كتاب الأم/كتاب الحدود/باب حد الذميين إذا زنوا
قال الله تبارك وتعالى لنبيه ﷺ في أهل الكتاب: {فإن جاءوك فاحكم بينهم} قرأ إلى: {بينهم بالقسط}.
[قال الشافعي]: رحمه الله ففي هذه الآية بيان - والله أعلم - أن الله تبارك وتعالى جعل لنبيه ﷺ الخيار في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم وجعل عليه إن حكم أن يحكم بينهم بالقسط، والقسط حكم الله تبارك وتعالى الذي أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام المحض الصادق أحدث الأخبار عهدا بالله تبارك وتعالى قال الله عز وجل: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.
[قال الشافعي]: وفي هذه الآية ما في التي قبلها من أمر الله تبارك وتعالى له بالحكم بما أنزل الله إليه [قال]: وسمعت من أرضى من أهل العلم يقول في قول الله تبارك وتعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} إن حكمت لا عزما أن تحكم.
[قال الشافعي]: وحكم رسول الله ﷺ في يهوديين زنيا رجمهما وهذا معنى قوله عز وجل: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} ومعنى قول الله تبارك وتعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} والدليل الواضح أن من حكم عليهم من أهل دين الله فإنما يحكم بينهم بحكم المسلمين فما حكمنا به على مسلم حكمنا به على من خالف الإسلام وحكم به عليهم ولهم.
[قال الشافعي]: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: (أن النبي ﷺ رجم يهوديين زنيا) قال عبد الله فرأيت الرجل يخبئ على المرأة يقيها الحجارة.
[قال الشافعي]: فأمر الله عز وجل نبيه ﷺ بالحكم بينهم بما أنزل الله بالقسط ثم حكم رسول الله ﷺ بينهم بالرجم وتلك سنة على الثيب المسلم إذا زنى ودلالة على أن ليس لمسلم حكم بينهم أبدا أن يحكم بينهم إلا بحكم الإسلام.
[قال الشافعي]: قال لي قائل إن قول الله تبارك وتعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ناسخ لقوله عز وجل: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فقلت له: الناسخ إنما يؤخذ بخبر عن النبي ﷺ أو عن بعض أصحابه لا مخالف له أو أمر أجمعت عليه عوام الفقهاء فهل معك من هذا واحد؟ قال: لا، فهل معك ما يبين أن الخيار غير منسوخ؟ قلت قد يحتمل قول الله عز وجل: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} " إن حكمت " وقد روى بعض أصحابك عن سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن قابوس بن مخارق أن محمد بن أبي بكر كتب إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مسلم زنى بذمية أن يحد المسلم وتدفع الذمية إلى أهل دينها.
[قال الشافعي]: فإذا كان هذا ثابتا عندك فهو يدلك على أن الإمام مخير في أن يحكم بينهم أو يترك الحكم عليهم ولو كان الحكم لازما للإمام في حال لزمه أن يحكم بينه في حد واحد حد فيه المسلم ولم تحد الذمية قال وكيف لم تحد الذمية من قبل أنها لم ترض حكمه وأنه مخير في أن يحكم فيها أو يدع الحكم؟ قال فما الحال التي يلزمه فيها أن يحكم لهم وعليهم؟ قلت إذا كانت بينهم وبين مسلم أو مستأمن تباعة فلا يجوز أن يحكم لمسلم ولا عليه إلا مسلم ولا يجوز أن يكون عقد بالمستأمن أمانا على ماله ودمه حتى يرجع أن يحكم عليه إلا مسلم قال فهذا زنا واحد قد رد فيه علي رضي الله عنه الذمية على أهل دينها قلنا: إنه لم يكن لها بالزنا على المسلم شيء تأخذه منه ولا للمسلم عليها شيء فيحكم لها وعليها وإنما كان حد فأخذه إن كان حديثكم ثابتا عنه من المسلم ورد الذمية إلى أهل دينها لما وصفنا من أنها لم ترض حكمه وأنه مخير في الحكم لها وعليها.
[قال الشافعي]: فقال وقد روى بجالة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب " فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة " فكيف لم تأخذوا به؟ فقلت له بجالة رجل مجهول ليس بالمشهور ولا يعرف أن جزء معاوية كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عاملا ونحن نسألك فإن قلت ما قلنا فلم تحتج بأمر قد علمت أنه لا حجة فيه؟ وإن قلت بل نصير إلى حديث بجالة فحديث بجالة موافق لنا؛ لأن عمر إنما حملهم إن كان على ما كان حاملا عليه المسلمين؛ لأن المحارم لا يحللن للمسلمين ولا ينبغي للمسلم الزمزمة وهذا يدل إن كان ثابتا على أنهم يحملون على ما يحمل عليه المسلمون فحملتهم على ما يحمل عليه المسلمون وتبعتهم كما تتبع المسلمين قال: لا قلت: فقد خالفت ما رويت عن عمر قال فإن قلت أتبعهم فيما رأيت أنه تبعهم فيه عمر؟ قلت ولم تتبعهم أنت فيه إلا أنه يحرم عليهم؟ قال: نعم، قلت: فكذلك تتبعهم في كل ما علمت أنهم مقيمون عليه مما يحرم عليهم قال فإن قلت أتبعهم في هذا الذي رويت أن عمر تبعهم فيه خاصة قال قلت فيلزمك أن تتبعهم في غيره إذا علمتهم مقيمين عليه وأن تستدل بأن عمر إنما يتبعهم في شيء بلغه أنهم مقيمون عليه مما يحرم عليهم أن يتبعهم في مثله وأعظم منه مما يحرم عليهم فيلزمك أن تعلم أن عمر صيرهم أن حكم عليهم إلى ما يحكم به على المسلمين فتعلم أن الله تبارك وتعالى أمر بالحكم بينهم بالقسط ثم حكم بينهم رسول الله ﷺ بالرجم وهي سنته التي سن بين المسلمين وقال ﷺ فيها: (لاقضين فيما بينكم بكتاب الله عز وجل) ثم زعمت عن عمر أنه حرم عليهم ما يحرم على المسلمين ثم زعمت عن علي رضي الله عنه أنه دفع نصرانية إلى أهل دينها فكل ما زعمنا وزعمت حجة لنا وكل ما زعمت تعرفه ولا نعرفه نحن حجة لنا، ولا يخالف قولنا وأنت تخالف ما تحتج به، قال منهم قائل: وكيف لا تحكم بينهم إذا جاءوك مجتمعين أو متفرقين؟ قلت أما متفرقين فإن الله عز وجل يقول: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فدل قول الله تبارك وتعالى: {فإن جاءوك} على أنهم مجتمعون ليس إن جاءك بعضهم دون بعض ودل على أن له الخيار إذا جاءوه في الحكم أو الإعراض عنهم وعلى أنه إن حكم فإنما يحكم بينهم حكمه بين المسلمين.
[قال الشافعي]: ولم أسمع أحدا من أهل العلم ببلدنا يخالف في أن اليهوديين اللذين رجم رسول الله ﷺ في الزنا كانا موادعين لا ذميين.
[قال الشافعي]: وقال لي بعض من يقول القول الذي أحكي خلافه: إنه ليس للإمام أن يحكم على موادعين وإن رضيا حكمه وهذا خلاف السنة ونحن نقول: إذا رضيا حكم الإمام فاختار الإمام الحكم حكم عليهما.
[قال الشافعي]: وقد كان أهل الكتاب مع رسول الله ﷺ بناحية المدينة موادعين زمانا وكان أهل الصلح والذمة معه بخيبر وفدك ووادي القرى ومكة ونجران واليمن يجري عليهم حكمه ﷺ ثم مع أبي بكر حياته ثم مع عمر صدرا من خلافته حتى أجلاهم عمر بما بلغه عن رسول الله ﷺ ثم في ولايته وحيث تجري أحكامه بالشام والعراق ومصر واليمن ثم مع عثمان بن عفان ثم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم نعلم أحدا ممن سمينا حكم بينهم في شيء ولو حكموا بينهم لحفظ بعض ذلك إن لم يحفظ كله.
[قال الشافعي]: وأهل الذمة بشر لا يشك بأنهم يتظالمون فيما بينهم ويختلفون ويتطالبون بالحقوق وأنهم يعقلون أو بعضهم ما لهم وما عليهم، وما نشك أن الطالب حريص على من يأخذ له حقه وأن المطلوب حريص على من يدفع عنه ما يطلب به وأن كلا قد يحب أن يحكم له من يأخذ له ويحكم عليه من يدفع عنه وأن قد يرجو كل في حكام المسلمين، والعلم يحكمهم أو الجهالة به ما لا يرجو في حاكمه وأن لو كان على حكام المسلمين الحكم بينهم إذا جاءهم بعض دون بعض وإذا جاءوهم مستجمعين لجاءوهم في بعض الحالات مستجمعين.
[قال الشافعي]: ولا نعلم أحدا من أهل العلم روى عن رسول الله ﷺ الحكم بينهم إلا في الموادعين اللذين رجم ولا عن أحد من أصحابه بعده إلا ما روى بجالة مما يوافق حكم الإسلام وسماك بن حرب عن علي رضي الله عنه مما يوافق قولنا في أنه ليس على الإمام أن يحكم إلا أن يشاء.
[قال الشافعي]: وهاتان الروايتان - وإن لم تخالفانا - غير معروفتين عندنا ونحن نرجو أن لا نكون ممن تدعوه الحجة على من خالفه إلى قبول خبر من لا يثبت خبره معرفته عنده.
[قال الشافعي]: فقال لي بعض الناس: فإنك إذا أبيت الحكم بينهم رجعوا إلى حكامهم فحكموا بينهم بغير الحق عندك.
[قال الشافعي]: فقلت له: وأنا إذا أبيت الحكم فحكم حاكمهم بينهم بغير الحق ولم أكن أنا حاكما فما أنا من حكم حكامهم أترى تركي أن أحكم بينهم في درهم لو تظالموا فيه وقد أعلمتك ما جعل الله لنبيه ﷺ من الخيار في الحكم بينهم أو الترك لهم وما أوجدتك من الدلائل على أن الخيار ثابت بأن لم يحكم رسول الله ﷺ ولا من جاء بعده من أئمة الهدى أو ترى تركي الحكم بينهم أعظم أم تركهم على الشرك بالله تبارك وتعالى؟ فإن قلت فقد أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم وقد علم أنهم مقيمون على الشرك به معونة لأهل دينه فإقرارهم على ما هو أقل من الشرك أحرى أن لا يعرض في نفسك منه شيء إذا أقررناهم على أعظم الأمور فأصغرها أقل من أعظمها.
[قال الشافعي]: فقال لي قائل فإن امتنعوا أن يأتوا حكامهم قلت أخيرهم بين أن يرجعوا إليهم أو يفسخوا الذمة، قال فإذا خيرتهم فرجعوا وأنت تعلم أنهم يحكمون بينهم بالباطل عندك فأراك قد شركتهم في حكمهم.
[قال الشافعي]: فقلت له لست شريكهم في حكمهم وإنما وفيت لهم بذمتهم، وذمتهم أن يأمنوا في بلاد المسلمين لا يجبرون على غير دينهم ولم يزالوا يتحاكمون إلى حكامهم برضاهم فإذا امتنعوا من حكامهم قلت لهم لم تعطوا الأمان على الامتناع والظلم فاختاروا أن تفسخوا الذمة أو ترجعوا إلى من لم يزل يعلم أنه كان يحكم بينكم منذ كنتم فإن اختاروا فسخ الذمة فسخناها وإن لم يفعلوا ورجعوا إلى حكامهم فكذلك لم يزالوا لا يمنعهم منه إمام قبلنا ورجوعهم إليهم شيء رضوا به لم نشركهم نحن فيه.
[قال الشافعي]: ولو رددناهم إلى حكامهم لم يكن ردنا لهم مما يشركهم ولكنه منع لهم من الامتناع [قال]: وقلت لبعض من يقول هذا القول أرأيت لو أغار عليهم العدو فسبوهم فمنعوهم من الشرك وشرب الخمر وأكل الخنزير أكان علي أن أستنقذهم إن قويت لذمتهم؟ قال: نعم قلت: فإن قال قائل إذا استنقذتهم ورجعوا آمنين أشركوا وشربوا الخمر وأكلوا الخنزير فلا تستنقذهم فتشركهم في ذلك ما الحجة؟ قال الحجة أن نقول أستنقذهم لذمتهم قلت: فإن قال في أي ذمتهم وجدت أن تستنقذهم؟ هل تجد بذلك خبرا؟ قال لا ولكن معقول إذا تركتهم آمنين في بلاد المسلمين أن عليك الدفع عمن في بلاد المسلمين قلت فإن قلت أدفع عما في بلاد المسلمين للمسلمين فأما لغيرهم فلا قال إذا جعلت لغيرهم الأمان فيها كان عليك الدفع عنهم قلت وحالهم حال المسلمين؟ قال لا، قلت فكيف جعلت على الدفع عنهم وحالهم مخالفة حال المسلمين، هم وإن استووا في أن لهم المقام بدار المسلمين مختلفون فيما يلزم لهم المسلمين؟
[قال الشافعي]: وإن جاز لنا القتال عنهم ونحن نعلم ما هم عليه من الشرك واستنقاذهم لو أسروا فردهم إلى حكامهم وإن حكموا بما لا نرى أخف وأولى أن يكون لنا - والله أعلم -.
[قال الشافعي]: فقال لي بعض الناس: أرأيت إن أجزت الحكم بينهم كيف تحكم؟ قلت: إذا اجتمعوا على الرضا بي فأحب إلي أن لا أحكم لما وصفت لك ولأن ذلك لو كان فضلا حكم به من كان قبلي فإن رضيت بأنه مباح لي لم أحكم حتى أعلمهم أني إنما أجيز بينهم ما يجوز بين المسلمين وأرد بينهم ما يرد بين المسلمين وأعلمهم أني لا أجيز بينهم إلا شهادة الأحرار المسلمين العدول فإن رضوا بهذا فرأيت أن أحكم بينهم حكمت وإن لم يرضوا معا لم أحكم وإن حكمت فبهذا أحكم قال: وما حجتك في أن لا تجيز شهادتهم بينهم؟ قلت قول الله تبارك وتعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} إلى قوله: {ممن ترضون من الشهداء} وقول الله عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ففي هاتين الآيتين - والله أعلم - دلالة على أن الله عز وجل إنما عنى المسلمين دون غيرهم ولم أر المسلمين اختلفوا في أنها على الأحرار العدول من المسلمين خاصة دون المماليك العدول، والأحرار غير العدول وإذا زعم المسلمون أنها على الأحرار المسلمين العدول دون المماليك، فالمماليك العدول والمسلمون الأحرار وإن لم يكونوا عدولا فهم خير من المشركين كيفما كان المشركون في ديانتهم فكيف أجيز شهادة الذي هو شر وأرد شهادة الذي هو خير بلا كتاب ولا سنة ولا أثر ولا أمر اجتمعت عليه عوام الفقهاء؟
[قال الشافعي]: ومن أجاز شهادة أهل الذمة فأعدلهم عنده أعظمهم بالله شركا أسجدهم للصليب وألزمهم للكنيسة فقال قائل: فإن الله عز وجل يقول حين الوصية: {اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم}.
[قال الشافعي]: - والله أعلم - بمعنى ما أراد من هذا وإنما يفسر ما احتمل الوجوه ما دلت عليه سنة أو أثر عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ لا مخالف له أو أمر اجتمعت عليه عوام الفقهاء فقد سمعت من يتأول هذه الآية على من غير قبيلتكم من المسلمين ويحتج فيها بقول الله عز وجل: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم} إلى: {الآثمين} فيقول الصلاة للمسلمين والمسلمون يتأثمون من كتمان الشهادة لله فأما المشركون فلا صلاة لهم قائمة ولا يتأثمون من كتمان الشهادة للمسلمين ولا عليهم.
[قال الشافعي]: وسمعت من يذكر أنها منسوخة بقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} - والله أعلم - ورأيت مفتي أهل دار الهجرة والسنة يفتون أن لا تجوز شهادة غير المسلمين العدول.
[قال الشافعي]: وذلك قولي.
[قال الشافعي]: وقلت لمن يخالفنا في هذا فيجيز شهادة أهل الذمة ما حجتك في إجازتها؟ فاحتج بقول الله عز وجل: {أو آخران من غيركم} قلت له إنما ذكر الله جل ثناؤه هذه الآية في وصية مسلم في السفر أفتجيزها في وصية مسلم بالسفر قال: لا قلت: أو تحلفهم إذا شهدوا؟ قال: لا قلت: ولم وقد تأولت أنها في وصية مسلم؟ قال: لأنها منسوخة قلت فإن نسخت فيما أنزلت فيه فلم تثبتها فيما لم تنزل فيه؟ فقال لي بعض الناس: فإنما أجزنا شهادتهم للرفق بهم ولئلا تبطل حقوقهم.
[قال الشافعي]: وقلت له: كيف يجوز أن تطلب الرفق بهم فتخالف حكم الله عز وجل في أن الشهود الذين أمروا أن يقبلوا هم المسلمون؟
[قال الشافعي]: وقلت له: المذهب الذي ذهبت إليه خطأ من وجوه: منها أنه خلاف ما زعمت أنه حكم الله عز وجل من أن الشهادة التي يحكم بها شهادة الأحرار المسلمين وأنا لم نجد أحدا من أئمة المسلمين يلزم قوله أجاز شهادتهم ثم خطأ في قولك طلب الرفق بهم. [قال]: وكيف قلت؟ أرأيت عبيدا عدولا مجتمعين في موضع صناعة أو تجارة شهد بعضهم لبعض بشيء؟ قال: لا تجوز شهادتهم، قلت: إنهم في موضع لا يخلطهم فيه غيرهم قال وإن قلت فإن كانوا في سجن قال وإن قلت فأهل السجن والبدو الصيادون إن كانوا أحرارا غير معدلين ولا يخلطهم غيرهم شهد بعضهم لبعض؟ قال: لا تجوز شهادتهم. قلت فإن قالوا لك: لا يخلطنا غيرنا وإن أبطلت شهادتنا ذهبت دماؤنا وأموالنا قال وإن ذهبت فأنا لم أذهبها قلت فإن قالوا فاطلب الرفق بنا بإجازة شهادة بعضنا لبعض؟ قال لا أطلب الرفق لكم بخلاف حكم الله عز وجل فإن قالوا لك وما حكم الله؟ تعالى قال الأحرار العدول المسلمون قلت فالعبيد العدول الذين يعتق أحدهم الساعة فتجيز شهادته أقرب من العدول في كتاب الله أم الذمي الذي يسلم فتجيز إسلامه قبل إجازة شهادته؟ قال بل العبد العدل قلت فلم رددت الأقرب من شرط الله جل ذكره وأجزت الأبعد منه لو كان أحدهما جائزا جاز العبد ولم يجز الذمي أو الحر غير العدل ولم يجز الذمي وما من المسلمين أحد إلا خير من أهل الذمة وكيف يجوز أن ترد شهادة مسلم بأن تعرفه يكذب على بعض الآدميين وتجيز شهادة ذمي وهو يكذب على الله تبارك وتعالى؟
[قال الشافعي]: فقال قائل فإن شريحا أجاز شهادتهم فيما بينهم فقلت له أرأيت شريحا لو قال قولا لا مخالف له فيه مثله ولا كتاب فيه أيكون قوله حجة؟ قال لا: قلت: فكيف تحتج به على الكتاب وعلى المخالفين له من أهل دار الهجرة والسنة؟
[قال الشافعي]: فإن احتج من يجيز شهادتهم بقول الله عز وجل: {أو آخران من غيركم} فقال من غير أهل دينكم فكيف لم تجزها فيما ذكرت فيه من الوصية على المسلمين في السفر كيف لم تجزها من جميع المشركين وهم غير أهل إسلام؟ أرأيت لو قال قائل إذا كان غير أهل الإسلام هم المشركون فجاز لك أن تجيز شهادة بعضهم دون بعض بلا خبر يلزم فأنا أجيز شهادة أهل الأوثان.؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب نبذوه وبدلوه إنما ضلوا بأنهم وجدوا آباءهم على شيء فلزموه وأرد شهادة أهل الكتاب الذين أخبرنا الله عز وجل أنهم قد بدلوا ما الحجة عليهم؟ فإن قال في أهل الكتاب من يصدق ويؤدي الأمانة ففي أهل الأوثان من يصدق ويؤدي الأمانة ويعف.
[قال الشافعي]: ما علمت من خالفنا في الحكم بين أهل الكتاب إلا ترك فيه التنزيل والسنة لما روى فيه من الأثر والقياس عليه وما يعرفه أهل العلم ثم لم يمتنع أن جهل وخطأ من علم.
[قال الشافعي]: وقال لي منهم قائل فإذا حكمت بينهم أبطلت النكاح بلا ولي ولا شهود وهو جائز بينهم؟ قلت: نعم قال: وتبطل بينهم ثمن الخمر والخنزير؟ قلت: نعم قال: وإن قتله بعضهم لبعض أو غيرهم لهم لم تقض عليه بثمنه؟ قلت: نعم قال فهي أموالهم أنت تقرهم يتمولونها. قال فقلت له إن إقرارهم يتمولونها لا يوجب علي أن أحكم لهم بها. قال: وكيف لا يجب عليك أن تحكم لهم بما تقرهم عليه قلت له: أما أقرهم على الشرك وأقر عليه أبناءهم ورقيقهم؟ قال: بلى، قلت: فلو أسلم بعض رقيقهم وحكمت عليه بالخروج من ملكه ألست أحمده على الإسلام وأجبر السيد على بيعه ولا أدعه يسترقه ولا أعيده إلى الشرك؟ قال بلى قلت: أفلست أقررته على شيء ثم لم أحكم له بما أقررته عليه وقد كان في حال مقرا عليه؟ قال: بلى قلت: أو ما أقره على حكم حكامه وأنا أعلم أنهم يحكمون بغير الحق؟ قال بلى قلت ومن حكم بعضهم أن من سرق شيئا لرجل كان السارق عبدا للمسروق فأقرهم على ذلك إذا رضوه أفرأيت لو ترافعوا إلي الحكم بأن السارق عبد للمسروق قال: لا قلت: ومن حكم بعضهم أن ليس لرجل أن ينكح إلا امرأة واحدة لا يطلقها. ومن حكم بعضهم أن ليس للمرأة أن تنكح إلا رجلا واحدا أفرأيت لو ترافعوا إلي ألزمتهم ذلك؟ قال: لا قلت فأراك تقرهم على أشياء من أحكامهم إذا صاروا إليك لم تحكم لهم بها وحكمت عليهم حكم الإسلام.
[قال الشافعي]: وقلت لبعضهم: أرأيت إذا تحاكموا إليك وقد أربى بعضهم على بعض وذلك جائز عندهم؟ قال أرد الربا قلت فإن تحاكموا إليك وقد نكح الرجل محرمه في كتاب الله قال أرد النكاح قلت: فإن تحاكم إليك مجوسيان وقد أحرق أحدهما لصاحبه غنما قد اشتراها بين يديك بمائة ألف وأربح فيها مائة ألف على أن يقذها لهم فوقذها كلها وتلك عنده ذكاتها فأحرقها أحدهم أو مسلم فقال قد أحرق هذا مالي الذي ابتعته بين يديك وأربحت فيه بمحضرك بمثل ما ابتعته به وهو مائة ألف؟ قال لا يغرم شيئا قال ولم؟ هذا مالي تقرني عليه مذ كنت وتجارتي أحرقها؟ قال هذا حرام. قلت: فإن قال لك أرأيت الخمر والخنزير أحلال هما؟ قال: لا قلت فإن قال فلم أجزت بيعهما عندك وحكمت على من استهلكهما بثمنهما إن كانا يتمولان وتقرهم على تمولهما وهما حرام ولم تحكم لي بثمن الميتة وهي تمول وقد كانت حلالا قبل قتلها عندك وجلدها حلال إذا دبغته؟ وإن كانت الميتة والخنزير لم تكن حلالا قط عندك ولا يكون الخنزير حلالا بحال أبدا.
[قال الشافعي]: فقال لي بعضهم قولنا هذا مدخول غير مستقيم فما حجتك في قولك؟ فوصفت له كتاب الله تبارك وتعالى أن نحكم بينهم بحكمه الذي أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم حكم رسول الله ﷺ الذي حكم به بين المسلمين في الرجم.
[قال الشافعي]: وقلت له: أخبرنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه ﷺ أحدث الأخبار تقرءونه محضا لم يشب ألم يخبركم الله عز وجل في كتابه أنهم حرفوا كتاب الله تبارك اسمه وبدلوا وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: {هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم عن مسألتهم؟ والله ما رأينا أحدا منهم يسألكم عما أنزل الله إليكم وقلت له: أمرنا الله عز وجل بالحكم بينهم بكتاب الله المنزل على نبيه ﷺ وأخبر أنهم قد بدلوا كتابه الذي أنزل وكتبوا الكتاب بأيديهم فقالوا: {هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}.
[قال الشافعي]: وقلت له ترك أصحابك ما وصفنا من حكم الله عز وجل ثم حكم رسوله ﷺ فإذا قيل لهم لم أقمتم الحدود على المعاهدين وإن لم يكونوا يرونها في دينهم وأبطلتم الحدود في قذف بعضهم بعضا وإن كانوا يرونها بينهم؟ قالوا بأن حكم الله تبارك وتعالى على خلقه واحد وبذلك أبطلنا الزنا بينهم ونكاح الرجل حريمه في كتاب الله عز وجل وإن كان ذلك جائزا بينهم. فإذا قيل لهم فحكم الله عز وجل يدل على أن تحكم بينهم حكمنا في الإسلام قالوا: نعم فإذا قيل فلم أجزتم بينهم ثمن الخنزير وغرمتم ثمنه وليس من حكم الإسلام أن يجوز ثمن الحرام؟ قالوا هي أموالهم وقد أبطلوا أموالهم بينهم.
[قال الشافعي]: فرجع بعضهم إلى قولنا وقال هذا قول مستقيم على كتاب الله عز وجل ثم سنة نبي الله ﷺ لا يختلف وأقام بعضهم على قولهم مع ما وصفت لك من تناقضه وسكت عن بعض للاكتفاء بما وصفت لك مما لم أصف.