محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثالثة والأربعون
كتاب الصيام
758 - مسألة : وإذا رئي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة ويصوم الناس من حينئذ باقي يومهم - إن كان أول رمضان - ويفطرون إن كان آخره ، فإن رئي بعد الزوال فهو لليلة المقبلة . برهان ذلك - : قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } فخرج من هذا الظاهر إذا رئي بعد الزوال بالإجماع المتيقن ، ولم يجب الصوم إلا من الغد ؛ وبقي حكم لفظ الحديث إذا رئي قبل الزوال ، للاختلاف في ذلك ؛ فوجب الرجوع إلى النص . وأيضا : فإن الهلال إذا رئي قبل الزوال فإنما يراه الناظر إليه والشمس بينه وبينه ، ولا شك في أنه لم يمكن رؤيته مع حوالة الشمس دونه إلا وقد أهل من البارحة وبعد عنها بعدا كثيرا . روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن سماك عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب كتب إلى الناس إذا رأيتموه قبل زوال الشمس فأفطروا وإذا رأيتموه بعد زوالها فلا تفطروا ؟ ورويناه أيضا : من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري بمثله - وبه يقول سفيان . وروينا من طريق يحيى بن الجزار عن علي بن أبي طالب قال رضي الله عنه إذا رأيتم الهلال من أول النهار فأفطروا وإذا رأيتموه في آخر النهار فلا تفطروا فإن الشمس تزيغ عنه أو تميل عنه . ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن الركين بن الربيع عن أبيه قال : كنا مع سلمان بن ربيعة الباهلي ببلنجر فرأيت الهلال ضحى فأتيت سلمان فأخبرته فقام تحت شجرة فلما رآه أمر الناس فأفطروا . وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي ، وأبو بكر بن داود ، وغيره . فإن قيل : قد روي عن عمر خلاف هذا ؟ قلنا : نعم وإذا صح التنازع وجب الرد إلى القرآن والسنة . وقد ذكرنا الآن وجه ذلك - وبالله تعالى التوفيق .
759 - مسألة : ومن السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور وإنما هو مغيب الشمس عن أفق الصائم ولا مزيد . روينا من طريق مسلم عن قتيبة عن أبي عوانة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { تسحروا فإن في السحور بركة } . ومن طريق قتيبة عن الليث بن سعد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور } . قال أبو محمد : لا يضر الصوم تعمد ترك السحور ؛ لأنه من حكم الليل والصيام من حكم النهار ، ولا يبطل عمل بترك عمل غيره إلا بأن يوجب ذلك نص فيوقف عنده . ومن طريق { ابن مسعود أنه كان يؤخر السحور ويعجل الإفطار ، فقالت عائشة : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع } . ومن طريق مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر } . ومن طريق البخاري عن مسدد عن عبد الواحد عن أبي إسحاق الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى { سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال : انزل فاجدح لنا فقال : يا رسول الله لو أمسيت ؟ قال : انزل فاجدح لنا ؟ قال : يا رسول الله إن عليك نهارا ؟ قال : انزل فاجدح لنا ؟ فنزل فجدح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم ، وأشار بأصبعه قبل المشرق } . وروينا عن أبي موسى : تأخير الفطر حتى تبدو الكواكب ولا نقول بهذا - لما ذكرنا - وتعجيل الفطر قبل الصلاة والأذان أفضل ، كذلك روينا عن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم .
760 - مسألة : ومن أسلم بعدما تبين الفجر له ، أو بلغ كذلك ، أو رأت الطهر [ من الحيض ] كذلك ، أو من النفاس كذلك ، أو أفاق من مرضه كذلك ، أو قدم من سفره كذلك - فإنهم يأكلون باقي نهارهم ويطئون من نسائهم من لم تبلغ ، أو من طهرت في يومها ذلك ، ويستأنفون الصوم من غد - ولا قضاء على من أسلم ، أو بلغ ؛ وتقضي الحائض ، والمفيق ، والقادم ، والنفساء . وقد اختلف الناس في بعض هذا - : فروينا عن إبراهيم النخعي أنه قال في الحائض تطهر بعد طلوع الفجر : لا تأكل إلى الليل ، كراهة التشبه بالمشركين . وبه يقول أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، وعبيد الله بن الحسن ، وعن عطاء - إن طهرت أول النهار فلتتم يومها ، وإن طهرت في آخره أكلت وشربت ؛ وبمثل قولنا يقول سفيان الثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأبو سليمان . وأما الكافر يسلم - : فروينا عن عطاء إن - أسلم الكافر في يوم من رمضان صام ما مضى من الشهر وإن أسلم في آخر النهار صام ذلك اليوم . وعن عكرمة مثل ذلك ، وقال : هو بمنزلة المسافر يدخل في صلاة المقيمين . وعن الحسن مثل ذلك . وقال أبو حنيفة في الصبي يبلغ بعد الفجر : أن عليه صوم ما بقي من يومه . وكذلك قال في المسافر يقدم بعد الفجر . قال أبو محمد : واحتج من أوجب صوم باقي اليوم بأن قال : قد كان الصبي قبل بلوغه مأمورا بالصيام فكيف بعد بلوغه . وقالوا : هلا جعلتم هؤلاء بمنزلة من بلغه الخبر أن الهلال رئي البارحة ؟ قلنا : هذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا لأن الذي جاءه خبر الهلال كان مأمورا بصوم ذلك اليوم لو علم أنه من رمضان أو أنه فرضه . وكل من ذكرنا فهم عالمون بوجوب الصوم على غيرهم ، وبدخول رمضان ، إلا أن فيهم من هو منهي عن الصوم جملة ؛ ولو صام كان عاصيا : كالحائض ، والنفساء ، والمسافر ، والمريض الذي يؤذيه الصوم . وفيهم من هو غير مخاطب بالصوم ، ولو صامه لم يجزه - وهو الصبي - وإنما يصوم إن صام تطوعا لا فرضا . وفيهم من هو مخاطب بالصوم بشرط أن يقدم الإسلام قبله ، وهو الكافر . وفيهم من هو مفسوح له في الصوم إن قدر عليه وفي الفطر إن شاء - وهو المريض الذي [ لا ] يشق عليه الصوم ؛ فكلهم غير ملزم ابتداء صوم ذلك اليوم بحال بخلاف من جاءه الخبر برؤية الهلال ، والذي جاءه الخبر برؤية الهلال يجزئه صيام باقي يومه ولا قضاء عليه ويعصي إن أكل ، وإنما اتبعنا فيمن بلغه أن اليوم [ من ] رمضان الخبر الوارد في ذلك فقط . وأيضا : فإن من ذكرنا لا يختلف الحاضرون المخالفون لنا في أن التي طهرت من الحيض ، والنفاس ، والقادم من السفر ، والمفيق من المرض : لا يجزئهم صيام ذلك اليوم وعليهم قضاؤه . ولا يختلفون في أن الذي بلغ ، والذي أسلم إن أكلا فليس عليهما قضاؤه ، فصح أنهم في هذا اليوم غير صائمين أصلا ، وإذا كانوا غير صائمين فلا معنى لصيامهم ، ولا أن يؤمروا بصوم ليس صوما ، ولا هم مؤدون به فرضا لله تعالى ، ولا هم عاصون له بتركه - وبالله تعالى التوفيق . وأما من رأى القضاء في ذلك [ اليوم ] على من أسلم ؟ فقول لا دليل على صحته ، ولقد كان يلزم من رأى نية واحدة تجزئ للشهر كله في الصوم أن يقول بهذا القول ، وإلا فهم متناقضون . وروينا عن ابن مسعود أنه قال : من أكل أول النهار فليأكل آخره - وبالله تعالى التوفيق .
761 - مسألة : ومن تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله تعالى لم يحل له أن يأكل في باقيه ولا أن يشرب ، ولا أن يجامع وهو عاص لله تعالى إن فعل - وهو مع ذلك غير صائم - بخلاف من ذكرنا قبل هذا ، لأن كل من ذكرنا قبل هذا إما منهي عن الصوم ، وإما مباح له ترك الصوم فهم في إفطارهم مطيعون لله تعالى غير عاصين له بذلك . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { لا صيام لمن لم يبيته من الليل } ولم يخرج من هذه الجملة إلا من جهل أنه يوم فرضه فقط بالنص الوارد فيهم ، فلم يجز أن يصوموا ، لأنهم لم ينووه من الليل ، ولم يكونوا عصاة بالفطر فهم مفطرون لا صائمون . وأما من تعمد الفطر عاصيا فهو مفترض عليه بلا خلاف ، صوم ذلك اليوم ، ومحرم عليه فيه كل ما يحرم على الصائم ولم يأت نص ، ولا إجماع بإباحة الفطر له إذا عصى بتعمد الفطر ، فهو باق على ما كان حراما عليه ، وهو متزيد من المعصية متى ما تزيد فطرا ، ولا صوم له مع ذلك . وروينا عن عمرو بن دينار نحو هذا ، وعن الحسن ، وعطاء : أن له أن يفطر .