محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثامنة والأربعون
كتاب الصيام
775 - مسألة : ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان ، أو نذر أو كفارة واجبة ففرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم ، ولا إطعام في ذلك أصلا - أوصى به أو لم يوص به - فإن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصومه عنه ولا بد - أوصى بكل ذلك أو لم يوص - وهو مقدم على ديون الناس . وهو قول أبي ثور ، وأبي سليمان ، وغيرهما . وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن أوصى أن يطعم عنه أطعم عنه مكان كل يوم مسكين ، وإن لم يوص بذلك فلا شيء عليه . والإطعام عند مالك في ذلك مد مد ، وعند أبي حنيفة صاع من غير البر لكل مسكين ، نصف صاع من البر أو دقيقه . وقال الليث كما قلنا . وهو قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه في النذر خاصة . قال أبو محمد : قال الله تعالى { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . نا عبد الله بن يوسف ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال عبد الله : نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني هارون بن سعيد الأيلي ، وأحمد بن عيسى نا ابن وهب ، وقال عبد الرحمن : نا إبراهيم بن أحمد الفربري نا البخاري نا محمد بن موسى بن أعين نا أبي . ثم اتفق موسى ، وابن وهب كلاهما عن عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : { من مات وعليه صيام صام عنه وليه } وبه إلى مسلم - : نا أبو سعيد الأشج نا أبو خالد الأحمر نا الأعمش عن سلمة بن كهيل ، والحكم بن عتيبة ، ومسلم البطين عن سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد عن ابن عباس : { أن سائلا سأل النبي ﷺ فقال : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال رسول الله ﷺ : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى } . قال أبو محمد : سمعه الأعمش من مسلم البطين ، ومن الحكم ، ومن سلمة ، وسمعه الحكم ، وسلمة من مجاهد . وبه إلى مسلم - : نا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وعلي بن حجر السعدي ، قال أبو بكر : نا عبد الله بن نمير ، وقال عبد : نا عبد الرزاق أنا سفيان الثوري . وقال علي بن حجر : نا علي بن مسهر ، ثم اتفق ابن نمير ، وسفيان ، وعلي بن مسهر ، كلهم عن عبد الله بن عطاء المكي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : { بينما أنا جالس عند رسول الله ﷺ إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت ؟ فقال رسول الله ﷺ وجب أجرك وردها عليك الميراث ؟ قالت : يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي ، قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها } . قال ابن نمير في روايته : شهرين ، واتفقوا على كل ما عدا ذلك . قال أبو محمد : فهذا القرآن ، والسنن المتواترة المتظاهرة التي لا يحل خلافها ، وكلهم يقول : يحج عن الميت إن أوصى بذلك ، ثم لا يرون أن يصام عنه وإن أوصى بذلك ، وكلاهما عمل بدن ، وللمال في إصلاح ما فسد منهما مدخل بالهدي ، وبالإطعام ، وبالعتق ، فلا القرآن اتبعوا ، ولا بالسنن أخذوا ولا القياس عرفوا ، وشغلوا في ذلك بأشياء - : منها : أنهم ذكروا قول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } . وذكروا قول رسول الله ﷺ { إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث : علم علمه ، أو صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له } . وبأثر رويناه من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن الحجاج بن أرطاة عن عبادة بن نسي أن رسول الله ﷺ قال : { من مرض في رمضان فلم يزل مريضا حتى مات لم يطعم عنه ، وإن صح فلم يقضه حتى مات أطعم عنه } وقال بعضهم : قد روي عن عائشة ، وابن عباس - وهما رويا الحديث المذكور - أنهما لم يريا الصيام عن الميت كما رويتم من طريق ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن امرأة منهم اسمها عمرة : أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة : أقضيه عنها ؟ قالت : لا ، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين . وإذا ترك الصاحب الخبر الذي روي فهو دليل على نسخه لا يجوز أن يظن به غير ذلك ، إذ لو تعمد ما رواه لكانت جرحة فيه ، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك . وقالوا : لا يصام عنه كما لا يصلى عنه ؟ قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به ، وهو كله لا حجة لهم في شيء منه ، أما قول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فحق إلا أن الذي أنزل هذا هو الذي أنزل { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . وهو الذي قال لرسوله ﷺ { لتبين للناس ما نزل إليهم } . وهو الذي قال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . فصح أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وما حكم الله تعالى أو رسوله ﷺ أن له من سعي غيره عنه ، والصوم عنه من جملة ذلك . والعجب أنهم نسوا أنفسهم في الاحتجاج بهذه الآية فقالوا : إن حج عن الميت ، أو أعتق عنه ، أو تصدق عنه ، فأجر كل ذلك له ولا حق به ، فظهر تناقضهم ؟ فإن قال منهم قائل : إنما يحج عنه إذا أوصى بذلك ، لأنه داخل فيما سعى ؟ قلنا له : فقولوا : بأن يصام عنه كما إذا أوصى بذلك لأنه داخل فيما سعى . فإن قالوا : للمال في الحج مدخل في جبر ما نقص منه ؟ قلنا : وللمال في الصوم مدخل في جبر ما نقص منه بالعتق والاطعام ؛ وكل هذا منهم تخليط ، وتناقض ، وشرع في الدين لم يأذن به الله تعالى وهم يجيزون العتق عنه ، والصدقة عنه - وإن لم يوص بذلك - فبطل تمويههم بهذه الآية ؟ . وأما إخباره عليه السلام بأن عمل الميت ينقطع إلا من ثلاث ، فصحيح ، والعجب أنهم لم يخافوا الفضيحة في احتجاجهم به وليت شعري من قال لهم : إن صوم الولي عن الميت هو عمل الميت حتى يأتوا بهذا الخبر الذي ليس فيه إلا انقطاع عمل الميت فقط ، وليس فيه انقطاع عمل غيره أصلا ، ولا المنع من ذلك ؛ فظهر قبح تمويههم في الاحتجاج بهذا الخبر جملة ؟ وأما حديث عبد الرزاق فلا تحل روايته إلا على سبيل بيان فسادها لعلل ثلاث فيه : إحداها - أنه مرسل ، والثانية : أن فيه الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، والثالثة : أن فيه إبراهيم بن أبي يحيى وهو كذاب . ثم لو صح لكان عليهم لا لهم ؛ لأن فيه إيجاب الإطعام عنه إن صح بعد أن مرض ، والحنفيون ، والمالكيون لا يقولون بذلك ، إلا أن يوصي بذلك ، وإلا فلا . فإن قالوا : معنى ذلك إن أوصى به ؟ قلنا : كذبتم وزدتم في الخبر خلاف ما فيه ، لأن فيه { إن مات ولم يصح لم يطعم عنه } فلو أراد إلا أن يوصي بذلك لما كان لتفريقه بين تمادي مرضه حتى يموت فلا يطعم عنه ، وبين صحته بين مرضه وموته فيطعم عنه ؛ لأنه إن أوصى بالإطعام عنه ، وإن لم يصح أطعم عنه عندهم ؛ فبطل تمويههم بهذا الخبر الهالك وعاد حجة عليهم . وأما تمويههم بأن عائشة ، وابن عباس رويا الخبر وتركاه فقول فاسد لوجوه : أحدها - أنه لا يجوز ما قالوا ، لأن الله تعالى إنما افترض علينا اتباع رواية الصاحب عن النبي ﷺ ولم يفترض علينا قط اتباع رأي أحدهم . والثاني : أنه قد يترك الصاحب اتباع ما روى لوجوه غير تعمد المعصية ، وهي أن يتأول فيما روى تأويلا ما اجتهد فيه فأخطأ فأجر مرة ، أو أن يكون نسي ما روى فأفتى بخلافه ؛ أو أن تكون الرواية عنه بخلافه وهما ممن روى ذلك عن الصاحب ؛ فإذ كل ذلك ممكن فلا يحل ترك ما افترض علينا اتباعه من سنن رسول الله ﷺ لما لم يأمرنا باتباعه لو لم يكن فيه هذه العلل فكيف وكلها ممكن فيه ؟ ولا معنى لقول من قال : هذا دليل على نسخ الخبر ، لأنه يعارض بأن يقال : كون ذلك الخبر عند ذلك الصاحب دليل على ضعف الرواية عنه بخلافه ، أو لعله قد رجع عن ذلك . والثالث : أنهم إنما يحتجون بهذه الجملة إذا وافقت تقليد أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأما إذا خالف قول الصاحب رأي أحد ممن ذكرنا فأهون شيء عندهم إطراح رأي الصاحب والتعلق بروايته وهذا فعل يدل على رقة الدين وقلة الورع ؟ فمن ذلك : أن عائشة رضي الله تعالى عنها روت { فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله ﷺ زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الحالة الأولى } . ثم روي عنها من أصح طريق الإتمام في السفر ؛ فتعلق الحنفيون ، والمالكيون بروايتها وتركوا رأيها ، إذ خالفت فيه ما روت ، وهي التي روت { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل } ثم أنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر بن الزبير وأبوها غائب بالشام بغير إذنه ، وأنكر ذلك إذ بلغه أشد الإنكار ، فخالفوا رأيها واتبعوا روايتها . وهي التي روت التحريم بلبن الفحل ثم كانت لا - تدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها ، - وتدخل عليها من أرضعه بنات أخواتها ، فتركوا رأيها واتبعوا روايتها . وروى أبو هريرة من طريق لا تصح عنه : إيجاب القضاء على من تعمد الفطر في نهار رمضان ، وصح عنه أنه لا يجزئه صيام الدهر وإن صامه وأنه لا يقضيه ، فتركوا الثابت من رأيه للهالك من روايته . وروى أبو هريرة في البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ثم روينا عنه من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - عن هشام الدستوائي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة ماءان لا يجزئان من غسل الجنابة : ماء البحر وماء الحمام . وروي عن ابن عباس في صدقة الفطر " مدان من قمح " من طريق لا تصح ، وصح عنه من رأيه صاع من بر في صدقة الفطر فترك الحنفيون رأيه لروايته ، وهذا كثير منهم جدا وفيما ذكرنا كفاية تحقق تلاعب القوم بدينهم . والرابع - أن نقول : لعل الذي روي عن عائشة فيه الإطعام كأن لم يصح حتى ماتت فلا صوم عليها ؟ والخامس - أنه قد روي عن ابن عباس الفتيا بما روي من الصوم عن الميت كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ؛ فصح أنه قد نسي ، أو غير ذلك مما الله تعالى أعلم به ممن لم نكلفه . وقد جاء عن السلف في هذا أقوال - : روينا عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي يزيد المدني : أن رجلا قال لأخيه عند موته : إن علي رمضانين لم أصمهما فسأل أخوه ابن عمر فقال : بدنتان مقلدتان ، ثم سأل ابن عباس ؟ فقال ابن عباس : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما شأن البدن وشأن الصوم ، أطعم عن أخيك ستين مسكينا ؟ قال أبو محمد : إن لم يكن قال ابن عمر في البدنتين حجة فليس قول ابن عباس في الإطعام حجة ولا فرق ؛ ولعل هذا لم يكن مطيقا للصوم ، أو لعل ذينك الرمضانين كانا عن تعمد فلا قضاء في ذلك . روينا من طريق سليمان التيمي : أن عمر بن الخطاب قال : إذا مات الرجل عليه صيام رمضان أطعم عنه مكان كل يوم نصف صاع من بر . ومن طريق صحيحة عن ابن عباس : إن مات الذي عليه صوم ولم يصح قبل موته ليس عليه شيء فإن صح أطعم عنه عن كل يوم نصف صاع حنطة . وعن الحسن إن لم يصح حتى مات فلا شيء عليه ، فإن صح فلم يقض صومه حتى مات أطعم عنه عن كل يوم مكوك من بر ، ومكوك من تمر . وروي أيضا عن طائفة مد عن كل يوم ، وقد جاء عن الحسن : لا إطعام في ذلك ولا صيام ، وأيضا فإن احتجاج المالكيين والشافعيين بترك عائشة ، وابن عباس للخبر المذكور هو حجة عليهم لأنهم خالفوا عائشة في هذا الخبر نفسه في قولها أن يطعم عن كل يوم نصف صاع لمسكين ، وهم لا يقولون : بهذا ، فإن كان ترك عائشة للخبر حجة ، فقولها في نصف صاع حجة ، وإن لم يكن قولها في نصف صاع حجة فليس تركها للخبر حجة ، فظهر أنهم إنما يحتجون من قول الصاحب بما وافق تقليدهم فقط ؛ فإذا خالف من قلدوه هان عليهم خلاف الصاحب ، وهذا دليل سوء نعوذ بالله منه . وأما قول أحمد فروينا من طريق أبي ثور نا عبد الوهاب هو ابن عطاء - عن سعيد بن أبي عروبة ، وروح بن القاسم عن علي بن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال فيمن مات وعليه رمضان ونذر شهر : يطعم عنه مكان كل يوم مسكين ويصوم عنه وليه نذره . ومن طريق ابن أبي شيبة : نا ابن علية عن علي بن الحكم البناني عن ميمون بن مهران عن ابن عباس سئل عن رجل مات وعليه رمضان وصوم شهر فقال : يطعم عنه لرمضان ويصام عنه النذر ، وهذا إسناد صحيح ؛ فإن كان ترك ابن عباس لما ترك من الخبر حجة فأخذه بما أخذ منه حجة ، وإن لم يكن أخذه بما أخذ به حجة فتركه ما ترك ليس بحجة وما عدا هذا فتلاعب بالدين . وأما قولنا فروينا من طريق أبي ثور نا عبد الوهاب عن سعيد بن أبي عروبة قال : حدثوني عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أنه قال فيمن مات وعليه رمضان : إن لم يجدوا ما يطعم عنه صامه عنه وليه ، وهو قول الأوزاعي . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه إذا مات الرجل وعليه صيام رمضان قضى عنه بعض أوليائه ، قال معمر : وقال حماد بن أبي سليمان . وبه إلى معمر عن الزهري : من مات وعليه نذر صيام فإنه يصوم عنه بعض أوليائه . قال أبو محمد : ليس قول بعض الصحابة رضي الله عنهم أولى من بعض ، وكل ما ذكرنا فهو مخالف لقول أبي حنيفة والشافعي ؛ لأن كل من ذكرنا فقد أوجب ما أوجب من غير اشتراط أن يوصي الميت بذلك . وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا شيء في ذلك إلا أن يوصي بالإطعام فيطعم عنه وما نعلم أحدا قبلهم قال بهذا ؛ إلا رواية عن الحسن قد صح عنه خلافها . وأما قولهم : لا يصام عنه كما لا يصلى عنه ؛ فباطل وقياس للخطأ على الخطأ بل يصلى عنه النذر ، وصلاة فرض إن نسيها أو نام عنها ولم يصلها حتى مات ؛ فهذا دخل تحت ، قول رسول الله ﷺ " فدين الله أحق أن يقضى " . والعجب أنهم كلهم أجمعوا على أن تصلى الركعتان إثر الطواف عن الميت الذي يحج عنه ؛ وهذا تناقض منهم لا خفاء به . وهذا قول إسحاق بن راهويه في قضاء الصلاة عن الميت . وقال الشافعي : إن صح الخبر قلنا به وإلا فيطعم عنه مد عن كل يوم . وإنما قلنا : إن الاستئجار لذلك إن لم يكن له ولي من رأس المال مقدم على ديون الناس لقول النبي ﷺ : { فدين الله أحق أن يقضى } . قال أبو محمد : من الكبائر أن يقول قائل : بل دين الناس أحق أن يقضى من دين الله تعالى عز وجل وقد سمع هذا القول .
776 - مسألة : فإن صامه بعض أوليائه أجزأ ؛ لعموم الخبر في ذلك ، وإن كانوا جماعة فاقتسموه جاز كذلك أيضا إلا أنه لا يجزئ أن يصوموا كلهم يوما واحدا لقول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } . فلا بد من أيام متغايرة ، فلو لم يصح حتى مات فلا شيء على أوليائه ولا عليه ؛ لأن الأثر إنما جاء فيمن مات وعليه صوم ، وهذا مات وليس عليه صوم لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإذا لم يكن في وسعه الصوم فلم يكلف ، وإذا لم يكلفه فقد مات ولا صوم عليه . والأولياء هم ذوو المحارم بلا شك ولو صامه الأبعد من بني عمه أجزأ عنه ، لأنه وليه ، فإن أبوا من الصوم فهم عصاة لله تعالى ولا شيء على الميت من ذلك الصوم ؛ لأنه قد نقله الله تعالى عنه إليهم بقول رسول الله ﷺ { من مات وعليه صوم صام عنه وليه } . وبأمره عليه السلام الولي أن يصوم عنه .
777 - مسألة : فإن تعمد النذور ليوقعها على وليه بعد موته فليس نذرا ولا يلزمه هو ولا وليه بعده ، وهو عاص لله تعالى بذلك ، وقد صح عن النبي ﷺ ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الله بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني علي بن حجر نا إسماعيل بن إبراهيم نا أيوب هو السختياني - عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن رسول الله ﷺ قال : { لا وفاء لنذر في معصية الله } . قال علي : وهذا النذر إنما يكون نذرا إذا قصد به الله تعالى فيلزم حينئذ فإذا قصد به غير الله تعالى فهو معصية لا يحل الوفاء به ولا يلزم صاحبه ولا غيره - وبالله تعالى التوفيق .
778 - مسألة : ومن نذر صوم يوم فأكثر ، شكرا لله عز وجل ، أو تقربا إليه تعالى ، أو إن فاق ، أو إن أراه الله تعالى أملا يأمله لا معصية لله عز وجل في ذلك الشيء المأمول ، ففرض عليه أداؤه . قال عز وجل : { أوفوا بالعقود } - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا القعنبي عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت : قال رسول الله ﷺ : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } فهذا عموم لكل نذر معصية كمن نذرت صوم يوم حيضتها أو صوم يوم العيد ، ونحو ذلك من كل معصية .
779 - مسألة : فإن نذر ما ليس طاعة ولا معصية كالقعود في دار فلان أو أن لا يأكل خبزا مأدوما أو ما أشبه هذا لم يلزمه ، ولا حكم لهذا إلا استغفار الله تعالى منه ، لأن إيجاب النذر شريعة ، والشرائع لا تلزم إلا بنص ولا نص إلا في نذر الطاعة فقط .
780 - مسألة : وينهى عن النذر جملة فإن وقع لزم كما قدمنا ، روينا بالسند المذكور إلى أبي داود نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير بن عبد الحميد عن منصور هو ابن المعتمر - عن عبد الله بن مرة الهمداني عن عبد الله بن عمر قال : { أخذ رسول الله ﷺ ينهى عن النذر ويقول لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل } ففي قوله عليه السلام { وإنما يستخرج به من البخيل } إيجاب للوفاء به إذا وقع في طاعة الله تعالى .
781 - مسألة : ومن قال علي لله تعالى صوم يوم أفيق ، أو قال : يوم يقدم فلان ، أو قال يوم أنطلق من سجني ، أو ما أشبه هذا فكان ما رغب فيه ليلا أو نهارا : لم يلزمه صيام ذلك اليوم ولا قضاؤه ولا صوم غيره ؛ لأنه إن كان ما رغب فيه ليلا فلم يكن في يوم فلا يلزمه ما لم يلتزمه ، وإن كان نهارا فلا يمكنه إحداث صوم لم يبيته من الليل ولا تقدم إلزام الله تعالى له إياه ، ولا يلزمه صيام يوم آخر ؛ لأنه لم يلتزمه - وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي - وقال الأوزاعي : إن قدم نهارا صام بقية ذلك اليوم ولا قضاء عليه ، وقال مالك : إن قدم ليلا صام الناذر غد تلك الليلة
782 - مسألة : فلو قال في كل ذلك : علي صوم ذلك اليوم أبدا فإن كان ليلا لم يلزمه كما قدمنا ، لأنه لم يلتزمه ولا يلزم صيام الليل ، لأنه معصية ، فإن كان نهارا لزمه في المستأنف صوم ذلك اليوم إذا تكرر كما نذره ولا قضاء عليه في يومه ذلك ، لأنه غير ما نذر .
783 - مسألة : ومن أفطر في صوم نذر عامدا أو لعذر فلا قضاء عليه إلا أن يكون نذر أن يقضيه فيلزمه ، لأنه إذا لم ينذر القضاء فلا يجوز أن يلزم ما لم ينذره ؛ إذ لم يوجب ذلك نص .
784 - مسألة : ومن نذر صوم يومين فصاعدا أجزأه أن يصوم ذلك متفرقا لأنه غير مخالف لما نذر .
785 - مسألة : فلو نذر صوم جمعة أو قال : شهر لم يجز أن يصوم ذلك إلا متتابعا ولا بد ؛ فإن تعمد في خلال ذلك فطرا لعذر أو لغير عذر : ابتدأه من أوله لأن اسم الجمعة والشهر لا يقع إلا على أيام متتابعة لا متفرقة ، فإنما يلزمه ما نذر لا ما لم ينذر ؛ فإن لم يتابع ذلك فلم يأت بما نذر فعليه أن يأتي به .
786 مسألة : ومن نذر صوم جمعتين أو قال : شهرين ، ولم ينذر التتابع في ذلك لزمه أن يصوم كل جمعة متتابعة ولا بد ، وكل شهر متتابعا ولا بد ، وله أن يفرق بين الجمعة والجمعة ، وبين الشهر والشهر لما ذكرنا آنفا إلا أن ينذرهما متتابعين فيلزمه ذلك ؛ لأنه طاعة زائدة .
787 - مسألة : فإن صام الشهر ما بين الهلالين لزمه إتمامه ، فإن ابتدأ صيامه بعد دخول الشهر لم يلزمه إلا تسعة وعشرون يوما متصلة ولا بد لقول رسول الله ﷺ { الشهر تسعة وعشرون } وأن الشهر يكون تسعا وعشرين فلا يلزمه زيادة يوم إلا بنص وارد ولا نص في ذلك ؛ وإنما يلزمه ما يقع عليه اسم ما نذر من شهر أو أكثر فقط ؛ فإن نذر نصف شهر لم يلزمه إلا أربعة عشر يوما ، لأن كسر يوم لا يلزمه صيامه لمن نذره ، ولا يجوز أن يلزم يوما زائدا لم ينذره .