رسالة السجزي إلى أهل زبيد/الفصل العاشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل العاشر: في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه

لما زعم عوام مخالفينا أنهم موافقون للأئمة متبعون لهم احتجنا أن نشير إلى أمر الأئمة وإلى معنى الإمامة في العلم ليعلم من المستحق منهم للاتباع ومن الواجب هجرانه.

اعلموا أرشدنا الله وإياكم أن الإمامة هي التقدم في معنى بالناس إلى معرفته حاجة أو قضي عليهم ( خوض ) فيه وارتكابه وإن كان بهم عنه غنى

فأئمة قد أثنى الله عليهم خيراُ قال: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون } وقال تعالى { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }

وأئمة قد أثنى الله عليهم شرا فقال: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } إلى آخر الآية وقال { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين }

فلما علم أن الأئمة على ضربين أئمة حق ممدوحين وأئمة ضلال ( مذمومين ) احتجنا إلى أن نبين أحوال الضربين ليتبع المحق ويهجر المبطل.

فأئمة الحق هم المتعبون لكتاب ربهم سبحانه وتعالى المقتفون سنة نبيهم المتمسكون بآثار سلفهم الذين أمروا بالاقتداء بهم.

وعلومهم التي صاروا بمعرفتها وجمعها والتقدم فيها أئمة / لغيرهم القرآن ومعرفة ( قراءاته ) وناسخة ومنسوخة وأحكامه وفيمن نزل والعلم بمحكمه ومتشابهه والأخذ بالآيات المحكمات منه والإيمان بالمتشابه.

ثم الحديث وتبيين صحيحه من سقيمه وناسخه من منسوخه ومتواتره من آحاده ومشهوره من غريبه وما تلقته الأمة منه بالقبول وما تركوا العمل به وما يجب اعتقاد ما فيه ومعرفة علله وأحوال رواته.آه

ثم الفقه الذي مدار الشريعة على ضبطه وهو مستنبط من الكتاب والحديث وطلبه فرض وأحكام أصوله التي شرحها متقدموا الفقهاء دون ما أحدثه المتكلمون منها ومزجوه ببدعهم ورضي به بعض المتأخرين.

وما يستقيم لكم تحصيل هذه العلوم إلا بأن يشرع في أخذ لغة العرب قبل ذلك ليعلم معنى ما يرد عليه ( في ) القرآن والحديث والفقه.

ولا بد له من تعلم شيء من النحو الذي به يوزن كلام العرب ويعرف صحيحه من فاسده. فإذا تقدم واحد في هذه العلوم وكان أخذه إياها ممن علم تقدمه فيها وكونه متبعا ( للسلف ) مجانبا للبدع حكم بإمامته واستحق أن يؤخذ عنه ويرجع إليه ويعتمد عليه.

ثم يلزمه في الأداء التحفظ من الزلل والتحرز من الإحداث والتوقي عن مجاوزة ما أحاط به علمه وقبول ما يتجه له من الصواب وإن أتاه ذلك ممن هو دونه والتواضع لله سبحانه الذي من عليه بما علمه والرفق واللين لم يتعلم منه والجري على طريقة من تقدم من العلماء في التورع والتخوف من العثرة والعلم بأنه ليس بمعصوم وأن الذي صار إليه من العلم يسير ( وإن حرمه خلق الله الكثير ).

واللذين كانوا على هذا المنهاج بعد الصحابة الذين فازوا بالسبق والسؤدد وظفروا بالحظ الأوفر من كل خير واشتركوا في الإمامة والعدالة وكان بينهم تفاضل وتقارب رضي الله عنهم هم التابعون لهم بإحسان وهم خلق كثير لم يخالفوا طريقة الصحابة ولم يحدثوا في الدين حدثا.

فبالمدينة من أعلامهم سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير بن العوام وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخارجة بن زيد بن ثابت وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج.

وبمكة: طاووس بن كيسان الصنعاني وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير ومجاهد بن جبر.

وبالعراق الحسن ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله الشخير وجابر بن زيد أبو الشعثاء وعامر بن ( شراحيل ) الشعبي وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد.

وبالشام جنادة بن أبي أمية ورجاء بن حيوة وعبد الله بن محيريز وحسان بن عطية.

وفي كل ناحية قوم مشهورون.

ثم من بعدهم من تأخر عنهم ولحق متأخري الصحابة موتا وأخذوا عن كبار التابعين بعدهم.

كالزهري بالمدينة وعمرو بن دينار بمكة.

وإبراهيم بن يزيد النخعي بالكوفة وأيوب السختياني بالبصرة ومكحول بالشام خير بن نعيم بمصر ومعاوية بن صالح بالأندلس.

وفي وقتهم دبت البدع وقرف آخرون بشيء منها ولم يصح ذلك ثم عمر الله البلاد بالفقه والحديث فظهر بالمدينة مالك بن أنس وابن أبي ذئب وبمكة ابن جريج وسفيان بن عيينة.

وبالشام أبو عمرو الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز.

وبمصر الليث بن سعد وعمرو بن الحارث

وبالكوفة سفيان بن سعيد الثوري وبالبصرة حماد بن زيد بن درهم الأزدي وبخراسان عبد الله بن المبارك.

وكانوا أئمة في العلم مشاهير بالاتباع والأخذ عن أمثالهم وكان في وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، وأتباع على مذهبهم لكنهم وقعوا في شيء من البدع إما القدر وإما التشيع أو الإرجاء عرفوا بذلك فانحطت منزلتهم عند أهل الحق

وظهر بعد ذلك: أبو عبد الله بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك وكثرت العصبية واضطربت الأمور وصعب على ناس كثير ظهور مذهب الشافعي لقيامه بالفقه والحديث واللغة وشرفه في النسب وكونه مقبولا عند المتبعين من أهل عصره.

ثم ظهر الكلام وأهله وانتشرت كتب الفلاسفة وأهل الزيغ في أيدي الناس وكثرت المذاهب في الأصول.

فأيد الله سبحانه بمنه أبا عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله حتى قام بإظهار المنهاج الأول وكان جامعا قد تقدم في الفقه فنظر في مذهب أبي حنيفة وسفيان أولا ثم نظر في مذهب مالك ثم نظر في مذهب الشافعي واختار لنفسه ما وجده في الحديث وكان في معرفته مبرزا وكان شديد الورع ومتمسكا بآثار السلف ومتمكنا من العقل والحلم فنشر ما كان عليه السلف وثبت في المحنة ولم يأت من عنده بشيء ولم يعول إلا على السنن الثابتة.

وإنما عرف المذهب به لتفرده بالقيام في وقته وسكوت أترابه عن ذلك إما لخوف البعض أو عرفان من آخرين ( بأنه ) أولاهم بما قام به لتقدمه عليهم في خصال الخير.

واليوم فمن عرف منه لزوم المنهاج وظهر تقدمه في العلوم التي ذكرناها فهو إمام مقتدى به.

ومن زاغ عن الطريقة وفاوض أهل البدع والكلام وجانب الحديث وأهله استحق الهجران والترك وإن كان متقدما في تلك العلوم.

وأما أئمة الضلالة فالمشركون والمدون الربوبية والمنافقون ثم كل من أحدث في الإسلام حدثا وأسس بخلاف الحديث طريقا ورد أمر المعتقدات إلى العقليات ولم يعرف شيوخه باتباع الآثار ولم يأخذ السنة عن أهلها ( أو أخذ ) ( عنهم ) ثم خالفهم.

وهم فرق والأصول أربعة: القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج ثم تشعبت المذاهب من هذه الأربعة والكل ضلال.

فكل من رد الأمر إلى نفسه وادعى قدرته على ما يريد وزعم أن الله سبحانه لم يقدر المعاصي ولم يكتبها ولم يردها فهو قدري.

وكل من زعم أن الإيمان قول مفرد أو قول ومعرفة أو قول تصديق أو معرفة مجردة أو تصديق مفرد أو أنه لا يزيد ولا ينقص فهو مرجئ وبعضهم جهمي.

وكل من يبغض أبا بكر وعمر ( وعثمان ) رضي الله عنهم أو واحدا منهم وأنكر إمامته وفضله فهو رافضي.

وكل من تنقص عثمان أو عليا وعائشة ومعاوية وأبا موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهم فهو خارجي.

ومن تنقص بعضهم ولم يتنقص عثمان وعليا فهو ضال على أي مذهب كان وقد روي عن النبي أنه قال: " لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا " 1

وروي عنه في الروافض أنهم مشركون 2

وروي عنه في الخوارج أنهم كلاب النار

وروي عنه أنه قال: من أحدث حدثا في ديننا فهو رد عليه

وروي عنه عليه الصلاة والسلام " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

فالمتبع للأثر يجب تقدمه وإكرامه وإن كان صغير السن غير نسيب والمخالف له يلزم اجتنابه وإن كان مسنا شريفا.

والذين بلي كثير من أهل العلم بهم: المعتزلة وهم أعداء الأثر وأهله و(كبرائهم) أبو الهذيل العلاف وجعفر بن مبشر والنظام والجاحظ وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وأبو القاسم الكعبي البلخي.

وقبل هؤلاء: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء.

وبعدهم أبو عبد الله البصري وأبو القاسم الواسطي وبعدهما الصاحب إسماعيل بن عباد وعبد الجبار الأسد أبادي كل هؤلاء دعاة إلى الضلالة.

ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع وضررهم أكثر من ضرر ( المعتزلة ) وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري.

وبعدهم محمد بن أبي تريد بسجستان وأبو عبد الله بن مجاهد بالبصرة.

وفي وقتنا: أبو بكر بن الباقلاني ببغداد وأبو إسحاق الإسفراييني وأبو بكر بن فورك بخراسان فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة.

وظهر بعد هؤلاء: الكرامية والسالمية فأتوا بمنكرات من القول.

وكلهم أئمة ضلالة يدعون الناس إلى مخالفة السنة وترك الحديث وإذا خاطبهم من له هيبة وحشمة من أهل الاتباع قالوا: الاعتقاد ما تقولونه وإنما نتعلم الكلام لمناظرة الخصوم. والذي يقولونه ( كذب ) وإنما يستترون بهذا لئلا يشنع عليهم أصحاب الحديث.

فمن أنكر قولي فليأت بحديث موافق لما قالوه ولا يجد إلى ذلك والحمد لله سبيلا وقد ثبت عن النبي أنه قال: "أخاف على أمتي الأئمة المضلين "

ثم قد دخل في مذاهبهم خلق كثير ( ممن ) يتظاهر بالفقه والحديث فمنهم من أظهر ذلك وعرف به ومنهم المنكر أنه منهم في الظاهر وهو يعضدهم في الباطن ويثني عليهم في الباطن يرضى لنفسه بالكذب والنفاق.

ويتعلق قوم من المغاربة علينا بأن أبا محمد بن أبي زيد وأبا الحسن ( القابسي ) قالا: إن الأشعري إمام وإذا بان صحة حكايتهم عن هذين فلا ( يخلو ) حالهما من أحد وجهين: أن يدعى أنهما كانا على مذهبه فلا يحكم بقولهما بإمامته وإن كانت لهم منزلة كبيرة كما لم يحكم بما يقول ابن الباقلاني وأشكاله.

وهذه رسالة أبي محمد بن أبي زيد في الفقه ورسالة لأبي الحسن القابسي في الاعتقاد موجودتان.

فأبو محمد قال في رسالته: "إن الله فوق عرشه بائن من خلقه "

وعند الأشعري أن اعتقاد هذا كفر وعندنا أن أبا محمد محق فيما قال والسنة معه فيه.

ولأبي محمد كتاب ( إنكار ) الكلام والجدل والحث على الأثر واتباع السلف.

وأبو الحسن القابسي ذكر في كتابه: " إن الاعتماد على السمع وإن الكلام والجدال مذموم وذكر فيه "إن لله يدين كما يقول أهل الأثر"

وعند بعض أصحاب الأشعري أن لله يد واحدة ومن قال إن له يدي صفة ذاتية فهو زائغ.

فبان بما ذكرنا أن هذين الشيخين رحمهما الله ( إن ) قالا ما يحكى عنهما من إمامة الأشعري فإنما قالاه لحسن ظنهما به لتظاهره بالرد على المعتزلة والروافض ولم يخبرا مذهبه ولو خبراه لما قالاه والله أعلم.

وإذا جاز لأبي محمد أن يخالفه في كرامات الأولياء وفي معنى الاستواء وغير ذلك وجاز لأبي محمد مخالفته والقول بما نطق به الكتاب وثبت به الأثر فهو غير قائل بإمامته في السنة. وبالله التوفيق.

هامش

  1. [ ضعيف قاله الألباني ]
  2. [ أسانيده ضعيفة ]
رسالة السجزي إلى أهل زبيد لأبي نصر السجزي
المقدمة | الفصل الأول في إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة في التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب | الفصل الثاني في (بيان ما هي السنة وبم يصير المرء من أهلها) | الفصل الثالث في التدليل على أن مقالة الكلابية وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلا وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ورفع أحكام الشريعة | الفصل الرابع في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الخامس بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل السادس في إيراد الحجة على أن الكلام لن يعرى عن حرف وصوت البتة وأن ما عري عنهما لم يكن كلاما في الحقيقة وإن سمي في وقت بذلك تجوزا واتساعا وتحقيق جواز وجود الحرف والصوت من غير آلة وأداة وهواء منخرق وبيان قول السلف وإفصاحهم بذكر الحرف والصوت أو ما دل عليهما | الفصل السابع بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل الثامن في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات | الفصل التاسع في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم | الفصل العاشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الحادي عشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه