رسالة السجزي إلى أهل زبيد/الفصل الرابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الرابع: في إقامة البرهان على أنهم مخالفون لمقتضى العقل بأقاويل متناقضة مظهرون لخلاف ما يعتقدونه

وأما مخالفتهم لمقتضى العقل، ونص الكتاب، قولهم: أن الله سبحانه أفهم موسى عليه السلام كلامه بلطيفة أدرك بها موسى أنه كلامه بلا واسطة والكلام قديم غير مخلوق.

وقال أبو بكر بن الباقلاني: إن الله متكلم في الأزل، ولا يجوز أن يقال: إنه مُكلم في الأزل.

وفي هذا القول تناقض لأن الإِفهام من صفات الفعل، وأفعال الله تعالى محدثة في غيره، فالكلام على هذا الأصل مخلوق محدث، وإذا لم يجز أن يقال: إنه مكلم في الأزل كان التكليم فعلا لا غير، فيكون الكلام مخلوقا.

وأحد ما استدل به العلماء على نفي الخلق عن كلام الله سبحانه قوله عز وجل: { وكلم الله موسى تكليما } فقالوا: أتى بالمصدر ليعلم أنه كلام من مكلم إلى مكلم. وقال نوح بن أبي مريم في تكليما: ( يعني المشافهة بين اثنين ) وإن لم يكن هناك مشافهة فالله تعالى قال لموسى عليه السلام:{فاستمع لما يوحى } والاستماع بين الخلق لا يقع إلا إلى صوت، وهو غير الإفهام يتأخر عن السمع.

وقول الأشعري: " إن كلام الله شيء واحد، لا يدخله التبعيض " فإذا قال إن الله أفهم موسى كلامه، لم يخل أمر من أن يكون قد أفهمه كلامه مطلقا، فصار موسى عليه السلام عالما بكلام الله حتى لم يبق له كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه. وفي ذلك اشتراك مع الله في علم الغيب وذلك كفر بالاتفاق.

وفيه أيضا رد لقول الله عز وجل: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } فبين أن الرسل عليهم السلام لا يعلمون ما في نفسه عز وجل.

والأشعري يقول: ( إن الكلام معنى قائم بالنفس ليس بلغة ولا حرف ) فإذا فهمه موسى صار عالما [ بما ] في نفس الله، وذاك غير جائز بالاتفاق

ثم إذا لم [ يكن ] الكلام حرفا ولا صوتا، وكان معنى قائما بالنفس فهو والإرادة شيء واحد.

وإن قالوا: أفهمه ما شاء من كلامه، ورجعوا إلى التبعيض الذي يكفرون به أهل الحق، ويخالفون فيه نص الكتاب حيث قال الله سبحانه: {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} وقال: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } والكتاب عند السلف هو القرآن باتفاق المسلمين كلام الله ويقولون في الظاهر للعوام: " قد سمع الله موسى كلام الله على الحقيقة وكلامه ليس بصوت " والعقل لا يقتضي أن يسمع بشر مبقى على بنيته وعادته ما ليس بصوت على الحقيقة.

ويقولون: " إن كلام الله لا يجوز وجوده بغير الله، ولا نزوله إلى محل وهو يتلى ويقرأ، وليس بلغة ولا حرف وتلاوة بل لا وصول للخلق إليه ولا يوجد عندهم، ولا مدخل للحروف فيه " وهذا ممتنع في العقل واختلف قول الأشعري في كتبه في الناسخ والمنسوخ فقال في بعضها:" الناسخ والمنسوخ في كلام الله على الحقيقة ".

فإذا كان كلام ( الله ) عنده شيئا واحدا كان الناسخ هو المنسوخ لا فرق بينهما ولا ….. من العقل ما يقوله البتة.

وفي بعضها الناسخ والمنسوخ في كتاب لله دون كلامه ففرق بين كتاب الله وكلامه ونصوص القرآن تنطق بأن كتاب الله كلامه، ألا ترى أن الجن قالت في ما أخبر الله سبحنه عنها: { إنا سمعنا قرءآنا عجبا } وفي موضع آخر { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } فبين جل جلاله أن الكتاب هو القرءآن لا غير بتقريره ما قالوا وتركه النكير عليهم لوجود الاتفاق على أن مسموع الجن في هذه القصة شيء واحد في دفعة واحدة، وإنما أخبر الله سبحانه عنهم في غير سورة فقال في بعضها: القرءآن وقال في غير ذلك: الكتاب والقرءآن كلام الله بالاتفاق.

واختلف قول الأشعري أيضا في الإعجاز فقال في موضع: الإعجاز يتعلق بهذا النظم، وليس ذلك بكلام الله عز وجل، وإنما هو عبارة عنه، وأما صفة الله تعالى فلا يجوز أن يقال إن الخلق يعجزون عنها كما لا يجوز أن يقال يقدرون عليها. فجعل المعجز غير القرءآن، وإجماع الأمة حاصل على أن القرءآن هو المعجز للكافة، فمن زعم أنه ليس ( بمعجز والمعجز ) غيره كان رادا لخبر الله سبحانه وخارقا للإجماع وذلك كفر.

وقال في غير ذلك الموضع: ( الإعجاز متعلق بكلام الله، وكلام الله شيء واحد لا سورة فيه ولا حرف ) وفي هذا القول بتكذيب للنص وإحالة: فأما التكذيب فإن الله سبحانه قال: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } وقال { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }. فبين أن التحدي واقع إلى مثل كلامه القرآن وإلى سورة منه، فقول الأشعري ( إن المعجز هو الكتاب دون القرآن) تكذيب للنص وخبره، وقوله ( إن المعجز هو الكلام وليس بسورة ) تكذيب للنص أيضا.

والإحالة هي في أن التحدي واقع إلى الإتيان بمثل ما يعلم ويعقل ولو كان بخلاف ذلك لما صح جملة لأن العقل يقتضي أن ( لا ) يتحدى واحد إلى الإتيان بمثل ما لا يدري ما هو ولا يعقل معناه، ومثل ذلك إذا سيم وأحد كان لعبا وهزوا والله سبحانه يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وقال الأشعري: ( إن الله سبحانه يرى يوم القيامة على الحقيقة ) وأظهر الرد على من أنكرها.

وأفصح في بعض كتبه ( أنه يرى بالأبصار ) وقال في موضع آخر: ( لا تختص الرؤية بالبصر ولا تكون عن مقابلة لأن ما يرى مقابلة كان جسما) فهو إذا قال: إنه يرى بالأبصار لم يجز في العقل أن تكون الرؤية عن غير مقابلة وإن قال: إن الرؤية لا تخص البصر عاد إلى قول المعتزلة وصارت الرؤية في معنى العلم الضروري وقد حكى عن بعض متأخريهم أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية هي العلم لا غير.

وهكذا قالوا في سماع موسى عليه السلام كلام الله سبحانه إنه لم يخص الأذن وإذا لم يخص بزعمهم الأذن لم يكن سماعا لأن هذه البنية مجبولة على أنها لا تسمع إلا بالأذن.

والمقابلة لا تقتضي التجسيم كما زعموا لأن المرئيات في الشاهد لا تخرج عن أن تكون جسما أو عرضا على أصلهم، والله سبحانه باتفاقنا مرئي وليس بجسم ولا عرض، وإذا صح ذلك، جاز أن يرى عن مقابلة، ولا يجب أن يكون جسما.

وقد نص مالك بن أنس رحمه الله، وغيره من الأئمة رحمهم الله على أن الله سبحانه يرى يوم القيامة بالأبصار.

وزعموا أن كلام الله مكتوب في المصاحف [ على ] الحقيقة وليس بحروف والعقل لا يقتضي وجود مكتوب عاريا عن الحرف، وقالوا: ينبغي أن يكون كلام الله بخلاف كلام غيره ثم قالوا: ( كلامه ) (و) كلام غيره معنى قائم بالنفس فرفعوا ما أوجبوه من الخلاف وهذا تناقض.

وقالوا: إثبات الحروف في كلام الله تشبيه، ثم قالوا ( كلام الله وكلام غيره لا حروف فيهما ) فأفصحوا بالتشبيه ولو كان قولنا: إن الكلام لا يعرى عن الحروف تشبيها مع كون الكتاب دالا على صحة قولنا، وكذلك الأثر، وكلا أن يكون ذلك. لكان تشبيههم أفظع وأشنع فإنهم زعموا أن كلام الله لا حرف فيه ولا صوت، وكلام الله وذو النحل وساير الحكل لا حرف فيه ولا صوت فشبهوا كلام الله بكلام الحكل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

وقد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف.

فقول المتكلمين في نفي الصفات أو إثباتها بمجرد العقل أو حملها على تأويل مخالف للظاهر.

ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه ( إلا ) بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وذاك إذا ثبت الحديث ولم يبقى شبهة في صحته.

فأما ما عدا ذلك من الروايات المعلولة والطرق الواهية، فلا يجوز أن يعتقد في ذات الله سبحانه ولا في صفاته ما يوجد فيها باتفاق العلماء للأثر.

ومخالفة الأشعري وأضرابه للعقليات، ومناقضتهم تكثر ولعل الله سبحانه يسهل لنا جمع ذلك في كتاب مفرد بمنه، وإنما أشرنا ها هنا إلى يسير منه وفيه مقنع إن شاء الله تعالى.

وأما تظاهرهم بخلاف ما يعتقدونه كفعل الزنادقة ففي إثباتهم أن الله سبحانه وتعالى استوى على العرش، ومن عقدهم: أن الله سبحانه لا يجوز أن يوصف بأنه في سماء ولا في أرض، ولا في عرش ولا فوق.

وقد ذكر ابن الباقلاني : أن الاستواء فعل له أحدثه في العرش.

وهذا مخالف لقول علماء الأمة، وقد سئل مالك بن أنس رحمة الله عليه عن هذه المسألة فأجاب: " بأن الاستواء غير مجهول، والكيفية غير معقولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ".

قال الله سبحانه { يخافون ربهم من فوهم ويفعلون ما يؤمرون } وقال: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال { إليه يصعد الكلم الطيب } وقال: { من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه } وقال { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض..... الآية } والآية التي بعدها.

وقال النبي : " ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا حتى ذكر سبع سماوات وفوق ذلك بحر ما بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، وفوق ذلك ثمانية أوعال كواهلهم تحت عرش الرحمن، وأقدامهم تحت الأرض السابعة السفلى، وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك أخرجه أبو داود في كتاب السنن عن أبي هريرة وجبير بن مطعم وغيرهما عن النبي هذا المعنى والطرق مقبولة محفوظة وروي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وغيرهم مثل ذلك موقوفا. 1

ونص أحمد بن حنبل رحمة الله عليه على أن الله تعالى ذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان. وروى ذلك هو وغيره عن عبد الله بن نافع عن مالك بن أنس رحمة الله عليه وقد رواه غير واحد مع ابن نافع عن مالك بن أنس وكذلك رواه الثقات عن سفيان بن سعيد الثوري وروي نحوه عن الأوزاعي هؤلاء أئمة الآفاق.

[ واعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكرامية ومن تابعهم على قول المماسة ضلال ] وقد أقر الأشعري بحديث النزول ثم قال: [ النزول فعل له يحدثه في السماء ] وقال بعض أصحابه [ المراد به نزول أمره ] ونزول الأمر عندهم لا يصح وعند أهل الحق الذات بلا كيفية. وزعم الأشعري: أن الله سبحانه غير ممازج وغير مباين لهم، والأمكنة غير خالية منه، وغير ممتلية به.

وهذا كلام مسفت لا معنى تحته، وتحقيقه النفي بعد الإثبات. وبعض أصحابه وافق المعتزلة وسائر الجهمية في قولهم إن الله بذاته في كل مكان وذكر عن بشر المريسي أنه قيل له: فهو في جوف حمارك فقال نعم.

ومن قال هذا فهو كافر، والله سبحانه متعال عما قالوه.

وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته فوق العرش بلا كيفية بحيث لا مكان وقد أثبت الذي في موطأ مالك بن أنس رحمه الله وفي غيره من كتب العلماء: أن النبي قال للجارية التي أراد عتقها من عليه رقبة مؤمنة ( أين الله؟ قالت في السماء فقال: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال اعتقها فإنها مؤمنة.)

وعند الأشعري أن من اعتقد أن الله بذاته في السماء فهو كافر.

وإن زمانا يقبل في قوه من يرد على الله سبحانه، وعلى الرسول ويخالف العقل، ويعد مع ذلك إماما، لزمان صعب والله المستعان.

ولقد قال الأوس بن حارثة بن ثعلبة عند موته قصيدة يوصي فيها إلى ابنه مالك وذلك قبل الإسلام فيها:

فإن تكن الأيام أبلين أعظمي وشيبن رأسي والمشيب مع العصر

فإن لنا ربا عليُ فوق عرشهعليما بما يأتي من الخير والشر

وقال غيره قبل الإسلام:

وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمين

وقيل إن عبد الله بن رواحة قاله في الإسلام، وهو صحابي.

ومثله في الشعر وكلام العرب قديما كثير.

( وليس في قولنا: إن الله سبحانه فوق العرش تحديد وإنما التحديد يقع للمحدثات، فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد، لاتفاقنا أن الله سبحانه كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان ).

وقد ذكر الله سبحانه في القرآن ما يشفي الغليل وهو قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } فخص العرش بالاستواء وذكر ملكه لسائر الأشياء فعلم أن المراد به غير الاستيلاء.

وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه بكل مكان، وقد علم أن الأمكنة محدودة فإذا كان فيها بزعمهم كان محدودا، وعندنا أن مباين للأمكنة ومن [حدها] ومن وفوق كل محدث فلا تحديد في قولنا وهو ظاهر لا خفاء به.

هامش

  1. ضعيف: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1247
رسالة السجزي إلى أهل زبيد لأبي نصر السجزي
المقدمة | الفصل الأول في إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة في التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب | الفصل الثاني في (بيان ما هي السنة وبم يصير المرء من أهلها) | الفصل الثالث في التدليل على أن مقالة الكلابية وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلا وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ورفع أحكام الشريعة | الفصل الرابع في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الخامس بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل السادس في إيراد الحجة على أن الكلام لن يعرى عن حرف وصوت البتة وأن ما عري عنهما لم يكن كلاما في الحقيقة وإن سمي في وقت بذلك تجوزا واتساعا وتحقيق جواز وجود الحرف والصوت من غير آلة وأداة وهواء منخرق وبيان قول السلف وإفصاحهم بذكر الحرف والصوت أو ما دل عليهما | الفصل السابع بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل الثامن في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات | الفصل التاسع في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم | الفصل العاشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الحادي عشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه