محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الخمسون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الصيام

797 - مسألة : ولا يحل صوم الليل أصلا ، ولا أن يصل المرء صوم يوم بصوم يوم آخر لا يفطر بينهما ، وفرض على كل أحد أن يأكل أو يشرب في كل يوم وليلة ولا بد . نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا إبراهيم بن حمزة نا ابن أبي حازم عن يزيد هو ابن الهادي - عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري : " أنه سمع رسول الله يقول : { لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ، قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال : لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني } . ورويناه أيضا مسندا صحيحا من طريق أم المؤمنين عائشة ، وأنس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، كلهم عن رسول الله وهذه الآثار تنتظم كل ما قلنا . قال أبو محمد : وقد روينا النهي عن الوصال عن أبي سعيد الخدري ، وعائشة أم المؤمنين ، وعلي ، وأبي هريرة ، وروينا عن بعض السلف إباحة الوصال ، كما روينا من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال : { نهى رسول الله عن الوصال فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يا رسول الله فقال : وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ؛ فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال عليه السلام : لو تأخر الهلال لزدتكم ؛ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا } . وعن أخت أبي سعيد الخدري أنها كانت تواصل ، وكان أخوها ينهاها ؛ قال علي : هي صاحبة بلا شك . ومن طريق حماد بن سلمة نا عمار بن أبي عمار قال : كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام فإذا كان الليلة السابعة دعا بإناء من سمن فشربه ثم يؤتى بثريدة فيها عرقان ويؤتي الناس بالجفان فيقول : هذا من خالص مالي ، وهذا من بيت مالكم . وكان ابن وضاح يواصل أربعة أيام . قال أبو محمد : هذا يوضح أن لا حجة في أحد غير رسول الله لا صاحب ، ولا غيره ؛ فقد واصل قوم من الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي وتأولوا في ذلك التأويلات البعيدة فكيف بعده عليه السلام ؟ فكيف من دونهم ؟ ولا فرق بين من خالف حضه عليه السلام على صوم يوم عرفة ونهيه عليه السلام عن تخصيص صوم يوم الجمعة ، وتأولوا في ذلك : أنه عليه السلام لم يصم يوم عرفة { ، وقول ابن مسعود قل ما رأيته عليه السلام مفطرا يوم الجمعة } وبين من خالف نهيه عن الوصال وتأول أنه عليه السلام كان يواصل .

798 - مسألة : ولا يجوز صوم يوم الشك الذي من آخر شعبان ، ولا صيام اليوم الذي قبل يوم الشك المذكور إلا من صادف يوما كان يصومه فيصومهما حينئذ للوجه الذي كان يصومهما له لا لأنه يوم شك ولا خوفا من أن يكون من رمضان - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب كلاهما عن وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : { لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصم } . وقد ذكرنا أمره عليه السلام بأن لا يصام حتى يرى الهلال من طريق ابن عمرو - : نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس : " أن النبي قال : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين ، قالوا : يا رسول الله ألا نقدم بين يديه يوما أو يومين ؟ فغضب وقال : لا } . قال أبو محمد : نعوذ بالله من غضب رسول الله هذا الخبر يوضح أنه لا حجة في أي صاحب ولا غيره أصلا - وبهذا يقول طائفة من السلف - : روينا عن ابن مسعود أنه قال : لأن أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلي من أن أزيد فيه يوما ليس فيه . وعن حذيفة أنه كان ينهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه . وعن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن أشيم أنه سمع عمار بن ياسر في يوم الشك في آخر شعبان يقول : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم . وعن حذيفة ؛ وابن عباس ؛ وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأنس بن مالك : النهي عن صيامه . وعن ابن عمر ، والضحاك بن قيس أنهما قالا : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ؟ قال أبو محمد : وروي خلاف هذا عن بعض السلف - : كما روينا عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان . وعن أسماء بنت أبي بكر : أنها كانت تصوم يوم الشك - : وحدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي نا عبيد الله بن عمر عن نافع قال : كان ابن عمر إذا خلت تسع وعشرون ليلة من شعبان بعث من ينظر الهلال فإن حال من دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما ، وإن لم ير ولم يحل دون منظره أصبح مفطرا . وعن أبي عثمان النهدي أنه كان يصوم يوم الشك . وعن القاسم بن محمد : أنه كان لا يكره صيام يوم الشك إلا إن أغمي دون رؤية الهلال ، وعن الحسن البصري أنه كان يصبح يوم الشك صائما فإن قدم خبر برؤية الهلال ما بينه وبين نصف النهار أتم صومه وإلا أفطر . وبالنهي عن صومه جملة يقول إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين وغيرهم . قال أبو محمد : هذا ابن عمر هو روى أن لا يصام حتى يرى الهلال ثم كان يفعل ما ذكرنا ؛ واحتج من رأى صيام يوم الشك بما روينا من طريق مسلم عن ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن الجريري عن أبي العلاء عن مطرف عن عمران بن الحصين : { أن النبي قال لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ يعني شعبان قال : لا ، قال : فإذا أفطرت من صيام رمضان فصم يومين مكانه } . وبما رويناه من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا محمد بن جعفر نا شعبة عن توبة العنبري عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أم المؤمنين : { أن النبي لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان } . ومن طريق عبد الله بن أبي العلاء عن أبي الأزهر المغيرة بن فروة قال : قام معاوية بن أبي سفيان في الناس في دير مسحل الذي على باب حمص فقال : يا أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا وأنا متقدم بالصيام فمن أحب أن يفعله فليفعله ، فقام إليه مالك بن هبيرة السبائي فقال : يا معاوية أشيء سمعته من رسول الله ؟ أم شيء من رأيك ؟ فقال : سمعت رسول الله يقول : { صوموا الشهر وسره } . قال أبو محمد : المغيرة بن فروة غير مشهور ثم لو صح لما كانت فيه حجة أصلا ، لأن نصه { صوموا الشهر وسره } وهو بلا شك شهر رمضان لا ما سواه " وسره " مضاف إليه ، ولا يخلو " سره " من أن يكون أوله أو آخره أو وسطه وأي ذلك كان ؟ فهو من رمضان لا من شعبان ، وليس فيه : صوموا سر شعبان ؛ فبطل التعلق به . وأما خبر أم سلمة فلا حجة لهم فيه ؛ لأن كل من كان له صوم معهود فوافق يوم الشك فليصمه كما جاء في الخبر الذي صدرنا به ، ولا يجوز أن يحمل صوم النبي له وفي وصله شعبان برمضان إلا على أنه صوم معهود كان له ؟ وأما خبر عمران فصحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه ؛ لأننا لا ندري ماذا كان يقول له النبي ؟ لو قال له الرجل : إنه صام سرر شعبان أينهاه أم يقره على ذلك ؟ والشرائع الثابتة لا يجوز خلافها بالظنون ولا بما لا بيان فيه ، ثم لو كان في هذه الأخبار بيان جلي بإباحة صوم يوم الشك من شعبان لما كان لهم فيه حجة ؛ لأن صوم يوم الشك وغيره كان مباحا بلا شك في صدر الإسلام ؛ لأن الصوم جملة عمل بر وخير ؛ فلما صح نهي النبي عن صوم يومين قبل رمضان إلا لمن كان له صوم يصومه صح يقينا لا مرية فيه أن الإباحة المتقدمة قد نسخت وبطلت ؛ لأن الصوم قد كان متقدما لهذا النهي بنصه كما هو لاستثنائه عليه السلام من كان له صوم فليصمه ، ولا يحل العمل بشيء قد صح أنه منسوخ بلا شك ولا يحل خلاف الناسخ ومن ادعى أن الحالة المنسوخة قد عادت وأن الناسخ قد بطل فقد كذب وقفا ما لا علم له به ، وقال ما لا دليل له به أبدا ، والظن أكذب الحديث .

799 - مسألة : ولا معنى للتلوم في يوم الشك ، لأنه إن كان تلومه بنية الصوم فقد خالف أمر رسول الله بترك صومه وواقع النهي ، وإن كان تلومه بغير نية الصوم فهو عناء لا معنى له ، وترك المفطر الأكل عمل فارغ . وقد روينا عن أنس وجماعة معه تعجيل الفطر في أوله .

800 - مسألة : ولا يجوز صوم اليوم السادس عشر من شعبان تطوعا أصلا ولا لمن صادف يوما كان يصومه - : نا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا قتيبة بن سعيد نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلى مجلس العلاء بن عبد الرحمن فأخذ بيده فأقامه ثم قال : اللهم إن هذا يحدث عن أبيه أن رسول الله قال : { إذا انتصف شعبان فلا تصوموا } فقال العلاء : اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة أن رسول الله قال ذلك . قال أبو محمد : هكذا رواه سفيان عن العلاء ، والعلاء ثقة روى عنه : شعبة ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وسفيان بن عيينة ، ومسعر بن كدام ، وأبو العميس ، وكلهم يحتج بحديثه فلا يضره غمز ابن معين له ، ولا يجوز أن يظن بأبي هريرة مخالفة ما روى عن النبي والظن أكذب الحديث ؛ فمن ادعى هاهنا إجماعا فقد كذب . وقد كره قوم الصوم بعد النصف من شعبان جملة ، إلا أن الصحيح المتيقن من مقتضى لفظ هذا الخبر النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان ، ولا يكون الصيام في أقل من يوم ، ولا يجوز أن يحمل على النهي عن صوم باقي الشهر إذ ليس ذلك بينا ، ولا يخلو شعبان من أن يكون ثلاثين أو تسعا وعشرين ؛ فإن كان ذلك فانتصافه بخمسة عشر يوما ؛ وإن كان تسعا وعشرين فانتصافه في نصف اليوم الخامس عشر ، ولم ينه عن الصيام بعد النصف ، فحصل من ذلك النهي عن صيام اليوم السادس عشر بلا شك . فإن قيل : فقد رويتم من طريق وكيع عن أبي العميس عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله  : { إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان } . قلنا : نعم ، وهذا يحتمل النهي عن كل ما بعد النصف من شعبان ؛ ويحتمل أن يكون النهي عن بعض ما بعد النصف ، وليس أحد الاحتمالين أولى بظاهر اللفظ من الآخر ؛ وقد روينا ما ذكرنا قبل من قول أم سلمة أم المؤمنين : { أن رسول الله كان يصوم شعبان يصله برمضان } وقول عائشة أم المؤمنين : { أنه عليه الصلاة والسلام : كان يصوم شعبان كله إلا قليلا } وقولهما هذا يقتضي أنه عليه السلام كان يداوم ذلك فوجب استعمال هذه الأخبار كلها وألا يرد منها شيء لشيء أصلا ؛ فصح صيام أكثر شعبان مرغوبا فيه ، وصح جواز صوم آخره ؛ فلم يبق يقين النهي إلا على ما لا شك فيه وهو اليوم السادس عشر كما قلنا - وبالله تعالى التوفيق . ومن ادعى نسخا في خبر العلاء فقد كذب وقفا ما لا علم له به - وبالله تعالى نتأيد . وقد بينا فيما خلا ما قاله أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي مما لا يعرف أن أحدا قاله قبل كل واحد منهم ، أكثر ذلك مما قالوه برأي لا بنص ؟ من ذلك قول أبي حنيفة : يجزئ من مسح الرأس في الوضوء مقدار ثلاثة أصابع ولا يجزئ أقل منه ، ومرة قال : ربع الرأس ولا يجزئ أقل ، ويجزي مسحه بثلاث أصابع ولا يجزئ بأصبعين ولا بأصبع . وأجازوا الاستنجاء بالروث . وقوله : المرة والماء الخارجان ، من الجوف ينقضان الوضوء إذا كان كل واحد منهما ملء الفم ، فإن كان أقل لم ينقض الوضوء ؛ وكذلك تعمد القيء والدم الخارج من الجوف ينقض الوضوء إن غلب على البصاق وإن لم يملأ الفم ، والبلغم الخارج من الجوف لا ينقض الوضوء وإن ملأ الفم . وقوله في صدقة الخيل : إن شاء أعطى عن كل رأس من الإناث أو الذكور أو الإناث مخلوطين عن كل رأس عشرة دراهم ، وإن شاء قومها قيمة وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة ، ولا يعطي من الذكور المفردة شيئا . وقوله : الزكاة في كل ما أخرجت الأرض قل أو كثر إلا الحطب ، والقصب ، والحشيش ، وقصب الزريرة ، فإن كان الخارج في الدار فلا زكاة فيه ، وكل هذا لا يعلم أحد قاله قبلهم . وكقول مالك : من ترك من الصلاة ثلاث تكبيرات ، أو ثلاث تسميعات بطلت صلاته ، فإن ترك تكبيرتين فأقل لم تبطل ولا تسميعتين فأقل . وقوله في الزكاة فيما تخرجه الأرض ومما لا زكاة فيه من ذلك من أنواع الحبوب . وقوله : إن الزكاة تسقط بموت المرء إلا زكاة عامه ذلك . وقوله فيما تخرج منه زكاة الفطر من الحبوب . وقول الشافعي : فيما يخرج منه الزكاة من الحبوب وما يخرج منه . وقوله : فيما يخرج منه زكاة الفطر من الحبوب وما لا يجزئ فيها منها . وقوله في أن الماء إن كان خمسمائة رطل بالبغدادي له لم يقبل نجاسة إلا أن تغيره ، فإن كان أقل - ولو بوزن درهم - فإنه ينجس وإن لم يتغير . وكل هذا لا يعرف له قائل قبل من ذكرنا . ولو تتبعنا ما لكل واحد منهم من مثل هذا لبلغ لأبي حنيفة ، ومالك : ألوفا من المسائل ، ولبلغ للشافعي مائتين - وبالله تعالى نتأيد .

801 - مسألة : ولا يحل صوم يوم الفطر ، ولا يوم الأضحى - لا في فرض ولا في تطوع - وهو قول جمهور الناس . وقد روينا من طريق وكيع عن عبد الله بن عون عن زياد بن جبير قال : { سأل رجل ابن عمر عمن نذر صوم يوم فوافق يوم أضحى ، أو يوم فطر ؟ فقال ابن عمر : أمر الله تعالى بوفاء النذر ، ونهى رسول الله عن صوم هذا اليوم } . وروينا عن عطاء فيمن نذر صوم شوال : أنه يفطر يوم الفطر ثم يصوم يوما من ذي القعدة مكانه ويطعم مع ذلك عشرة مساكين . قال علي : إنما أمر عز وجل بالوفاء بالنذر إذا كان طاعة لا إذا كان معصية ، وإذ صح نهي النبي عن صوم يوم الفطر والأضحى ، أو أي يوم نهى عنه فصوم ذلك اليوم معصية ؛ ولم يأمر الله تعالى - قط - بالوفاء بنذر معصية ، وقد صح في ذلك آثار - : منها ما رويناه من طريق البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : { شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : هذان يومان نهى رسول الله عن صيامهما : يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر يوم تأكلون فيه من نسككم } . وصح أيضا من طريق أبي هريرة ، وأبي سعيد مسندا . وقال محمد بن الحسن في رواية هشام بن عبيد الله عنه : " من نذر أن يصوم الدهر وأراد بذلك اليمين : فعليه أن يصومه ويفطر : يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق ؛ ولا يطعم شيئا ، لكن يوصي عند موته أن يطعم عنه لكل يوم نصف صاع " . وهذا تخليط لا نظير له .

802 - مسألة : ولا يجوز صيام أيام التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم الأضحى ، لا في قضاء رمضان ، ولا في نذر ، ولا في كفارة ، ولا لمتمتع بالحج لا يقدر على الهدي - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي . وقال مالك : يصومها المتمتع المذكور كلها ، ولا يصوم الناذر منها إلا اليوم الثالث فقط ؛ ولا يجوز أن يصام شيء منها تطوعا ، ولا في كفارة - : حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا عبد الله بن مسلمة القعنبي نا مالك عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن أبي مرة مولى أم هانئ { أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال : إني صائم فقال له : كل فهذه الأيام التي كان رسول الله يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها } قال مالك : هي أيام التشريق . نا حمام بن أحمد نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر هو ابن حماد - نا مسدد نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن بشر بن سحيم : { أن رسول الله أمره أن ينادي أيام التشريق : أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأنها أيام أكل وشرب } . قال أبو محمد : تفريق مالك بين اليومين وبين اليوم الثالث لا وجه له أصلا ؛ فإن ذكر ذاكر ما رويناه من طريق شعبة قال : سمعت عبد الله بن عيسى هو ابن أبي ليلى - عن الزهري عن عروة بن الزبير ، وسالم بن عبد الله بن عمر قال عروة : عن عائشة ، وقال سالم : عن أبيه ، ثم اتفقا ، قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي . وقد أسنده عن شعبة : يحيى بن سلام ، وليس هو ممن يحتج بحديثه ، فإن هذا موقوف على أم المؤمنين ، وابن عمر رضي الله عنهم ، ولا حجة في أحد مع رسول الله ولا يجوز أن يسند هذا إلى رسول الله بالظن فقد قال رسول الله  : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . وروينا من طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تصوم أيام التشريق . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الملك بن أبي نعامة عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يصوم أيام التشريق . وعن أبي طلحة : أنه كان لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى . وعن الأسود أنه كان يصوم أيام التشريق . ولو كان مسندا لكان حجة على المالكيين ؛ لأنه أباح اليوم الثالث أن يصومه الناذر ، وهو خلاف هذا الخبر . قال أبو محمد : عهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يقولون فيما وافق أهواءهم من أقوال الصحابة : هذا لا يقال بالرأي ، قالوا ذلك في تيمم جابر إلى المرفقين . وفي قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم إذ باعت منه عبدا إلى العطاء بثمان مائة ثم اشترته منه بستمائة : أبلغ زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ؟ إن لم يتب - وهو خبر لا يصح ، وخالفوا بذلك القرآن والسنة الثابتة . وفي التيمم إلى الكوعين ، فهلا قالوا هنا في قول عائشة ، وابن عمر : مثل هذا لا يقال بالرأي ؟ وعهدنا بهم يقولون فيما خالف أهواءهم من السنن ما تعظم به البلوى : لا يقبل فيه خبر الواحد ، وردوا بذلك الوضوء من مس الذكر ، فهلا قالوا هاهنا : هذا مما تعظم به البلوى ؟ فلا يقبل فيه خبر الواحد ، إذ لو كان النهي عن صيام أيام التشريق صحيحا ما خفي على عائشة ، وأبي طلحة وابن عباس ، والأسود . وعهدنا بهم يقولون : إن الخبر المضطرب فيه مردود ، وادعوا ذلك في حديث : { لا تحرم المصة ولا المصتان } فهذا الخبر أشد اضطرابا ، لأنه روي عن بشر بن سحيم ، ومرة عنه عن علي . وعهدنا بهم يقولون فيما وافقهم : هذا ندب ؟ فهلا قالوه هاهنا ؟ وعهدنا بهم يقولون : إذا روى الصاحب خبرا وتركه فهو دليل على نسخه ، وعائشة قد روت كما ذكرنا النهي عن صيام أيام التشريق وتركت ذلك فكانت تصومها تطوعا ؛ فهلا تركوا هاهنا روايتها لرأيها ؟ ولا يقدر أحد على أن يقول إنهما وابن عباس صاماها في تمتع الحج ؛ لأن يسارهما ويسار الأسود وسعة أموالهم لألف هدي أشهر من أن يجهله إلا من لا علم له أصلا .

803 - مسألة : ولا يحل صوم أخرج مخرج اليمين كأن يقول القائل : أنا لا أدخل دارك فإن دخلتها فعلي صوم شهر ، أو ما جرى هذا المجرى - : نا يونس بن عبد الله بن مغيث نا أبو بكر محمد بن أحمد بن خالد قال : نا أبي نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد القاسم بن سلام نا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله  : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } . قال أبو محمد : فصار الحلف بغير الله تعالى معصية ، وخلافا لنهي رسول الله فإذا هو كذلك فقد ذكرنا قبل قول رسول الله { لا وفاء لنذر في معصية الله } والنذر اللازم : هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى فقط ، وهو قول الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي سليمان وغيرهم .

804 - مسألة ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصوم تطوعا بغير إذنه ؛ وأما الفروض كلها فتصومها أحب أم كره ؛ فإن كان غائبا لا تقدر على استئذانه أو تقدر فلتصم التطوع إن شاءت - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا الحسن بن علي هو الحلواني - نا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله  : { لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه } . قال علي : البعل اسم للسيد ، في اللغة ، وصيام قضاء رمضان ، والكفارات ، وكل نذر تقدم لها قبل نكاحها إياه مضموم إلى رمضان ؛ لأن الله تعالى افترض كل ذلك كما افترض رمضان . وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فأسقط الله عز وجل الاختيار فيما قضى به ؛ وإنما جعل النبي الإذن والاستئذان فيما فيه الخيار ، وأما ما لا خيار فيه ولا إذن لأحد فيه ولا في تركه ولا في تغييره فلا مدخل للاستئذان فيه : هذا معلوم بالحس ، وهو الذي يقتضي تخصيصه عليه السلام إذن البعل فيه ؛ وبالله تعالى التوفيق .

805 - مسألة : ونستحب تدريب الصبيان على الصوم في رمضان إذا أطاقوه وليس واجبا عليهم لما قد ذكرنا من قول رسول الله  : { رفع القلم عن ثلاث } فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم . وقد ذكرنا في أول كتاب الطهارة وجوب الأحكام بالإنبات ، والحيض . والله تعالى يقول : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } وتدريبهم على الصوم خير . وقد ذكرنا ( قبل ) قول عمر رضي الله عنه للشيخ الذي وجده سكران في رمضان : ولداننا صيام . وقد روينا من طريق ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة عن أبيه عن جده عن رسول الله  : { إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان } . قال أبو محمد : محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة لا شيء إلا أن الحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين ، أخذوا بروايته في ( إباحة ) كراء الأرض وأبطلوا بها الروايات الثابتة في تحريم كراء الأرض ، فهو حجة إذا اشتهوا وليس هو حجة إذا اشتهوا - : وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بلغ الغلام خمسة أشبار وجبت عليه الحدود . وروينا عن ابن سيرين ، وقتادة ، والزهري : يؤمر الغلام بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله ، وبالصوم إذا أطاقه . وعن عروة بن الزبير : يؤمرون بالصلاة إذا عقلوها ، وبالصوم إذا أطاقوه قال علي : لا حجة في أحد دون رسول الله . وعن سعيد بن المسيب : الصلاة على الجارية إذا حاضت ، وعلى الغلام إذا احتلم .

806 - مسألة : ويجب على من وجد التمر أن يفطر عليه فإن لم يجد فعلى الماء وإلا فهو عاص لله تعالى إن قامت عليه الحجة فعند ولا يبطل صومه بذلك ؛ لأن صومه قد تم وصار في غير صيام ؛ وكذلك لو أفطر على خمر ، أو لحم خنزير ، أو زنى ؛ فصومه تام وهو عاص لله تعالى . نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد نا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي قال : { إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة ، فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور } : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا أحمد بن حنبل نا عبد الرزاق نا جعفر بن سليمان الضبعي نا ثابت البناني أنه سمع أنس بن مالك يقول : { كان النبي  : يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ؛ فإن لم يكن حسا حسوات من ماء } . وقد قال قوم : ليس هذا فرضا ؛ لأنه عليه السلام قد أفطر في طريق خيبر على السويق ؟ فقلنا وما دليلكم على أنه لم يكن أفطر بعد على تمر ، أو أنه كان معه تمر ؟ والسويق المجدوح بالماء ، فالماء فيه ظاهر ، فهو فطر على الماء . وأيضا فالفطر على كل مباح موافق للحالة المعهودة ، والأمر بالفطر على التمر - فإن لم يكن فعلى الماء - أمر وارد يجب فرضا ؛ وهو رافع للحالة الأولى بلا شك ، وادعى قوم الإجماع على غير هذا - وقد كذب من ادعى الإجماع وهو لا يقدر على أن يحصي في هذا أقوال عشرة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ؛ وذكروا إفطار عمر رضي الله عنه بحضرة الصحابة على اللبن - : قال أبو محمد : إن كان هذا إجماعا أو حجة فقد خالفوه وأوجبوا القضاء بخلاف قول عمر في ذلك ، فقد اعترفوا على أنفسهم خلاف الإجماع ، وأما نحن فليس هذا عندنا إجماعا ، ولا يكون إجماعا إلا ما لا شك في أن كل مسلم يقول به ؛ فإن لم يقله فهو كافر : كالصلوات الخمس ، والحج إلى مكة ، وصوم رمضان ؛ ونحو ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

807 - مسألة : ويستحب فعل الخير في رمضان : حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا سليمان بن داود هو المهري - عن ابن وهب أخبرني يونس هو ابن يزيد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس كان يقول : { كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان } وذكر باقي الحديث . قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }

808 - مسألة : ومن دعي إلى طعام - وهو صائم - فليجب ؛ فإذا أتاهم فليدع لهم وليقل : إني صائم . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا عبد الله بن سعيد نا أبو خالد هو الأحمر - عن هشام هو ابن حسان - عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله  : { إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن كان مفطرا فليطعم ، وإن كان صائما فليصل } . قال هشام : والصلاة الدعاء . وبه إلى أبي داود نا مسدد نا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله  : { إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل : إني صائم } . قال أبو محمد : فعليه أن يجمع بين الأمرين جميعا . وروينا أن ابن عمر كان إذا دعي إلى طعام وهو صائم أتاهم فدعا لهم ثم انصرف . ومن طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني قال : دعاني أنس إلى طعام فقلت : إني لا أطعم ؟ فقال : قل : إني صائم . ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين : أن أباه أولم بالمدينة سبعة أيام يدعو الناس فدعا أبي بن كعب وهو صائم فأجابه ودعا لهم ورجع .

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/كتاب الصيام

كتاب الصيام (مسألة 726 - 729) | كتاب الصيام (مسألة 730 - 734) | كتاب الصيام (مسألة 735 - 738) | كتاب الصيام (مسألة 739 - 752) | كتاب الصيام (مسألة 753) | كتاب الصيام (تتمة 1 مسألة 753) | كتاب الصيام (تتمة 2 مسألة 753) | كتاب الصيام ( مسألة 754 - 757) | كتاب الصيام (مسألة 758 - 761) | كتاب الصيام (مسألة 762) | كتاب الصيام (تتمة مسألة 762) | كتاب الصيام (مسألة 763 - 770) | كتاب الصيام (مسألة 771 - 774) | كتاب الصيام (مسألة 775 - 787) | كتاب الصيام (مسألة 788 - 796) | كتاب الصيام (مسألة 797 - 808) | كتاب الصيام (مسألة 809 - 810)