مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف
فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف
[عدل]إذا كان الله تعالى قد أمرنا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمرنا عند التنازع في شيء أن نرده إلى الله وإلى رسوله، وأمرنا بالاجتماع والائتلاف، ونهانا عن التفرق والاختلاف، وأمرنا أن نستغفر لمن سبقنا بالإيمان، وسمانا المسلمين، وأمرنا أن ندوم عليه إلى الممات. فهذه النصوص وما كان في معناها توجب علىنا الاجتماع في الدين؛ كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين، وولاة الأمور فينا هم خلفاء الرسول، قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون»، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أوفوا بيعة الأول فالأول، وأدوا لهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم»، وقال أيضا: «العلماء ورثة الأنبياء»، ورُوِي عنه أنه قال: «وَدِدْت أني قد رأيت خلفائي» قالوا: ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنتي يعلّمونها الناس»، فهؤلاء هم ولاة الأمر بعده وهم الأمراء والعلماء، وبذلك فسرها السلف ومن تبعهم من الأئمة؛ كالإمام أحمد وغيره، وهو ظاهر قد قررناه في غير هذا الموضع.
فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } 1، وقال تعالى: { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } 2، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } 3، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخري.
فالأول مثل ما يجب على قَوْمٍ الجهاد، وعلى قوم الزكاة، وعلى قوم تعلىم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان، وفي فروض الكفايات. ففروض الأعيان مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة في مكانه مع أهل بقعته، ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله، ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته، والحج إلى بيت الله من طريقه، ويجب عليه بر والديه وصلته ذوي رحمه، والإحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته، ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب، وتارة تتنوع بالقدرة والعجز، كتنوع صلاة المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف.
وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها؛ وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت ومكان، وعلى شخص أو طائفة، وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخري، كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفُتْيَا والقضاء، وغير ذلك.
وأما في الاستحباب فهو أبلغ؛ فإن كل تنوع يقع في الوجوب فإنه يقع مثله في المستحب، ويزداد المستحب بأن كل شخص إنما يستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى التي يقول الله فيها: «وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنوع تنوعًا عظيمًا، فأكثر الخلق يكون المستحب له ما ليس هو الأفضل مطلقًا؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك، فإنه قد يفسد عقله ودينه، أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر ولا يمكنه الصبر على حلاوة الغني، أو لا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه والصبر على حقوقها.
ولهذا قال النبي ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل: «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك»، وقال النبي ﷺ لأبي ذر لما سأله الإمارة: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأَمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مال يتيم». وروي عنه أنه قال للعباس عمه: «نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها»؛ ولهذا إذا قلنا: هذا العمل أفضل، فهذا قول مطلق.
ثم المفضول يكون أفضل في مكانه ويكون أفضل لمن لا يصلح له الأفضل، مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من الذكر بالنص والإجماع والاعتبار.
أما النص، فقوله ﷺ: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد ﷺ، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وقوله ﷺ: «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه»، وقوله عن الله: «من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»، وقوله: «ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه»، وقول الأعرابي له: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال: «قل: سبحان الله والحمد ﷺ ولا إله إلا الله والله أكبر».
وأما الإجماع على ذلك فقد حكاه طائفة، ولا عبرة بخلاف جهال المتعبدة.
وأما الاعتبار، فإن الصلاة تجب فيها القراءة، فإن عجز عنها انتقل إلى الذكر ولا يجزيه الذكر مع القدرة على القراءة، والمبدل منه أفضل من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدل.
وأيضا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبري كما تشترط للصلاة الطهارتان، والذكر لا يشترط له الكبري ولا الصغري، فعلم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر المطلق، ثم الذكر في الركوع والسجود أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن، وكذلك كثير من العباد قد ينتفع بالذكر في الابتداء ما لا ينتفع بالقراءة؛ إذ الذكر يعطيه إيمانًا والقرآن يعطيه العلم، وقد لا يفهمه، ويكون إلى الإيمان أحوج منه لكونه في الابتداء، والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق.
فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء؛ فإنهم متفقون على أن الله أمر كلا منهم بالدين الجامع، وأن نعبده بتلك الشرعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به؛ إما إيجابًا، وإما استحبابًا، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضًا.
هامش