رياض الصالحين/الصفحة الثامنة والخمسون
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة
قال اللَّه تعالى (هود 6): {وما من دابة في الأرض إلا على اللَّه رزقها}.
وقال تعالى (البقرة 273): {للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللَّه لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً}.
وقال تعالى (الفرقان 67): {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً}.
وقال تعالى (الذاريات 56، 57): {وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون}.
وأما الأحاديث فتقدم معظمها في البابين السابقين. ومما لم يتقدم:
522- عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي ﷺ قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(العرض) بفتح العين والراء هو: المال.
523- وعن عبد اللَّه بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه اللَّه بما آتاه) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
524- وعن حكيم بن حزام رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: سألت رَسُول اللَّهِ ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: (يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع؛ واليد العليا خير من اليد السفلى) قال حكيم فقلت: يا رَسُول اللَّهِ والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يدعو حكيماً ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم اللَّه له في الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي ﷺ حتى توفي. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(يرزأ) براء ثم زاي ثم همزة: أي لم يأخذ من أحد شيئاً.
وأصل الرزء: النقصان: أي لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه.
و (إشراف النفس): تطلعها وطمعها بالشيء.
و (سخاوة النفس) هي: عدم الإشراف إلى الشيء والطمع فيه والمبالاة به الشره.
525- وعن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: خرجنا مع رَسُول اللَّهِ ﷺ في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره! قال كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
526- وعن عمرو بن تغلب -بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام- رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ أتي بمال أو سبي فقسمه فأعطى رجالاً وترك رجالاً فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد اللَّه ثم أثنى عليه ثم قال: (أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل اللَّه في قلوبهم من الغنى والخير. منهم عمرو بن تغلب) قال عمرو بن تغلب: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رَسُول اللَّهِ ﷺ حمر النعم. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
(الهلع) هو: أشد الجزع. وقيل: الضجر.
527- وعن حكيم بن حزام رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن النبي ﷺ قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنىً، ومن يستعفف يعفه اللَّه، ومن يستغن يغنه اللَّه) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وهذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم أخصر.
528- وعن أبي سفيان صخر بن حرب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
529- وعن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كنا عند رَسُول اللَّهِ ﷺ تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: (ألا تبايعون رَسُول اللَّه) وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رَسُول اللَّهِ. ثم قال: (ألا تبايعون رَسُول اللَّه) فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رَسُول اللَّهِ فعلام نبايعك قال: (على أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا) وأسر كلمة خفية: (ولا تسألوا الناس شيئا) فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
530- وعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما أن النبي ﷺ قال: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى اللَّه تعالى وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(المزعة) بضم الميم وإسكان الزاي وبالعين المهملة: القطعة.
531- وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: (اليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
532- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
533- وعن سمرة بن جندب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً، أو في أمر لا بد منه) رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
(الكد): الخدش ونحوه.
534- وعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك اللَّه له برزق عاجل أو آجل) رواه أبو داود والترمذي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(يوشك) بكسر الشين: أي يسرع.
535- وعن ثوبان رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة ) فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحداً شيئاً. رواه أبو داود بإسناد صحيح.
536- وعن أبي بشر قبيصة بن المخارق رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: تحملت حمالة فأتيت رَسُول اللَّهِ ﷺ أسأله فيها فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش؛ فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
(الحمالة) بفتح الحاء: أن يقع قتال ونحوه بين فريقين فيصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه.
و (الجائحة): الآفة تصيب مال الإنسان.
و (القوام) بكسر القاف وفتحها هو: ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه.
و (السداد) بكسر السين: ما يسد حاجة المعوز ويكفيه.
و (الفاقة): الفقر.
و (الحجى): العقل.
537- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.