مجموعة الرسائل والمسائل/مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله/اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع
فصل في اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع
فإن قيل: ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفريق والاختلاف؟ قيل: منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع.
وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الكلام على... بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام قالوا إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في الأدلة في المسألة المتقدمة فتارة يثبتونها بان الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، وهي حادثة، وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام قد تخلو عن بعض أنواع الأعراض، وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون إن الأعراض يمتنع بقاؤها لأن العرض لا يبقى زمانين، وهي الطريقة التي اختارها الأمدي وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى والجويني والباجي وغيرهم.
الاستدلال على حدوث العالم بملازمة الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها
وأما الهشامية والكرامية وغيرهما من الطوائف الذين لا يقولون بحدوث كل جسم يقولون إن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث كما في قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل فإنهم قالوا أن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة.
والناس متنازعون في السكون هل هو أمر وجودي أو عدمي، فمن قال إنه وجودي قال الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون فإذا انتفت عنه الحركة فالسكون به وجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك، ومن قال إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت أن السكون وجودي، فمن قال إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث كما هو في قول الكرامية. وغيرهم يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بلى ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا، ولا يقولون إن عدم الفعل أمر وجودي كذلك الحركة عند هؤلاء.
وكان كثير من أهل الكلام يقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، بناء على أن هذه مقدمة ظاهرة بأن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده، وقارن الحوادث فهو حادث، وما كان بعده فهو حادث، وهذا الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحوادث المعينة أو ما لا يسبق الحادث المعين فهو حق بلا ريب ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث حكم ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا ما أريد الحوادث الأمور التي تكون شيئا بعد شيء لا إلى أول وقيل إنه لا يخلو عنها وما لم يخل فهو حادث لم يكن ذلك ظاهرا ولا بينا، بل هذا المقام، حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام، ولهذا صار المستدلون بقولهم، ما لا يخطر عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقا قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.
نظريتا "حوادث لا أول لها" و"حدوث ما لازم الحوادث"
وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال: فقيل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقا، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم.
وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقا، وليس كل ما يقارب حادثا بعد حادث لا إلى أول يجوز أن يكون حادثا، بل يجوز أن يكون قديما سواء كان واجبا بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول والفاعلية ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك كأرسطو وأتباعه ثامبطوس والإسكندر الأفرديوسي وبوملس والفارابي وابن سينا وأمثالهم، وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بهذا وقيل بل إن كان الملتزم للحوادث ممكنا بنفسه وجب أن يكون حادثا فإن كان واجبا بنفسه لم يجز أن يكن حادثا، وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة وهو قول جماهير أهل الحديث.
مأخذ خلق القرآن من نظرية امتناع قيام الحوادث به تعالى
وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث، وما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث، لأنه إن كان مفعولا ملتزما للحوادث امتنع أن يكون قديما، فإن القديم المعلول لا يكون قديما إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله بحيث يكون معه أزليا لا يتقدم عنه، وهذا ممتنع فإن من استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجبا بذاته يستلزم معلوله في الأزل فإن الحوادث المتعاقبة شيئا بعد شيء لا يكون مجموعها في الأول ولا يكون شيء منها أزليا بل الأزلي هو ذاتها واحد بعد واحد الموجب بذاته الملتزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئا بعد شيء سواء كان صادرا عنه بواسطة أو بغير واسطة فإن ما كان واحدا بعد واحد يكون متعاقبا حادثا شيئا بعد شيء فيمتنع أن يكون معلولا مقاربا لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل أن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئا بعد شيء فإنه على هذا لا يكون في الأزل موجبا بذاته ولا علة سابقة تامة فلا يكون معه في أول شيء من المخلوقات، لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئا بعد شيء، وكل مفعول يأخذ عنده وجود كمال فاعليته، إذ المؤثر التام الملتزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره إذ لو تخلف لم يكن مؤثرا تاما، فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام، ووجود المؤثر التام، يستلزم وجود الأثر، فليس في الأول مؤثر تام، فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه، والأول ليس هو حدا محدودا ولا وقتا معينا بل كل بتقدير العقل من الغاية التي ينتهي إليها، فالأول قبل ذلك كما هو قبل ما قدره، فالأزل لا أول له، كما أن الأبد لا آخر له، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " فلو قيل أنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارنا له دائما، وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوداث، لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه، وإن كانت ذات المؤثر وموجودة قبل ذلك لكن لا بد من وجود شروط التأثير عند وجود الأثر والألزم الترجيح من غير مرجح وتخلف المعلول عن العلة التامة ووجود الممكن بدون المرجح التام وكل هذا ممتنع وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فصل في نظرية الأشعرية والكلابية في قدم الكلام النفسي دون اللفظي
وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس فالذين قالوا ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، تنازعوا في كلام الله تعالى، فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئته المتكلم وقدرته فيكون حادثا كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة والرب تعالى لا يقوم به الحوادث فيكون الكلام مخلوقا في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقا من المخلوقات، ولم يفرقوا بين قال وفعل، وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات والروائح والحركة العلم والقدرة والسمع والبصر، فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام، ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات علامة، ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه أن يقول: كل كلام في الوجود فهو كلامه كما قال بعض الاتحادية:
وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه
وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم، فإن هؤلاء يقولون: إنه خالق أفعال العباد وكلامهم، مع قولهم أن كلامه مخلوق فيلزمهم هذا، وأما المعتزلة فلا يقولون إن الله تعالى خالق أفعال العباد لكن الحجة توجب القول بذلك، وقالت طائفة: بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ويمتنع أن لا يكون كلامه إلا مخلوقا في غيره، وهو متكلم بمشيئته وقدرته، فيكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن لامتناع حوادث لا أول لها، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقا الكلام لازم لذات الرب كلزوم الحياة ليس هو متعلقا بمشيئته وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة إذ لو قلنا أنه بمشيئته وقدرته لزم أن يكون حادثا وحينئذ يلزم أن يكون مخلوقا أو قائما بذاته فيلزمه قيام الحوادث به وذلك مستلزم لتسلسل الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده، قالوا وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل.
اختلاف العلماء في قدم حروف القرآن والأصوات به
ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة القديم لا يكون حروفا ولا أصواتا، لأن تلك الحروف لا تكون كلاما إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقا بغيره، فلو كانت الميم من " بسم " قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقا بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده، لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحا من غير مرجح، وإلا كان لا ينافي لزوم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد، قالوا وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحدا هو الأمر والخبر ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية.
وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة، ومنهم من قال بل هو أيضا أصوات قديمة، ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في وقت واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد، فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى، فإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديما، لأن ما وجب قدمه، لزم بقاؤه وامتنع عدمه.
والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد وما يقدر تقدير المداد كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه...
وقد يراد بالحروف نفس المداد، وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضا الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحروف في الجسم حده ومنتهاه فيقال حرف الرغيف وحرف الجبل ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " ونحو ذلك، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية وهي ما يسجل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به.
وقد تنازع الناس هل يتمكن وجود حروف بدون أصوات قديمة لم تزل ولا تزال، ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ هل سمع منه الصوت القديم؟ قيل المسموع هو الصوت القديم، وقيل بل المسموع هو صوتان أحدهما القديم والآخر المحدث، فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القرآن وما زاد على ذلك فهو المحدث، وتنازعوا في القرآن هل يقال إنه حال في المصحف والصدور أم لا؟ يقال على قولين: فقيل هو ظاهر في المحدث ليس بحال فيه، وقيل بل القرآن حال في الصدور والمصاحف.
فهؤلاء الخلقية والحادثية والاتحادية والإقرائية أصل قولهم: إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقا، ومن قال بهذا الأصل فإنه يلزم بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك، فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثا أو قديما، وإذا كان حادثا إما أن يكون حادثا في غيره، وإما أن يكون حادثا في ذاته، وإذا كان قديما فإما أن يكون القديم المعني فقط أو اللفظ، أو كلاهما، فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم أن لا يكون الكلام المقروء كلام الله ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف.
وأما قدم اللفظ فقط فهذا لم يقل به أحد لكن من الناس من يقول إن الكلام القديم هو اللفظ، وأما معناه فليس هو داخل في مسمى الكلام، فهذا يقول الكلام القديم هو اللفظ فقط: إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات، لكنه يقول إن معناه قديم.
مذهب القائلين بحوادث لا أول لها وقدم العالم
وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقا، وإن القديم يجوز أن يعتقب عليه الحوادث مطلقا وإن كان ممكنا لا واجبا بنفسه، فهؤلاء هم القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم هذه الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته.
وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا: إن لها علة غاثية تتحرك للتشبه بها فهي تحركها كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعا بذاته، وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة ابن سينا وأتباعه، وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلا.
أما على قول من جعل الأزل علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلا لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم، فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره لكون القدرة والداعي يستلزمان وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد، فيقال لهم تقولون هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه أنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئا بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقول، وهذا القول الذي يقوله ابن سينا وأتباعه باطل أيضا لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع بذاته.
وإذا قالوا بحركة توسطه قيل لهم: إنما هو في حدوث الحركة، فإن الحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضي لها علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها، فإن ذلك جمع بين النقيضين، إذا القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا يحدث بها.
وهؤلاء يقولون: كلام الله ما يفيض على النفوس الصافية كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية، فلا يثبتون له كلاما خارجا عما في نفوس البشر، ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة، مع أن أكثرهم يقولون إنها أعراض.
وقد تبين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية الحوادث التي هي العقول والنفوس والمواد والصور إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
مذهب الذين فرقوا بين الواجب والممكن في كلام الله
وأما الصنف الثالث الذين فرقوا بين الواجب والممكن والخالق والمخلوق والغني الذي لا يفتقر إلى غيره، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغير، فقالوا: كل ما قارن الحوادث من الممكنات فهو حادث كائن بعد إن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيئا قديما فضلا عن أن يقارن حوادث لا أول لها، ولهذا كانت حركة الفلك دليلا على حدوثه كما تقدم التنبيه عليه، وأما الرب تعالى إذا قيل لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فاعلا، لم يكن دوام كونه متكلما بمشيئته وقدرته ودوام كونه فاعلا بمشيئته وقدرته ممتنعا، بل هذا هو الواجب لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب تعالى أحق أن يتصف به من كل موصوف بالكلام، إذ كل كمال يثبت للمخلوق فالحق أولى به، لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال من المحدث الممكن المخلوق، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعا وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكنا يتوقف ثبوته له على غيره والرب تعالى لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه أو كان غيره معطيا له الكمال وهذا ممتنع، بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال فلا يتوقف ثبوت كونه متكلما على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلما وأن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازما له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكنا له.
الحروف المفردة وأسماء الأعلام في القرآن وفي كلام الناس
وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل أنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين وإذا كان قد تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديما لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة، لما علم من القرآن من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الكلام والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات وبه تحل هذه الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها وقدمها وحدوثها وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب وقدمها وحدوثها وحدوث العالم.
وإذا قيل أن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكنا بخلاف ما إذا قيل اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، فإن كان هذا مكابرة للحس، والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجودها بنوعها، وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع والتأليف المعين فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله.
أصل رواية سجود الحروف لآدم إلا الألف ومعناها
والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفا من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطي وهو نقلها عن بكر بن خنيس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا إثبات أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيرا من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئا حتى يؤمر بهن فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدة لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس.
وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك مع أن هذا أمر اصطلاحي وخط غير العرب لا يماثل خط العرب، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة ثابتة عن الله، بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم والحروف المنطوقة لا يقال فيها بأنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون إن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية فقد قال عنهم ما لم يقولوه.
وأما الإمام أحمد فإنه أنكر إطلاق هذا القول وما يفهم منه عند الإطلاق وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفا من حروف المعجم مخلوق فقد سلك طريقا إلى البدعة، قال إن ذلك مخلوق، وقد قال إن القرآن مخلوق ولا ريب أنه من جعل نوع الحروف مخلوقا ثابتا عن الله كائنا بعد إن لم يكن لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقا، وامتنع أن يكون الله متكلما بكلامه الذي أنزله إلى عباده، فلا يكون شيء من ذلك كلامه.
مذهب السلف والأئمة كالشافعي وأحمد في القرآن
فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثابت الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول.
وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعا من الله تعالى، والنبي ﷺ سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي ﷺ وهو الذي نتلوه بألسنتنا وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوقا فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.
والكلام في هذا الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفات وإيجادها وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية، فإن عمومها متأولة بالأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب، فإن هذه أمور مشكلة ومحارات للعقول ولهذا اضطرب فيها طوائف من الناس ونظارهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله سبحانه أعلم.. ((انتهى)).
ذكر ما لخصه الإمام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أيضا في كتابه "منهاج السنة"1 في مسألة الكلام
السبعة الأقوال للناس في كلام الله تعالى
هذه مسألة كلام الله تعالى الناس فيها مضطربون، قد بلغوا فيها إلى سبعة أقوال:
أحدها: قول من يقول: إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض، إما من العقل الفعال عند بعضهم، وإما من غيره، وهذا قول الصائبة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله، ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم، كأصحاب وحدة الوجود، وفي كلام صاحب الكتب " المضنون بها على غير أهلها " ورسالة " مشكاة الأنوار " وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا، وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا، لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه، وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطابقة الأحاديث النبوية.
وثانيها: قول من يقول: بأنه معنى واحد قديم قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره.
ورابعها: قول من يقول: إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث، ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة. وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم، وهؤلاء قال طائفة منهم: إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت المسموع من النار، أو هي بعض الصوت المسموع من النار، وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك، وقالوا هذا مخالفة لضرورة العقل.
وخامسها وسادسها: قول من يقول: إنه حروف وأصوات، لكن تكلم بعد أن لم يكن متكلما، وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته، بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة.
وسابعها: قول من يقول: إنه لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
مذهب آل البيت هو مذهب أهل السنة والحديث
وبالجملة أهل السنة والجماعة - أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية - يقولون إن الكلام غير مخلوق، وهذا هو المتواتر عن السلف والأئمة من أهل البيت وغير أهل البيت، ولكن تنازعوا بعد ذلك على الأقوال الخمسة المتأخرة.
أما القولان الأولان فالأول: قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم، والثاني: قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم كالنجارية والضرارية.
وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة، وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث، وهذا هو المعروف عند أهل البيت كعلي بن أبي طالب وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وغيرهم، ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من كان ينكر الرؤية، ولا يقول بخلق القرآن ولا ينكر القدر ولا يقول بالنص على علي ولا بعصمة الأئمة الاثني عشر، ولا يسب أبا بكر وعمر، والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة، وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع، وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غيرهم من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يعفر أنه لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سبقهم إليه أحد.
نقض مذهب الشيعة الاعتزالي في مسألة الكلام
وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا - أي ابن المطهر الذي رد عليه ابن تيمية في هذا البحث - : قولك " إن أمره ونهيه وأخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وأخباره، أتريد به أنه حادث في ذاته، أم حادث منفصل عنه؟ والأول قول أئمة الشيعة المتقدمة والجهمية والمرجئة والكرامية، مع كثير من أهل الحديث وغيرهم.
ثم إذا قيل: حادث، أهو حادث النوع، فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما، أو حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء؟ والكلام الذي كلم به موسى هو حادث، وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل؟ فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك.
وقد علم أنك أردت النوع الأول وهو قول الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال، فقالوا: إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه، فيقال لك: إذا كان الله قد خلقه منفصلا عنه لم يكن كلامه، فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من قامت به لا من خلقها وفعلها في غيره، ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في جسم كان ذلك الجسم هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات الله بل مخلوقات له، ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا أنطق الجامدات - كما قال " يا جبال أوبي معه والطير " وكما قال: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " وكما قال: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " ومثل تسليم الحجر على النبي ﷺ أو تسبيح الحصى بيده، وتسبيح الطعام وهم يأكلونه، فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره، وإذا تكلمت الأيدي فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون إنه خلق كلاما في الشجرة كلم الله به موسى بن عمران.
تفنيد قول اتحادية الصوفية والمعتزلة في كلام الله
وأيضا فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه، وهذا ما قالته الحلولية، من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال:
وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه
وحينئذ فيكون قول فرعون " أنا ربكم الأعلى " كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " كلام الله.
وأيضا فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه المخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، ولهذا عاب الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " وقال: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا " ولا يحمد شيء بأنه متكلم ويذم بأنه غير متكلم إلا إذا كان الكلام قائما به، وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام، كما لا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة، ولا عالم إلا من يقوم به العلم، ولا متحرك إلا من تقوم به الحركة ولا فاعل إلا من يقوم به الفعل، فمن قال: إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلا عنه. قال ما لا يعقل، ولم يفهم الرسل الناس هذا، بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل بل ما هو متصف به.
الكلام صفة ذات وصفة فعل لمن قام به، والفعل غير المفعول
قالوا: المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما فيقال لهم: للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال: قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا عنه، وهذا إنما قاله هؤلاء.
وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته، وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم.
وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته فقام به الكلام، وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم، فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات، والصنف الثاني يقولون: صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته، والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل، وهو قائم به يتعلق بمشيئته وقدرته.
إذا كان كذلك فقولكم أنه صفة فعل ينازعكم فيه طائفة، وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال: هب أنه صفة فعل منفصل عن القائل الفاعل أو قائم به؟ أما الأول فهو قولكم الفاسد، وكيف تكون الصفة غير قائمة بالموصوف، أو القول غير قائم بالقائل؟
فإن قلتم: هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث؟ قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس التكوين وبين المخلوق المكون؟ وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة، وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر بن عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قويه وقول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث، وحكاه البخاري في كتاب أفعال العباد عن العلماء مطلقا، وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية.
أقوال الشيعة في كلام الله فيها حق يوافق أهل الحديث وباطل
ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم، ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية، ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف.
وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم، فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى، وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم.
فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل، ومن لم يقل أن الباري يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء، فقد ناقض كتاب الله. ومن قال إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل، لأن الله تعالى يقول: " فلما جاءها نودي " وقال " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
قالوا: وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئا بعد شيء، فنحن نقول به، وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وأنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما، فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة، ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته.
قيام الحوادث بالرب بمعنى "أفعاله" حق وبمعنى "مخلوقاته" باطل
ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة.
ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به: أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية؟
فإذا قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا منه كافيا في هذا الباب.
وإن كان الثاني، قلنا لهؤلاء: أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث ما لم يكن فاعلا لها ولا لضدها؟ فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها؟ ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل.
فإن قلتم: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة، وإن لم يكن جائزا كان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين.
فإن قلتم لنا: أنتم توافقوننا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على قدم العالم، قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن الفاعل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم، وأنتم تقولون: إن قيل بالحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك، قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه، وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في أن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على جوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها، أكثر ما في هذا الباب أن نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها، وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل.
فنقول: إن كون المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، أو منفصل عنه لا يقوم به، مخالف للعقل والنقل، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا، لكن قد نكون ممن نقله بلوازمه فنكون متناقضين، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه، لا نرجع عن الصواب ليطرد الخطأ، فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث.
فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية؟ قلنا: بل قولكم أن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن لأنه جمع بين النقيضين فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته، والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وهو منقول عن جعفر الصادق بن محمد في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه.
مذهب الشيعة الملفق ومذهب أهل السنة في كلام الله
والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن الباري موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه، وأنتم وافقتموهم على طائفة باطلهم، حيث قلتم إنه لا يتصرف بنفسه ولا يقوم به أمر يختار، ويقدر عليه، وجعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم.
ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل، من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء، وقلنا أنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما ذاتا فلا نقول أن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم، ولا نقول أنه شيء واحد أمر ونهي وخبر، وأن معنى التوراة والإنجيل واحد، وأن الأمر والنهي صفة لشيء واحد، فإن هذا مكابرة للعقل، ولا نقول أنه أصوات متقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين.
وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم لما كان أزليا لم يزل، ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك، ولا نقول أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كل بها بعد نقصه، ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب، والقول في الثاني كالقول في الأول، ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوقا له حادثا بعد أن لم يكن، لأنه يكون سبب الحدوث وهو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك، فيعقل سبب حدوث الحوادث، ومع هذا يمتنع أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته يلزمه موجبه ومقتضاه، فإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقوم بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشيء من الأشياء، فامتنع قدم شيء من العالم، وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى، لأنه على هذا التقدير الأول يكفي في نفس المشيئة والفعل الاختياري والقدرة، ومعلوم أن ما يتوقف على المشيئة والفعل الاختياري القائم به أن يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك.
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.
وأكثر الناس لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال، وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب.. انتهى.
هامش
- ↑ ج1 ص221.