مجموعة الرسائل والمسائل/عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله
عرش الرحمن، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث، وكونه فوق العالم كله، ومعنى التوجه في الدعاء إلى جهة العلو، وبطلان ما قيل من أن العرش هو الفلك التاسع عند علماء الهيئة اليونانية
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل شيخنا وسيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية أعاد الله تعالى من بركته.. آمين: ما تقول في العرش، هل هو كري أم لا؟ فإذا كان كريا والله من ورائه محيط بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون غيره؟ فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا بطلب العلو لا يلتفت يمينه ولا يساره، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها، وابسطوا لنا الجواب في ذلك.
أجاب رضي الله تعالى عنه:
الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذا بثلاث مقامات:
المقام الأول: أنه لم يثبت أن العرش هو الفلك التاسع، وأن الحوادث ناشئة عن حركة الأفلاك
أحدها: أن لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل لا بدليل شرعي ولا دليل عقلي، وإنما ذكر طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة وغيره من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع - وهو الأطلس - محيط بها مستدير كاستدارتها، وهو الذي يحركها الحركة المشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله وذكر كرسيه وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن: أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أن ليس وراء ذلك التاسع شيء، إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق، ثم أن منهم من رأى أن التاسع هو الذي يحرك الأفلاك كلها فجعلوه مبدأ الحوادث وزعموا أن الله تعالى يحدث فيه ما يقدره في الأرض أو يحدثه في النفس التي زعموا أنها متعلقة به، أو في العقل الذي زعموا أنه صدر عنه هذا الفلك، وربما سماه بعضهم الروح، وربما جعل بعضهم ذلك النفس هو اللوح المحفوظ كما جعل العقل هو العلم، وتارة يجعلون اللوح هو العقل الفعال العاشر الذي لفلك القمر والنفس المتعلقة به. وربما جعلوا ذلك بالنسبة إلى الحق كالدماغ بالنسبة إلى الإنسان يقدر فيه ما يفعله قبل أن يكون، إلى غير ذلك من المقالات التي قد شرحناها وبينا فسادها في غير هذا الموضع. ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة ويكون كاذبا فيما يدعيه، وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليدا لهم أو موافقة لهم على طرقهم الفاسدة، كما فعل أصحاب "رسائل إخوان الصفا" وأمثالهم.
وقد ينتحل المرء في نفسه ما تقلده عن غيره فيظنه كشفا كما ينتحل النصر أبي التثليث الذي يعتقده، وقد يرى ذلك في منامه فيظنه كشفا، وإنما يخيل لما اعتقده وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة إذا ارتاضوا صقلت الرياضة نفوسهم فتتمثل لهم اعتقاداتهم فيظنونها كشفا، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
خطأ القائلين بأن العرش هو الفلك التاسع
والمقصود هنا أن ما ذكروه من أن العرش هو الفلك التاسع قد يقال إنه ليس لهم عليه دليل لا عقلي ولا شرعي، أما العقلي فإن أئمة الفلسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك ما ذكروه. وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون لا ثبوته ولا انتفاءه.
مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أفلاك مختلفة، حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك كفلك التدوير وغيره، فأما ما كان موجودا فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقه. وكذلك قول القائل أن حركة التاسع مبدأ الحوادث خطأ وضلال على أصولهم، فإنهم يقولون إن الثامن له حركة تخصه بما فيه من الثوابت، ولتلك الحركة قطبان غير قطبي التاسع، وكذلك السابع والسادس.
بطلان قولهم بما يترتب على حركات الأفلاك وأشكالها
وإذا كان لكل فلك حركة تخصه والحركات المختلفة هي سبب الأشكال الحادثة المختلفة الفلكية، وتلك الأشكال سبب الحوادث السفلية، كانت حركة التاسع جزء السبب كحركته، فالأشكال الحادثة في الفلك كمقارنة الكوكب للكوكب في درجة واحدة ومقابلته له إذا كان بينهما نصف الفلك وهو مائة وثمانون درجة وتثليثه إذا كان بينهما ثلث الفلك مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما ربعه تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما ستون درجة - وأمثال ذلك من الأشكال - إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عن الأخرى، إذ حركة الثامن التي تخصه ليست عن حركة التاسع وإن كان تابعا له في الحركة الكلية كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها. وكذلك حركة السابع التي تخصه ليست عن التاسع ولا عن الثامن، وكذلك سائر الأفلاك فإن حركة كل واحد التي تخصه ليست عما فوقه من الأفلاك، فكيف يجوز أن يجعل مبدأ الحوادث كلها مجرد حركة التاسع كما زعمه من ظن أنه العرش؟ كيف والفلك التاسع عندهم بسيط متشابه الأجزاء لا اختلاف فيه أصلا، فكيف يكون سببا لأمور مختلفة لا باعتبار القوابل وأسباب أخر، ولكن هم قوم ضالون يجعلونه مع هذا ثلثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى لا باختلاف القوابل، كمن يجيء إلى ماء واحد فيجعل لبعض أجزائه من الأثر ما يخالف الآخر لا بحسب القوابل بل يجعل أحد جزئيه مسخنا والآخر مبردا، والآخر مسعدا، والآخر مشقيا، وهذا مما يعلمون هم وكل عاقل أنه باطل وضلال، وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة كان يجزم أن ما أخبرت به الرسل من العرش هو الفلك التاسع رجما بالغيب وقولا بلا علم.
هذا كله على تقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة، إذ في ذلك من النزاع والاضطراب وفي أدلة ذلك ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير أيضا فالأفلاك في أشكالها وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد فنسبة السابع إلى السادس كنسبة السادس إلى الخامس. وإذا كان هناك فلك تاسع فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع.
الآيات والأحاديث في العرش تنفي كونه الفلك التاسع
وأما العرش.. فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض، قال الله تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسحبون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتعبوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) وقال تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسحبون ويستغفرون للمؤمنين، والمعلوم أن قيام فلك من الأفلاك بقدرة الله تعالى كقيام سائر الأفلاك لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها في نفس الأمر ملائكة تحملها فحكمه حكم نظيره.
قال الله تعالى (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) فذكر هنا أن الملائكة تحف من حوله، وذكر في موضع آخر أن له حملة، وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله، فقال (الذين يحملون العرش ومن حوله) وأيضا فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض كما قال تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء).
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ أنه قال " كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض " وفي رواية له " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء " وفي رواية لغيره صحيحة " كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ".
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " فهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى يتمدح بأنه ذو العرش المجيد كقوله سبحانه (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وقوله تعالى (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار).
وقال سبحانه (وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد) وقد قرئ المجيد بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفة للعرش وقال تعالى (قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله قل أفلا تتقون) فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم.
وقال تعالى (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) فوصفه بأنه كريم أيضا، وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب " لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " فوصفه في الحديث بأنه عظيم وكريم أيضا.
فيقول القائل المنازع: إن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، فلو كان العرش من جنس الأفلاك لكانت نسبته إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر كما لم يوجب ذلك تخصيص سماء دون سماء، وإن كانت العليا بالنسبة إلى السفلى كالفلك على قول هؤلاء.
وإنما امتاز عما دونه بكونه أكبر كما تمتاز السماء العليا على الدنيا بل نسبة السماء إلى الهواء ونسبة الهواء إلى الماء والأرض كنسبة فلك إلى فلك. ومع هذا فلا يخص واحد من هذه الأجناس عما يليه بالذكر ولا بوصفه بالكرم والمجد والعظمة، وقد علم أنه ليس سببا لذاتها ولا لحركاتها، بل لها حركات تخصها فلا يجوز أن يقال إن حركته هي سبب الحوادث، بل إن كانت حركة الأفلاك سببا للحوادث فحركات غيره التي تخصه أكثر ولا يلزم من كونه محيطا بها أن يكون أعظم من مجموعها، إلا إذا كان له من الغلظ ما يقاوم ذلك، وإلا فمن المعلوم أن الغليظ إذا كان متقاربا مجموع الداخل أعظم من المحيط بل قد يكون بقدره أضعافا، بل الحركات المختلفة التي ليست عن حركته أكثر لكن حركته تشملها كلها.
أحاديث ذكر فيها صفات العرش
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث أن النبي ﷺ دخل عليها وكانت تسبح بالحصى إلى الضحى فقال " لقد قلت كلمة تعدل كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته " فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون إن الفلك التاسع لا خفيف ولا ثقيل، بل يدل على أنه وحده أثقل ما يمثل به كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي ﷺ وقد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك لطم وجهي. فقال النبي ﷺ " ادعوه " فقال " لم لطمت وجهه؟ " فقال يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، فقالت يا خبيث وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي ﷺ " لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته " فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم وجاء ذكر القائمة بلفظ الساق والأفلاك متشابهة في هذا الباب.
زنة العرش وقوائمه واهتزازه وكونه فوق الجنة
وقد أخرجا في الصحيحين عن جابر قال سمعت النبي ﷺ يقول " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " قال فقال رجل لجابر أن البراء يقول اهتز السرير قال: إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن.
سمعت نبي الله ﷺ يقول " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " ورواه مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي ﷺ قال - وجنازة سعد موضوعة - " اهتز لها عرش الرحمن ".
وعندهم أن حركة الفلك التاسع دائمة متشابهة ومن تأول ذلك على أن المراد به استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على ما قال.
كما ذكر أبو الحسين الطبري وغيره أن سياق الحديث ولفظه ينفي هذا الاحتمال.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ قال " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ".
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال " يا أبا سعيد، من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل قال " وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال وما هي يا رسول الله قال " الجهاد في سبيل الله ".
وفي صحيح البخاري أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر - أصابه سهم غرب، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال " يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ".
فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها. والحديث الثاني يوافقه في وصف الدرج المائة، والثالث يوافقه في أن الفردوس أعلاها.
وإذا كان العرش فوقه فلقائل أن يقول: إذا كان كذلك كان في هذا من العلو والارتفاع ما لم يعلم بالهيئة، إذ لا يعلم بالحساب أن بين التاسع والأول كما بين السماء والأرض مائة مرة، بل عندهم أن التاسع ملاصق للثامن. فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها. وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال " آية الكرسي " ثم قال يا أبا ذر " ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأحمد في المسند وغيرهما.
تشبيه العرش بالقبة لا يدل كونه فلكا
وقد استدل من استدل على أن العرش مقبب بالحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله ﷺ أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا. فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال " ويحك، أتدري ما تقول؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه. شأن الله أعظم من ذلك. إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وسماواته فوق أرضه، لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة. وفي لفظ " وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة وهذا الحديث إن دل على التقبب وكذلك قوله عن الفردوس " إنها أوسط الجنة وأعلاها " مع قوله " وإن سقفها عرش الرحمن " أو " إن فوقها عرش الرحمن " والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير، فهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه سواء قال القائل أنه محيط بالأفلاك أو قال إنه فوقها. وليس يحيط بها، كما أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض مثل القبة. ومعلوم أن الفلك مستدير مثل ذلك، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلوم لا يستلزم استدارة من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل، ولفظ الفلك يستدل به على الاستدارة مطلقا، فقوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) وقوله تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) يقتضي أنها في فلك مستديرة مطلقا كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في فلكة مثل فلكة المغزل. وأما لفظ القبة فإنه لا يعترض هذا المعنى لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلو كالقبة الموضوعة على الأرض، وقد قال بعضهم أن الأفلاك غير السموات لكن رد عليه غيره هذا القول بأن الله تعالى قال (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) فأخبر أنه جعل القمر فيهن، وقد أخبر أنه في الفلك.
علم البشر بالأسباب والسنن في الكون قليل بالنسبة إلى ما يجهلون
وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك وتحقيق الأمر فيه وبيان أن ما علم بالحساب علما صحيحا لا ينافي ما جاء به السمع وأن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافي معقولا صحيحا، إذ قد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع، فإن ذلك يحتاج إليه في هذا ونظائره مما قد أشكل على كثير من الناس حيث يرون ما يقال إنه معلوم بالعقل مخالفا لما يقال إنه معلوم بالسمع، وأوجب ذلك إن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه. حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم به حجة لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك من نصر الشريعة وكان ما جحدوه معلوما بالأدلة الشرعية أيضا.
الكلام في العرش على تقدير أن الفلك التاسع وكل تقدير محتمل
وأما المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات ولا يعملون ما وراء ذلك، مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحابا وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت به ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم (جنينا) لكن ما الموجب للمني المتشابه الأجزاء أن يخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب وكذلك ما الموجب لأن يكون الهواء أو البخار ينعقد سحابا مقدرا بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان يختص به وينزل على قوم عند حاجتهم إليه فيسقيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا ولا ينقص فيعوزوا. وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر أو تمطر مطرا لا يغنيها كأرض مصر أو كان المطر القليل لا يكفيها والكثير يهدم أبنيتها قال تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).
وكذلك السحاب المتحرك وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون قسرية وهي تابعة للقاسر، أو طبيعية، وإنما تكون إذا خرج المطبوع من مركزه فيطلب عوده إليه أو إرادته وهي الأصل، فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى التي هي المدبرات أمرا والمقسمات أمرا، وغير ذلك مما أخبر الله تعالى به عن الملائكة. وفي المعقول ما يصدق ذلك. فالكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا.
والمقصود هنا أن نبين أن ما ذكر في السؤال زائل على كل تقدير فيكون الكلام في الجواب مبنيا على حجج علمية لا تقليدية ولا مسلمة، وإذا بينا حصول الجواب على كل تقدير كما سنوضحه لم يضرنا بعد ذلك أن يكون بعض التقديرات هو الواقع وأن كنا نعلم ذلك، لكن تحرير الجواب على تقدير دون تقدير وإثبات ذلك فيه طول لا يحتاج إليه هنا، فإن الجواب إذا كان حاصلا على كل تقدير كان أحسن وأوجز.
المقام الثاني: في صغر العلم كله بالنسبة إلى عظمة خالقه
أن يقال: العرش سواء أكان هذا الفلك التاسع، أو جسما محيطا بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيطا به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر كما قال تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال " يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ".
وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر: قال قال رسول الله ﷺ " يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ".
وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي النبي ﷺ قال " يأخذ الله سماوته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها، أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله ﷺ.
وفي لفظ قال " رأيت رسول الله ﷺ على المنبر وهو يقول يأخذ الجبار سماواته وأرضه - وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها - ويقول أنا الرحمن، أنا الملك، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا، أنا الذي أعدنها أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " ويتميل رسول الله ﷺ على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني لأقول أساقط هو برسول الله ﷺ؟
والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا، وفي بعض ألفاظه قال: قرأ على المنبر (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) الآية، قال " مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة ".
وفي لفظ " يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه ثم يقول بها هكذا كما يقول الصبان بالكرة، أنا الله الواحد ".
وقال ابن عباس " يقبض عليهما فما يرى طرفاهما بيده ".
وفي لفظ عنه " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بيد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم ".. وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي ﷺ رجل يهودي، فقال: يا محمد إن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قال (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) إلى آخر الآية. 2
صغر السموات والأرض بالنسبة إلى عظمة الله تعالى
ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن يكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
كلام ابن الماجشون في الصفات ردا على الجهمية
قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون الإمام - نظير مالك - في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خلفها قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى البر من نفسه فصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يمثل له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحدوا الله أفضل كرامته التي أكرم الله أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظرته له إياهم (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وقد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون - إلى أن قال - وإنما جحدوا رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة، لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا.
وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا؟ فقال رسول الله ﷺ " هل تضارن في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا لا، قال " فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا له، قال " فإنكم ترون ربكم كذلك " وقال رسول الله ﷺ " لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض ".
وقال لثابت بن قيس " قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " وقال فيما بلغنا عنه " إن الله يضحك من أز لكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم " وقال له رجل من العرب: إن ربنا يضحك؟ قال " نعم " قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا. وفي أشباه لهذا مما لم نحصه. وقال تعالى (وهو السميع البصير، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) وقال (ولتصنع على عيني) وقال (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) وقال (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) فو الله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته الأصغر نظيرها منهم عندهم أن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم. فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه علم ما سواه لا هذا ولا هذا، لا تجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. انتهى.
صغر المخلوقات بالنسبة إلى عظمة الخالق وتصرفه تعالى بها
وإذا كان كذلك فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة فهذا قبضه لها ورميه بها.
وإنما بين لنا من عظمته وصغر المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا.
ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك يوم القيامة، وإن شاء لم يفعل ذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة، وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل ذلك، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها.
ومن المعلوم أن الواحد منا - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها بل حولها تحته فهو في الحالتين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أو قيل أنه فوقها وليس محيطا بها كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت.
المقام الثالث: في الكلام عن العرش
وتمام هذا ببيان (المقام الثالث) وهو أن يقول لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك ويكون محيطا بها، وأما أن يكون فوقها وليس هو كريا، فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهو المحدب، وأن الجهة السفلى هي المركز وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط.
وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ستة جوانب يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا. لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية.
مسألة كون الأرض كرة قطعية لا ظنية
فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة يمشي تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه، وكذلك من علق منكوسا فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه على السماء، وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته.
العلو والسفل في كرة الأرض والفلك فيها
وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة، واستدارة الأفلاك كما أنه قول أهل الهيئة والحساب فهو الذي عليه علماء المسلمين كما ذكره أبو الحسين بن المنادى وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) قال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل، والفلك في اللغة هو المستدير ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار. وكل من جعل الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز في كل جانب. ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحيته يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم.
وإذا كان الأمر كذلك فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقا فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهته الباقية أصلا.
ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو كان جاهلا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه، وغاية ما يقدر أن يكون كري الشكل والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله فإن السموات السبع في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا.
العلو والسفل في كرة الأرض والفلك فوقها
وأما قول القائل: إذا كان كريا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون التحت، فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا بطلب العلو، لا نلتفت يمنة ولا يسرة فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها؟
فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا، وهذا قلب للحقائق، إذ الفلك هو فرق الأرض مطلقا، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقينا جميعا في المركز ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت الآخر بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك كالمشرق والمغرب، فإنه لو قدر أن رجلا بالمشرق في السماء أو الأرض، ورجلا بالمغرب في السماء أو الأرض لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جنبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض، وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه الآخر إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره. لوجهين:
توجه الذي يدعو الله إلى جهة العلو بفطرته وعلو الفلك
أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق كان صعوده مما يلي رأسه إذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل أن يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا أنه يذهب يمينا أو شمالا أو أماما أو خلفا إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد، لأن أي مكان ذهب إليه كان بمنزله مكانه أو هو دونه، وكان الفلك هناك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلا وتعبا من غيره فائدة، ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب فتنحرف عن سمت الرأس، فكيف بما هو فوق كل شيء دائما لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟ وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب؟ ويعدل إلى طريق منحرف طويل؟ والله فطر عباده على الصحة والاستقامة إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها.
مقتضى الفطرة والعقل "طلب الشيء من طريقه المستقيم الأقرب"
الوجه الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان منتهى قصده المركز، وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها، ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو كان هذا بمنزلة من يقول، أريد أن أحج من الغرب فأذهب إلى خراسان ثم أذهب إلى مكة، بل بمنزلة من يقول أصعد إلى الأفلاك فأنزل في الأرض لأصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى، فهذا وإن كان ممكنا في المقدار، لكنه يستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له، وهو مخالف للفطرة، فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه. وإذا توجه إليه على غير السراط المستقيم كان مسيره منكوسا معكوسا.
وأيضا فإن هذا الجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر منه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى، وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعا بين قصدين متناقضين، فلا يكون قصده له تاما، إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة، فإن الشخص إذا كان يحب النبي ﷺ محبة تامة ويقصده أو يحب غيره مما يحب - سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة - ومتى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة مثل أن يحب ما يكره محبته في الدين فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده وعقله ينهاه عن ذلك فتراه يقصده من بعيد، كما يقول العامة: رجل إلى قدام، ورجل إلى خلف وكذلك إذا كان في دينه نقص وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من المقصودات التي تحب في الدين، وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصدا لذلك من طريق بعيد: متباطئا في السير، وهذا كله معلوم بالفطرة.
وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك. فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها وينال به مقصوده إذا كان القصد تاما، ولو كان رجلا في مكان عال، وآخر يناديه لتوجه إليه وناداه ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكنا، لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد نحوه.
معنى حديث: "لو أدلى أحدكم بحبل لسقط على الله" - على فرض صحته
وحديث الإدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع، فإن كان ثابتا فمعناه موافق لهذا فإن قوله " لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله " إنما هو تقدير مفروض: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئا لأنه عال بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى الجهة الأخرى لكن بتقدير فرض الإدلاء، لا يكون ما ذكر من الجزاء.
فهكذا ما ذكره السائل إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة كان هو سبحانه يسمع كلامه، وإن كان متوجها إليه بقلبه، لكن هذا ما يمتنع من الفطرة لأن قصده للشيء التام ينافي قصد ضده. فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى، فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافي قصده من أسفل، فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من تلك الناحية، وصعد به إلى الله.
وإنما يسمى هبوطا باعتبار ما في أذهان المخاطبين أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطا ويسمى هبوطا مع تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدخلا للحبل والدلو لا إدلاء له.
الجزاء والشرط في الحديث مقدران لا محققان
لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان، فإنه قال: لو أدلى لهبط، أي لو فرض أن هناك هبوطا وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب.
وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه إدلاء فلا يكون في حقه هبوطا عليه، كما لو خرق بحبل من القطب أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله، ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير بين أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار، أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا، ومن جهة رؤوسنا إلى جهة أرجلنا إذا مر الحبل بالأرض. فعلى كل تقدير: قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز وتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض. فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه لا إدلاء وهبوطا.
الجهات الست نسبية ليس لها حقيقة ثابتة
وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا، وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط فإذا قدر أن أحد أدلى بحبل كان هباطا على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا.
والمقصود به بيان إحاطة الخالق تعالى كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات، ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث (وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم).
وهذا كله كلام على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله.
وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل وهو أنه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
والتحقيق أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتا، فإن قوله " لو دلي بحبل لهبط " يدل على أنه ليس في المدلي ولا في الحبل ولا في الدلو ولا في غير ذلك. وإنما يقتضي أنه من تلك الناحية.
وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية. بل تقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وما كان مقدمة دليله مشكوكا فيها عند بعض الناس، كان حقه أن يشك فيه حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لا يعلم.
الإرادة الجازمة توجب فعل المريد بقدر ما عليه
وإذا تبين هذا، فكذلك قصده بقصده إلى تلك الناحية، ولو فرض أنا فعلناه قاصدين له على هذا التقدير لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان.
ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل هل يعاقب عليها أم لا يعاقب؟ بينا أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة بل يكون هما " ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه فإن تركها لله كتب له حسنة " ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز كما قال الإمام أحمد: " الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار، فيوسف عليه السلام هم هما تركه لله فأثيب عليه، وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها وإن لم يحصل لها المطلوب ".
والذين قالوا يعاقب بالإرادة احتجوا بقوله ﷺ " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال " إنه أراد قتل صاحبه " وفي لفظ " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " فهذا أراد إرادة جازمة وفعل ما يقدر عليه وإن لم يدرك مطلوبه، فهو بمنزله امرأة العزيز، فمتى كان القصد جازما لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه في حصول المقصود، وإذا كان قادرا على حصول مقصوده بطريق مستقيم امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس بعيد.
ولهذا امتنع في فطر العباد عند ضرورتهم ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له أن يتوجهوا إليه إلا توجها مستقيما، فيتوجهون إلى العلو دون سائر الجهات، لأنه الصراط المستقيم القريب، وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه، فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد والسائر المضطر يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو، ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى، كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه، فهذا هذا.. والله أعلم.
شرعت الشريعة لتكميل الفطرة
وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديل الفطرة وتغييرها. قال ﷺ في الحديث المتفق عليه " كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء " أي مجتمع الخلق سوية الأطراف ليس فيها نقص كجدع وغيره " هل ترون فيها من نقص؟ هل تحسون فيها من جدعاء؟".
وقال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة، بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعا، وخالفوا العقل والنقل، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي ﷺ قال " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، ولكن ليبصق عن يساره أو تحت رجله " وفي رواية أنه أذن أن يبصق في ثوبه.
اقتضاء الفطرة التوجه إليه تعالى بالدعاء في جهة العلو كالشريعة
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي ﷺ لما أخبر النبي ﷺ " أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه " فقال له أبو رزين: كيف يسمعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال " سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلهم يراه مخليا به، فالله أكبر " ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه إذا قدر أن يخاطبه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه. ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له وإن كان كل ذلك ممكنا، وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته كما يفعل من ليس مقصوده الخطاب، فإما مع زوال المانع فإنما يتوجه إليه، فكذلك العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه فيدعوه من تلقائه لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل، كما إذا قدر أنه يخاطب القمر.
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيحين أنه قال " لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم " واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى أحمد عن محمد بن سيرين أن النبي ﷺ كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده.
مخالفة الجهمية للكتاب والسنة والسلف في إنكار علو الله
فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة، لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع - وهو الذل والسكون - لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله، بل يناسب حاله الإطراق وغض البصر أمامه. وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة ردا على أهل الإثبات الذي يقولون إنه على العرش كما يظنه بعض جهال الجهمية، فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر فالجميع سواء. ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.
وأيضا فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملا لجميع أحوال العبد. وقد قال تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) فليس العبد بمنهي عن رفع بصره مطلقا، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى (خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث) وقال تعالى (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي).
وأيضا فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات.
لم يثبت حرف واحد عن الرسل بنفي العلو
ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل
العالم ولا خارجه، ولا محايث له، ولا مبين له، أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي ويزعمون أنه الحق ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقض قولهم، وهم يقولون إن ظاهر ذلك كفر فنؤول أو نفوض.
فعلى قولهم ليس في الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة في هذا الباب إلا ما ظاهره كفر، وليس فيها من الإيمان في هذا الباب شيء.
والسلب الذي يزعمون أنه الحق الذي يجب على المؤمن أو خواص المؤمنين اعتقاده عندهم، لم ينطق به رسول ولا نبي ولا أحد من ورثة الأنبياء والمرسلين، والذي نطقت به الأنبياء وورثتهم ليس عندهم هو الحق بل هو مخالف للحق في الظاهر، بل حذاقهم يعلمون أنه مخالف للحق في الظاهر والباطن، لكن هؤلاء منهم من يزعم أن الأنبياء لم يمكنهم أن يخاطبوا الناس إلا بخلاف الحق الباطن فلبسوا أو كذبوا لمصلحة العامة.
فيقال لهم: فهلا نطقوا بالباطن لخواصهم الأذكياء والفضلاء إن كان ما تزعمونه حقا؟ وقد علم أن خواص الرسل هم على الإثبات أيضا وأنه لم ينطق بالنفي أحد منهم إلا أن يكذب على أحدهم كما يقال عن عمر: إن النبي ﷺ وأبا بكر كانا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. وهذا مختلق باتفاق أهل العلم، وكذلك ما نقل عن علي وأهل بيته أن عندهم علما باطنا يختلف عن الظاهر الذي عند جمهور الأمة.
وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن علي رضي الله تعالى عنه أنه لم يكن عندهم عن النبي ﷺ شيء ليس عند الناس، ولا كتاب مكتوب إلا ما كان في الصحيفة، وفيها الديات وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
ثم أنه من المعلوم أن من جعله الله هاديا مبلغا بلسان عربي مبين إذا كان لا يتكلم أبدا قط بما يخالف الحق الباطن الحقيقي فهو إلى الضلال والتدليس أقرب منه إلى الهدى والبيان، وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا.
كل ما ثبت عن الرسول في صفات الله وغيرها حق لا يعارضه الفعل الصحيح
والمقصود أن ما جاء عن النبي ﷺ في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضا وهو موافق لفطرة الخلائق وما جعل فيهم من العقول الصريحة، وليس العقل الصحيح ولا الفطرة المستقيمة بمعارضة النقل الثابت عن رسول الله ﷺ، فإنما يظن تعارضهما من صدق بباطل من المنقول وفهم منه ما لم يدل عليه، أو إذا اعتقد شيئا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من المكشوفات وهو من المكسوفات، إذا كان ذلك معارضا لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولا عن النبي ﷺ ويكون كذبا عليه، أو ما يظنه لفظا دالا على معنى ولا يكون دالا عليه، كما ذكروه في قوله ﷺ " الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحة وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " حيث ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا غلط من هم لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي ﷺ فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال هو " يمين الله في الأرض " فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق فلا يكون اليد الحقيقة. وقوله " فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحا الله ولا مقبلا ليمينه لأن المشبه ليس هو المشبه به، وقد أتى بقوله " فكأنما " وهو صريحة في التشبيه. وإذا كان اللفظ صريحا في أنه جعله بمنزله اليمين لا أنه نفس اليمين، كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين، قائلا للكذب المبين.
فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كري الشكل سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع. وقد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات وهو العالي عليها من جميع الجوانب وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش بهذا التقدير إنما يقصد إلى العلو لا يجوز في الفطرة ولا في الشريعة مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست، بل هو أيضا يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه كما ضربه النبي ﷺ من المثل بالقمر ولله المثل الأعلى وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر وهو آية من آيات الله فالخالق أعلى وأعظم.
ضلال من يشبه الله تعالى بالفلك في إحاطته أو بغير ذلك
وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه، وإنه فوق الأفلاك الكرية كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرض فوق ما سواه وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات.
فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مباينا لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها.
فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وهذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة. وإنما تنشأ الشبهة من اعتقادين فاسدين (أحدهما) أن يظن أن العرش إذا كان كريا والله فوقه وجب أن يكون الله كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات.
وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال فإن الله تعالى مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري سواء كان هو التاسع أو غيره لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها، ولا في صفاتها (سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا).
بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك وأنها أصغر عنده من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة بل الدرهم والدينار، أو الكرة التي يلعب بها الصبيان، ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته، هل يكون الإنسان كالفلك؟ فالله - وله المثل الأعلى - أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون).
وكذلك اعتقادهم الثاني - وهو أن ما كان فلكا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست - الخطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان.
فقد تبين أن كل واحدة من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات، سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، وسواء كان محيطا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريا، وسواء كان الخالق سبحانه محيطا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا دون الجهة الأخرى.
فعلى أي تقدير فرض به كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره كما فطرنا على ذلك، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
((تم كتاب العرش بحمد الله تعالى))
هامش
- ↑ كان موضع هذا الكتاب -في الطبعة الأولى- نهاية الجزء الرابع، ولكنا رأينا نقله إلى نهاية الجزء الخامس لاتساقه مع موضوعاته (البلتاجي).
- ↑ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ