رسالة السجزي إلى أهل زبيد/الفصل الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الثالث: في التدليل على أن مقالة الكلابية وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلا وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ورفع أحكام الشريعة

لا خلاف بين المسلمين أجمع في أن القرآن كلام الله عزوجل وأنه الكتاب المنزل بلسان عربي مبين الذي له أول وآخر وهو ذو أجزاء وأبعاض وأنه شئ ينقري ويتأتى أداؤه وتلاوته.

ثم اختلفوا بعد هذه الجملة فقال أهل الحق: هو غير مخلوق، لأنه صفة من صفات ذاته، وهو المتكلم به على الحقيقة، وهو موصوف بالكلام فيما لم يزل.

وقال بعض أهل الزيغ: هو مخلوق أحدثه في غيره وأضافه إلى نفسه وقال آخرون منهم هو كلامه ولا نزيد عليه ولا نقول: إنه مخلوق أو غير مخلوق.

واتفق المنتمون إلى السنة بأجمعهم على أنه غير مخلوق وأن القائل بخلقه كافر فأكثرهم قال: إن كافر كفرا ينقل عن الملة ومنه من قال: هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة.

والصحيح الأول، لأن من قال إنه مخلوق صار منكرا لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير.

وقال أبو محمد بن كلاب ومن وافقه، والأشعري وغيرهم: ( القرآن غير مخلوق ومن قال بخلقه كافر إلا أن الله لا يتكلم بالعربية، ولا بغيرها من اللغات ولا يدخل كلامه النظم، والتأليف والتعاقب ولا يكون حرفا ولا صوتا ).

فقد بان بما قالوه أن القرآن الذي نفوا الخلق عنه ليس بعربي، وليس له أول ولا آخر.

ومنكر القرآن العربي وأنه كلام الله كافر بإجماع الفقهاء ومثبت قرآن لا أول له ولا آخر كافر بإجماعهم، ومدعي قرآن لا لغة فيه جاهل غبي عند العرب لأن القرآن اسم لكتاب الله عزوجل العربي مختص به عند كثير من العلماء ولذلك لم يهمزه غير واحد من القراء والفقهاء وهو قول الشافعي رحمة الله عليه وقراءة ابن كثير وغيره وقالوا إذا قرأ القارئ قوله سبحانه: { وإذا قرأت القرءآن } همز قرأت لأنه مشتق من القراءة وعند بقية القراء والعلماء أن القرآن مهموز وهو اسم مشتق من قرأ قراءة وقرأنا أو من ضم بعضه إلى بعض والعقل غير موجب لتسمية صفة لله سبحانه قرءآنا بالاتفاق.

وإنما أخذ هذا الاسم سمعا والسمع قوله:{ إنا جعلناه قرءآنا عربيا} وقوله { إنا أنزلنه قراءنا عربيا } وقوله: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين }.

وما لا يجوز أن يكون لغة لا يكون شعرا عند أحد، فلما نفى الله عز وجل كون ما زعم كفار قريش أنه شعر وأثبته قرءانا لم تبق شبهة لذي لب في أن القرءان المختلف في حكمه الذي أمر الجميع بالإيمان به هو كتاب الله سبحانه العربي الذي علم أوله وآخره فمن زعم أن القرآن اسم لما هو غيره وخلافه دونه بان حمقه.

فإن أقر الأشعري ومن وافقه بأن القرآن هو الذي يعرفه الخلق انتقض عليه قوله [ إن الحرف والصوت لا مدخل لهما في كلام الله عزوجل وقد أقر بأنه مخلوق وإذا لم يكن مخلوقا وكان حروفا لا محالة كان إنكارهم للحروف بعد ذلك سخفا.

وإن زعموا أن القرءآن غير الذي عرفه الخلق كفروا، ولم يجدوا حجة على قولهم من عقل ولا سمع وإن قالوا: إن القرءآن اسم لكلام الله عزوجل وجب أن تسمى التوراة والإنجيل والزبور والقرءآن وصحف إبراهيم وموسى أجمع قرءانا ووجب أن يكون المؤمن بالتوارة من اليهود مؤمنا بالقرآن وبما فيه وغير جائز أن تؤخذ منه الجزية بعد وجوب الحكم بإيمانه.

ثم قد أطلق الأشعري أن هذا التسميات لم يستحقها كلام الله في الأزل وإنما هي تسميات للعبارات المختلفة التي نزلت في الأزمان المتغايرة وكل ذلك محدث فبين أن التوارة اسم الكتاب بالسريانية وأنه محدث وأن القرءآن اسم الكتاب بالعربية وأنه محدث.

فقوله: القرءآن غير مخلوق مع هذا القول تلاعب.

وقد ذكرنا في كتاب " الإبانة " ضربا مما ورد عن النبي في هذا المعنى، وتكلمنا على صحيحه وغريبه، وأن أحدا من الأمة قبل خصومنا هؤلاء ما عرف قرءآنا ينقري ولا يدخله الحرف الصوت والأشعري أيضا لم يعرف ذلك، وإنما حمله عل ما قال التحير مع قلة الحياء. ألا ترى أنه يقول: القراءة مخلوقة والمقروء بها صفة لله عز وجل غير مخلوقة والخلق بالاتفاق لا يتوصلون إلى قراءة ما ليس بحرف ولا صوت فليس يكون مقروءا البتة فإن جاز كونه مقروءا وهذا ظاهر لمن هدي رشده.

وأما رفع أحكام الشريعة، فلأنها إنما ثبتت بالقرءان فإذا كان الأشعري عنده القرءآن غير هذا النظم العربي وأهل الحل والعقد لا يعرفون ما يقوله ارتفعت أحكام الشريعة، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد سورة من القرءآن أو آية منه أو حرفا متفقا عليه فهو كافر

وفي هذا الإجماع تسويد وجه كل مخالف لنا وفيما ذكرت في هذا الفصل إشارات إذا تأملها ذو قريحة جرى في الميدان قوي الجنان، وبالله التوفيق.

رسالة السجزي إلى أهل زبيد لأبي نصر السجزي
المقدمة | الفصل الأول في إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة في التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب | الفصل الثاني في (بيان ما هي السنة وبم يصير المرء من أهلها) | الفصل الثالث في التدليل على أن مقالة الكلابية وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلا وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ورفع أحكام الشريعة | الفصل الرابع في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الخامس بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل السادس في إيراد الحجة على أن الكلام لن يعرى عن حرف وصوت البتة وأن ما عري عنهما لم يكن كلاما في الحقيقة وإن سمي في وقت بذلك تجوزا واتساعا وتحقيق جواز وجود الحرف والصوت من غير آلة وأداة وهواء منخرق وبيان قول السلف وإفصاحهم بذكر الحرف والصوت أو ما دل عليهما | الفصل السابع بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل الثامن في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات | الفصل التاسع في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم | الفصل العاشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الحادي عشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه