل

يناقض الوحدة لأن الظل مغاير لصاحب الظل فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع فإن شعاع الشمس ليس هو نفسه قرص الشمس وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا.

بطلان أمثال الحلوليين من النصارى

وقلت لمن حضرني منهم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا؟ وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المسجد جماعة، حتى فهمه جيدا وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له وإن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل.

آيات المسيح وأمثالها آيات الرسل

وذكرت له: أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها فإن المسيح وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة " ثم أحياهم الله بعد موتهم، وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء، والنصارى يصدقون بذلك، وأما جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القدر وأقدر فإن الله يحيي الموتى ولا يجعل الخشب حياة.

وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك فإن الحلو أو اللحم دائما هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والسمك وغيرهما، وذكرت له نحوا من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وإن سائر ما يذكر فيه أما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من المخلوقات وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه.

وأما خلقه من امرأة بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك فإنه خلق من بطن امرأة وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد فما من أمر يذكر في المسيح إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم.

فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل وأن ما يدعى له أن كان ممكنا فلا اختصاص له به وإن كان ممتنعا فلا وجود له فيه ولا في غيره ولهذا قال هؤلاء الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضا باطل فإن الاتحاد عموم وخصوص والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر:

أحن إليه وهو قلبي وهل يرى... سواي أخو وجد يحن لقلبه

ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري... وما بعده إلا لإفراط قربه

هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه؟ وقوله: وما بعده إلا لإفراط قربه، متناقض فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة فإنها تقتضي أن يقرب أحدهما من الآخر والواحد لا يقرب من ذاته ويبعد من ذاته.

وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضا من قول أهل الوحدة وهو مع كفره قول متناقض فإنه يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد وأن أقوال المشركين الذين قالوا: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " والذين قالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " والذين قالوا " وما نحن بتاركي آلهتنا وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء " والذين قالوا: " حرقوه وانصروا آلهتكم " ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد.

وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجودان كان أحدا كان إثبات التعدد تناقضا فإذا قال القائل: الوجود واحد، وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان هذان قولين متناقضين فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر وإذا قال الألسنة كلها لسانه فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها، وذلك يقتضي أن لا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة، وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض قولهم فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد.

فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا منها عين وجود هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسمها المنطقيون إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود فإذا كان وجود الفلك مباينا مخالفا لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر.

قولهم لا يعرف التوحيد إلا واحد

وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال لا يعرف التوحيد إلا الواحد ولا تصح العبارة عن التوحيد وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ومن أثبت غيرا فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره متناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا واحد، يقتضي أن هناك واحدا يعرفه وأن غيره لا يعرفه، هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا من أثبت غيرا فلا توحيد له، يناقض هذا، وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده ورسوله عبر عن توحيده والقرآن مملوء من ذكر التوحيد بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد وقد قال تعالى: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " ولو لم يكن عنه عبارة لما نطق به أحد وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي : " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله "، وقال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يتصور تحققه في الخارج فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان وهذا الجسم ليس هو ذاك وهذا الإنسان ليس هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك.

نفيهم التعبير عن التوحيد

وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير. يقال له أولا : التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ففي أحد الاصطلاحين يقال إنه غير وفي الاصطلاح الآخر لا يقال إنه غير فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونا ببيان المراد لئلا يقول المبتدع إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذي كفرهم السلف والأئمة تكفيرا مطلقا، وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها.

وأيضا فيقال لهؤلاء الملاحدة إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ومعلوم أن من جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفرا وضلالا فمن قال إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الموجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول:

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلاما لله وأما هذا اللحيد فزاد على هؤلاء فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده لم يجعل ذلك كلاما له بل يقال إن يكون هنا كلام لئلا يثبت غيرا له.

وجوب عبد ورب

وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى وإن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة من صفات الله ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار قال تعالى: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " وقال تعالى: " قل أغير الله أتخذ وليا " وقال تعالى: " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " وقال تعالى: " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ".

حب الله وتوحيده لنفسه

وكذلك قول القائل: وجدت المحبة غير المقصود لأنها لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبدا ولا معبودا - هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يخفى فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: " والذين آمنوا أشد حبا لله " وقوله: " يحبهم ويحبونه " وقوله: " أحب إليكم من الله ورسوله " وقوله: " إن الله يحب المتقين، يحب المحسنين، يحب التوابين ويحب المتطهرين ". وقال النبي في الحديث الصحيح: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار "، وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام، وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط قال: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه.

تناقض الاتحاديين

وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم - كلام باطل من كل وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيرا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق والمؤمنون غير الله وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مقدمتي الحجة باطلة - قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم - فإن الغير موجود والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا ويقول كما قال ابن الفارض.

وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ولو أنصف الناس ما رأوا عابدا ولا معبودا - كلا المقدمتين باطل فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو "، والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه فقد وحد نفسه بنفسه كقوله: " وإلهكم إله واحد " وقوله: " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد، فاعلم أنه لا إله إلا الله " وأمثال ذلك.

وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدا ولا معبودا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض فإنه إذا لم يكن عابد ولا معبود بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه: الفقير إذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله، وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم لأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وينكح وينكح وأنه موصوف بكل نقص وعيب لأن ذلك هو الكمال عندهم كما قال في الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وقال: لا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد كما أن صفات العبد من أولها إلى صفات لله تعالى؟

خلاصة الرد على الاتحادية

هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك الذي لا ترى عابدا ولا معبودا يعاملك بموجب مذهبك فيضرب ويوجع ويهان ويصفع ويظلم فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى وقيل له ما ثم غير ولا عابد ولا معبود فلم يفعل بك هذا غيرك بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم والعابد هو المعبود فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه قيل له: فقل أيضا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالما أو مظلوما وهما واحد فأثبت عابدا ومعبودا وهما واحد. ثم يقال له هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح وهذا الذي شبع وروى هو نفس هذا الذي جاع وعطش فإن اعترف بأنه غيره أثبت المغايرة وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا فبين العابد والمعبود أولى وأحرى وإن قال: هو هو، عومل معاملة جنس السوفسطائية فإن هذا القول من أقبح السفسطة فيقال إذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه، والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول: " ربنا ظلمنا أنفسنا " لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء لكن جهة أمرها ليس جهة فعلها بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات وكل أحد يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظلم ذاك ليس هو إياه وليس هو بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه، وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة للمخلوقين من هذا لهذا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وأظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى يفضلهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال. ولكن يعلم بذلك أن الضلال حد له، وإنه إذا كررت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق في نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب، بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد الملحدين الذين يفسدون الدنيا والدين.

احتمال توبة الملحد وموته على الإسلام

والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة من قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم " وهذه الآية عامة مطلقة لأنها للتائبين وأما قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فإنها مقيدة خاصة لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى.

اتحاد الصوفية أشر من كفر أهل الكتاب

والحكاية المذكورة عن الذي قال إنه التقم العالم كله وأراد أن يقول أنا الحق وأختها التي قيل فيها إن الإلهية لا يدعها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق الله - هو من هذا الباب، والفقير الذي قال ما خلق الله أقل عقلا ممن ادعى أنه إلى مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ويدعون أنهم من موسى وأمثاله حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ودعاه إلى هذا القول وزينه له فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم وإن قولهم من جنس قول فرعون فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال: نعم ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولم؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون، فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولا صادقا، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود.

فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل والواجب إنكارها فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون لا سيما وأقوال هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: " جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم " والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرا من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.

امتناع التأويل للاتحادية

وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحا فإن ما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضا وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السراق والخونة الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة، فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببا لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنا وليا لله فيصير منافقا عدوا لله. ولقد ضربت لهم مرة مثلا بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى قبرص، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى وهؤلاء يجعلوننا شرا من النصارى، والأمر كما قاله هذا القائل.

وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم فمنهم من دخل في اتحادهم وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين، وأهل الكتاب، ظانا أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين.

وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب والله أعلم.

((انتهت الرسالة))

مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله