مجموعة الرسائل والمسائل/مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله/تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه
تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه
مسألة فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما، فقال له آخر: بل كلمه تكليما، فقال: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال: إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فهو كما قال أو لا؟
((الجواب)): الحمد لله، أما من قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فهذا إن كان لم يسمع القرآن فإنه يعرف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد أن يجحد نص القرآن، بل لو قال: إن معنى كلامي أنه خلق صوتا في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه أيضا كفرا، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف قالوا: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، لكن من كان مؤمنا بالله ورسوله مطلقا ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيرا مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان.
والأئمة الذين أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة ويقولون القرآن مخلوق ونحو ذلك، قيل إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم، وقيل لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس فقتلوا لأجل الفساد في الأرض وحفظا لدين الناس أن يضلوهم.
وبالجملة فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقة.
ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق وأن الله وإنما كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه ليس مباينا لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه.
الكفر جحود قطعي في الشرع لا العقل
وأما قول الجهمي: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فيقال لهذا الملحد: أنت تقول إنه كلمه بحرف صوت، لكن تقول بحرف وصوت خلقه في الهواء وتقول أنه لا يجوز أن تقوم به الحروف والأصوات لأنها لا تقوم إلا بمتحيز، والباري ليس بمتحيز ومن قال إنه متحيز فقد كفر. ومن المعلوم أن من جحد ما نطق به الكتاب والسنة كان أولى بالكفر ممن أقر بما جاء به الكتاب والسنة.
وإن قال الجاحد لنص الكتاب والسنة: إن العقل معه، قال له الموافق للنصوص: بل العقل معي وهو موافق للكتاب والسنة، فهذا يقول إن معه السمع والعقل، وذاك إنما يحتج لقوله بما يدعيه من العقل الذي يبين منازعه فساده، ولو قدر أن العقل معه.
والكفر هو من الأحكام الشرعية وليس كل من خالف شيئا علم بنظر العقل يكون كافرا، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفرا في الشريعة.
وأما من خالف ما علم أن الرسول جاء به فهو كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في قول أحد من سلف الأمة وأئمتها الإخبار عن الله بأنه متحيز أو أنه ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا وهذا يكفر، وهذا اللفظ مبتدع والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة، بل يستفسر هذا القائل إذا قال إن الله متحيز أو ليس بمتحيز فإن قال أعني بقولي أنه متحيز: أنه دخل في المخلوقات وإن المخلوقات قد حازته وأحاطت به فهذا باطل، وإن قال أعني أنه محاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا حق.
وكذلك قوله: ليس بمتحيز، إن أراد به أن المخلوق لا يجوز الخالق فقد أصاب وإن قال إن الخالق لا يباين المخلوق وينفصل عنه فقد أخطأ.
الكلام هل يكون بغير حرف ولا صوت، وهل يكونان غير حادثين
وإذا عرف ذلك فالناس في الجواب عن حجته الداحضة وهي قوله: لو قلت أنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث، ثلاثة أصناف: صنف منعوه المقدمة الأولى، وصنف منعوه المقدمة الثانية، وصنف لم يمنعوه المقدمتين بل استفسروه وبينوا أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليما.
فالصنف الأول.. أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ومن اتبعهما قالوا: لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم والحروف والأصوات عبارة عنه، وذلك المعنى القائم بذات الله تعالى يتضمن الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر عنه، فإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقالوا: إنه اسم الكلام حقيقة، فيكون اسم الكلام مشتركا أو مجازا في كلام الخالق، وحقيقة في كلام المخلوق.
والصنف الثاني.. سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت ومنعوهم المقدمة الثانية، وهو أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثا، وصنف قالوا إن المحدث كالحادث سواء كان قائما بنفسه أو بغيره وهو يتكلم بكلام لا يكون قديما وهو بحرف وصوت، وهذا قول من يقول القرآن قديم وهو بحرف وصوت كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه، وقال هؤلاء في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني.
وقالوا كلام لا بحرف ولا صوت لا يعقل، ومعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا ممتنع في صريح العقل، ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد وإنما اختلفت العبارات الدالة عليه فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلا وشرعا وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات وإن جاز أن يقال: إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره.
وقالوا لإخوانهم الأولين: إذا قلتم أن الكلام هو مجرد المعنى وقد خلق عبارة بيان فإن قلتم أن تلك العبارة كلامه حقيقة بطلت حجتكم على المعتزلة فإن أعظم حجتكم عليهم قولكم أنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام يخلقه في غيره، كما يمتنع أن يعلم بعلم قائم بغيره، وأن يقدر بقدرة قائمة بغيره، وأن يريد بإرادة قائمة بغيره، وإن قلتم هي كلام مجازا لزم أن يكون الكلام حقيقة في المعنى مجازا في اللفظ، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات.
حدوث الحرف والصوت لا يقتضي كونه مخلوقا
والصنف الثالث.. الذين لم يمنعوا المقدمتين ولكن استفسروهم وبينوا أن هذا لا يستلزم صحة قولكم، بل قالوا: إن قلتم أن الحرف والصوت محدث بمعنى أنه يجب مخلوقا منه منفصلا عنه، فهذا دليل على فساد قولكم وتناقضه، وهذا قول ممنوع، وإن قلتم بمعنى أنه لا يكون قديما فهو مسلم لكن هذه التسمية محدثة.
وهؤلاء صنفان: صنف قالوا أن المحدث هو المخلوق المنفصل عنه فإذا قلنا: الحرف والصوت لا يكون إلا محدثا كان بمنزلة قولنا لا يكون إلا مخلوقا وحينئذ فيكون هذا المعتزلي أبطل قوله بقوله حيث زعم أنه يتكلم بحرف وصوت مخلوق، ثم استدل على ذلك بما يقتضي أنه يتكلم بكلام مخلوق وفيه تلبيس.
مذاهب المسلمين في كلام الله وكونه بحرف وصوت أم لا
ونحن لا نقول: كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق، بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما أنه سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه سبحانه استوى إلى السماء وهي دخان وأنه سبحانه يأتي في ظلل من الغمام والملائكة، كما قال " وجاء ربك والملك صفا صفا " وقال: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " وقال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقال تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير، يبين الله سبحانه أنه إذا شاء فعل ما أخبر عنه من تكليمه وأفعاله القائمة بنفسه، وما كان قائما بنفسه هو كلامه لا كلام غيره، والمخلوق لا يكون قائما بالخالق، ولا يكون الرب محلا للمخلوقات، بل هو سبحانه يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله، وليس من ذلك شيء مخلوقا، إنما المخلوق ما كان بائنا عنه، وكلام الله من الله ليس ببائن منه، ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: منه بدا، أي هو المتكلم به لا أنه خلقه في بعض الأجسام المخلوقة.
وهذا الجواب هو جواب أئمة أهل الحديث والتصوف والفقه وطوائف من أهل الكلام من أئمتهم من الهشامية والكرامية وغيرهم وأتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، منهم من يختار جواب الصنف الأول، وهم الذين يرتضون قول ابن كلاب في القرآن، وهم طوائف من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الصنف الثاني، وهم الطوائف الذين ينكرون قول ابن كلاب ويقولون إن القرآن قديم كالساليمة وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الطائفة الثالثة، وهم الذين ينكرون قول الطائفتين المتقدمتين الكلابية والسالمية.
ثم من هؤلاء من يقول بقول الكرامية، والكرامية ينتسبون إلى أبي حنيفة، ومنهم من لا يختار قول الكرامية أيضا لما فيه من تناقض آخر، بل يقول بقول أئمة الحديث كالبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن قبلهم من السلف، كأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام ومحمد بن كعب القرظي والزهري وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وما نقل من ذلك عن الصحابة والتابعين، وفي ذلك آثار كثيرة معروفة في كتب السنن والآثار تضيق عنها هذه الورقة.
وبين الأصناف الثلاثة منازعات ودقائق تضيق عنها هذه الورقة، وقد بسطنا الكلام عليها في مواضع وبينا حقيقة كل قول، وما هو القول الصواب في صريح المعقول وصحيح المنقول لكن هؤلاء الطوائف كلهم متفقون على تضليل من يقول إن كلام الله مخلوق، والأمة متفقة على أن من قال إن كلام الله مخلوق لم يكلم موسى تكليما يستتاب فإن تاب وإلا يقتل.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
فتوى أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله في القرآن هل هو بحرف وصوت أم لا؟ وفي نقط المصحف وشكله هل هما منه أم لا؟
سئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا، فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟
فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على محمد ﷺ وخاتم النبيين والمرسلين وأن جبريل سمعه من الله والنبي ﷺ سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي ﷺ كما قال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال: " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فقد أصاب في ذلك، فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
تخطئة قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله تعالى
ومن قال: إن القرآن العرب لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبريل أو غيره عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فهو قول باطل من وجوه كثيرة.
فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وبالعبرانية كان توراة وبالسريانية كان إنجيلا فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين و " قل هو الله أحد " " تبت يدا أبي لهب " والتوراة والإنجيل وغيرهما معنى واحدا، وهذا قول فاسد بالعقل والمشاهدة وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه غيره من السلف.
وإن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي، أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع، فإن النبي ﷺ قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالقرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله لا كلام غيره كما ذكر الله ذلك، وفي السنن عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ". وقالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم " ألم غلبت الروم " أهذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله تعالى.
والناس إذ بلغوا كلام النبي ﷺ كقوله: " إنما الأعمال بالنيات " أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي ﷺ تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي ﷺ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله إذا بلغته الرسل عنه وقرأته الناس بأصواتهم.
والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وقد نص أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم بحرف وصوت ليس منه شيء كلاما لغيره، لا جبريل ولا غيره، وأن العباد يقرؤونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ والكلام كلام البارئ.
خطأ عدم التمييز بين صوت العبد وصوت الرب نفيا وإثباتا
وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب بل يجعل هذا هو هذا فينفيهما جميعا أو يثبتهما، جميعا، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله عز وجل، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا فرق بين القديم والحادث، وهو مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق.
وإذا ثبت جعل صوت الرب هو العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله أن الحروف متعاقبة في الوجود مقترنة في الذات قديمة أزلية الأعيان فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو يتحد بصفته فقال بنوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل.
وقد علم أن عدم الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته خطأ وضلال لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه ﷺ حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس شيء من أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديما، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين مقروء بألسنتهم محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله. والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط لأنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم لما أحدث اللحن نقط المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ولم يكره في أظهر قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
حروف المصاحف ونقطها وشكلها مخلوقة، وكلام الله فيها غير مخلوق
وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه بل هو تابع للحروف المرسومة فلهذا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله معانيه وحروفه وإعرابه، والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد ﷺ والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين، ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.
الآيات الدالة على أنه تعالى يتكلم بما شاء شيئا بعد شيء
والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله فلا يقال بعضهم كلام الله وبعضه ليس بكلام الله وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن كما قال تعالى: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى " والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا، ورسلا قد قصصناهم من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما " فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى فمن قال إن موسى لم يسمع صوتا بل ألهم معناه، لم يفرق بين موسى وغيره وقد قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالا.
وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره: لم يزل متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتلكم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى " فلما أتاها نودي يا موسى " فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى: " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين " فهو سبحانه ناداهما حين أكلا منها ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بعد أن خلق آدم وصوره ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " فأخبر أنه قال له كن فيكون بعد أن خلقه من تراب، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير يخبر أنه تكلم في وقت معين ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " وقال: " نبدأ بما بدأ الله به " فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين، ثم قالت طائفة: هو معنى واحد وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول مخالف للشرع والعقل.
وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله لم تزل لازمة لذاته، وإن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا أزلا وأبدا لم تزل ولا تزال لم يسبق منها شيء شيئا، وهذا مخالف للشرع والعقل.
من أنكر تكليمه تعالى ونداءه لموسى بمشيئته واختياره حقيقة
وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا أن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم أن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية فلا يقوم به كلام لا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا هذه حوادث والرب لا تقوم به الحوادث فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون لم يزل قادرا، لكن يقولون إن المقدور كان ممتنعا وأن الفعل صار ممكنا له بعد أن صار ممتنعا عليه من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا كان قادرا في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، لا على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادرا في حال كون المقدور عليه ممتنعا عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيئا من مفعوله لازما بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف الفاعل بالإرادة.
المعلول مقارن علته إذا جرت مجرى الشروط
وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط فإن الشرط لا يلزمه أن يتقدم على المشروط بل قد يقارنه كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلا سواء سمي أو لم يسمى علة فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين ولأنه لو كان قديما فاعله موجبا بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيء من الحوادث وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل بل لم يزل متكلما إذا شاء فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على قدرة الرب تعالى مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود لا نقص فيه منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كف في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقا، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها، ولا كفؤ له فيها.
أصل الاضطراب في كلام الله "المناظرة في مسألة حدوث العالم"
وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام بل كان ذلك ممتنعا عليه وكان معطلا عن ذلك وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأول فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول والأزل لا أول له والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين.
ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام بل هذا يكون دائما وإن كان كل من آحاده حادثا كما يكون دائما في المستقبل وإن كان كل من آحاده فانيا، بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار لم ينازع فيه الأشرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب لوجوده فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء مع مخالفتهم لسلفهم أرسطو وأتباعه فإنه لم يكونوا يقولون ذلك وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين بناء على إثبات علة غائية لحركة الفلك يتحرك الفلك للتشبه بها لم يثبتوا له فاعلا ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره وهم وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم فيهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم فاحتاجوا أن يقولوا كلامه مخلوق منفصل عنه.
مذهب طوائف المبتدعة المخالفة للنصوص في كلام الله وأفعاله
وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له لكن قالوا تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا أنه في الأزل لم يكن متكلما بل ولا كان الكلام مقدورا له ثم صار متكلما بلا حدوث حادث بكلام يقوم به وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.
وطائفة قال: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازما لذات الرب فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال هو معنى واحد قديم، فجعل آية الكرسي وآية الدين وسائر آيات القرآن التوراة والإنجيل وكل كلام يتكلم الله به معنى واحدا لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض، ولا يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ونحو ذلك، إنه لا يراها إذا وجدت بل إما أنه لم يزل رائيا لها وإما أنه لم يتجدد شيء موجود بل تعلق معدوم، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل.
والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية، والاقترانية.
شر المبتدعة "الصابئة والمتفلسفة" وإبطال قولهم
وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته لا قديم النوع ولا قديم العين ولا حادث ولا مخلوق بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون إنه كلم موسى من سماء عقله، وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون مع ذلك أنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله.
وقولهم: يعلم نفسه ومفعولاته، حق كما قال تعالى " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "، لكن قولهم مع ذلك: إنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض فإن نفسه المقدسة معينة والأفلاك معينة وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وهم إنما ألجأهم إلى هذا الحد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى، مع أن هؤلاء يقولون إن الحوادث تقويم بالقديم وأن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن البارئ لاعتقادهم أنه لا صفة له بل هو وجود مطلق، وقالوا أن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى وجعلوا الصفات هي الموصوف.
ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب لكه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف وكل صفة هي الأخرى.
ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول معاني الكلام شيء واحد، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك، فقالوا إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا، جاز أن يكون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه.
اللوازم الباطلة دينا وعقلا للنظريات في كلامه تعالى وصفاته
ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع.
وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذي قاله أهل الوحدة والحلول في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه وقالوا هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا أولا أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال " إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني - إلى - أنا الله رب العالمين " كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودات في الأزل بعضا بعضها، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله.
ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي، وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه بل منهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.
والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة، وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد بسطناها في الواجب الكبير.. والله أعلم بالصواب.
فتوى أخرى لشيخ الإسلام في إثبات أن الكلام صفة المتكلم لا عينه ولا غيره
سئل أيضا رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يقول الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له المعنى، بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد.. أثابكم الله بمنه.
فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم والقول غير القائل وأراد أنه مباين له منفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول إن القرآن مخلوق فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم العلم غير العالم والقدرة غير القادر والكلام غير المتكلم، ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق وهذا تلبيس منهم.
فإن لفظ الغير يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال علم الله غيره، ولا يقال إن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ الغير ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقا، لأن صفاته ليست هي الذات لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسما لذات لا فات ها بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها.
قول السلف: "القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود"
والصواب في مثل هذا أن يقال الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس منه بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد ﷺ كما قال تعالى " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " ولا يجوز أن يقال إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف: أنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فقولهم منه بدأ رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام ومن ذلك المخلوق ابتدأ، فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود أي فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله.
فمن قال إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال إن الكلام غير المتكلم، وكذلك من قال إن كلام الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه ظاهر، وكذلك من قال إن القرآن الذي يقرأه المسلمون غير المقروء الذي يقرأه المسلمون فقد أخطأ.
الضلال في الألفاظ المجملة إذا لم يبين المراد منها
وإن أراد بالقرآن مصدر: قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، وقال: أردت أن القراءة غير المقروء فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر غير المقروء كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة وقسما منه أخرى، فالأول كما يقول: الإيمان قول وعمل، ومنه قوله ﷺ: " إن الله تجاوز لا متى ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ومنه قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه "، ومنه قوله تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل " وأمثال ذلك فيما يفرق بين القول والعمل، وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " وقد فسروه بقول لا إله إلا الله، ولما سئل ﷺ: أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله " مع قوله " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ونظائر ذلك متعددة.
وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا -إذا قال قولا كالقراءة ونحوها- هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره بناء على هذا.
فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب.. والله سبحانه وتعالى أعلم.
((تم الكتاب المجموع ولله الحمد))