محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة السادسة والثلاثون
كتاب الصيام
730 - مسألة : ولا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل ، ولا صوم قضاء رمضان ، أو الكفارات إلا كذلك ، لأن النص ورد بأن لا صوم لمن لم يبيته من الليل كما قدمنا ، ولم يخص النص من ذلك إلا ما كان فرضا متعينا في وقت بعينه ، وبقي سائر ذلك على النص العام . وقولنا بهذا في التطوع ، وقضاء رمضان ، والكفارات : هو قول مالك ؛ وأبي سليمان وغيرهما . فإن قال قائل : فكيف استجزتم خلاف الثابت عن رسول الله الذي رويتموه من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن مجاهد ، وعائشة بنت طلحة كلاهما عن أم المؤمنين عائشة : { أن رسول الله ﷺ قال لها : هل عندكم من شيء ؟ وقال مرة : من غداء ؟ قلنا : لا ، قال : فإني إذن صائم } . وقال لها مرة أخرى : { هل عندكم من شيء ؟ قلنا : نعم ، أهدي لنا حيس ، قال : أما إني أصبحت أريد الصوم فأكل } . وقال بهذا جمهور السلف - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، وعبد الله بن أبي عتبة ، قال ثابت : عن أنس بن مالك : إن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى ، فيقول : هل عندكم من غداء ؟ فإن قالوا : لا ، قال : فأنا صائم ، وقال ابن أبي عتبة : عن أبي أيوب الأنصاري بمثل فعل أبي طلحة سواء سواء . ومن طريق حماد بن سلمة : حدثتني أم شبيب عن عائشة أم المؤمنين قالت : إني لأصبح يوم طهري حائضا وأنا أريد الصوم ، فأستبين طهري فيما بيني وبين نصف النهار فأغتسل ثم أصوم ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر ، قال ابن جريج : أخبرني عطاء ؛ وقال معمر : عن الزهري ، وأيوب السختياني ، قال الزهري عن أبي إدريس الخولاني ، وقال أيوب : عن أبي قلابة ، ثم اتفق عطاء ، وأبو إدريس ، وأبو قلابة كلهم عن أم الدرداء ، أن أبا الدرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء ، فإن لم يكن ؛ قال : إنا صائمون . وقال عطاء في حديثه : إن أبا الدرداء كان يأتي أهله حين ينتصف النهار ، فيقول : هل من غذاء ؟ فيجده ، أو لا يجده ، فيقول : لأتمن صوم هذا اليوم . قال عطاء : وأنا أفعله ، ومن طريق قتادة : أن معاذ بن جبل كان يسأل الغداء ، فإن لم يجده صام يومه ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبيد الله بن عمر قال : إن أبا هريرة كان يصبح مفطرا ، فيقول : هل من طعام ؟ فيجده ، أو لا يجده ؛ فيتم ذلك اليوم . ومن طريق الحارث عن علي بن أبي طالب قال : إذا أصبحت وأنت تريد الصوم فأنت بالخيار : إن شئت صمت وإن شئت أفطرت ؛ إلا أن تفرض على نفسك الصوم من الليل ؟ ومن طريق ابن جريج : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلا سأل علي بن أبي طالب ، فقال : أصبحت ولا أريد الصوم ؟ فقال له علي : أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار ، فإن انتصف النهار فليس لك أن تفطر . ومن طريق طاوس عن ابن عباس ، ومن طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ، قالا جميعا : الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ؛ قال ابن عمر : ما لم يطعم ، فإن بدا له أن يطعم طعم ، وإن بدا له أن يجعله صوما كان صوما . ومن طريق ابن أبي شيبة عن المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد عن أنس بن مالك قال : من حدث نفسه بالصيام فهو بالخيار ما لم يتكلم ، حتى يمتد النهار . ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن عمارة عن أبي الأحوص قال قال ابن مسعود : إن أحدكم بأحد النظرين ما لم يأكل أو يشرب ، ومن طريق ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن هو السلمي - عن حذيفة : أنه بدا له في الصوم بعد أن زالت الشمس فصام . وعن حذيفة أيضا أنه قال : من بدا له في الصيام بعد أن تزول الشمس فليصم . ومن طريق معمر عن عطاء الخراساني : كنت في سفر وكان يوم فطر ؛ فلما كان بعد نصف النهار قلت : لأصومن هذا اليوم ؛ فصمت ، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب ، فقال : أصبت ، قال عطاء : وكنت عند سعيد بن المسيب فجاءه أعرابي عند العصر فقال : إني لم آكل اليوم شيئا أفأصوم . ؟ قال : نعم ، قال : فإن علي يوما من رمضان ، أفأجعله مكانه ؟ قال نعم . ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : إذا عزم على الصوم من الضحى فله النهار أجمع ؛ فإن عزم من نصف النهار فله ما بقي من النهار ؛ وإن أصبح ولم يعزم فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ، ومن طريق ابن جريج : سألت عطاء عن رجل كان عليه أيام من رمضان ، فأصبح وليس في نفسه أن يصوم ، ثم بدا له بعدما أصبح أن يصوم وأن يجعله من قضاء رمضان . فقال عطاء : له ذلك . ومن طريق مجاهد : الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ، فإذا جاوز ذلك فإنما له بقدر ما بقي من النهار . ومن طريق أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي : من أراد الصوم فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار . ومن طريق هشام عن الحسن البصري قال : إذا تسحر الرجل فقد وجب عليه الصوم ، فإن أفطر فعليه القضاء ، وإن هم بالصوم فهو بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ؛ فإن سأله إنسان فقال : أصائم أنت ؟ فقال : نعم ، فقد وجب عليه الصوم إلا أن يقول : إن شاء ، فإن قالها فهو بالخيار ؛ إن شاء صام وإن شاء أفطر . فهؤلاء من الصحابة : عائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، وأبو طلحة ، وأبو أيوب ، ومعاذ بن جبل ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وابن مسعود وحذيفة . ومن التابعين : ابن المسيب ، وعطاء الخراساني ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد والنخعي ، والشعبي ، والحسن . وقال سفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل : من أصبح وهو ينوي الفطر إلا أنه لم يأكل ولا شرب ولا وطئ - : فله أن ينوي الصوم ما لم تغب الشمس ، ويصح صومه بذلك . قال أبو محمد : فنقول : معاذ الله أن نخالف شيئا صح عن رسول الله ﷺ أو أن نصرفه عن ظاهره بغير نص آخر ، وهذا الخبر صحيح عن رسول الله ﷺ إلا أنه ليس فيه أنه عليه السلام لم يكن نوى الصيام من الليل ، ولا أنه عليه السلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم بعد ذلك ، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به ، لكن فيه : أنه عليه السلام ، كان يصبح متطوعا صائما ثم يفطر ، وهذا مباح عندنا لا نكرهه ، كما في الخبر ، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا ، وكان قد صح عنه عليه السلام { لا صيام لمن لم يبيته من الليل } لم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب . ولو أنه عليه الصلاة والسلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم نهارا لبينه ، كما بين ذلك في صيام عاشوراء إذ كان فرضا ، والتسمح في الدين لا يحل ، فإن قيل : قد رويتم من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن بعض أزواج النبي ﷺ قالت : { كان النبي ﷺ يجيء فيدعو بالطعام فلا يجده فيفرض الصوم } . وروي عن ابن قانع - راوي كل بلية - عن موسى بن عبد الرحمن السلمي البلخي عن عمر بن هارون عن يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس { أن النبي ﷺ كان يصبح ولم يجمع الصوم ثم يبدو له فيصوم } قلنا : ليث ضعيف ، ويعقوب بن عطاء : هالك ، ومن دونه ظلمات بعضها فوق بعض ، والله لو صح لقلنا به . قال أبو محمد : أما المالكيون فيشنعون بخلاف الجمهور ، وخالفوا هاهنا الجمهور بلا رقبة . وأما الحنفيون فما نعلم أحدا قبلهم أجاز أن يصبح في رمضان عامدا لإرادة الفطر ، ثم يبقى كذلك إلى قبل زوال الشمس ثم ينوي الصيام حينئذ ويجزئه ، وادعوا الإجماع على أنه لا تجزئ النية بعد زوال الشمس في ذلك قد كذبوا ، ولا مؤنة عليهم من الكذب ، وقد صح هذا عن حذيفة نصا ، وعن ابن مسعود بإطلاق ، وعن أبي الدرداء نصا ، وعن سعيد بن المسيب نصا ، وعن عطاء الخراساني كذلك ، وعن الحسن ، وعن سفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل . قال أبو محمد : ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وبالله تعالى التوفيق .
731 - مسألة : ومن مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو بتطوع ، أو فعل ذلك في صلاة أو زكاة ، أو حج ، أو عمرة ، أو عتق - : لم يجزه لشيء من كل ذلك وبطل ذلك العمل كله ، صوما كان أو صلاة ، أو زكاة ، أو حجا ، أو عمرة أو عتقا ، إلا مزج العمرة بالحج لمن أحرم ومعه الهدي فقط ، فهو حكمه اللازم له . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } والإخلاص هو أن يخلص العمل المأمور به للوجه الذي أمره الله تعالى به فيه فقط ، وقال رسول الله ﷺ : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } فمن مزج عملا بآخر فقد عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى ولا أمر رسوله ﷺ فهو باطل مردود - وبالله تعالى التوفيق . وهو قول مالك والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم . وقال أبو يوسف : من صلى ، وهو مسافر ركعتين نوى بهما الظهر والتطوع معا أو صام يوما من قضاء رمضان ينوي به قضاء ما عليه والتطوع معا وأعطى ما يجب عليه في زكاة ماله ونوى به الزكاة والتطوع معا ، أو أحرم بحجة الإسلام ونوى بها الفريضة والتطوع معا - : فإن كل ذلك يجزئه من صلاة الفرض وصوم الفرض ، وزكاة الفرض ، وحجة الفرض ، ويبطل التطوع في كل ذلك . وقال محمد بن الحسن : أما الصلاة فتبطل ولا تجزئه ، لا عن فرض ولا عن تطوع - وأما الزكاة ، والصوم فيكون فعله ذلك تطوعا فيهما جميعا ، ويبطل الفرض - وأما الحج فيجزئه عن الفرض ويبطل التطوع . فهل سمع بأسقط من هذه الأقوال ؟ وما ندري ممن العجب أممن أطلق لسانه بمثلها في دين الله تعالى ؟ يمحو ما يشاء ويثبت بالإهذار ويخص ما يشاء ، ويبطل بالتخاليط ، أو ممن قلد قائلها ، وأفنى عمره في درسها ونصرها متدينا بها ونعوذ بالله من الخذلان ؛ ونسأله إدامة السلامة والعصمة ، ونحمده على نعمه بذلك علينا كثيرا . وقد روينا عن مجاهد : أنه قال فيمن جعل عليه صوم شهرين متتابعين : إن شاء صام شعبان ورمضان ، وأجزأ عنه - يعني من فرضه ونذره ؛ قال مجاهد : ومن كان عليه قضاء رمضان فصام تطوعا فهو قضاؤه وإن لم يرده . ؟
732 - مسألة : ومن نوى وهو صائم إبطال صومه بطل ، إذا تعمد ذلك ذاكرا لأنه في صوم وإن لم يأكل ولا شرب ولا وطئ لقول رسول الله ﷺ { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } فصح يقينا أن من نوى إبطال ما هو فيه من الصوم فله ما نوى بقوله عليه الصلاة والسلام الذي لا تحل معارضته ، وهو قد نوى بطلان الصوم ، فله بطلانه ، فلو لم يكن ذاكرا لأنه في صوم لم يضره شيئا ، لقول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } . وهكذا القول فيمن نوى إبطال صلاة هو فيها ، أو حج هو فيه ، وسائر الأعمال كلها كذلك ، فلو نوى ذلك بعد تمام صومه أو أعماله المذكورة كان آثما ، ولم يبطل بذلك شيئا منها ؛ لأنها كلها قد صحت وتمت كما أمر ، وما صح فلا يجوز أن يبطل بغير نص في بطلانه ، والمسألة الأولى لم يتم عمله فيها كما أمر - وبالله تعالى التوفيق .
733 - مسألة : ويبطل الصوم : تعمد الأكل ، أو تعمد الشرب ، أو تعمد الوطء في الفرج ؛ أو تعمد القيء ؛ وهو في كل ذلك ذاكر لصومه ، وسواء قل ما أكل أو كثر ، أخرجه من بين أسنانه أو أخذه من خارج فمه فأكله . وهذا كله مجمع عليه إجماعا متيقنا ، إلا فيما نذكره ، مع قول الله تعالى : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } . وما حدثناه حمام ثنا عبد الله بن محمد الباجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا حبيب بن خلف البخاري ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ثنا معلى ثنا عيسى بن يونس ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقض } . وروينا هذا أيضا عن ابن عمر ، وعلي وعلقمة . قال علي : عيسى بن يونس : ثقة . وقال الحنفيون من تعمد أن يتقيأ أقل من ملء فيه لم يبطل بذلك صومه ، فإن كان ملء فيه فأكثر ، بطل صومه ، وهذا خلاف لرسول الله ﷺ مع سخافة التحديد ؟ وقال الحنفيون ، والمالكيون : من خرج - وهو صائم - من بين أسنانه شيء من بقية سحوره كالجذيذة وشيء من اللحم ونحو ذلك فبلعه عامدا لبلعه ذاكرا لصومه فصومه تام ، وما نعلم هذا القول لأحد قبلهما ؟ واحتج بعضهم لهذا القول بأنه شيء قد أكل بعد ، وإنما حرم ما لم يؤكل ؟ فكان الاحتجاج أسقط وأوحش من القول المحتج له وما علمنا شيئا أكل فيمكن وجوده بعد الأكل ، إلا أن يكون قيئا أو عذرة ونعوذ بالله من البلاء ؟ وحد بعض الحنفيين المقدار الذي لا يضر تعمد أكله في الصوم من ذلك بأن يكون دون مقدار الحمصة . فكان هذا التحديد طريفا جدا ثم بعد ذلك ، فأي الحمص هو ؟ الإمليسي الفاخر ، أم الصغير ؟ فإن قالوا قسناه على الريق ؟ قلنا لهم : فمن أين فرقتم بين قليل ذلك وكثيره بخلاف الريق ؟ ونسألهم عمن له مطحنة كبيرة مثقوبة فدخلت فيها من سحوره زبيبة ، أو باقلاء فأخرجها يوما آخر بلسانه وهو صائم : أله تعمد بلعها أم لا ؟ فإن منعوا من ذلك تناقضوا ، وإن أباحوا سألناهم عن جميع طواحينه وهي ثنتا عشرة مطحنة - مثقوبة كلها فامتلأت سمسما أو زبيبا أو قنبا أو حمصا أو باقلا أو خبزا أو زريعة كتان ؟ فإن أباحوا تعمد أكل ذلك كله حصلوا أعجوبة وإن منعوا منه تناقضوا وتحكموا في الدين بالباطل . وإنما الحق الواضح فإن كل ما سمي أكلا - أي شيء كان - فتعمده يبطل الصوم ، وأما الريق - فقل أو كثر - فلا خلاف في أن تعمد ابتلاعه لا ينقض الصوم - وبالله تعالى التوفيق . والعجب كله ممن قلد أبا حنيفة ، ومالكا في هذا ، ولم يقلد من ساعة من ساعاته خير من دهرهما كله وهو أبو طلحة ، الذي روينا بأصح طريق عن شعبة ، وعمران القطان كلاهما عن قتادة عن أنس : أن أبا طلحة كان يأكل البرد وهو صائم قال عمران في حديثه : ويقول : ليس طعاما ولا شرابا وقد سمعه شعبة من قتادة ، وسمعه قتادة من أنس ؛ ولكنهم قوم لا يحصلون ؟
734 - مسألة : ويبطل الصوم أيضا تعمد كل معصية - أي معصية كانت ، لا نحاش شيئا - إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه ، كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر ، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له من أنثى أو ذكر ، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما ، أو كذب ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو تعمد ترك صلاة ، أو ظلم ، أو غير ذلك من كل ما حرم على المرء فعله ؟ برهان ذلك - : ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي صالح الزيات هو السمان - أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ { والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ، ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله ؟ فليقل : إني صائم } . وروينا من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال : { الصيام جنة ، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ؟ فليقل : إني صائم } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا آدم بن أبي إياس ثنا ابن أبي ذئب ثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة : أن النبي قال : { من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن عبيد مولى رسول الله ﷺ { أن رسول الله ﷺ أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس فقال لهما : قيئا ، فقاءتا قيحا ودما ولحما عبيطا ، ثم قال عليه السلام : ها إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام } . قال أبو محمد : فنهى عليه السلام عن الرفث والجهل في الصوم ، فكان من فعل شيئا من ذلك - عامدا ذاكرا لصومه - لم يصم كما أمر ، ومن لم يصم كما أمر ، فلم يصم ، لأنه لم يأت بالصيام الذي أمره الله تعالى به ، وهو السالم من الرفث والجهل ، وهما اسمان يعمان كل معصية ؛ وأخبر عليه السلام أن من لم يدع القول بالباطل - وهو الزور - ولم يدع العمل به فلا حاجة لله تعالى في ترك طعامه وشرابه . فصح أن الله تعالى لا يرضى صومه ذلك ولا يتقبله ، وإذا لم يرضه ولا قبله فهو باطل ساقط ؛ وأخبر عليه السلام أن المغتابة مفطرة وهذا ما لا يسع أحدا خلافه ؟ وقد كابر بعضهم فقال : إنما يبطل أجره لا صومه ؟ قال أبو محمد : فكان هذا في غاية السخافة وبالضرورة يدري كل ذي حس أن كل عمل أحبط الله تعالى أجر عامله فإنه تعالى لم يحتسب له بذلك العمل ولا قبله ، وهذا هو البطلان بعينه بلا مرية ؟ وبهذا يقول السلف الطيب - : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا حفص بن غياث ، وهشيم كلاهما عن مجالد عن الشعبي ، قال هشيم : عن مسروق عن عمر بن الخطاب ليس الصيام من الشراب والطعام وحده ؛ ولكنه من الكذب ، والباطل واللغو ؟ وعن حفص بن غياث عن مجالد عن الشعبي عن علي بن أبي طالب مثله نصا . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا محمد بن بكر عن ابن جريج عن سليمان بن موسى قال قال جابر هو ابن عبد الله - : إذا صمت فليصم سمعك ، وبصرك ، ولسانك عن الكذب والمأثم ، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار ، وسكينة يوم صيامك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن أبي العميس هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود - عن عمرو بن مرة عن أبي صالح الحنفي عن أخيه طليق بن قيس قال قال أبو ذر : إذا صمت فتحفظ ما استطعت ، فكان طليق إذا كان يوم صيامه دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة . ومن طريق وكيع عن حماد البكاء عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : إذا اغتاب الصائم أفطر . ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن مسلم العبدي عن أبي المتوكل الناجي قال : كان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا : نطهر صيامنا ؟ فهؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم : عمر ، وأبو ذر وأبو هريرة ، وأنس ، وجابر ، وعلي : يرون بطلان الصوم بالمعاصي ، لأنهم خصوا الصوم باجتنابها وإن كانت حراما على المفطر ، فلو كان الصيام تاما بها ما كان لتخصيصهم الصوم بالنهي عنها معنى ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ومن التابعين : منصور عن مجاهد قال : ما أصاب الصائم شوى إلا الغيبة ، والكذب . وعن حفصة بنت سيرين : الصيام جنة ؛ ما لم يخرقها صاحبها ، وخرقها : الغيبة ؟ وعن ميمون بن مهران : إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب ؟ وعن إبراهيم النخعي قال : كانوا يقولون : الكذب يفطر الصائم ؟ قال أبو محمد : ونسأل من خالف هذا عن الأكل للحم الخنزير ، والشرب للخمر عمدا : أيفطر الصائم أم لا ؟ فمن قولهم : نعم ؟ فنقول لهم : ولم ذلك ؟ فإن قالوا : لأنه منهي عنهما فيه ؟ قلنا لهم : وكذلك المعاصي ؛ لأنه منهي عنها في الصوم أيضا بالنص الذي ذكرنا . فإن قالوا : وغير الصائم أيضا منهي عن المعاصي ؟ قلنا لهم : وغير الصائم أيضا منهي عن الخمر ، والخنزير ، ولا فرق ؟ فإن قالوا : إنما نهي عن الأكل والشرب ولا نبالي أي شيء أكل أو شرب ؟ قلنا : وإنما نهي عن المعاصي في صومه ولا نبالي بما عصى ، أبأكل وشرب ، أم بغير ذلك ؟ فإن قالوا : إنما أفطر بالأكل والشرب للإجماع على أنه مفطر بهما ؟ قلنا : فلا تبطلوا الصوم إلا بما أجمع على بطلانه به وهذا يوجب عليكم أن لا تبطلوه بأكل البرد ولا بكثير مما أبطلتموه به كالسعوط والحقنة وغير ذلك ؟ فإن قالوا : قسنا ذلك على الأكل والشرب ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا فاسدا من القياس وكان أصح أصولكم أن تقيسوا بطلان الصوم بجميع المعاصي على بطلانه بالمعصية بالأكل ، والشرب ، وهذا ما لا مخلص منه . فإن قالوا : ليس اجتناب المعاصي من شروط الصوم ؟ قلنا : كذبتم لأن النص قد صح بأنه من شروط الصوم كما أوردنا . فإن قالوا : تلك الأخبار زائدة على ما في القرآن ؟ قلنا : وإبطالكم الصوم بالسعوط والحقنة ، والإمناء مع التقبيل زيادة فاسدة باطلة على ما في القرآن فتركتم زيادة الحق ، وأثبتم زيادة الباطل وبالله تعالى التوفيق