محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة التاسعةوالأربعون
كتاب الصيام
788 - مسألة : ومن نذر صوم سنة فقد قال قوم : يصوم اثني عشر شهرا لا يعد فيها رمضان ، ولا يوم الفطر ، والأضحى ، ولا أيام التشريق ، وفي هذا عندنا نظر والواجب عندنا أن لا يلزمه شيء ؛ لأن هذه الفتيا إلزام له ما لم ينذره ؛ لأن اسم سنة لا يقع إلا على اثني عشر شهرا متصلة لا مبددة ، وهو لا يقدر على الوفاء بنذره كما نذره ؛ فلا يجوز أن يلزم ما لم يلتزمه ولا نذره ، ولا أن يلتزم ما لم يمكن ، وما ليس في وسعه قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ومن ادعى هاهنا إجماعا فقد كذب ؛ لأنه لا يقدر على أن يأتي في ذلك برواية عن صاحب أصلا ، ولا نعلم في ذلك قولا عن تابع . وقد قال فيها أبو حنيفة يفطر فيها يومي الفطر والأضحى وأيام التشريق ، ثم يقضيها . وقال زفر : يفطر الأيام المذكورة ، ولا يقضيها . وقال مالك : يصوم ، ويفطر الأيام المذكورة ، ولا يقضي رمضان ، ولا الأيام المذكورة ، إلا أن ينوي قضاءها . وقال الليث : يصوم ويقضي رمضان ويومين مكان الفطر والأضحى ، ويصوم أيام التشريق . [ قال أبو محمد : فهذه الأقوال إما موجبة عليه ما لم ينذره ولا التزمه ، وإما مسقطة عنه ما نذر ] . قال أبو محمد : إن كان نذر صوم هذه الأيام وصوم رمضان عن نذره ؛ فقد نذر الضلال والباطل ، وأمرا مخالفا لدين الإسلام ؛ فلا يلزمه نذره ذلك لأنه معصية ، ولا يلزم صوم سائر الأيام لأنه غير ما نذر ، وكل طاعة مازجتها معصية فهي كلها معصية ، لأنه لم يأت بالطاعة كما أمر ، قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } . فإن نذر أن يصوم سنة حاشا رمضان والأيام المنهي عن صيامها لزمه ذلك ، لأنه نذر طاعة ؛ وكذلك لو نذر صوم شوال ، أو صوم ذي الحجة ، أو صوم شعبان فلا يلزمه شيء لما ذكرنا إلا أن ينوي استثناء ما لا يجوز صومه من الأيام فيلزمه ذلك .
789 - مسألة : ومن كان عليه صوم يوم بعينه نذرا فإذا جاء رمضان لزمه فرضا أن يصوم ذلك اليوم لرمضان لا للنذر أصلا ؛ فإن صامه لنذره أو لرمضان ولنذره فالإثم عليه ولا يجزئه لا لنذره ولا لرمضان ؛ لأن أمر الله تعالى متقدم لنذره فليس له أن يصوم رمضان ولا شيئا منه لغير ما أمره الله تعالى بصيامه مخلصا له ذلك - وبالله تعالى التوفيق ؛ ولا قضاء عليه فيه لما ذكرناه .
790 - مسألة : وأفضل الصوم بعد الصيام المفروض صوم يوم وإفطار يوم . ولا يحل لأحد أن يصوم أكثر من ذلك أصلا ، والزيادة عليه معصية ممن قامت عليه بها الحجة ، ولا يحل صوم الدهر أصلا : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن مقاتل نا عبد الله بن المبارك أنا الأوزاعي نا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله : { يا عبد الله بن عمرو ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : فلا تفعل ، صم وأفطر وقم ونم ؛ فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا ؛ وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإذا ذلك صيام الدهر كله فشددت فشدد علي قلت : يا رسول الله إني أجد قوة ؟ قال فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه ، قلت : وما كان صيام نبي الله داود ؟ قال : نصف الدهر } . ومن طريق البخاري عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ وذكر الحديث . وفيه : { أن عبد الله بن عمرو قال عليه السلام إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : فصم يوما وأفطر يوما ؟ قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ؟ قال : لا أفضل من ذلك } . قال أبو محمد : فصح نهي النبي ﷺ عن الزيادة على صيام يوم وإفطار يوم ونعوذ بالله من مواقعة نهيه ، وإذ أخبر عليه السلام أنه لا أفضل من ذلك فقد صح أن من صام أكثر من ذلك فقد انحط فضله فإذا انحط فضله فقد حبطت تلك الزيادة بلا شك وصار عملا لا أجر له فيه بل هو ناقص من أجره ؛ فصح أنه لا يحل أصلا . قال علي : ومن طرائف المصائب قول بعض من يتكلم في العلم بما هو عليه لا له : قال : قد جاء هذا الحديث وفيه أنه عليه السلام قال : { فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى } فقال : إنما هذا الحكم لمن لا يفر إذا لاقى . قال أبو محمد : فجمع هذا الكلام الملعون وجهين من الضلال - : أحدهما : الكذب على رسول الله ﷺ بما لم يخبر به بل قد أمر عليه السلام بذلك عبد الله بن عمرو وقطع بأنه لا صوم أفضل من صوم داود . والثاني : أنه تأويل سخيف لا يعقل ؛ لأنه لا شك في أن من لا يفر في سبيل الله إذا لاقى أفضل ممن يفر ؛ فإذا كان حكم الأفضل أن لا يتزيد من الفضل في الصيام ويمنع من ذلك ؛ فهذه شريعة إبليس لا شريعة محمد ﷺ . نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عبيد الله بن معاذ هو ابن معاذ العنبري نا أبي نا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت سمع أبا العباس هو السائب بن فروخ المكي - سمع عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله ﷺ { لا صام من صام الأبد } . ورويناه من طريق البخاري نا آدم نا شعبة فذكره بإسناده المذكور ، وفيه : أن رسول الله ﷺ قال : { لا صام من صام الدهر } . ومن طريق أبي قتادة { عن رسول الله ﷺ أنه قال - : وقد ذكر له من يصوم الدهر - فقال عليه السلام لا صام ولا أفطر ، أو ما صام ولا أفطر } . وكذلك نصا من طريق مطرف عن عبد الله بن الشخير عن أبيه ، وعمران بن الحصين كلاهما { عن رسول الله ﷺ أنه قال فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر } فقد صح أنه حبط صومه ولم يفطر . وهذه أخبار متظاهرة متواترة لا يحل الخروج عنها . ومن عجائبهم أنهم قالوا : إنما لا يجوز إذا صام الدهر ولم يفطر الأيام المنهي عنها ؟ فقلنا : كذب من قال هذا لأن رسول الله ﷺ منع ونهى عن الزيادة على نصف الدهر وأبطل أجر من زاد . قال أبو محمد : وشغب من خالفنا بأن ذكر حديث { حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : يا رسول الله إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر ؟ قال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر } . وبخبر رويناه من طريق زيد بن الحباب : أخبرني ثابت عن قيس الغفاري حدثني أبو سعيد المقبري حدثني أبو هريرة عن أسامة بن زيد قال : { كان رسول الله ﷺ يسرد الصوم فيقال : لا يفطر } . قال أبو محمد : لا حجة لهم في هذين الخبرين ، لأن السرد إنما هو المتابعة لا صوم أكثر من نصف الدهر ، يبين ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أوردناه . وحديث عائشة الذي رويناه من طريق مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : { سألت عائشة أم المؤمنين عن صيام رسول الله ﷺ فقالت : كان يصوم حتى نقول : قد صام ويفطر حتى نقول : قد أفطر ، ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان ، كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلا } . فهذه أم المؤمنين بينت السرد الذي ذكره أسامة ، والذي ذكره حمزة بن عمرو في حديثه ، فبطل أن يكون لهم متعلق بشيء من الآثار . وموهوا أيضا بما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه أن عائشة كانت تصوم الدهر ؛ قلت : الدهر ؟ قال : كانت تسرد . ومن طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : كان عمر يسرد الصوم . وعنه أيضا أنه سرد الصوم قبل موته بسنتين . ومن طريق عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان هو الضبعي - عن ثابت البناني عن أنس قال : كان أبو طلحة قل ما يصوم على عهد رسول الله ﷺ من أجل العدو ، فلما توفي النبي ﷺ ما رأيته مفطرا إلا يوم أضحى ، أو يوم فطر . ومن طريق ابن أبي شيبة نا حماد بن خالد عن الزبير بن عبد الله ابن أميمة عن جدته قالت : كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله . وعن الأسود ، وعروة ، وعبيد : أنهم كانوا يصومون الدهر . قال أبو محمد : هذا كله لا حجة لهم فيه - : أما عائشة رضي الله عنها فقد فرق عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بين صيام الدهر وبين سرد الصوم كما ذكرنا ، ولم يثبت عليها إلا السرد وهو المتابعة لا صوم الدهر ؛ ولو صح عنها ذلك ولا يصح ؟ - : فقد روينا من طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه : أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم أيام التشريق . وكذلك صح عنها رضي الله عنها أنها كانت تختار صوم يوم الشك من آخر شعبان ؛ فإن كان ما لا يصح عنها من صوم الدهر حجة فالذي صح عنها من صوم أيام التشريق ، ويوم الشك حجة ، وإن لم يكن هذا حجة فليس ذلك حجة . فإن قالوا : قد صح نهي النبي ﷺ عن صوم أيام التشريق . قيل لهم : وقد صح نهيه عليه السلام عن صوم أكثر من نصف الدهر ، وصح نهيه عن صوم الدهر . وأما خبر عمر فليس فيه إلا السرد فقط وهو المتابعة لا صيام الدهر ؛ بل قد صح عنه تحريم صيام الدهر كما روينا من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني قال : بلغ عمر بن الخطاب : أن رجلا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول : كل يا دهر كل يا دهر ؛ وهذا في غاية الصحة عنه ؛ فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه ولو كان عنده مباحا لما ضرب فيه ولا أمر بالفطر . وأما عثمان ، فإن الزبير بن عبد الله ابن أميمة وجدته مجهولان ، فسقط هذا الخبر . وأما أبو طلحة فقد روينا من طريق شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة يأكل البرد وهو صائم . قال أبو محمد : وفي الخبر الذي شغبوا به : أن أنسا قال : ما رأيته مفطرا إلا يوم فطر ، أو يوم أضحى ، ففي هذا الخبر : أنه كان يصوم أيام التشريق فإن لم يكن فعل أبي طلحة في أكله البرد وهو صائم حجة فصومه الدهر ليس حجة ؛ ولئن كان صومه الدهر حجة فإن أكله البرد في صيام حجة ؛ فسقط كل ما موهوا به عن الصحابة رضي الله عنهم . وأما الأسود : فروينا عن وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة : أن الأسود كان يصوم الدهر وأيام التشريق وعن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه صام أربعين سنة أو ثلاثين سنة - قال هشام : لم أره مفطرا إلا يوم فطر أو يوم نحر ؛ فليقتدوا بهما في صوم أيام التشريق وإلا فالقوم متلاعبون . قال علي : صح عن عمر ما ذكرناه من النهي عن صوم الدهر ، وأمره بالفطر فيه ، وضربه على صيامه . ومن طريق شعبة عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال : من صام الدهر ضيق الله عليه هكذا - : وقبض كفه . ومن طريق سفيان الثوري عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال : من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ، وقد روي أيضا مسندا . قال علي : من نوادرهم قولهم : معناه ضيقت عليه جهنم حتى لا يدخلها ؟ قال علي : وهذه لكنة وكذب - : أما اللكنة : فإنه لو أراد هذا لقال : ضيقت عنه ، ولم يقل : عليه ، وأما الكذب : فإنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه فكيف ورواية شعبة المذكورة إنما هي ضيق الله عليه فقط ؟ ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن أبي إسحاق أن ابن أبي أنعم كان يصوم الدهر ؟ فقال عمرو بن ميمون : لو رأى هذا أصحاب محمد ﷺ لرجموه . قال علي : هم يدعون الإجماع بأقل من هذا ؛ وقد يكون الرجم حصبا كما كان يفعل ابن عمر بمن رآه يتكلم والإمام يخطب . ومن طريق شعبة عن يحيى بن عمر والهمداني عن أبيه أنه سمع عبد الله بن مسعود - وسئل عن صوم الدهر - فكرهه . ومن طريق أبي بكرة ، وعائذ بن عمرو أنهما كرها صوم رجب ، وهذا يقتضي ولا بد أنهما لا يجيزان صيام الدهر . قال علي : لو كان مباحا عند ابن مسعود ما كرهه ، لأن فعل الخير لا يكره ، ولا يكره إلا ما لا خير فيه ولا أجر . وعن الشعبي أنه كره صوم الدهر . وعن سعيد بن جبير أنه كره صوم شهر تام غير رمضان
791 - مسألة : قال أبو محمد - : ونستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ونستحب صيام الاثنين ، والخميس ، وكل هذا فبأن لا يتجاوز أكثر من نصف الدهر ، فأما الثلاثة الأيام فلما ذكرنا آنفا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأما الاثنين والخميس فلما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا القاسم بن زكريا نا حسين هو الجعفي - عن زائدة عن عاصم عن المسيب هو ابن رافع - عن حفصة أم المؤمنين قالت : { كان رسول الله ﷺ يصوم الاثنين ، والخميس } " . ويكره صوم شهر تام غير رمضان لما ذكرنا من فعله ﷺ . وقد ذكرنا مثل قولنا آنفا عن سعيد بن جبير .
792 - مسألة : ومن اقتصر على الفرض فقط فحسن لما قد ذكرناه قبل من { قول رسول الله ﷺ للذي سأله عن الدين فأخبره عليه السلام بوجوب رمضان قال : هل علي غيره ؟ قال : لا إلا أن تتطوع - وذكر مثل ذلك في الصلاة والزكاة والحج ؛ فقال السائل : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال رسول الله ﷺ : أفلح إن صدق دخل الجنة إن صدق } .
793 - مسألة : ونستحب صوم يوم عاشوراء : وهو التاسع من المحرم وإن صام العاشر بعده فحسن . ونستحب أيضا صيام يوم عرفة للحاج وغيره - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة الأنصاري { أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : يكفر السنة الماضية والباقية } . { وسئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال يكفر السنة الماضية } . وبه إلى مسلم - : نا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع بن الجراح عن حاجب بن عمر عن الحكم بن الأعرج قال : { سألت ابن عباس عن صوم عاشوراء ؟ فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ؟ فقلت : هكذا كان محمد ﷺ يصومه ؟ قال : نعم } . نا حماد بن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر ، فإن قيل : من أين أحببتم صوم يوم عرفة في الحج ؟ وقد صح من طريق ميمونة أم المؤمنين أنها قالت : { إن الناس شكوا في صوم رسول الله ﷺ يوم عرفة فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون } ؟ ومن طريق حامد بن يحيى البلخي عن سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال : أتيت ابن عباس بعرفة وهو يأكل رمانا فقال : ادن فكل لعلك صائم إن رسول الله ﷺ لم يكن يصوم هذا اليوم . ومن طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع قال : سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : لم يصمه النبي ﷺ ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان . ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي نا حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري العبدي عن عكرمة قال : قال لي أبو هريرة : { نهى رسول الله ﷺ عن صوم يوم عرفة بعرفات } . ومن طريق شعبة أخبرني عمرو بن دينار قال : سمعت عطاء عن عبيد بن عمير قال : نهى عمر بن الخطاب عن صوم يوم عرفة : وقد تكلم في سماع عبد الله بن معبد الزماني من أبي قتادة . قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : أما أن رسول الله ﷺ لم يصمه فلا حجة لكم في ذلك ؛ لأنه عليه السلام قد حض على صيامه أعظم حض ، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين ، وما علينا أن ننتظر بعد هذا أيصومه عليه السلام أم لا ؟ وقد حدثنا يوسف بن عبد الله النميري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور قال : نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن بكير نا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : { إن كان رسول الله ﷺ ليترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم } ؟ وأما حديث أبي هريرة في النهي عن صوم يوم عرفة بعرفات فإن رواية حوشب بن عقيل وليس بالقوي عن مهدي الهجري وهو مجهول ، وهذا لا يحتج به وأما ترك أبي بكر ، وعمر ، وابن عمر ، وابن عباس صيامه فقد صامه غيرهم - : كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سهل بن أبي الصلت عن الحسن البصري أنه سئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : صامه عثمان بن عفان في يوم حار يظلل عليه . ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة في الحج . وبه إلى حماد بن سلمة نا عطاء الخراساني : أن عبد الرحمن بن أبي بكر - دخل على عائشة أم المؤمنين يوم عرفة وهي تصب عليها الماء فقال لها : أفطري ؟ فقالت : أفطر ؟ وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول : { صوم يوم عرفة يكفر العام الذي قبله } . ومن طريق هشام بن عروة : أن عبد الله بن الزبير كان يدعو عشية عرفة إذا أفاض الناس بماء ثم يفيض ؟ قال علي : فإذا اختلفوا فالمرجوع إليه سنة رسول الله ﷺ وقد روينا من طريق البخاري عن مسدد عن يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن توبة عن مورق العجلي قال : { قلت لابن عمر أتصلي الضحى ؟ قال : لا ؛ قلت : فعمر ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا ، قلت - : فرسول الله ﷺ قال : لا إخاله . } فمن كره صوم يوم عرفة لقول ابن عمر : إن رسول الله ﷺ لم يصمه ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، فليكره صلاة الضحى فيها مثل ذلك ، والطريقان صحيحان وإلا فهو متلاعب بالدين ، وقد صح أن أبا بكر ، وعمر لم يكونا يضحيان فليكرهوا الأضحية أيضا لذلك ؟ قال علي : ومن العجب أن يكون النبي ﷺ قد جاء بأغلظ الوعيد عن صيام الدهر ولم يصمه عليه السلام فيستحبونه ويبيحونه ثم يأتي حض النبي ﷺ بأشد الحض على صوم عرفة فيكرهونه ، لأنه عليه السلام لم يصمه ولم يحض النبي ﷺ بتركه الحاج دون غيره ، ولا بالحض عليه من ليس حاجا من حاج ؟ وأما سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة فعبد الله ثقة - والثقات مقبولون - لا يحل رد رواياتهم بالظنون - وبالله تعالى التوفيق
794 - مسألة : ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر لما حدثناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال النبي ﷺ { ما من أيام أحب إلى الله فيهم العمل - أو أفضل فيهن العمل - من أيام العشر قيل : يا رسول الله ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء } . قال أبو محمد : هو عشر ذي الحجة ، والصوم عمل بر ؛ فصوم عرفة يدخل في هذا أيضا .
795 - مسألة : ولا يحل صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يوما قبله أو يوما بعده فلو نذره إنسان كان نذره باطلا ، فلو كان إنسان يصوم يوما ويفطر يوما فجاءه صومه في الجمعة فليصمه ؛ - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو كريب نا حسين هو الجعفي - عن زائدة عن هشام هو ابن حسان - عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم } - : . نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا إسماعيل بن مسعود هو الجحدري - نا بشر هو ابن المفضل - نا سعيد هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال : { دخل رسول الله ﷺ على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها : أصمت أمس ؟ قالت : لا قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا قال : فأفطري } . وروينا أيضا من طريق جابر ؛ ومن طريق جويرية أم المؤمنين . ومن طريق جنادة الأزدي : - وله صحبة كلهم عن النبي ﷺ . وبه قال طائفة من الصحابة رضي الله عنهم - : روينا من طريق حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء هو ابن الشخير - أن سلمان الفارسي صاحب رسول الله ﷺ قال لزيد بن صوحان : انظر ليلة الجمعة فلا تصلها ؟ قال علي : لا نعلم له مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن عبد العزيز بن رفيع عن قيس بن السكن قال : مر ناس من أصحاب ابن مسعود بأبي ذر يوم جمعة وهم صيام فقال : عزمت عليكم لما أفطرتم فإنه يوم عيد - قيس بن السكن أدرك أبا ذر وجالسه . وعن علي بن أبي طالب أنه نهى عن تعمد صيام يوم الجمعة . ومن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة قال : لا تصم يوم الجمعة إلا أن تصوم قبله أو بعده . وهو قول إبراهيم النخعي ؛ ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين وغيرهم ، وذكره إبراهيم عمن لقي ، وإنما لقي أصحاب ابن مسعود . فإن قيل : فقد رويتم من طريق شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال : { إن رسول الله ﷺ كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وقل ما كان يفطر يوم الجمعة } . ومن طريق ليث بن أبي سليم عن عمر بن أبي عمير { عن ابن عمر قل ما رأيت رسول الله ﷺ مفطرا يوم جمعة } . ومن طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس { عن ابن عباس قل ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط } . قال أبو محمد : ليث ليس بالقوي وأما خبر ابن مسعود فصحيح ، والقول فيها كلها سواء ، وهو أنه ليس في شيء منها - لا عن رسول الله ﷺ ولا عن ابن مسعود ، ولا عن ابن عمر ، ولا عن ابن عباس - : إباحة تخصيص يوم الجمعة بصيام دون يوم قبله أو يوم بعده . ونحن لا ننكر صيامه إذا صام يوما قبله أو يوما بعده ، ولا يحل أن نكذب على رسول الله ﷺ فنخبر عنه بما لم يخبر به عنه صاحبه ، ولا أن نحمل فعله على مخالفة أمره ألبتة إلا ببيان نص صحيح فيكون حينئذ نسخا أو تخصيصا ، قال تعالى آمرا له أن يقول : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } فكيف وقد ورد عن ابن عباس ، وطاوس بيان قولنا بأصح من هذه الطرق ؟ كما روينا من طريق ابن أبي شيبة - : نا محمد بن بكر عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس ينهى عن افتراد اليوم كلما مر بالإنسان - يعني عن صيامه - : فصح نهي ابن عباس عن افتراد يوم بعينه في الصوم ، فدخل في ذلك يوم الجمعة وغيره . ومن طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كان يكره أن يتحرى يوما يصومه ، وما نعلم لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم مخالفا أصلا في النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام - وبالله تعالى التوفيق .
796 - مسألة : فلو نذر المرء صوم يوم يفيق ، أو ذلك فوافق يوم جمعة لم يلزم ؛ لأنه لا يصوم يوما قبله ، ولا يوما بعده ، ولا وافق صوما كان يصومه ، ولا يجوز صيامه إلا بأحد هذين الوجهين كما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق .