انتقل إلى المحتوى

المنتقى من منهاج الاعتدال/الفصل الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال
  ► الفصل الثاني الفصل الثالث الفصل الرابع ◄  



الفصل الثالث

(في إمامة علي)


قال الرافضي: "إن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها الموافق والمخالف ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره مطاعن ولم ينقلوا في علي طعنا اتبعوه وجعلوه إماما لهم وتركوا غيره. فنذكر منها شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ليكون حجة عليهم يوم القيامة. فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في الجمع بين الصحاح الستة عن أم سلمة أن قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} نزلت في بيتها وهي جالسة عند الباب فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال: إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي . قالت: وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين فجللهم [بكساء] وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. "

فنقول: الأحاديث الثابتة في الفضائل لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم [من الفضائل الثابتة لعلي]. ثم أكثر الأحاديث التي أوردها [وذكر أنها] في معتمد قول الجمهور من أبين الكذب [على علماء الجمهور] وما صح منها ليس فيه ما يدل على فضل علي على أبي بكر، وغير علي فيها مشارك. وأما فضائل الشيخين فخصائص [لهما، ولا سيما فضائل أبي بكر فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره].

وأما [ما ذكره من] المطاعن فلا يمكنه أن يوجه على الثلاثة من مطعن إلا وجه الناصبي على علي مثله.

[وأما قوله: "إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموافق وتركوا غيره حيث يروي فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته"

فيقال: هذا كذب بين، فإن عليا رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون بل القادحون في علي طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان. والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه. فإن الخوارج متفقون على كفره وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلهيته أو نبوته. بل هم والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الاثني عشرية الذين اعتقدوه إماما معصوما. وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليس في الأمة من يقدح فيهما إلا الرافضة. والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما. والمروانية الذين ينسبون عليا إلى الظلم ويقولون إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهما. فكيف يقال مع هذا "إن عليا نزهه الموافق والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة" ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل، وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفة وهم أعلم من الرافضة وأدين، والرافضة عاجزون معهم علما ويدا، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم. والذين قدحوا في علي رضي الله عنه جعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة كالغالية الذين يدعون إلهيته من النصيرية وغيرهم وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية وكالغالية الذين يدعون نبوته، فإن هؤلاء كفار مرتدون كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام. فمن اعتقد في بشر الإلهية أو اعتقد بعد محمد نبيا.. فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة، بخلاف من يكفر عليا ويلعنه من الخوارج وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم، فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت العتيق ويحرمون ما حرم الله ورسوله وليس فيهم كفر ظاهر، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم. وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام. فكيف يدعي مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة. بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون عليا وجد هؤلاء خيرا من أولئك من وجوه متعددة. ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه لم يكن في المتولين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية فإن هؤلاء طوائف كثيرة. ومعلوم أن شر الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفروه واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام واستحلوا قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان:

يا ضربة من تقي ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه ** أوفى البرية عند الله ميزانا

فعارضه شاعر أهل السنة فقال:

يا ضربة من شقي ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا

إني لأذكره يوما فألعنه ** لعنا وألعن عمران بن حطانا

وهؤلاء الخوارج كانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم، والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم، ومع هذا فلم يكفروهم ولا كفرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما الغالية في علي رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم وكفّرهم علي بن أبي طالب نفسه وحرقهم بالنار. وأما الخوارج فلم يقاتلهم علي حتى قتلوا واحدا من المسلمين وأغاروا على أموال الناس فأخذوها. فأولئك حكم فيهم علي وسائر الصحابة بحكم المرتدين وهؤلاء لم يحكموا فيهم المرتدين. وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبي بكر وعمر وعثمان يوجد فيهم من الشر والكفر باتفاق علي وجميع الصحابة ما لا يوجد في الذين عادوه وكفروه، وتبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شر عند علي وجميع الصحابة من جنس المبغضين لعلي.]

وحديث الكساء صححه الترمذي. وأما مسلم فأخرجه من حديث عائشة قالت: خرج رسول الله ذات غداة وعليه مرط [مرحّل] من شعر أسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} الآية. [وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فليس هو من خصائصه. ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة فعلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة بل يشركهم فيها غيرهم.] ومضمونه الدعوة بأن يذهب الله عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا. والصديق قد أخبر الله عنه بأنه: {الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى} وما دخل علي في الأتقى حينئذ لأنه لم يكن له مال حينئذ بل دخل فيها إذ فتحت خيبر وصار ذا مال.

قال: "وفي قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} قال علي: ما عمل بهذه الآية غيري".

فيقال: الأمر بالصدقة لم يكن واجبا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه وإنما أمر بها من أراد النجوى، فاتفق أنه لم يرد النجوى حينئذ إلا علي فتصدق لأجلها. وهذا كوجوب الهدي لمن أراد المتعة ووجوبه على من أُحصر ووجوب الفدية على من به أذى ووجوب الكفارة على من حنث. ثم لم تطل مدة الأمر بالصدقة عند النجوى فما اتفق ذلك إلا لعلي رضي الله عنه فتصدق بدرهمين أو نحوهما. وهذا أبو بكر قد تصدق مرة بماله كله وأتى به النبي فقال له: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: الله ورسوله.

قال: "وعن محمد بن كعب [القرظي] قال افتخر طلحة بن شيبة [من بني عبد الدار] والعباس وعلي، فقال طلحة: معي مفاتيح البيت ولو أشاء بت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية ولو أشاء لبت في المسجد، وقال علي: لقد صليت إلى القبلة ست أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد، فنزلت: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله}"

فيقال: [هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة بل دلالات الكذب عليه ظاهرة. منها أن طلحة بن شيبة لا وجود له وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن [أبي] طلحة، وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح. ثم فيه قول العباس: "لو أشاء بت في المسجد" فأي كبير أمر في مبيته في المسجد حتى يتبجح به؟ ثم فيه قول علي: "صليت ستة أشهر قبل الناس" فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوم أو نحوه، فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر؟ وأيضا فلا يقول أنا صاحب الجهاد وقد شاركه فيه عدد كثيرا جدا.] فهذا الحديث موضوع.

ويرد عليه ما في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا في الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وذكر آخر الجهاد وقال هو أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله}

فهذا ليس من خصائص علي إذ الذين آمنوا وجاهدوا كثير. وقد قال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} ولا ريب أن جهاد أبي بكر بماله ونفسه أبلغ من جهاد علي [وغيره كما] قال النبي [في الحديث الصحيح]: "إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر" وقال : «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر»

[وأبو بكر كان مجاهدا بلسانه ويده، وهو أول من دعا إلى الله وأول من أوذي في الله بعد رسول الله وأول من دافع عن رسول الله . وكان مشاركا لرسول الله في هجرته وجهاده حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر، وحتى إن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي وأبي بكر وعمر لما قال: أفيكم محمد؟ فقال النبي : «لا تجيبوه» فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي : «لا تجيبوه» فقال: أفيكم ابن الخطاب؟ فقال النبي : «لا تجيبوه» فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم؛ فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله إن الذي عددت أحياء وقد أبقى الله لك ما يخزيك. ذكره البخاري وغيره.]

قال الرافضي: "ومنها ما رواه أحمد بن حنبل أن أنسا قال لسلمان: سل النبي من وصيه؟ فسأله فقال: يا سلمان من كان وصي موسى؟ قال: يوشع، قال فإن وصيي ووارثي علي".

قلنا: [هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل. وأحمد قد صنف كتابا في فضائل الصحابة ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة، وذكر فيه ما روى في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك وليس كل ما رواه يكون صحيحا. ثم إن في هذا الكتاب زيادات من رواية ابنه عبد الله وزيادات من رواية القطيعي عن شيوخه؛ وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب كما سيأتي ذكر بعضها. وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد. وهؤلاء الرافضة جهال إذا رأوا فيه حديثا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ويكون القائل لذلك هو القطيعي وشيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد. وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله لا سيما في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه زاد زيادات كثيرة.] فالحديث من كذب الدجاجلة ولا حدث به والله أحمد. فهذا مسنده بل وهذا الكتاب الذي صنفه في فضائل الصحابة.

قال: "وعن يزيد بن أبي مريم عن علي قال انطلقت أنا ورسول الله حتى أتينا الكعبة فصعد رسول الله على منكبي فذهبت لأنهض فرأى منى ضعفا فنزل وجلس لي فصعدت على منكبه فنهض بي حتى صعدت على البيت وعليه تمثال نحاس فجعلت أزاوله ثم قذفت به فتكسر وانطلقنا نستبق حتى توارينا".

قلنا: إن صح هذا فما فيه شيء من خصائص الأئمة، فقد كان النبي يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص على منكبيه. وسجد مرة فجاء الحسن فارتحله. [فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه، وإنما حمله لعجز علي عن حمله. فهذا يدخل في مناقب رسول الله . وفضيلة من يحمل النبي أعظم من فضيلة من يحمله النبي كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة مثل طلحة بن عبيد الله. فإن هذا نفع النبي وذاك نفعه النبي ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي وماله.]

قال: "وعن ابن أبي ليلى قال: قال النبي الصديقون ثلاثة حبيب النجار ومؤمن آل فرعون وعلي وهو أفضلهم".

قلنا: وهذا كذب. وقد ثبت أن النبي وصف أبا بكر بأنه صديق. وصح من حديث ابن مسعود مرفوعا: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» فالصديقون بهذا كثير. وقال تعالى في مريم وهي امرأة: {وأمه صديقة}

قال: "وعن النبي أنه قال لعلي: «أنت مني وأنا منك»"

قلنا: نعم أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء لما تنازع علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة فقضى بها لخالتها وكانت تحت جعفر، وقال: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» [لكن هذا اللفظ قد قاله النبي لطائفة من أصحابه]. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي قال في الأشعريين: «هم مني وأنا منهم»

قال: "وعن عمرو بن ميمون قال: لعلي عشر فضائل ليست لغيره قال له النبي : لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فاستشرف لها من استشرف فقال: أين علي بن أبي طالب قالوا: هو أرمد في الرحى يطحن، وما كان أحد يطحن فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر قال فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا وأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي. قال: ثم بعث أبا بكر بسورة براءة فبعث عليا خلفه وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه. وقال لبني عمه: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ قال وعلي جالس معهم فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، قال فتركه ثم أقبل على رجل رجل منهم فقال: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، فقال: أنت ولي في الدنيا والآخرة. قال: وكان علي أول من أسلم من الناس بعد خديجة. قال: وأخذ رسول الله ثوبه فوضعه على علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} قال: وشرى علي نفسه. ولبس ثوب رسول الله ثم نام مكانه، وكان المشركون يرمونه بالحجارة. وخرج رسول الله بالناس في غزاة تبوك فقال له علي: أخرج معك؟ فقال: لا، فبكى علي فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي. وقال له رسول الله : أنت وليي في كل مؤمن بعدي. قال: وسد أبواب المسجد إلا باب علي. قال: وكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره. وقال له: من كنت مولاه فعلي مولاه. وعن النبي مرفوعا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة فسار لها ثلاثا ثم قال لعلي: الحقه فرده وبلغها أنت، ففعل فلما قدم أبو بكر على النبي بكى وقال: يا رسول الله حدث فيّ شيء. قال: لا ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني".

قلنا: هذا [الخبر] مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون. ومنه ألفاظ منكرة. منها "لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي"؛ فإن النبي استخلف غيره غير مرة. وكذلك قوله: "سدوا الأبواب إلا باب علي" فإنه من وضع الشيعة، فإن في الصحيحين من حديث أبي سعيد [الخدري] أن النبي قال في مرضه الذي مات فيه: «[إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر و]لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر» ورواه ابن عباس في الصحيحين. ومنه قال: "أنت وليي في كل مؤمن بعدي" فهذا موضوع [باتفاق أهل المعرفة بالحديث]. وباقي الحديث ليس هو من خصائصه؛ مثل كونه يحب الله ورسوله واستخلافه على المدينة وكونه بمنزلة هارون من موسى ومثل كون براءة لا يبلغها إلا هاشمي إذ كانت العادة جارية بأنه لا ينقض العهود إلا رجل من قبيلة المطاع.

قال: "ومنها ما رواه أخطب خوارزم أن النبي قال يا علي لو أن عبدا عبد الله مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله وحج ألف مرة على قدميه ثم قتل بين الصفاة والمروة مظلوما ثم لم يوالك لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها".

فيقال: أخطب خوارزم هذا له مصنف في هذا الباب فيه من المكذوبات ما لا يوصف، وهذا والله منها. 1

قال: "وقال رجل لسلمان ما أشد حبك لعلي؟ قال: سمعت نبي الله يقول: من أحبه فقد أحبني. وعن أنس مرفوعا: خلق الله من نور وجه علي سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : من أحب عليا قبل الله منه صلاته وصيامه [وقيامه واستجاب دعاءه، ألا] ومن أحب عليا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة، ألا ومن أحب آل محمد أمن الحساب والميزان والصراط، [ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء]، ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله. وعن ابن عمر: سمعت رسول الله وقد سئل: بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ قال: خاطبني بلغة علي فألهمني أن قلت: يا رب [أنت] خاطبتني أم علي؟ فقال: يا محمد أنا شيء ليس كالأشياء لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري وخلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحب من علي خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك. وعن ابن عباس قال رسول الله : لو أن الرياض أقلام والبحر مداد والجن حساب والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي. وقال: إن الله جعل الأجر على فضائل علي لا يحصى فمن ذكر فضيلة من فضائله فقرأها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر والنظر إلى وجهه عبادة وذكره عبادة لا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه. وعن حكيم بن حزام مرفوعا: لمبارزةُ علي عمرو بن ود [يوم الخندق] أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة".

قلنا: هذه الأحاديث والله العظيم كذب، يلعن الله من افتراها، ولعن من لا يحب عليا. وأنت قد قدمت أنك لا تذكر إلا ما هو صحيح عندنا، فمن أين جئت بهذه الخرافات؟ ولكنا تيقنا بأن الرافضة أجهل الطوائف وأكذبهم. وأنت زعيمهم وعالمهم وهذا حالك.

قال: "وعن سعد [بن أبي وقاص] أن معاوية أمره بسب علي فأبى فقال: ما يمنعك؟ قال: ثلاث قالهن رسول الله لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله يقول لعلي وقد خلفه في بعض مغازيه فقال: تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وسمعته يقول: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فتطاول لها الناس فقال: «ادعوا لي عليا» فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية، ففتح الله عليه. وأنزلت هذه الآية الكريمة {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} فدعا رسول الله عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال: «هؤلاء أهلي»".

قلنا: أما هذا فصحيح رواه مسلم، وسقته بجهلك بين الموضوعات كمن نظم درة بين بعر. ولكن هذه المناقب ليست من خصائصه، فإنه استخلف جماعة على المدينة. وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وموسى، [فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي. مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابة، وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص.] وفي الحديث رد على النواصب الذين لا يتولونه ولا يحبونه، وعلى الخوارج الذين كفروه. لكن هذا لا يتم على قول الرافضة الذين جعلوا النصوص الدالة على فضل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج كذا تقول في علي. وهذا باطل لأن الله لا يحب ولا يرضى عمن يعلم أنه يموت كافرا. وكذا المباهلة شاركه فيها ولداه. فإن قيل فلم تمنى سعد واحدة منهن قيل لأن شهادة النبي لعلي ظاهرا وباطنا بالإيمان، والنبي إذا شهد لمعين بشهادة كانت من أعظم مناقبه كما صلى على ميت فقال: «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه» إلخ قال عوف بن مالك: فتمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وهذا الدعاء لم يكن مختصا بذلك الميت.

قال: "وعن عامر بن واثلة قال: قال علي يوم الشورى: لأحتجن عليكم بما لا يستطيع أحد تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم بالله أفيكم أحد وحد الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا - وذكر الحديث بطوله وفيه - فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة وجبريل وميكال وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله من القليب غيري؟ قالوا: اللهم لا. ومنه ما رواه أبو عمر الزاهد عن ابن عباس قال: لعلي أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره هو أول من صلى مع النبي وهو الذي كان معه لواؤه في كل زحف وهو الذي صبر معه يوم حنين وهو الذي غسله وأدخله قبره. وعن النبي قال: مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم فقلت: [يا جبريل] من هؤلاء؟ قال: هؤلاء قوم يقطعون الناس بالغيبة، قال: ومررت بقوم قد ضوضوا فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: الكفار، ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليا يصلي فقلت: يا جبريل من هذا علي قد سبقنا؟ قا: ل لا ليس هذا عليا بل اشتاقت الملائكة إلى رؤيته [لما سمعوا مناقبه. وخاصة قول النبي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى]، فخلق الله ملكا على صورته. وعن ابن عباس قال: إن المصطفى قال ذات يوم أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى - [يعني عليا. وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي]. وعن ابن عباس قال: رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: من عرفني فقد عرفني أنا أبو ذر ولو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليا".

فيقال: حديث [عامر بن] واثلة كذب باتفاق الحفاظ. وما قال علي يوم الشورى شيئا من ذلك، بل قال عبد الرحمن بن عوف: لئن أمرتك لتعدلن؟ قال: نعم، قال: وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن؟ قال: نعم، وقال مثل ذلك لعثمان، ومكث ثلاثة أيام يشاور المسلمين.

وأما حديث ابن عباس فباطل، فلواء النبي يوم أحد كان مع مصعب بن عمير باتفاق. ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير، أخرجه البخاري. ويوم حنين لم يكن أحد أقرب إلى بغلة النبي من عمه العباس [وأبي سفيان بن الحارث والعباس] آخذ بركابه.

وأما [ما ذكره عن] المعراج فكذب سمج. وفيه ما يبين وضعه وهو أن الكروبيين لما سمعوا مناقبه -وخاصة قول النبي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى- اشتاقت إلى علي فخلق لها ملكا على صورة علي. فالمعراج كان بمكة من المسجد الحرام، وقوله: أما ترضى.. قاله له في غزوة تبوك، [وهي آخر الغزوات سنة تسع].

وكذا خبر: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي" كذب، و"الفتى" ليس من أسماء المدح ولا الذم، بل هو كقولك الشاب والكهل. وقول المشركين: {سمعنا فتى يذكرهم} لم يقصدوا مدحه بذلك. وحديث مؤاخاة النبي لعلي وأبي بكر لعمر من الأكاذيب، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار. وذو الفقار سيف كان لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر، فلم يكن ذو الفقار يوم بدر من سيوف المسلمين. روى أحمد والترمذي من رواية ابن عباس أن النبي نقل سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم إن النبي كان بعد النبوة كهلا. وقول أبي ذر لم يصح مع أن حب علي فرض كما أن حب أبي بكر فرض وحب الأنصار فرض. قال النبي : «آية الإيمان حب الأنصار» وفي صحيح مسلم عن علي أنه قال: لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.

قال: "ومنها ما نقله صاحب الفردوس عن معاذ عن النبي : حب علي حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة".

قلنا: كتاب الفردوس [مصنفه شيرويه] بن شهريار الديلمي المحدث فيه موضوعات جمة، 2 هذا منها ولا يقوله المصطفى المعصوم. بل هذا المؤمن الذي يحب الله ورسوله ومع ذلك تضره السيئات ويحدّ في الخمر. وقد أمر النبي بضرب حمار في الخمر فسبه رجل فقال : «دعه فإنه يحب الله ورسوله» وأيضا فقد كان أبو طالب يحب ابنه عليا وضره الشرك حتى دخل النار. وهؤلاء الغلاة يزعمون أنهم يحبونه وهم من أهل النار. وحب الرسول أعظم من حب علي ويدخل خلق من محبيه النار ثم يخرجون بشفاعته. وكذلك الحديث الذي أورده عن ابن مسعود: "حب آل محمد يوما خير من عبادة سنة" موضوع. وحديث: "أنا وعلي حجة الله على خلقه" كذب أيضا والله تعالى يقول: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وكذلك قوله: "لو اجتمع الناس على حب علي لم تخلق النار" فقد رأينا من محبيه من الإسماعيلية وغيرهم خلقا من طعام النار. ونحن نحبه ونخاف النار. ثم خلق ممن صدّق الرسل يدخلون الجنة وما عرفوا عليا. وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي وأنه راية الهدى وإمام الأولياء والكلمة التي ألزمها للمتقين، فصاحب الحلية قد روى في فضائل الأربعة عدة موضوعات. وإنما كلمة التقوى لا إله إلا الله.

قال الرافضي: "وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل أتباعهم منها كثيرا حتى صنف الكلبي كتابا في مثالب الصحابة".

قلنا: الكلبي وابنه هشام كذابان رافضيان.

[وإن ما ينقل عن الصحابة من المثالب نوعان:

أحدهما إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن. وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي. ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب الناس وهو شيعي يروى عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب. وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي: ما ظنت أن أحدا يحدّث عنه إنما هو صاحب سمر ونسب. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ولا أعرف له في المسند شيئا وأبوه أيضا كذاب. وقال زائدة والليث وسليمان التيمي: هو كذاب. وقال يحيى: ليس بشيء كذاب ساقط. وقال ابن حبان: وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه.

النوع الثاني: ما هو صدق. وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر. وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب. وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية -وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم- ومنها الحسنات الماحية للذنوب، فإن الحسنات يذهبن السيئات وقد قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} ومنها المصائب المكفرة ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم. فما من ذنب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة.

ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول: لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيبقى في كذب وجهل بالجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم. والناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول. ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة.

الأصل الأول: أنه هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر ولم يكن هو الحق في نفس الأمر هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ هذا أصل هذه المسائل. وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال كل قول عليه طائفة من النظار.

الأول قول من يقول إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه لا لعجزه. وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة، وهو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء.

والقول الثاني في أصل المسألة: إن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق وقد يعجز عن ذلك، لكن إن عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله وقد لا يعاقبه. وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء أتباع المذاهب الأربعة.

والقول الثالث في هذا الأصل: إنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا أو فعل محظورا. وهذا قول الفقهاء والأئمة وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين. وهذا القول يجمع الصواب من القولين.

الأصل الثاني: قول من يقول إن الله لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه بترك المأمور أو فعل المحظور، والأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع حكم الناس في الوعد والوعيد والثواب والعقاب وأن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب. فإذا كان هذا الحكم في المجتهدين وهذا الحكم في المذنبين حكما عاما في جميع الأمة، فكيف في أصحاب رسول الله ؟ وإذا كان المتأخرون من المجتهدين والمذنبين يندفع عنهم الذم والعقاب بما ذكر من الأسباب فكيف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

ونحن نبسط هذا وننبه بالأدنى على الأعلى فنقول: كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة من رافضي وغيره هو من باب الكلام في الأعراض وفيه حق لله تعالى لما يتعلق به من الولاية والعداوة والحب والبغض وفيه حق للآدميين أيضا. ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم. فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال. قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من يبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟ فهو أحق أن لا يظلم بل يعدل عليه. وأصحاب رسول الله أحق من عدل عليهم في القول والعمل والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم. والظلم مما اتُّفق على ذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم.

والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد. والحكم بما أنزل الله على محمد هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها. والحكم به واجب على النبي وكل من اتبعه. ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية. قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك. وقد قال النبي : «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضيان في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار» وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي من وجهين.

وإذا وجب فيما شجر بين المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ويرد ذلك إلى الله والرسول فذاك في أمر الصحابة أظهر.

والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق فوالوا بعضهم وغلوا فيه وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته، وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله. فقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولّاه الله أموركم»

والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين أحيائهم وأمواتهم وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع» وقد قال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية. ومن كان مجتهدا لا إثم عليه فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب. ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وقد قال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} وثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته» فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته. فكيف إذا كان ذلك في الصحابة. ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم أو تعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته. وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه.

لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين. فالأول قول المشتكي المظلوم: فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني ونحو ذلك. قال الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه لأن قرى الضيف واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك. وأما الحاجة مثل استفتاء هند بنت عتبة كما ثبت في الصحيح أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف، فقال النبي : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة. فلم ينكر عليها قولها وهو من جنس قول المظلوم. وأما النصيحة فمثل قوله لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت خطبني أبو جهم ومعاوية فقال : "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه -وفي لفظ- يضرب النساء انكحي أسامة} فلما استشارته فيمن تتزوج ذكر ما تحتاج إليه. وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره، فقد قال النبي في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة الدين النصيحة» ثلاثا قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية. فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة. ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو من بعدهم. فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهم بغير حق؛ ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة. لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة وأجل قدرا وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم.

فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم؟ قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة، فإنه قد ثبت عن النبي لعن أنواع كثيرة وقال الله تعالى: {أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم تحذيرا من ذلك الفعل وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد. ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذين نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين، ابتدعوا بدعة وكفروا من لم يوافقهم عليها فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين يعلمون أن الظلم محرم. والرافضة أشد بدعة من الخوارج وهم يكفّرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبي بكر وعمر، ويكذبون على النبي والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله. والخوارج لا يكذبون لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع وأوفى بالعهد منهم فكانوا أكثر قتالا منهم. وهؤلاء أكذب وأجبن وأعذر وأذل. وهم يستعينون بالكفار على المسلمين، كما جرى لجنكز خان ملك الترك الكفار فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره باطنا وظاهرا. وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم؛ فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل، ولم ير في الإسلام مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر، وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين. فهل يكون مواليا لآل الرسول من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين؟ وهم يكذبون على الحجاج وغيره أنه قتل الأشراف؛ ولم يقتل الحجاج هاشميا قط مع ظلمه وغشمه، فإن عبد الملك نهاه عن ذلك وإنما قتل ناسا من أشراف العرب غير بني هاشم. وقد تزوج هاشمية وهي بنت عبد الله بن جعفر فما مكنه بنو أمية من ذلك وفرقوا بينه وبينها وقالوا ليس الحجاج كفئا لشريفة هاشمية.

والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء. فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة. والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم. وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج. ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم. فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم. بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض. بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض. وهذا مما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس. ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض. والخوارج تكفر أهل الجماعة وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك أكثر الرافضة؛ ومن لم يكفر فسّق. وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه. وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس. وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس.

وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم؛ ولما انكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح والأسارى وباعوهم للكفار والنصارى بقبرص، وأخذوا من مر بهم من الجند، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى وقالوا له: أيما خير المسلمون أو النصارى؟ فقال: بل النصارى، فقالوا له: مع من تحشر يوم القيامة؟ فقال: مع النصارى، وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمين. ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جوابا مبسوطا في غزوهم وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلما فتح المسلمون بلدهم وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا. فما أذكره في هذا الكتاب في ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم، ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله.

ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد سلفها وخلفها. فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين وإلى خير أمة أخرجت للناس فافتروا عليهم العظائم وجعلوا حسناتهم سيئات؛ وجاءوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها -والله يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم: لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان منهم- فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده. فإن ما سوى أمة محمد كفار، وهؤلاء كفروا الأمة كلها أو ضللوها سوى طائفتهم التي يزعمون أنها الطائفة المحقة وأنها لا تجتمع على ضلالة فجعلوهم صفوة بني آدم. فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة فقيل له أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها فعمد إلى شر تلك الغنم إلى شاة عوراء عجفاء عرجاء مهزولة لا نقي لها فقال: هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها وسائر هذه الغنم ليست غنما وإنما هي خنازير يجب قتلها ولا تجوز الأضحية بها.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة» وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل، فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول ، لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به. فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى. وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيرا مما يقولونه كذب ولكن يصنفون لهم لرياستهم عليهم. وهذا المصنف يتهمه الناس بهذا، ولكن صنف لأجل أتباعه. فإن كان أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ويظهره ويقول إنه حق من عند الله فهو من جنس علماء اليهود الذين {يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} وإن كان يعتقد أنه حق دل ذلك على نهاية جهله وضلاله.

ولما قال السلف: إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة، كان هذا كلاما حقا. وكذلك قوله في الحديث الصحيح: «لا تسبوا أصحابي» يقتضي تحريم سبهم. مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام. ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} فقد نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب. واللمز: العيب والطعن، ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} أي يعيبك ويطعن عليك. وقال تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} وإذا قال المسلم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة. فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته، ولم يقل إنهم يخلدون في النار.

فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته. فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج. وأصحاب رسول الله علي بن أبي طالب وغيره لم يكفّروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم. ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة وأمثاله.

وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم.

فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين. وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفرايني ومن اتبعه يقولون: لا نكفر إلا من يكفرنا. فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله لأن هذا حرام لحق الله. ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا.

روى سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه [الباقر] قال: سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال: لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم. وعن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم؟ قال: هم المؤمنون. وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: مر علي وهو متكئ على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا، قال علي: والآن هو مؤمن.]

قال: "رووا عن أبي بكر أنه قال على المنبر أن النبي كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني. فكيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه".

قلنا: هذا من أكبر فضائله وأدلها على أنه لم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما. فقال: إن استقمت على الطاعة فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني. كما قال: أطيعوني ما أطعت الله. فالشيطان الذي يعتريه يعتري غيره، فإنه «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» و«الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» فمقصوده بذلك أني لست معصوما. وصدق رضي الله عنه. والإمام ليس ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، بل يتعاونون على البر والتقوى، كإمام الصلاة إن استقام تبعوه وإن سها سبحوا به وقوّموه. [ثم يقال: استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له. فإن أبا بكر كان إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك. وكانوا إذا أمرهم أطاعوه.] وعلي رضي الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن قال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحده في الفرقة. [وكان علي يقول: اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.] وكانت رعيته كثيرة المخالفة له ويشيرون عليه فيخالفهم ثم يتبين له أن الصواب قولهم. وكان الحسن أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة وأن لا يعزل معاوية. ولا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر ما لم تنتظم لعلي؛ رضي الله عنهم أجمعين.

قال: "وقال: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم. فإن كانت إمامته حقا فاستقالته معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن".

قلنا: هذا كذب ولا له إسناد. بل ثبت عنه أنه قال يوم السقيفة: بايعوا أحد هذين الرجلين أبا عبيدة أو عمر بن الخطاب، فقال له عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا [وأحبنا إلى رسول الله ]. ثم يقال: فهلا استخلف عليا عند الموت. وللإمام أن يقتال لطلب الراحة من أعباء الإمرة. وتواضع المرء لا يسقط رتبته.

قال: "وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه".

قلنا: هذا [القول] الأخير افتراء وكذب. وإنما قال: "وليس فيكم من تقطع إليه [الأعناق] مثل أبي بكر" ومعناه أن بيعة الصديق بودر إليها من غير انتظار وتريث لكونه كان متعينا.

قال: "وقال أبو بكر ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق".

قلنا: هذا كذب. ثم نقول هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي إذ لو كان نص على علي لبطل حق الأنصار وغيرهم.

قال: "وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم رووا أنه ما من محتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار".

قلنا: وهذا عنه باطل بل قال لما احتضر وتمثلت عائشة بقول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه فقال: ليس كذلك ولكن قولي: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}

وأما قول: "ليت أمي لم تلدني" [فنقل عنه أنه قاله في صحته. ومثل هذا نقل] عن جماعة من السلف قالوه خوفا وهيبة وفرقا من الله. [وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: والله لوددت أني شجرة تعضد. وقال عبد الله بن مسعود: لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا.]

قلتُ: وقد جاء عن علي: إلى الله أشكو عُجري وبُجري.

قال: "وقال: ليتني يوم بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان الأمير وكنت [الوزير]".

قلنا: قائل هذا يقوله هضما لنفسه وتواضعا وخوفا من الله. فلو كان عنده نص من الرسول بعلي لكان في حال خوفه وإنابته ينفس بعلي ولما ذكر الرجلين، إذ توليتهما مع علمه بالنص على علي كما تزعمون إضاعة للإمامة منه، وكان يكون وزيرا لظالم غيره ويبيع آخرته بدنيا غيره، ولا يفعل هذا من يخاف الله وينيب إليه.

قال: "وقال النبي في مرض موته مرات: أنفذوا جيش أسامة [لعن الله المتخلف عن جيش أسامة]. وكانت الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك".

قيل: هذا كذب عند كل عارف بالسيرة؛ فكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه على الصلاة فصلى بهم اثني عشر يوما بالنقل المتواتر، وقد كشف الستارة يوم الاثنين وقت الصبح وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه كأنه ورقة مصحف وسُر بذلك لما رآهم بالصلاة. فكيف يتصور أن يأمره بالخروج وهو يأمره بالصلاة بالناس. وإنما أنفذ جيش أسامة بعد موت الرسول أبو بكر، [غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له]. وأشار عليه بعضهم بترك الغزاة فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي فامتنع أبو بكر وقال: لا أحل لواء عقده النبي .

قال: "ولم يول النبي أبا بكر عملا قط بل ولى عليه عمرو بن العاص مرة وأسامة أخرى. ولما أنفذه بسورة براءة رده بوحي من الله".

قلنا: هذا من أبين الكذب، فمن المعلوم قطعا أن النبي استعمل أبا بكر على الحج عام تسع فكان هذا من خصائصه. كما أن استخلافه على الصلاة من خصائصه. وكان علي من رعيته في الحج المذكور فإنه لحقه فقال: أمير أو مأمور؟ قال علي: بل مأمور. وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الحجة. بل خص بتبليغ سورة براءة.

وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي أرسله في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة أخوال عمرو فأمره رجاء أن يطيعوه ويسلموا، ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وقال لأبي عبيدة: «تطاوعا ولا تختلفا» ثم كانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن هؤلاء خير من عمرو. وتولية المفضول لمصلحة تجوز كما أمّر أسامة ليأخذ بثأر أبيه.

قال: "وقطع سارقا ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى"

قلنا: من أظهر الكذب أن يجهل هذا أبو بكر. ثم لو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان سائغا [لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيّن اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: "فاقطعوا أيمانهما" وبذلك مضت السنة. ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة فليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه.

قال: "وأحرق الفجاءة السلمي بالنار مع النهي عن ذلك".

قلنا: إحراق علي الزنادقة بالنار أشهر. فقد ثبت في الصحيح أن عليا أتي بقوم زنادقة فحرّقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي : «من بدل دينه فاقتلوه»

قال: "وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة فلم يعرف حكم الكلالة وقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية وهذا يدل على قصوره".

قلنا: هذا بهتان عظيم كيف يخفى عليه أكثر الأحكام ولم يكن من يقضي ويفتي بحضرة النبي إلا هو ولم يكن النبي أكثر مشاورة لأحد منه له ولعمر. وقد تقدم النقل عن منصور [بن عبد الجبار] السمعاني وذكر عن غير واحد الإجماع على أنه أعلم الأمة وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها بعلم يبينه لهم من الكتاب والسنة، كما بين لهم موت النبي وموضع دفنه وثبتهم على الإيمان وقرأ عليهم الآية وبين لهم قتال مانعي الزكاة وأن الخلافة في قريش. ولولا علمه بالمناسك والصلاة لما استعمله عليهما الرسول ، [وعلم المناسك أدق ما في العبادات. ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.] وكتابه في الصدقة [أخذه أنس من أبي بكر] وهو أصح ما روي فيها [وعليه اعتمد الفقهاء]. وفي الجملة لا تعرف مسألة من الشريعة غلط فيها بخلاف غيره.

وأما قوله: "لم يعرف حكم الكلالة" فيقال: هذا من أعظم علمه، فإن الرأي الذي رآه عليه جماهير العلماء وأخذوا بقوله وهو أنه من لا ولد له ولا والد. وأما الجد فإنما هذا قضاء عمر. وأما أبو بكر فإنه لم يختلف قوله أن جعله أبا، وهو قول بضعة عشر صحابيا ومذهب أبي حنيفة وبعض الشافعية والحنابلة، وهو الأظهر في الدليل. وقال مالك والشافعي وأحمد بقول زيد بن ثابت. وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه الأئمة. فلما أجمع المسلمون على أن الجد الأعلى أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة. ثم القائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متناقضة.

قال: "فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض".

قلنا: إنما قال [علي] سلوني لأهل الكوفة ليعلمهم الدين فإن غالبهم كانوا جهلة. وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره أكابر الصحابة فكانت رعيته أعلم الأمة [وأدينها. وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين، وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي رضي الله عنه يذمهم ويدعو عليهم. وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم]. وقد جمعت الفتاوى المنقولة عن الخلفاء الأربعة فوجدوا أصوبها [وأدلها على علم صاحبها] أمورَ أبي بكر ثم عمر، والأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي. [وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده.]

قال: "قال أبو البختري: رأيت عليا صعد منبر الكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله متقلدا سيف رسول الله معتما بعمامته وفي إصبعه خاتم رسول الله فكشف عن بطنه فقال: سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله هذا ما زقني رسول الله زقا من غير وحي إلي فوالله لو ثنيت وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى تنطق التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله فيّ".

قلت: هذا كذب فاحش. وعلي أعلم بالله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل، وإذا تحاكم إليه أهل الكتابين لم يجز له أن يحكم بغير القرآن. [ومن نسب عليا إلى أن يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى أو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك إما أن يكون من أجهل الناس بالدين وبما يُمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقا ملحدا أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب دون المدح والثواب].

قال: "وروى البيهقي بسنده عن رسول الله قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي". 3

قلنا: وهذا خبر منكر فهاتوا إسناده إن كنتم صادقين. [ويقال ثانيا: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله بلا ريب عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث وإن كانوا حراصا على جمع فضائل علي كالنسائي فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه الخصائص والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله ومنها ما هو ضعيف بل موضوع ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه.]

قال: "وقال أبو عمر الزاهد: قال أبو العباس: لا نعلم أحدا قال بعد نبيه سلوني من شيث إلى محمد إلا عليا فسأله الأكابر أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطع السؤال [ثم قال بعد هذا: يا كميل بن زياد إن ها هنا علما جما لو أصبت له حملة".

والجواب أن هذا النقل إن صح عن ثعلب فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يحتج به، وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه حتى يقال صح عنده، بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها فكيف ثعلب. وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد]. وعلي لم يقل هذا في خلافة أبي بكر وعمر ولا عثمان بل قال نحوه بالكوفة فكان يأمرهم بطلب العلم والسؤال كما في حديث كميل بن زياد ولم يصحبه إلا بالكوفة فإنه قال: "يا كميل إن هاهنا لعلما لو أصبت له حملة". وأما أبو بكر فلم يكن يسأل عليا عن شيء. وأما عمر فكان يشاوره كما يشاور غيره.

قال: "وأهمل أبو بكر حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد حيث قتل مالك بن نويرة وأشار عمر بقتله فلم يقبل".

فنقول: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة كان هذا من أكبر حجج شيعة عثمان على علي، فإن عثمان خير من أمثال مالك بن نويرة وقد قتل مظلوما شهيدا وعلي لم يقتص من قتلته ولذا امتنع الشاميون من مبايعته. فإن عذرتموه فاعذروا أبا بكر فإنا نعذرهما. وكذلك إنكاركم على عثمان حيث لم يقتص من عبيد الله بن عمر بالهرمزان. ثم إن عمر أشار عليه باجتهاد منه.

قال: "وخالف أمر النبي في توريث بنته ومنعها فدك".

قلنا: جميع المسلمين مع أبي بكر فيما فعل -خلا جهلة الشيعة- وذلك لرواية جماعة من الصحابة عن النبي أنه قال: «لا نورث»

قال: "ومنها ما رواه عن عمر وهو في كتاب الحلية أنه لما احتضر قال: يا ليتني كنت كبشا لقومي فذبحوني. فهل هذا إلا مثل قول الكافر {يا ليتني كنت ترابا} وقال ابن عباس: لما احتضر عمر قال: لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع. وهذا مثل قوله تعالى: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لأفتدوا به} فلينظر المنصف قول الرجلين عند احتضارهما وقول علي: متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه [متى ألقاها] متى ينبعث أشقاها. وقوله حين قتله: فزت ورب الكعبة".

والجواب أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله. فما نقله عن علي قد نقل مثله عمن هو دونه بل قاله أيضا بعض الخوارج. وقال بلال [عتيق أبي بكر] عند الاحتضار وامرأته تقول: واحزناه! وهو يقول: واطرباه غدا ألقى الأحبة محمد وحزبه. وفي البخاري عن المسور [بن مخرمة] قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس وكأنه يجزعه -أي يزيل جزعه-: يا أمير المؤمنين لئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. فقال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإن ذلك من من الله من به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإن ذلك من من الله من به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه. فقد مات رسول الله وهو عنه راض ومات هو ورعيته عنه راضون مقرون بعدله والله عنه راض، وخشيته من الله وخوفه منه لكمال علمه [فإن الله تعالى يقول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}] وقد كان النبي يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي صحيح مسلم أنه لما قتل عثمان بن مظعون قال النبي : «والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» وقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» وعن أبي ذر قال: "وددت أني شجرة تعضد".

وأما الكافر فإنه يقول: {يا ليتني كنت ترابا} في القيامة وكذلك: {لو أن لهم ما في الأرض لافتدوا به} يوم القيامة. وأما الدنيا فمن جعل خوف المؤمن من ربه كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور والظل كالحرور. ومن ولي الأمة فعدل عدلا يشهد به عامتهم وهو في ذلك خائف وجل من أن يكون ظلم أفضل ممن يقول كثير من رعيته إنه ظلم وهو في نفسه مدل بعمله. وبعدل عمر يضرب المثل.

قلتُ: وقال ابن عيينة عن جعفر الصادق عن أبيه عن جابر أن عليا دخل على عمر وهو مسجى فقال: صلى الله عليك. وهذا من أصح الأخبار. وقال ابن المبارك وغيره عن عمر بن سعيد بن أبي حسين [النوفلي المكي] عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه جماعة يدعون ويثنون فلم يرعني إلا رجل أخذ بمنكبي فإذا علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك. وهذا أيضا صحيح.

قال: "وعن ابن عباس أن رسول الله قال في مرضه ائتوني بدواه وبيضاء لأكتب لكم كتابا لا تضلون من بعدي، فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله، فكثر اللغط فقال رسول الله : اخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي. قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب النبي . وقال عمر لما مات رسول الله : ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} وقوله تعالى: {أفإن مات أو قتل انقلبتم} قال: كأني ما سمعت هذه الآية".

فيقال: أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر. قال النبي : «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» قال ابن وهب: معناه ملهمون. أخرجه مسلم [عن عائشة]. وقال النبي : «قد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر» أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وقال : «بينما أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم» أخرجه البخاري. وفي الصحيح عن أبي سعيد قال رسول الله : «بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون على وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين» وفي الصحيحين أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر.

فأما قصة الكتاب فقد جاء مبينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: قال رسول الله في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي صحيح البخاري قالت عائشة: وارأساه! فقال رسول الله : «ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك» فقلت: واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال : «بل أنا وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويأبى الله والمؤمنون» وفي صحيح مسلم [عن ابن أبي مليكة] سئلت عائشة رضي الله عنها: من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر، قيل لها: فمن بعده؟ قالت: عمر، قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة.

وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول رسول الله من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء. ولهذا قال: "ما له أهجر" فشك في ذلك وما جزم. والشك يجوز على عمر إذ لا معصوم بعد النبي ، فجوّز أن يكون كلامه من وجع الحمى؛ ولذلك ظن أنه لم يمت [حتى تبين أنه قد مات]. والنبي كان قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما أراد كما قال: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وقول ابن عباس: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب الكتاب" يقتضي أن الحائل كان رزية وهي في حق من شك في خلافة أبي بكر أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كتب كتابا لزال الشك. فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه [ولله الحمد.

ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة. أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه. وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا؛ وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب. وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى. وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك. فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد، فإنه أطوع الخلق له. فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله.] وما مثل عمر بأعظم ممن [يفتي و]يقضي مجتهدا بأمور يكون النبي قد حكم بخلافها؛ إذ الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه، والكل من الخطأ المغفور. فقد قضى [علي] في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد أبعد الأجلين مع صحة خبر سبيعة ولكنه لم يبلغه؛ وقضى في المفوضة أن مهرها يسقط بالموت مع قضاء الرسول في بروع بأن لها مهر نسائها؛ وأراد أن ينكح ابنة أبي جهل حتى غضب رسول الله فرجع عن ذلك؛ وأمثال هذا مما لم يقدح في علي ولا غيره من أولي العلم إذا اجتهدوا؛ وقال إذا اختارت المرأة زوجها فهي طلقة مع أن النبي خيّر نساءه ولم يكن ذلك طلاقا. [والأمور التي كان ينبغي لعلي أن يرجع عنها أعظم بكثير من الأمور التي كان ينبغي لعمر أن يرجع عنها مع أن عمر قد رجع عن عامة تلك الأمور وعلي عرف رجوعه عن بعضها فقط كرجوعه عن خطبة بنت أبي جهل وأما بعضها كفتياه بأن الحامل المتوفى عنها تعتد أبعد الأجلين وأن المفوضة لا مهر لها إذا مات الزوج وقوله إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة فهذه لم يعرف إلا بقاؤه عليها حتى مات. وكذلك مسائل كثيرة ذكرها الشافعي في كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكرها محمد بن نصر المروزي في كتاب رفع اليدين في الصلاة، وأكثرها موجودة في الكتب التي تذكر فيها أقوال الصحابة إما بإسناد أو بغير إسناد مثل مصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور ومصنف وكيع ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة وسنن الأثرم ومسائل حرب وعبد الله بن أحمد وصالح وأمثالهم مثل كتاب ابن المنذر وابن جرير الطبري وابن حزم وغير هؤلاء.]

قال: "ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر فحرق الكتاب فدعت عليه بما فعله به أبو لؤلؤة".

قلنا: هذا والله من أقبح الكذب الذي اختلقته الرافضة. أفيُعيَّر عمر بأن أكرمه الله بالشهادة على يد أبي لؤلؤة الكافر بعد ثلاث عشرة سنة من وفاة فاطمة كما أكرم عليا بالشهادة رضي الله عنهم أجمعين.

قال: "وعطل عمر الحدود فلم يحد المغيرة بن شعبة".

قلنا: [إن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة، وإن البينة إذا لم تكمل حدَّ الشهود،] وفعل ذلك بحضرة الصحابة -علي وغيره- فأقروه عليه. بدليل أنه لما جلد الثلاثة أعاد أبو بكرة القذف وقال: والله لقد زنا، فهم عمر بجلده ثانيا فقال له علي: إن كنت جالده فارجم المغيرة، يعني يكون تكراره للقول بمنزلة شاهد آخر فيتم النصاب ويجب الرجم. وهذا دليل على رضا علي بحدهم لأنه ما أنكره. وعمر قد أقام الحد على ابنه في الخمر [لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سرا في البيت وكان الناس يضربون علانية فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده لأنه حابى ابنه ثم طلبه فضربه مرة ثانية]. وكان لا تأخذه في الله لومة لائم. وعدله متواتر لا ينكره إلا رافضي. وكذلك لا ينكر على علي في تركه إقامة الحد على قتلة عثمان لأنه مجتهد كعمر.

قال: "وكان يعطي أزواج النبي من بيت المال أكثر مما ينبغي ويعطي عائشة وحفصة في السنة عشرة آلاف".

قلنا: كان مذهبه التفضيل في العطاء، كما كان يعطي بني هاشم أكثر من غيرهم ويبدأ بهم ويقول ليس أحد أحق بهذا المال من أحد وإنما هو الرجل وعناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وسابقته والرجل وحاجته، وكان يعطي ابنه عبد الله أنقص مما يعطي أسامة بن زيد. فوالله ما كان عمر يتهم في تفضيله لمحاباة ولا صداقة.

قال: "وغيّر حكم الله في المنفيين".

قلنا: النفي في الخمر تعزيز يسوغ للإمام فعله باجتهاد. وقد ضرب الصحابة في الخمر أربعين وضربوا ثمانين، وصح أن عليا قال: "وكُلٌّ سنة" وقد قال العلماء: الزيادة على أربعين حد واجب، وبه يقول أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال الشافعي: الزائد تعزير وللإمام أن يفعله. وكان عمر يحلق في الخمر وينفي. وصح عن النبي الأمر بقتل الشارب في الرابعة، واختلف في نسخه. وكان علي يحد أكثر من الأربعين وقال: "ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات لوديته فإنه شيء فعلناه بآرائنا" رواه الشافعي واستدل به على أن الزيادة من باب التعزير الذي يفعل بالاجتهاد.

قال: "وكان قليل المعرفة بالأحكام، أمر برجم حامل حتى نهاه علي".

قلنا: إن كانت هذه القضية وقعت فلعل عمر لم يعلم يحملها والأصل عدم الحمل أو غاب عنه الحكم حتى ذكّره علي، فكان ماذا؟ بمثل هذا فيقدح في أئمة الهدى؟ وعلي قد خفي عليه من السنة أضعاف هذا وأدى اجتهاده إلى أن قُتل يوم الجمل وصفين نحو من تسعين ألفا، فهذا أعظم مرارا من خطأ عمر في قتل ولد زنا، ولم يقتله ولله الحمد.

قال: "وأمر برجم مجنونة فقال له علي: إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، فأمسك وقال: لولا علي لهلك عمر".

قلنا: هذه الزيادة ليست معروفة. فإن كان عمر لا يعلم بخبرها فلا ضير أو علم وذهل أو اجتهد فله أسوة بغيره وما هو بمعصوم.

قال: "وقال في خطبة له: من غالى بمهر امرأة جعلته في بيت المال، [فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: {وآتيتم إحداهن قنطارا}] فقال: كل أحد أفقه من عمر".

قلنا: هذا من كمال فضله وتقواه حيث رجع إلى كتاب الله إذ تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع ويعترف. وما من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول، فقد قال هدهد لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} ورحل موسى إلى الخضر وهو دونه ليتعلم منه. وما كان قد رآه عمر فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل، فإن الصداق فيه حق لله ليس من جنس الثمن والأجر.

قال: "ولم يحد قدامة في الخمر لأنه تلا عليه قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} فقال له علي: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحده فقال له علي: حده ثمانين".

والجواب: علم عمر في هذا أبين من أن يحتاج إلى دليل فقد جلد في الخمر مرات. والذي نعرفه من القصة ما رواه أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما حملك على ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا} وأنا من المهاجرين الأولين، فقال عمر: أجيبوه، فسكتوا، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل التحريم. ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين، فجلده عمر ثمانين. فإن كان علي أشار بالثمانين فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان [لما جلد] الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر. وثبت في الصحيح أن ابن عوف أشار بالثمانين فلم يكن جلد عمر مستفادا من علي. وقد ذكرنا أن عليا قال: "لو مات في جلد الخمر أحد لوديته لأن النبي لم يسنه لنا".

قال: "وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفا منه فقال له الصحابة: نراك مؤدبا ولا شيء عليك. ثم سأل عليا فأوجب الدية على عاقلته".

قلنا: هذه من مسائل الخلاف والاجتهاد. وما زال عمر يشاور مثل عثمان وعلي وابن مسعود وزيد وابن عباس، وهذا من كماله. وقد أتي بامرأة أقرت بالزنا فاتفقوا على رجمها فقال عثمان: أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم، فلم يحدها لكونها جهلت التحريم. وكذا لم يعاقب النبي أسامة لما قتل الذي قال "لا إله إلا الله" لاعتقاده جواز قتله. ومن ذلك قتل خالد بني جذيمة وقتله مالك بن نويرة.

قال: "وتنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم [وفزع] فيه إلى أمير [المؤمنين] فاستد [على المرأتين] ووعظهما فلم ترجعا فقال: ائتوني بالمنشار أقده بينكما نصفين فقالت واحدة: الله الله يا أبا الحسن قد سمحت لها به، فقال علي: الله أكبر هو ابنك ولو كان ابنها لرقت عليه".

قلنا: هذه قضية لا تعرف لعمر بل هي معروفة لسليمان عليه السلام كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعا وفيها أن الله فهّم سليمان من الحكم ما لم يفهمه داود كما قال تعالى: {ففهمناها سليمان} وكان سليمان قد سأل الله حكما يوافق حكمه فأعطاه، وما نعلم أن سليمان أفضل من داود. وقد جاء أن داود عليه السلام كان أعبد البشر.

قال: "وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين}".

قلنا: كان عمر يستشير الصحابة وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادعت شبهة. فمذهب مالك أنها ترجم وهو رواية عن أحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي لا ترجم فلعلها مستكرهة أو حملت بلا وطء. والأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين. وفي الصحيحين أن عمر خطب في آخر عمره وقال: الرجم حق على من زنى إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. وكذا اختلفوا في الشارب إذا تقيأها. ولعل عمر جوّز أن تلد امرأة لدون ستة أشهر ورآه من النادر، كما وجد في النادر من حملت أربع سنين ومن حملت سبع سنين وفي حد ذلك نزاع بين العلماء.

قال: "وكان يضطرب في الأحكام فقضى في الجد بمائة قضية".

والجواب أن عمر أسعد الصحابة [المختلفين في الجد] بالحق. فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين. أحدهما أن يسقط الإخوة، وهذا قول أبي بكر وأبي موسى وأبي عباس وطائفة ومذهب أبي حنيفة وابن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة، وهو الحق فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد، وقد اتفق المسلمون على أن الجد هنا أب والأب أولى من الأعمام فيجب أن يكون أبو الأب أولى من الإخوة، وأيضا فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب بمنزلة الجد لكان أولادهم وهم بنو الأخوة كذلك، ألا ترى أن ابن الابن أولى من الجد، فكان ابنه بمنزلته. وأيضا فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أبا. وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر. القول الثاني أن الجد يقاسم الإخوة. وهذا قول عثمان وعلي وزيد وابن مسعود. ولكن اختلفوا في التفصيل اختلافا متباينا والجمهور على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد. وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه أحد من أئمة الفقهاء إنما يذكر عن ابن أبي ليلى. وإن صح أن عمر قضى فيها بمائة قضية لم يرد الراوي أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول إذ ليس ذلك بممكن وليس في مسألة الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء أم وأخت وجد، وكل الأقوال فيها ستة، فعلم أنه أراد مائة حادثة من حوادث الجد لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة. وقول علي في الجد مختلف أيضا والمسائل التي لعلي فيها أقوال كثيرة. [وأهل الفرائض يعلمون هذا. مع أن الأشبه أن هذا كذب فإن وجود جد وإخوة في الفريضة قليل جدا في الناس، وعمر إنما تولى عشر سنين وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا. ومن كان متوقفا لم يحكم فيها بشيء.]

قال: "وكان يفضل في الغنيمة والعطاء وأوجب الله التسوية".

قلنا: أما الغنيمة فلم يكن هو يقسمها بل أمراء جيوشه القائمون بعد الخمس ثم يرسل إليه الخمس. وقد تنازع العلماء هل يفضل بعض الغانمين لمصلحة. وذلك روايتان عن أحمد. وإلى الجواز ذهب أبو حنيفة لأن النبي نفل [في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته] الثلث بعد أن خمس. وفي صحيح مسلم أن النبي أعطى سلمة بن الأكوع سهم فارس وراجل في غزوة الغابة وكان راجلا [لأنه أتى من القتل والغنيمة وإرهاب العدو بما لم يأت به غيره]. وقال مالك والشافعي: لا يكون إلا من خمس الخمس. وأين مثل عمر الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وكان يجعل الناس مراتب في العطاء وأبو بكر كان يسوي. وهي مسألة اجتهاد.

وقوله: "أوجب الله التسوية" مجرد دعوى، [فهو لم يذكر على ذلك دليلا ولو ذكر دليلا لتكلمنا عليه كما نتكلم في مسائل الاجتهاد].

قال: "وقال بالرأي والحدس والظن"

قلنا: هذا لم يختص به. وقد كان علي من أقولهم بالرأي. فمن ذلك سيره إلى صفين فقال: لم يعهد إلي فيه نبي الله بشيء ولكنه رأي رأيته. وأما قتاله الخوارج فكان معه فيه حديث. [وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا، إلا القاعدون فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة. ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به؛ وإن كان مذموما فلا رأي أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عما كان وزاد الشر على ما كان. فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب به فرأي عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب. مع أن عليا شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء. وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة، وكان هذا الرأي أصلح من رأي القتال بالدلائل الكثيرة. ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي. وقد قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد، والآن فقد رأيت أن يبعن" فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.] وفي صحيح البخاري من حديث عبيدة عن علي قال: اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. رواه ابن سيرين عن عبيدة، فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي الكذب.

وأما حديث تقتيل الناكثين والقاسطين والمارقين فموضوع على النبي وقد قال ابن عمر: ما رأيت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول. فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أجود من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير. ولهذا كانت آثار رأيه محمودة. وما يتمارى في كمال سيرته وعلمه من له أدنى مسكة من إنصاف. ولا يطعن على أبي بكر وعمر إلا جاهل غر أو ملحد منافق توسل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام؛ وهذا حال من ابتدع الرفض وحال الباطنية. وإذا قال الرافضي: علي معصوم لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل النص؛ قيل له: نظيرك في الطرف الآخر الخوارج الذين كفروه.

قال: "وجعل بعده الأمر شورى وخالف فيه من تقدمه وتأسف على سالم مولى أبي حذيفة وقال: لو كان حيا لم يختلجني فيه شك. وأمير المؤمنين علي حاضر" وذكر فصلا طويلا.

والجواب أن هذا [الكلام كله لا يخرج عن قسمين: إما] كذب في النقل [وإما قدح في الحق. فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق. وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله له بها عمله. ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح، فليس لهم عقل ولا نقل؛ بل لهم نصيب من قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير}

وأما قول الرافضي: "وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه" فالجواب أن الخلاف نوعان: خلاف تضاد وخلاف تنوع. فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر. والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة كما ثبت في الصحاح بل استفاض عن النبي أنه قال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف» وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه فقال لكليهما: «هكذا أنزلت» ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين. ولهذا استشار النبي أصحابه يوم بدر فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بأخذ الفداء وشبهه النبي بإبراهيم وعيسى، وأشار إليه عمر رضي الله عنه بالقتل وشبهه بنوح وموسى، ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به بل مدحه وشبهه بالأنبياء، ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل. ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا، كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رأيه أن يولي خالد بن الوليد في حروبه وكان عمر يشير عليه بأن يعزله فلا يعزله ويقول إنه سيف سله الله على المشركين، ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح؛ وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته فإن أبا بكر كان فيه لين وعمر كان فيه شدة، وكانا على عهد النبي يستشيرهما. وروي عنه أنه قال: "إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما" وثبت في الصحيح عن النبي أنه قال في بعض مغازيه: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» وفي رواية في الصحيح: «كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليس فيهم أبو بكر وعمر إن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وإن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم» قالها ثلاثا. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه وهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فأمده الله بالملائكة.

وكان السلف متفقين على تقديم أبي بكر وعمر حتى شيعة علي رضي الله عنه. وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق: حدثنا محمد بن حميد: حدثنا جرير عن سفيان عن عبد الله بن زياد بن حدير قال: قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه، فجلسنا إليه فتحدثوا فقال أبو إسحاق: "خرجتُ من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدري ما يقولون". وعن ضمرة عن سعيد بن حسن قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول: "أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا" وقال أحمد بن حنبل: حدثنا سفيان بن عيينة عن خالد بن سلمة عن مسروق قال: "حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة" ومسروق من أجل تابعي الكوفة. وكذلك قال طاوس. وقد روي ذلك عن ابن مسعود.

وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقا. وقد روى البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول:

ولو كنت بوابا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلام

فقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو همداني عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنيفة قال: قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ؟ فقال: يا بني أوما تعرف؟ فقلت: لا، قال أبو بكر، فقلت: ثم من؟ قال: عمر. وهذا يقوله لابنه بينه وبينه؛ ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية، ويرويه عن أبيه خاصة. وقاله على المنبر. وعنه أنه كان يقول: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وفي السنن عنه أنه قال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد إن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها، وهذا أظهر القولين. كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها لأمر النبي باتباع سنتهم. وكان نبينا مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها فهو الضحوك القتال وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة؛ بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} فكان النبي يجمع بين شدة هذا ولين هذا فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة. فلما قبض الله نبيه وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين -فإن مجرد اللين يفسد ومجرة الشدة تفسد- ويكون قد قام مقام النبي فكان يستعين باستشارة عمر وبإستنابة خالد ونحو ذلك، وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله . ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره حتى روي أن عمر قال له: يا خليفة رسول الله تألَّفِ الناس، فقال: علام أتألفهم أعلى حديث مفترى أم على شعر مفتعل. وقال أنس: خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي وإنا لكالثعلب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود. وأما عمر رضي الله عنه فكان شديدا في نفسه فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي والنعمان بن مقرن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله.

ومن هذا الباب أمر الشورى فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين له فيه أمر الله ورسوله، فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا، وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس ومثبتته، فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل، فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص العام بل باجتهاد خاص.

وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن تولى الأمور من يصلح لها، فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص. والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم فليس هو أعظم من الرسول، ونوابه وعماله ليسوا معصومين، ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة. وأما علي رضي الله عنه فظهور الأمر في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير جدا. فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في الجزئيات من المعصومين وغير المعصومين. وفي الصحيح عن النبي أنه قال: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده، ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر.

وعمر رضي الله عنه إمام، وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين. فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم وهو كما رأى، فإنه لم يقل أحد إن غيرهم أحق منهم. وجعل التعيين إليهم خوفا أن يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم. وهذا أحسن، اجتهاد إمام عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه. وأيضا فقد قال تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وقال: {وشاورهم في الأمر} فكان ما فعله من الشورى مصلحة. وما كان فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضا فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين. فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير أو سعدا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له. ولهذا قال عبد الله بن مسعود: أفرس الناس ثلاثة بنت صاحب مدين حيث قالت: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وامرأة العزيز حيث قالت: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} وأبو بكر حيث استخلف عمر.

وقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها: "أبي وما أبي، والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف وفرع مديد، هيهات كذبت الظنون، أنجح إذ أكديتمظن وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمدظن فتى قريش ناشئاظن وكهفها كهلا، يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها حتى جلبته قلوبها، ثم استشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج، فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به {الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها وانتبلوه غرضا فما فلوا له صفاة ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه، حتى إذا ضرب الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله لنبيه ما عنده، فلما قبض الله نبيه ضرب الشيطان روقه ومد طنبه ونصب حبائله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم، فقام حاسرا مشمرا، فجمع حاشيته وضم قطريه، فردَّ نشر الإسلام على غره ولم شعثه بطبه وأقام أوده بثقافه، فوقذ النفاق بوطأته وانتاش الدين بنعشه، فلما أراح الحق على أهله وقرر الرءوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته، فسد ثلمه بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب، لله أم حفلت له ودرت عليه، لقد أوحدت به، فقبح الكفر وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها ولفظت خبيئها ترأمه ويصد عنها، وتصدى له ويأباها، ثم ورع فيها وودعها كما صحبها، فأروني ما تريبون وأي يومي أبي تنقمون، أيوم إقامته إذ عدل فيكم أو يوم ظعنه وقد نظر لكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. روى هذه الخطبة جعفر بن عون عن أبيه عن عائشة، وهؤلاء رواة الصحيحين.

وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربا.] صح عنه أنه قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -يعني النبي . والخلاف ما زال في القراءات والفقه وغير ذلك حتى إن العالم الواحد يقول قولين مختلفين، وما زالت آراء الكبار تختلف. وثبت أن النبي قال في بعض المغازي: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» وروي عنه أنه قال لهما: "لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما" وقال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» فما فعله أبو بكر من استخلافه عمر كان المصلحة لكمال عمر وشفوفه واستحقاقه، وظهر أثر ذلك عند كل عاقل منصف. وكان ما فعله عمر هو المصلحة فإنه لم يترجح عنده أحد من الستة على الباقين ورآهم متقاربين وفي كلٍّ فضيلة ليست في الآخر، وترك التعيين خوفا وورعا وفعل من المصلحة بحسب الإمكان. ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان وكانت ولايته أرجح مصلحة وأقل مفسدة من غيره. والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة ولا يجب على الخليفة أن يستخلف بعد موته، فقال: الأمر شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض.

وأما ما زعمتَ من ذكر سالم مولى أبي حذيفة فمعلوم أن الصحابة يعلمون الإمامة في قريش كما استفاضت بذلك السنن، وذلك مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة، فكيف يظن بعمر أنه يولي مولى، فأين يذهب عقلك؟ [بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولي ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة، فإن سالما كان من خيار الصحابة.]

وقولك: "جمع بين الفاضل والمفضول" فهذا عندك، وأما عندهم فكانوا متقاربين ولهذا كانوا في الشورى مترددين. فإن قلت: علي هو الفاضل وعثمان المفضول؛ قيل لك: فكيف أجمع المهاجرون والأنصار على تقديم مفضول؟ وقال بعض العلماء: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: كنا نفاضل على عهد النبي فنقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وفي لفظ ثم ندع أصحاب النبي فلا نفاضل بينهم. فهذا ينقل ما كان عليه الصحابة على عهد نبيهم. وظهر أثر ذلك فإنهم بايعوا عثمان من غير رغبة ولا رهبة واتفقوا عليها وكانوا كما نعتهم الله: {يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} حتى قال ابن مسعود: ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل. [وفيهم العباس بن عبد المطلب وفيهم من النقباء عبادة بن الصامت وأمثاله وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري، وكل من هؤلاء ومن غيرهم لو تكلم بالحق لم يكن هناك عذر يسقطه عنه، فقد كان يتكلم من يتكلم منهم على عهد رسول الله في ولاية من يولى وهو مستحق للولاية ولا يحصل لهم ضرر، وتكلم طلحة وغيره في ولاية عمر لما استخلفه أبو بكر، وتكلم أسيد بن حضير في ولاية أسامة بن زيد على عهد النبي . وقد كانوا يكلمون عمر فيمن يوليه ويعزله. وعثمان بعد ولايته وقوة شوكته وكثرة أنصاره وظهور بني أمية كانوا يكلمونه فيمن يوليه ويعطيه منهم ومن غيرهم، ثم في آخر الأمر لما اشتكوا من بعضهم عزله، ولما اشتكوا من بعض من يأخذ بعض المال منعه، فأجابهم إلى ما طلبوه من عزل ومنع من المال وهم أطراف من الناس وهو في عزة ولايته. فكيف لا يسمع كلام الصحابة أئمتهم وكبرائهم مع عزتهم وقوتهم لو تكلموا في ولاية عثمان.] وكان في ولايته من الفتوحات والخيرات ما لا يوصف. وما حصل منه من تأمير أقاربه وإكثار جوائزهم فقد حصل بعده من غيره من إيثار بعص الناس بولاية أو مال مضافا إلى ما جرى من الفتنة. والصحابة ما كانوا يسكتون كلهم على مضض. ألا تراهم تكلموا في عمر إذ استخلفه أبو بكر وتكلموا مع الصديق وقالوا: ماذا تقول لربك إذا قدمت عليه وقد وليت علينا عمر فظا غليظا؟ فقال: أبالله ترهبونني أقول وليت عليهم خير أهلك. قالوا هذا، ومن شأن الناس أن يراعوا من ترشح للولاية [فيحابونه] خوفا من أن ينتقم بعد منهم. فكيف يحابون عثمان وهو بعد ما بيده أمر. فدل على أنهم إنما قدموه باستحقاق. وهذا شيء إذا تدبره الخبير ازداد به بصيرة وعلما. فأما الجاهل وصاحب الهوى فقد أعمى الله قلبه. وأما من كان عالما بما وقع وهو مستحضر للأدلة عالم بطريقة النظر فإنه يقطع بما بيناه.

ثم قال: "وطَعنَ في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين بعد موته، ثم تقلده [بأن جعل الإمامة في] ستة".

فيقال: لم يطعن فيهم طعن من يرى غيرهم أحق بالأمر، وإنما بين عذره في عدم التعيين.

ثم قال: "فناقض وجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد، فجعل إلى ابن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف".

فيقال: [ينبغي] لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولا. والثابت في البخاري ليس فيه من هذا شيء، بل فيه ما يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين ردوا الأمر إلى الثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف. بلى قال عمر: فإن أصابت سعدا الخلافة، وإلا فليستعن به من ولي فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. ثم قال: أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم - وذكر الحديث. وكان عمر في حياته لا يخاف أحدا. والرافضة تسميه فرعون هذه الأمة قاتلهم الله. فإذا كان في حياته لا يخاف أحدا فكيف يخاف من تقديم عثمان لو أراد أن يقدمه عند موته والناس كلهم مطيعوه؟ وأي غرض يكون لعمر في عثمان دون علي؟ فقد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل سعيد بن زيد في أهل الشورى وهو أقرب الناس إليه. فلأي شيء يحابي كما افتريتم عليه وهو في تلك الحال وفي آخر ساعة من الدنيا وقت يسلم فيه الكافر ويخشع فيه الفاجر. فلو علم أن لعلي حقا دون غيره بنص أو بأولوية لقدمه توبة إلى الله أو ابتغاء رضوان الله. وليس في العادة أن الرجل يفعل عند لقاء الله ما يعلم أنه يعاقب عليه مما لا ينفعه في دين ولا دنيا. ولو قدر أنه كان عدوا مبغضا للرسول فلا ريب أنه بسبب النبي نال من السعادة ما نال. ثم إن عمر كان من أذكى خلق الله تعالى، ودلائل النبوة من أظهر الأمور، [فهو يعلم أنه إن استمر على معاداته يعذب في الآخرة، وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه،] فكيف استفرغ وسعه في عداوة بيت نبي الله وابن عمه؟ [وهو الذي] لزم العيش الخشن والثوب القطني والصبر على العدل وعن جمع الأموال وعلى مجافاة الأشراف بحيث أنه قد تركه الحق وما له من صديق.

ثم نقول على ما زعمت: "لولا علي لهلك عمر" قال أبو المعالي الجويني: ما دار الفلك على شكل عمر. وصدق رسول الله إذ يقول [لعمر]: «ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك غير فجك» وأمر أمير المؤمنين عمر أبين من الشمس. وما زال بنو هاشم وبنو أمية متفقين [في أيام النبي وفي] إمرة الشيخين [حتى إن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ورآه العباس أخذه وأركبه خلفه وأتى به النبي وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له إن أبا سفيان يحب الشرف، وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية] إذ القبيلان من بني عبد مناف. [وحتى إنه كان بين علي وبين رجل من المسلمين منازعة في حد فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد هل كان هذا على عهد عمر فقالوا: نعم، فقال: لو كان هذا ظلما لغيره عمر. فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ولم يكن علي حاضرا بل كان وقد وكل ابن جعفر. وكان علي يقول إن للخصومات قحما وإن الشيطان يحضرها وكان قد وكل عنه عبد الله بن جعفر في المحاكمة. وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم كما هو مذهب الشافعي وأصحاب أحمد وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة. فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي فقال: أتدري لم فعل ذلك معاوية فعل لأجل المنافيّة، أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف. وكانت قد وقعت حكومة شاورني فيها بعض قضاة القضاة وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ولم يعرفوا هذه اللفظة لفظة المنافية فبينتها لهم وفسرت لهم معناها. والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي وأبي بكر وعمر.] ثم إن عليا وعثمان اتفقا على رد الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف من غير أن يكره أحدهما الآخر.

وقولك: "إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل عن أخيه وابن عمه"

فهذا كذب بارد وجهل بالنسب؛ إذ عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عم ولا هو من قبيلته أصلا. وبنو زهرة إلى بني هاشم أميل، فإنهم أخوال النبي وقد جاء أن النبي قال في سعد: «هذا خالي». بلى، سعد زهري من قبيلة ابن عوف، فهلا آثره بها!

ثم قلت: "إنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام".

قلنا: أين النقل الثابت بهذا؟ إنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم. أوَكان عمر يأمر بقتل ستة هم عنده أفضل أهل الأرض، ثم كيف يطيعه أنصار رسول الله بعد موته في قتلهم؟ ولو أمر بقتلهم لَذَكَرَ بعد موتهم مَن يصلح لها غيرهم. ثم أيضا من الذي يتمكن من قتل هؤلاء الذين كل واحد منهم سيد عشيرته؟ فأنت قد رأيت ما جرى في الوجود بقتل واحد منهم وهو عثمان. ثم لو فرضنا أن الستة لم يتولّ أحد منهم فلم يجز قتلهم بل ولا جاز قتل واحد منهم وإنما يولى غيرهم. ولا سمعنا في العالم أن أحدا امتنع من الخلافة فقتل. فتبين أن هذا كذب.

ثم العجب من الرافصة يزعمون أن الستة مستحقو القتل سوى علي. ثم العجب أنه يحابيهم بالولاية ثم يأمر بقتلهم. وكذا فليكن الجمع بين الضدين! ثم قد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولا حبسوه فضلا عن القتل. وتربص علي عن البيعة مدة ولم يقل له أبو بكر شيئا حتى جاء وبايعه ولم يكرهه أحد. وما زال أبو بكر يكرمه ويجله وكذلك عامله عمر، ويقول أبو بكر: أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل بيته. ويذهب أبو بكر وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم فيذكر فضلهم ويعترفون باستحقاقه الخلافة. ولو أراد هو أو عمر إيذاء علي في خلافتهما لكانا أقدر [على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي ،] ولكنهما أتقى لله من ذلك. فهؤلاء الجهلة يزعمون أنهما ظلماه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه وكانا أعجز عن ظلمه لو شاءاه، فهلا ظلماه في قوتهما وطاعة الخلق لهما كما جرت عادة الملوك من الفعل بمن يخافون منه ولو أرادا ذلك لما عجزا ولكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص بزعمكم. بل ما زالا يعاملانه بالجميل بكل طريق. ولم يحفظ عنه كلمة سوء في حقهما ولا تظلم منهما أبدا. بل تواتر عنه محبتهما وإجلالهما ظاهرا وباطنا. وهذا أمر معروف عند من يدري الأمر ويعرف الأخبار. أما من رجع إلى الأكاذيب وبهتان الرافضة الذين هم أجهل الأمة بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة الأثر وأنقلهم للكذب المستحيل المتناقض الذي لا يروج إلا على البهائم كترويج قصاص الطرقية على العوام وأهل القرى والجبل وأهل البادية فلا قوة إلا بالله.

قال: "وأما عثمان فإنه ولى من لا يصلح حتى ظهر من بعضهم الفسق والخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب فلم يرجع، واستعمل الوليد بن عقبة فصلى بالناس سكران، واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة فظهر منه ما أدى إلى إخراجه منها، وولى عبد الله [بن سعد] بن أبي سرح مصر فظلم وتشكوا منه فكاتبه سرا أن يستمر على ولايته وأن يقتل محمد بن أبي بكر، وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث، وولى [عبد الله] بن عامر [بن كريز] البصرة ففعل من المناكر ما فعل، وولى مروان ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتله. وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة حتى دفع إلى أربعة زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار. وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره، ولما حكم ضربه حتى مات، وضرب عمارا حتى صار به فتق وقد قال النبي : عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي. وكان عمار يطعن عليه. وطرد رسول الله الحكم عم عثمان فآواه عثمان إلى المدينة. ونفى أبا ذر إلى الربذة وضربه مع قول النبي : «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» وضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان مولى أمير المؤمنين. وأراد أن لا يحد الوليد على الخمر حتى حده علي وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر. وزاد الأذان يوم الجمعة وهي بدعة، وخالفه المسلمون حتى قتل. وعابوا أفعاله وقالوا له: غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى".

والجواب أن نواب علي قد خانوه وعصوه [أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه،] وذهب بعضهم إلى معاوية. وقد ولى [علي رضي الله عنه] زياد [بن أبي سفيان أبا عبيدِ الله بن زياد قاتلِ الحسين،] وولى الأشتر وولى محمد بن أبي بكر؛ ومعاوية خير من هؤلاء [كلهم. ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون/ إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية،] وعلي ولى أقاربه [من قبل أبيه وأمه] كعبد الله وعبيد الله ابني عمه العباس [وقثم بن العباس وثمامة بن العباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره] وولد أخته أم هانئ. [ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة، ومن المعلوم أنه إن كان تولية الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم. وإذا دعي لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين كان ما يدعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول.] وأما عثمان فله أسوة في استعمال بني أمية بالنبي ، فقد استعمل عتاب بن أسيد الأموي على مكة وأبا سفيان على نجران واستعمل خالد بن سعيد بن العاص حتى إنه استعمل الوليد بن عقبة حتى نزلت: {إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية [فيقول عثمان: أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية. وهذا النقل عن النبي في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم. فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل] وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل. وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي منهم إلا عليا على اليمن وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة.

ثم نحن لا ندعي أن عثمان معصوم بل له ذنوب وخطايا يغفرها الله له وقد بشره رسول الله بالجنة على بلوى تصيبه. والرافضي يغلو في الشخص حتى يجعل ذنوبه حسنات ويعمد إلى الشخص فينسى سوابقه التي وجبت له بها الجنة ويعدد ذنوبه؛ وهذا عين الظلم. وقد اتفقت الأمة على أن الذنوب تمحى بالتوبة، وما يمكن أحدا أن يقول إن عثمان ما تاب من ذنوبه. وهنا آيات وأحاديث دالة على أن الله يغفر الذنوب جميعا وأن الصلوات تكفر وغير ذلك. فإن قيل: إذا كفرت الصلوات ما بينها فأي شيء تكفر الجمعة أو رمضان أو صوم عرفة أو عاشوراء؟ [وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات. فيقال] أولا: العمل الذي يمحو الله به الخطايا هو المتقبل، والله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين} والناس لهم في الآية ثلاثة أقوال: فالخوارج والمعتزلة يقولون لا يتقبل الله إلا من اتقى الكبائر ويقولون صاحب الكبائر لا تقبل له حسنة بحال؛ والمرجئة يقولون من اتقى الشرك فهو من المتقين وإن عمل الكبائر وترك الصلاة؛ والسلف والأئمة يقولون لا يتقبل الله إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله كما أمر به مخلصا. قال الفضيل [بن عياض] في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه. قال: فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، وإذا كان صوابا لم يكن خالصا لم يتقبل، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة. وفي السنن عن عمار عن النبي : «إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها -حتى قال- إلا عشرها» وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وكذلك الحج والجهاد والصوم. فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل. والسعيد من أكثر الناس من يكتب له نصف صلاته فيكفر بما يقبل منها وما يقبل من الجمعة ورمضان، والمحو يكون للصغائر تارة وتارة للكبائر باعتبار الموازنة. وفي حديث صاحب البطاقة أنها ترجح بكل ذنوبه. فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق وعبودية وذل كما قالها هذا الرجل، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولونها. وكذلك المرأة البغي التي سقت الكلب بموقها بإيمان خالص فغفر لها. وما كل بغي سقت كلبا يغفر لها بذلك. وإن الرجلين ليكونان في الصلاة وبين صلاتهما كما بين المشرق والمغرب. وقال في أصحابه: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم الصديق بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه. وفي مسلم عن أبي موسى عن النبي أنه رفع رأسه إلى السماء فقال: «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» وفي الصحيح قال : «ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب النبي فيقال نعم فيفتح لهم، [ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم» والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق.] وأما الطبقة الرابعة فمذكورة في بعض طرق الصحيح. وقد ثبت ثناؤه على القرون الثلاثة في عدة أحاديث.

والمقصود أن فضل الأعمال ليس بمجرد صورها بل بحقائقها في القلوب، [والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم. فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين، لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز؟ ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين وأن الأكثر يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما. ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب، وقد قال النبي : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» قالوا فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم، لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك والنبي يخبر أن جبل ذهب من التابعين الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين، ومعلوم فضل النفع المتعدي بعمر بن عبد العزيز: أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم، فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيرا، وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه. إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى. وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة.]

ومن أسباب التكفير الدعاء للمؤمن والصلاة عليه بعد موته والاستغفار له أو استغفار النبي لمعين. ومن ذلك ما يفعل بعد [موت] المؤمن من إهداء عمل صالح له كصدقة وحج وصوم فقد ثبت في الحديث وصول ذلك إليه، وهذا غير دعاء ولده فإن ذلك من عمله ومن كسبه. ومن ذلك مصائب الدنيا فإنها تكفر كما تواترت بذلك النصوص. [وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» وفي الصحيح عن النبي أنه لما نزل قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال النبي : «أعوذ بوجهك» {أو من تحت أرجلكم} قال النبي : «أعوذ بوجهك» {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: «هذا أهون وأيسر»

فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما، والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف، ولهذا لم يحدث في خلافة عثمان بدعة ظاعرة فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته. ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية. ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك. وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو. فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة. ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط. ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة. ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة. ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة، وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة. ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه محمد بن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة. فهذا كله بعد موت معاوية. ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان، وقتل زيد بن علي بالكوفة وقتل خلق كثير آخرون. ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها. فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل.]

ومعاوية على ذنوبه لم يأت بعده مثله ملك. فعن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي. وقال أحمد بن جواس: حدثنا أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية، قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله بل في عدله. وقال أبو أسامة [الثقفي]: حدثنا ثقة عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه لقلتم كان المهدي. وروى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: ما رأيت بعده مثله، يعني معاوية. [وقال البغوي: حدثنا سويد بن سعيد: حدثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قيس قال: كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلا وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس: هل ولد فيكم الليلة ولد، هل حدث الليلة حادث، هل نزل بكم اليوم نازل؟ قال: فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان. وروى محمد بن عوف الطائي: حدثنا أبو المغيرة: حدثنا ابن أبي مريم عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتيكم فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبة علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم. وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة.] وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة؟ قال [ابن عباس]: أصاب إنه فقيه. حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث الصنابحي عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله من إمامكم هذا، يعني معاوية. [فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه. والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء، وهما هما. والآثار الموافقة لهذا كثيرة. هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل بل أسلم قبل ذلك. وكان يعترف أنه ليس من فضلاء الصحابة. وهذا سيرته في عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن. ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي، فضلا عن أبي بكر وعمر. فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية.]

وجمهور الصحابة وساداتهم تأخروا عن الفتنة. قال أيوب السجستاني عن ابن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين. فهذا يقوله محمد بن سيرين مع ورعه الباهر في منطقه. وقال منصور بن عبد الرحمن: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب. كأنه عنى من المهاجرين السابقين. [وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا أمية بن خالد قال: قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا] قال شعبة: [كذب والله،] ذاكرنا الحكم ما وجدنا شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت. قلت: هذا النفي يدل على قلة من حضرها.

ومن أسباب النجاة من النار ما يبتلى به العبد في قبره من الضغطة وسؤال منكر ونكير ومن أهوال الموقف وكربه. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. 4

فهذه الأمور لا تفوت كلها من المسلمين إلا الأقل، فما الظن بالصحابة الذين هم خير القرون.

وصح أن رجلا نال من عثمان عند ابن عمر وقال: إنه فر يوم أحد، فقال ابن عمر: فقد عفا الله عنه، قال: ولم يشهد بدرا، قال: إن النبي استخلفه على بنته وضرب له بسهم، قال: فما شهد بيعة الرضوان، فقال: إنما كانت البيعة بسبب عثمان وقد بايع النبي عنه بيده ويد النبي خير من يد عثمان.

فعامة ما يعاب به الصحابة إما تعنت كهذا وهو معفو عنه، وكثير من ذلك مكذوب عليهم.

وقولهم: "استعمل من لا يصلح" قلنا: كان مجتهدا فأخطأ ظنه والله يغفر له. وقد كان عبد الله بن سعد ارتد ثم جاء مسلما فقبل النبي ذلك منه بعد أن كان أهدر دمه. وعلي تبين له من عماله ما لم يظنه فيهم. ثم إن عثمان لما علم أن الوليد سكر طلبه وحدّه.

وقولهم: "قسم المال في أقاربه" قلنا: [هذا غايته أن يكون ذنبا لا يعاقب عليه في الآخرة، فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد،] لعله اجتهد، [فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين. وكذلك تنازعوا في ولي اليتيم هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنيا أجرته مع غناه والترك أفضل أو الترك واجب على قولين. ومن جوّز الأخذ من مال اليتيم مع الغنى جوزه للعامل على بيت مال المسلمين وجوزه للقاضي وغيره من الولاة. ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم فمنهم من يجوزه من مال بيت المال كما يجوز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغنى فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه. وولي اليتيم قد قال تعالى فيه: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} وأيضا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور، وأن النبي كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل إن هذا مما تأوله عثمان. ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك. وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي ولى أقاربه أيضا.]

وأما قيام أهل الكوفة على سعيد بن العاص حتى أخرجوه منها فلا يدل على ذنب ولا بد. فإن القوم كانوا أعنتَ شيء لأمرائهم حتى قاموا على سعيد ونقلوه. وأين مثله.

وأما قولك: "كاتب ابن أبي سرح سرا أن يستمر على ولايته خلاف ما كتب به من عزله"

فيقال: هذا كذب فقد حلف عثمان أنه لم يكتب ذلك وهو الصادق. بل قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا مروان ليقتلوه فامتنع. فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد أصاب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فقد اجتهد ولم يثبت ما يجب به قتل مروان. وهب أن هذا من ذنوب عثمان فما ادعينا عصمته وله سوابق وهو من البدريين المغفور لهم.

وأما قولك: "أمر بقتل محمد بن أبي بكر"

فهذا افتراء. ومن عرف سيرته وأحواله عرف بطلان هذا. فقد سعوا في قتله وهو كافٌّ عنهم بكل حال، فكيف يبتدئ بقتل معصوم؟ وإن ثبت أنه أمر بقتله فلمصلحة رآها من دفع شره.

وأما معاوية فإنما ولاه الشام واستمر عليها إلى أن سلم إليه الحسن الخلافة. وكان محببا في رعيته لحلمه وكرمه وخبرته بالأمور. وهو خير من الأشتر النخعي ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيد الله بن عمر ومن أبي الأعور السلمي ومن بشر بن أرطاة.

وأما ابن مسعود فإنه بقي في نفسه عليه لأجل المصاحف إذ فوض كتابتها إلى زيد بن ثابت دونه. وجمهور الصحابة كانوا مع عثمان، وكان زيد أحفظ للعرضة الأخيرة من غيره، وقد انتدبه قبل عثمان [أبو بكر] وعمر لجمع [المصحف في] الصحف. وأيضا فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر ثم قدم ابن مسعود المدينة بعد -وحادثة عثمان لم تتفق- وعرض عليه [عثمان] التزويج. ثم نقول بتقدير أن يكون ابن مسعود طعن على عثمان فليس جعل ذلك قدحا في عثمان بأولى من جعله قدحا في ابن مسعود، بل كل منهما مجتهد وهما بدريان كبيران مغفور لهما، والكف عما شجر بين السابقين أولى، كما قال عمر بن عبد العزيز: "تلك دماء طهر الله يدي منها فأكره أن أخضب بها لساني". ونُقل عن عمار قال: لقد كفر عثمان كفرة صلعاء؛ وأن الحسن بن علي أنكر ذلك على عمار. وكذلك نُقل عن علي أنه قال: يا عمار أتكفر برب آمن به عثمان! وقد علمنا أن الرجل المؤمن الولي قد يكفّر الرجل المؤمن الولي فيخطئ بذلك ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما. فقد ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي : إنك منافق تجادل عن المنافقين، وثبت أن عمر قال لحاطب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه شهد بدرا»

وأما قولك: "ضرب ابن مسعود حتى مات" فهذا من أسمج الكذب المعلوم. وقيل إن عثمان ضرب عمارا وابن مسعود. فإن صح فهو إمام له أن يعزز باجتهاده أصاب أو أخطأ. وقد ضرب عمر أبيا بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال: فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. وقد شهد عمار أن عائشة زوجة نبي الله في الدنيا والآخرة وقال: ولكن الله ابتلاكم بها لينظر إياه تطيعون أم إياها. فمع حض عمار الناس على قتالها لمصلحة شهد لها بالجنة. وأما عمار فصح أنه قال: «تقتلك الفئة الباغية» وباقي ذلك كذب مزيد في الحديث.

وأما قولك: "وطرد رسول الله الحكم وابنه من المدينة"

فنقول: كان لمروان سبع سنين أو أقل، فما كان له ذنب يطرد عليه. ثم لم نعرف أن أباه هاجر إلى المدينة حتى يطرد منها، فإن الطلقاء ليس فيهم من هاجر، فإن النبي قال: «لا هجرة بعد الفتح» ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي بالرجوع إلى مكة. وقصة طرد الحكم ليس لها إسناد نعرف به صحتها، [فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة. وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه، وقالوا هو ذهب باختياره، والطرد هو النفي. والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين، وكانوا يعزرون بالنفي. وإذا كان النبي قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما، بل غاية النفي المقدر سنة،] والزاني ولو كان صحابيا مجاهدا فيعزر بالنفي سنة. ويعلم قطعا أن عثمان ما أذن للحكم في إتيان المدينة معصية للرسول ولا مراغمة للإسلام؛ بل رأى أنه قد صلح حاله، فلعل هذا خطأ من الاجتهاد أو صواب.

وكان مروان على هناته مسلما ظاهرا وباطنا يقرأ القرآن ويتفقه. فلا ذنب لعثمان في اتخاذه كاتبا ثم بدت منه أمور.

وأما أبو ذر فثبت عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: والله ما سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة ولكن رسول الله قال له: إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها. وقال الحسن البصري: معاذ الله أن يكون أخرجه عثمان.

ولا ريب أن أبا ذر كان صالحا زاهدا، وكان مذهبه بذل ما فضل عن الحاجة وأن إمساكه كنز يكوى به صاحبه ويتلو: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} ويذكر قول النبي : «يا أبا ذر ما أحب أن أحدا ذهبا يمضي علي ثالثة وعندي منه دينار» وقوله: «الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» ولما توفي عبد الرحمن [بن عوف] وخلّف مالا عدَّ ذلك أبو ذر من الكنز الذي يعاقب عليه، وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب فوافق عثمانَ، فضربه أبو ذر. وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام أيضا بهذا السبب. وأما سائر الأمة فعلى خلاف رأي أبي ذر، وقالوا: الكنز ما لم يزك. وقد قسم الله المواريث في كتابه، ولا يكون الميراث إلا لمن خلّف مالا. وقد كان خلق من الصحابة لهم مال على عهد النبي وما أنكر عليهم. وكان جماعة من الأنبياء لهم المال. وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباح ثم اعتزلهم، وكان مؤمنا فيه ضعف كما قال له النبي : «إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين على مال يتيم» وقال أيضا: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» فأهل الشورى أقوياء بالنسبة إلى أبي ذر وهم أفضل منه.

وأما قولك: "ضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان مولى علي"

قلنا: هذا كذب، لم يكن مولى علي وإنما أسره المسلمون فمنّ عليه عمر وأعتقه وأسلم. ولا سعي لعلي في رقه ولا في عتقه. وذُكر [لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل، 5 وكان الهرمزان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر،] وهذا ابن عباس يقول لعمر إذ قال له: كنت أنت وأبوك تحبان أن تكتر العلوج بالمدينة، فقال: أنقتلهم؟ قال: كذبت أبعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم. فهذا ابن عباس مع فقهه يستأذن عمر في قتل العلوج لما اتهموهم بالفساد، فكيف لا يعتقد عبيد الله جواز قتل الهرمزان؟ فلما قتله وبويع عثمان استشار الناس في قتله فأشار عليه عدة في أن لا يقتله وقالوا قُتل أبوه بالأمس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد. وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، ولو قدر أنه معصوم الدم ولكن القاتل اعتقد حل قتله لشبهة صارت تدرأ القتل عن القاتل، كما أن أسامة لما قَتل ذلك [الرجل] بعد ما قال: لا إله إلا الله عزره الرسول بالقول ولم يقتله به. وأيضا فإن هذا والهرمزان لم يكن لهما من يطالب بالدم، ولكن الإمام ولي الدم فله القتل أو العفو والدية، فعفا عثمان وترك الدية لآل عمر، وإذا حقن عثمان دمه فلا يباح بحال.

ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم تقام فيه القيامة ودم عثمان وهو إمام المسلمين المقتول صبرا لا حرمة له! وقد جاء عن النبي : ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال. رواه أحمد في مسنده.

وأما الوليد فإنما حدّه علي بأمر عثمان كما ثبت في الصحيح. وقول القائل: "إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر" فمن الكذب. ثم أنتم تدعون أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر وهو يسكت تقية وخوفا، حتى في ولايته تدعون أنه يدع الحدود تقية ويترك القول بالحق تقية، فإن كان قال هذا بحضرة عثمان فما قاله إلا لعلمه بأن عثمان وأعوانه يوافقونه على إقامة الحدود، ولو كان يتقيهم لما قال هذا.

وقولك: "زاد الأذان وهو بدعة"

قلنا: فعلي ممن وافق على ذلك في خلافته ولم يزله. وإبطال هذا كان أهون عليه من عزل معاوية وغيره ومن قتالهم. فإن قيل إن الناس لا يوافقونه على إزالة الأذان؛ قلنا فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على الاستحباب حتى مثل عمار وسهل بن حنيف والسابقين، وإن اختلفوا فهي من مسائل الاجتهاد. وإن قيل هي بدعة؛ قيل وقتال أهل القبلة بدعة لم تكن قبل. وأنتم فقد زدتم في الأذان بدعة لم يأذن بها الرسول وهي "حي على خير العمل" غاية ما يقال إن صح النقل إن ابن عمر ربما قال ذلك أحيانا كما كان بعضهم يقول بين الأذان والإقامة: "حي على خير العمل الصلاة حي على الفلاح" وهذا يسمى نداء الأمراء وكرهه أكثر العلماء.

وأما قولك: "وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل"

فإن أردت أنهم خالفوه خلافا يبيح دمه فهذا كذب وزور فإنه ما قتله إلا شرذمة ظالمة باغية ولم يرض به السابقون. [قال ابن الزبير: لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين. وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه. وأيضا فما خالفه كل المسلمين بل كثير منهم وافقه. فما من شيء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة. والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل من المسلمين الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور أو في غالبها.]

وقولك: "وقالوا له: غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان"

قلنا: هذا ما قاله إلا جهلة الرافضة ممن قاله. 6 وقد أجابهم عثمان وابن عمر بأنه غاب يوم بدر بأمر الرسول ليمرّض بنته، ويوم الحديبية فإن النبي بعثه رسولا إلى مكة فبلغه أنهم قتلوه فبايع أصحابه على الموت، وقال تعالى في الذين تولوا يوم أحد: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} {ولقد عفا الله عنهم إنه غفور حليم}: وأما قولك: "إنه قال: جهزوا جيس أسامة لعن الله من تخلف عنه".

فهذا كذب. وسبحان من جعل الرافضة أقبل شيء للكذب وأرد شيء للصدق. بل أسامة الذي توقف وقال: كيف أذهب وأنت هكذا، أسأل عنك الركبان؟ فأذن له [ ] في التخلف، ثم ذهب جميعهم معه بعد وفاة النبي . فلو عزم على أسامة في المسير لبادر هو والجيش معه.

وقولك: "أول خلاف كان في الإسلام الإمامة"

قلنا: لم يختلفوا ولله الحمد وأجمعوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان إجماعا لم يتهيأ مثله لعلي، فإنه استشهد وأهل الشام لم يبايعوه قط. ومع هذا فقد سب بعض شيعته أهل الشام بحضرته فنهاه علي وقال: لا تسبوهم فإن فيهم الأبدال. وقال مرة أخرى: إخواننا بغوا علينا. وقال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}

وبالجملة خلافة علي حق وهو إمام راشد، وإن تأخر عن بيعته طائفة كبيرة فإنما الاعتبار بجمهور أهل الحل والعقد.

قال: "والخلاف الخامس في فدك والتوارث ورووا عن النبي : لا نورث ما تركنا صدقة"

قلنا: هذا اختلاف أيضا في مسألة شرعية وقد زال الاختلاف فيها. والخلاف فيها دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد والعم والجارية، 7 وميراث الجدة مع ابنها [وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب] ونحو ذلك. فاختلافهم في هذه المسائل [أعظم لوجوه. أحدها أنهم تنازعوا في ذلك] ثم لم يتفقوا لأنهم ما روي لهم [فيها] من النصوص [مثل] ما روى لهم في أن النبي لا يورث. وأيضا فإن الخلاف في هذا لا يتكرر بل هي قضية واحدة وفي مال قليل وقد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر الميراث مرات. وإنما يهول هذه القضية أهل الجهل والشر، فقد استخلف علي بعد ذلك وصارت فدك وغيرها تحت حكمه وما أعطاها أولاد فاطمة ولا قسم تركه النبي بين الورثة؛ فهلا أزال هذه المظلمة على رأيكم!

قال: "والخلاف السادس في قتال مانعي الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين"

قلنا: هذا من الكذب البين فإن أبا بكر وعمر اتفقا على قتالهم كما في الصحيحين واحتجا بقوله : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» وقال أبو بكر: من حقها الزكاة. فقاتلهم بموافقة سائر الصحابة له، ثم أقر أولئك بالزكاة بعدُ، وما سبى لهم ذرية ولا حبس منهم أحدا، ولا كان بالمدينة حبس في عهد أبي بكر فكيف يموت وهم في حبسه؟

ثم قال في الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة: "فمن الناس من قال: وليت علينا فظا غليظا".

فيقال: إن جعل مثل هذا خلافا من أبرد الأشياء وأدلها على جهل المتكلم وهواه، فقد طعن بعض الصحابة في تأمير أسامة وأبيه فكان ماذا؟ ثم إن المنكر كان طلحة وقد رجع فكان من أشد الناس تعظيما لعمر.

[وقوله: "الخلاف] الثامن الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على عثمان".

قلنا: وهذا من الكذب الذي هو هجيراكم. فما اختلف أحد في بيعة عثمان وقد بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان ولو اختلفوا لنقل كما نقل قول الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير" يوم السقيفة. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان.

قال: "ووقعت اختلافات كثيرة منها رد عثمان الحَكم إلى المدينة".

قلنا: مثل هذا إن جعلته خلافا فاجعل كل حكم حكم به خليفة وخالفه غيره خلافا؛ فهو شيء لا ينحصر.

قال: "ومنها تزويجه مروان بابنته وإعطاؤه خمس غنائم إفريقية وهي مائتا ألف دينار"

قلنا: وأي شيء من الاختلاف في تزويجه بابنته؟ ومن الذي نقل أنه أعطاه هذا المال؟ ونحن لا ننكر أن عثمان كان يحب أقاربه ويصلهم ويعطيهم. وقد ولى علي أقاربه وشيعته وأعطاهم، وقاتل باجتهاده وجرت أمور صعبة. وكلاهما من أهل الجنة وليسا بمعصومين؛ وما فعلاه فمن مسائل الاجتهاد والخلاف.

وقال: "ومنها إيواؤه ابن أبي سرح بعد أن أهدر النبي دمه"

قلنا: الذي أهدر دمه هو الذي حقن دمه وعفا عنه بشفاعة عثمان، فلا ملام إذن. وقد كان هاجر وكتب الوحي للنبي ثم ارتد ولحق بالمشركين وافترى على النبي فأهدر دمه. فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان فأعرض عنه النبي فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا، ثم بايعه ثم قال: "أما كان منكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه" فقال رجل [من الأنصار]: هلا أومضت إلي؟ فقال: «ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين». ثم إنه حسن إسلامه ولم يؤثر عنه بعدها إلا الخير. وكان محمود النقيبة في مغازيه. وقد كان غيره أشد عداوة كصفوان وأبي سفيان، وقال تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير} على تطييب القلوب {والله غفور رحيم}

قال: "الخلاف التاسع في زمن علي بعد الاتفاق عليه، فخرج طلحة والزبير، ثم الخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين وغدر عمرو بأبي موسى الأشعري. ثم خلاف المارقين. وبالجملة كان علي على الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكي [التميمي] وزيد بن حصن الطائي [السنبسي]، وظهر في زمانه الغلاة كعبد الله بن سبأ. ومن الفرقتين ابتدأت البدع والضلال"

فنقول أيضا: وبالجملة فكان الثلاثة قبله على الحق والحق معهم، وإلا فتخصيص علي بذلك دعوى بلا برهان. وقولك: "وقع الاختلاف عليه بعد الاتفاق" فمن المعلوم أن كثيرا من المسلمين ما بايعوه كالشاميين برمتهم وطائفة من أهل المدينة وكثير من المصريين وأهل المغرب وغير ذلك.

ثم تعرض بالطعن على طلحة وذويه من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا. وأهل العلم يعلمون أنهم لم يقصدوا حرب علي ولا علي قصد حربهم، لكن وقع القتال بغتة. فإنهم تعاتبوا واتفقوا هم وعلي على المصلحة وإقامة الحد على قتلة عثمان، فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة إذن كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وعسكرهما، فحملوا دفعا للصائل، فأشعر القتلة عليا أنهما حملا عليه، فحمل علي دفعا عن نفسه؛ فكان كل منهم قصده دفع الصيال لا الابتداء بالقتال.

ولكن الرافضة بهائم فلا في النقل يصدقون ولا للصدق يقبلون؛ أتباع كل ناعق، يعادون سادة الصحابة ويوالون أعداء الإسلام والتتار ويستعينون بهم على أذية أهل السنة وعامتهم، ولهم اليد الطولى في خراب العراق وغيرها، كما فعل ابن العلقمي الوزير وكاتب هلاكو وقوى عزمه حتى وطئ البلاد وأباد العباد وأجرى السيول من الدماء وسبى الحريم والعلويات والعباسيات ونشأ في الكفر والشرك أطفال المسلمين، فهم خبيئة سوء للإسلام وأهله، يعظمون الملاحدة وغلاة الرافضة ويبغضون أصحاب رسول الله ، فهم كما قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} فكيف الحيلة فيمن يحتج علينا بالكذب المحض ولا يقبل من المنقولات إلا ما وافق هواه جهلا بمعرفة الأسانيد وصناعة الحديث، فإذا قال قائلهم قولا من الصدق أو الكذب لا يطالبونه بحجته من الكتاب والسنة ولا يلتفتون إلى ما يعارضه أصلا، وإذا خاطبهم المخالف واحتج عليهم بالسنن الثابتة كذبوها هوى وعنادا أو بالآيات حرفوها، فإن قوى نفسه وخافوا منه أدنى خوف قالوا: صدقت والحق ما قلت وبهذا ندين لله تعالى، وتبرأوا من الإمامية في الحال! فمن الذي ينتصف من هؤلاء المنافقين في المناظرة [وهم] الذين قد أصلوا لهم ثلاثة أصول: أحدها أن أئمتهم معصومون؛ الثاني أن كل ما ينقلونه فإنه نقل عن النبي ؛ والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة؛ فصاروا بهذا لا يخرجون إلى دليل ولا تعليل، فسلبوا خاصية التفقه والتحقيق وعدموا العلم والتوفيق، فلا تجدهم ينفردون بمسألة في دينهم إلا وعمدتهم فيها على هذه الأصول الثلاثة المردودة بالكتاب والسنة والعقل وإجماع الطوائف سواهم.

قال الرافضي: "الفصل الثالث في الأدلة على إمامة علي، فنقول: يجب أن يكون الإمام معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو علي لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش مفردا لافتقاره في بقائه إلى مأكل وملبس ومسكن فيضطر إلى مساعد ليتم قيام النوع، ولما كان الاجتماع في مظنة التغالب والتغابن بأن كل واحد قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه القوة الشهوانية إلى أخذه قهرا فيؤدي إلى الهرج والفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم وينصف ويوصل الحق إلى ذويه، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو، وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصبه هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى إمام فإن كان معصوما فهو الإمام وإلا لزم التسلسل. وأبو بكر وعمر وعثمان ما كانوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام".

فالجواب نقول الرسول هو المعصوم وطاعته هي الواجبة في كل وقت على الخلق، وعلم الأمة بأوامره أتم من علم البعض بأوامر المنتظر. فهذا رسول الله هو الإمام المعصوم وأوامره معلومة، فاستغنت الأمة به وبأوامره وبعلمه عن كل أحد. وأولو الأمر منفذون لدينه ليس إلا. ومعلوم قطعا أنه كان نوابه في اليمن وغيرها يتصرفون في الرعية باجتهادهم وليسوا بمعصومين. ولم يتول على الأمة من ادُّعيت له سوى علي، وكان من نوابه على رعيته بالبلاد النائية من لا يدري بما أمر ولا بما نهى، بل كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو.

ثم الإمام الذي وصفته لا يوجد في زماننا، مفقود غائب عندكم ومعدوم [لا حقيقة له] عند سواكم؛ ومثله لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة. بل الإمام الذي يقوم وفيه جهل وظلم أنفع لمصالح الأمة ممن لا ينفعهم بوجه. والإمام يحتاج إليه للعلم ليبلغه وللعمل ليطاع في سلطانه.

وقولك: "لا بد من نصب إمام معصوم" أتريد أن لا بد أن يخلق الله ويقيم معصوما أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك؟ وغاية ما عندكم أن تدعوا عصمة علي، لكن الله ما مكنه في زمن الثلاثة بل ولا في خلافته فيكون الله عندكم قد أيد الثلاثة الظلمة بزعمكم [حتى فعلوا ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك]. وحينئذ فما خلق [الله] هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله. وإن قلتم إن الناس يجب عليهم إعانته وإقامته؛ قلنا: فما فعلوا ذلك، عصوا أو أطاعوا، فما حصل به مقصود. بل نقول إذا كان ما حصل مجموعُ ما به تحصل المقاصد، بل فات كثير من شروطها، فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة؛ وإذا كان المقصود فائتا بعدم العصمة أو بعجز المعصوم فلا فرق [بين عدمها بهذا أو بهذا]. فمن أين يعلم بدليل العقل كما ادعيت أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما، وإن كان خلقه فأين المصلحة واللطف به وقد أنكره الجمهور ومقتوا شيعته ووقع به من الشر أشياء. فدع عنك خدعة المعتزلة الذين يوجبون على الله ذلك بعقولهم الصغيرة وغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين المصلحة الجزئية.

وقول الرافضة من جنس النصارى حيث قالوا: "إن الإله تجسّد ونزل أو أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفرة لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك" فقيل لهم: إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والضلال يكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه بكثير، وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاده، فكيف يفعل ذلك لمقصود فوقع ضد المقصود؟

وقولك: "إذا كان الإنسان مدنيا بالطبع وجب نصب المعصوم ليزول الشر عن أهل المدينة"

فنقول: [هل تقولون إنه] لم يزل في كل مدينة [خلقها الله] معصوم يدفع ظلم الناس أم لا؟ [فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة، فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم؟] وإن قلت: له نواب في المدائن كلها كابرت الحس. وإن قلت: في البعض؛ قيل: فما الفرق إذا كان واجبا على الله والحاجة سواء؟ ولو سلمنا أفتقول بعصمتهم أم لا، فإن كانوا غير معصومين فأين نفع أهل المدائن بالإمام وهم يصلون خلف غير معصوم ويطيعونه؟ فإن قيل: ترجع الأمور إلى المعصوم؛ قلنا: لو كان قادرا كأبي بكر وعمر وغيرهما لم يتمكن من إيصال العدل إلى الكل وقد لا يجد لكل بلد عادلا قويا فإذا لم يجد سقط عنه فكيف يجب على الله ذلك، كيف والمعصوم عندكم عاجز وعندنا معدوم؟

ووجه آخر أن يقال: صده [غيره] عن الظلم وإنصافه الرعية فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه، فإذا كان عاجزا مقهورا عن دفع الظلم عن نفسه فما الظن برعيته؟ كيف وهو عندكم خائف لا يمكنه الظهور من أربعمائة وستين سنة خوفا من القتل. والله لا يقع منه ظلم ولا يخل بواجب فقد فعل الواجب، ومع هذا فما خلق ما تحصل به [هذه] المصالح المقصودة من المعصوم. فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا، وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى [حتى يحصل بالمجموع المطلوب] فما خلق ذلك المجموع؛ والإخلال بالواجب ممتنع عليه [في] القليل والكثير، فلزم على التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب، [وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه؛ فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ] فلا يلزم وجوده. [فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير.]

وإن قيل: الله [فعل] ما يجب عليه من خلق المعصوم لكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له؛ قيل أولا: إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم. ويقال ثانيا: ليس كل الناس عصاة بل بعضهم عصوه ومنعوه وبعضهم يؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله، فكيف لا يمكّن هؤلاء من طاعته؟ فإن قيل: أولئك الظلمة منعوا هؤلاء؛ قيل: فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم [على قولهم] وإن لم يكن [ذلك] مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا [التقدير] إنه يمكن خلق معصوم غير نبي؟ فهذا لازم لكم. فإن قلتم إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يطاع. وإن قلتم ليس هو خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل [الحسنات] ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة عبده فلا يقدر على جعله معصوما، فبطل المعصوم على أصل القدرية إذ العصمة أن يريد العبد الحسنات فقط، فإذا كان هو المحدث لإرادة نفسه -والله عندهم لا يقدر على إحداث إرادة أحد- امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما. وإذا قالوا بخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإلا لم ينفع. وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعل ذلك بجميع العباد فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم عليه فعل الأصلح [بكل عبد]، وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم.

وجه ثامن أن يقال: حاجة المرء إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى تدبير رئيسها. وإذا كان الله لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما، مع أن الإنسان يمكنه 8 أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه.

وجه تاسع أن يقال: [هل] المطلوب من المعصوم إعدام الفساد أم تقليله؟ فالأول ما وقع في العالم؛ والثاني يحصل بلا معصوم، كزمن أبي بكر وعمر أكثر مما حصل بعلي أو مثله وحصل بسائر الخلفاء ما حصل بسائر الأئمة الاثني عشر، كما قيل: ستون سنة من إمام جائر خير من ليلة بلا إمام.

وقولك: "ولو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام معصوم"

فنقول: لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه بحيث لا يحصل اتفاق الكل على الخطأ كما إذا أخطأ أحد الرعية نبهه إمامه أو نائبه، وتكون العصمة ثابتة للمجموع بحيث لا يحصل اتفاقهم على الخطأ كما يقوله أهل السنة والجماعة. ونظيره أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ والكذب ولا يجب ذلك على المجموع في العادة؛ فإثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد، وبذلك يحصل المقصود من عصمة الإمام [فلا تتعين عصمة الإمام]. ومن جهل الرافضة أنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين إذا لم يكن فيهم معصوم الخطأ. وقد ذكر غير واحد أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان زنديقا أراد إفساد الدين وأراد أن يصنع [بالمسلمين] كما صنع بولص بالنصارى فلم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف عقول النصارى كلهم، [فإن المسيح رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا،] فلما ابتدع [بولص] الغلو في المسيح اتبعه خلق ودخلت معهم ملوك فأنكر [عليهم] طائفة فقتلهم الملوك وبعضهم داهن الملوك واعتزلوا في الصوامع. وأمتنا هذه ولله الحمد لا تزال منها طائفة ظاهرة على الحق، [فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله.]

وأيضا فنوابه غير معصومين في الجزئيات وهم الذين يفصلون [في] غالب أمور الناس في الدنيا بل بسائرها. بقيت العصمة في الكليات، والله قادر على أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام، وقادر أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام؛ فاستغنينا عن [عصمة] الإمام في الكليات والجزئيات.

ثم خبّرنا: ما عصمة الإمام؟ أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره -مع أن الله [عندكم] لا يخلق اختياره- أم هي خلق الإرادة له أو سلبه القدرة على المعصية؟ وعندك [أن] الله لا يخلق اختيارنا، فلزمك أن الله لا يقدر على خلق معصوم. وإن نقضت قولك في القدر لزمك أن يكون المعصوم لا يثاب على طاعة.

وقولك: "ليس بمعصوم غير علي اتفاقا" ممنوع، بل كثير من العباد والعامة يعتقدون عصمة شيوخهم مثلكم [مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم؛ فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى.] والإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم [وهم غير الاثني عشر.] وأتباع بني أمية كانوا يقولون إن الخليفة لا حساب عليه ولا عذاب. ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر به الإمام فإنه يجب طاعته [فيه] لم يحتج إلى معصوم ويقول يكفيني عصمة الإمام الذي اقتديت به أو شيخي أو أميري، ويقرأون قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فإن قلت هؤلاء لا يعتد بخلافهم لم يسمع منك، فإنهم اقتدوا بموجود، بخلاف منتظركم المعدوم الذي ما انتفعتم به بحال. وأيضا فما في أصحاب رسول الله من قال بعصمة علي ولا في التابعين ولا أئمة العلم؛ وإنما انفرد بهذا جهلة الإمامية، كما انفرد بتكفيره ضلال الخوارج، وبتفسيقه خلق من النواصب.

ويقال لكم: إما أن يجب وجود المعصوم أو لا. فإن لم يجب بطل قولكم. وإن وجب لم نسلم أنه علي دون الثلاثة قبله، بل إن كان هذا القول حقا لزم أن يكون [المعصوم] أبا بكر وعمر، فإن أهل السنة متفقون على تفضيلهما عليه، وإن كانت العصمة منتفية [عنهما] فهي عنه أبعد. وهذا كنبوة موسى وعيسى، فإن المسلمين لا يسلمون بنبوتهما إلا مع نبوة محمد ، وكذلك لا نسلم إيمان علي إلا مقرونا بإيمان الثلاثة، ولا ننفي العصمة عنهم إلا مقرونة بنفيها عن علي. فما قولك: "إمامة علي ثابتة بالإجماع بخلاف الثلاثة" إلا كقول اليهود نبوة موسى ثابتة بالإجماع بخلاف نبوة محمد، وإلا كقول النصارى الإلهية منتفية عن موسى ومحمد بالإجماع وتنازعنا في عيسى وإلاهيته؛ فنحن نعلم بالضرورة أنه ليس لعيسى مزية يستحق بها الإلهية دون موسى ومحمد، كما نقطع أن عليا رضي الله عنه ليس له مزية يستحق بها العصمة دون الثلاثة.

ونسألك من أين علمت عصمة علي دون الثلاثة؟ فإن قلت بالإجماع على انتفاء عصمة سواه، قلنا: إن لم يكن الإجماع حجة أبطلت قولك، وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة مَن حفظَ الشرع ونقله. فأنت تحتج بالإجماع ولا تقبل كون الإجماع حجة. وإن ادعيت التواتر عندكم عن النبي في عصمته فهو كدعواك تواتر النص على إمامته. وأيضا فالإجماع عندكم ليس حجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه؛ فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور، فإنه لا يُعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عُرف أنه معصوم، فلا يثبت واحد منهما، وترجع حقيقة قولكم فلان معصوم لأنه قال: "أنا معصوم وغيري ليس بمعصوم" وهذا كل أحد يمكن أن بقوله، وهذا كقول القائل: "أنا صادق في كل ما أقوله" فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقة فيما يقوله.

وادعت الإسماعيلية مثل هذا. فادعوا أن الإمام المعلم المعصوم، وقالوا إن طرق العلم بالسمع والعقل لا يعرف صحتها إلا المعصوم وبتعليمه. فإذا طولبوا بتعيين معصوم وبالدليل على أنه معصوم دون غيره لم يأتوا بحجة أصلا وتناقضت أقوالهم.

ولو تنازلنا ورضينا بقول علي [إني معصوم] فمن الذي نقل عنه أنه قال إني معصوم؟ بل المتواتر عنه خلاف ذلك وأنه أقر قضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه، وصح عنه أنه قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن" فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. وكان شريح يقضي باجتهاده ولا يراجعه وهو يقره على ذلك. وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده. وهذه أقواله في ذلك ثابتة عنه بأصح الأسانيد.

قال الرافضي: "ويجب أن يكون الإمام منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار، فإنه ليس بعض المختارين لبعض الأئمة أولى من البعض المختار لآخر، وإلا أدى إلى التنازع والتشاجر. وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع، فتعين أن يكون هو الإمام".

قلنا: الجواب بمنع المقدمتين. فقد ذهب خلق من السلف والخلف إلى النص على أبي بكر، وذهبت طائفة قليلة إلى النص على العباس، فأين الإجماع؟

ثم نقول: لا يخلو إما أن يعتبر النص في الإمامة أو لا. فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية وقلنا النص لأبي بكر؛ وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى.

ثم الإجماع عندكم ليس بحجة، وإنما الحجة قول المعصوم. فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي تُدعى له العصمة، فلا يثبت نص ولا عصمة، بل بقول قائل: أنا معصوم وأنا الذي نصَّ علي.

ويقال: ما تعني بقولك يجب أن يكون [معصوما] منصوصا عليه؟ أتعني أنه لا بد من أن يقول هذا الخليفة من بعدي أم لا يصير إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك؟ فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار، والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وما هم بل ولا نحن بمتهمين على علي.

وقولك: "إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر"

فيقال: النصوص التي تدل على أولويته مع النظر والاستدلال يحصل بها المقصود. ثم إذا كانت الأدلة واضحة في أولويته كفت، وكذلك كان الصديق. ومن نازع من آحاد الأنصار فما نازع في أن أبا بكر أفضل وإنما رام التقدم مع وجود الأفضل. فإن قيل: إذا كان لهم [هوى] منعه دلالة النصوص؛ قيل: وإذا كان لهم هوى عصوا النصوص كما ادعيتم عليهم، فمع قصدهم الحق يحصل المقصود ومع العناد لا ينفع النص. ثم إن كان الإمام معصوما فنوابه خلق ولا عصمة لهم فالحاجة باقية. وأيضا فنص الرسول على إمام بعده كتوليته واحدا في حياته، ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا.

ثم إنكم أوجبتم النص قطعا للتشاجر المفضي إلى الفساد الكبير، فوقع الأمر بالعكس. فإن أبا بكر تولى ثم عمر ثم عثمان مع انتفاء الفساد والتشاجر، ووقع بعضه في آخر أيام عثمان، وإنما اشتد وعظم في أيام من ادعيتم له النص والعصمة. فما أصلتموه حصل معه نقيض المقصود، وحصل المقصود بدون وسيلتكم.

ونقول: النص يزيل الفساد ويكون على وجوه. أحدها إخبار النبي بولاية شخص ويثني عليه في ولايته، فتعلم الأمة أنه إن تولى كان محمودا، فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولُّوه. وهذا الخبر وقع لأبي بكر وعمر. الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاية، وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر بفتح فارس والروم وغير ذلك. الثالث أن يأمر من يأتيه بعد موته بأن يأتي شخصا فيدل [ذلك] على أنه الخليفة من بعده، وهذا وقع لأبي بكر. الرابع أن يهم بكتابة عهد بالخلافة ثم يقول: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فوقع كما أخبر. الخامس أن يأمر بالاقتداء مِن بعده بشخص فيكون هو الخليفة من بعده. السادس أن يأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده ويجعل خلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون والمهديون. السابع أن يخص شخصا بأمور تقتضي أنه هو المقدم، وهذا موجود في أبي بكر. الثامن أن ترك النص أولى بالرسول، لأنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعده؛ وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل ما يقول ولا يمكن أحدا بعد موت الرسول مراجعة الرسول ليرده أو يعزله، بخلاف من ولاه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطأه وعزله، ولو نص الرسول بعده أيضا على معين لنأخذ عنه الدين [كما تقول الرافضة] بطلت حجة الله إذ ذاك ولا يقوم به غير الرسول لأنه لا معصوم إلا هو. الجواب التاسع أن النص على الجزئيات لا يمكن، والكليات قد نص عليها. فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا، وإن أمر بطاعته في الجزئيات -سواء وافقت الكليات أو خالفتها- كان باطلا، وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متولٍّ، ولو نص على رجل لكان من يتولى من بعده قد لا يطاع كطاعة الأول لعدم النص في الثاني. وإن قلت: كل واحد ينص على من بعده؛ فهذا إنما يمكن إذا كان الثاني معصوما ولا عصمة بعد الرسول لأحد، فالقول بالنص فرع على القول بالعصمة وذاك من أفسد الأقوال، فكذاك النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولي في كل ما يقوله من غير رد إلى الكتاب والسنة إذا نوزع، أما إذا رددنا قولنا إلى الكتاب والسنة كما أمرنا عند التنازع فلا حاجة إلى النص فإن الدين محفوظ، ولا يمكن أن بشرا يعلم كل علم الرسول أو يأتيه وحي، فلا سبيل إلى معرفة ما جاء به إلا من جهته.

قال: "الثالث أن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع لانقطاع الوحي وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الجزئيات فلا بد من إمام منصوص من الله تعالى معصوم لئلا يترك أو يزيد عمدا أو سهوا. وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع".

قلنا: لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وذلك يحصل بالمجموع [كما يحصل بالواحد]. بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من نقل واحد. ولا نسلم أن عليا كان أحفظهم للشرع بل كان أبو بكر وعمر أعلم منه، فبطل إجماعك. وإن زعمت أنه معصوم فلا تعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله، لزم من ذلك أن الحجة لا تقوم على أهل الأرض إلا بنقله ولا نعلم صحة نقله حتى نعلم أنه معصوم ولا نعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه، فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم نعلم عصمته.

ثم أخبرنا: هل يمكن الإمام تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل آحاد من معصوم إلى معصوم؟ فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالرسول يمكنه بطريق الأولى، فحينئذ لا حاجة إلى نقل الإمام. وإن قلت: لا يمكنه ذلك، لزم دين الإسلام أنه لا ينقله إلا واحد بعد واحد من أقرباء الرسول الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه ما شاءوا وإنه كان طالب ملك أقامه أقاربه وعهد إليهم بما يقيمون به دولته.

ونقول: الحاجة ماسة إلى العصمة في حفظ الدين [ونقله]، فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود الدين وبلغوه ولماذا لا تكون العصمة في الحفظ والبلاغ لكل طائفة بحسب ما حملوه: فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الصحاح وتبليغها، والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال؛ وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم.

ثم إنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا معصوم عن معصوم -والمنتظر له أربعمائة وستون سنة لم يأخذ أحد عنه مسألة- فمن أين علمتم القرآن والشرع في طول هذه المدة؟ ولم لا يجوز أن يكون هذا القرآن الذي تقرأونه ليس الذي أنزل؟ وأيضا من أين لكم العلم بشيء من أحوال الرسول وابن عمه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم؟ فإن قلتم: تواتر ذلك عندنا؛ قيل: فإذا كان تواتر ذلك عن أئمتكم يوجب حفظ الشرع، فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى وأحرى من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد.

وقولك: "لقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام"

قلنا: وكل إمام بهذه المنزلة، فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بما يعمّ الأعيان والأفعال، إذ من الممتنع أن يعين كل فعل من فاعل في كل وقت، فما بقي إلا الخطاب الكلي، وذلك ممكن من الرسول. وإن زعمت أن نصوص الرسول] ليست عامة كلية [قيل لك هذا ممنوع، وبتقدير أن يمنع هذا من نصوص الرسول فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى إثبات عموم الألفاظ أو عموم المعاني [بالاعتبار]، فأيهما كان أمكن إثباته من خطاب الرسول فلا حاجة إلى الإمام. والحجة قد قامت على الخلق بالرسول، قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} والله قد ضمن حفظ ما أنزله من الذكر، فصار ذلك مأمونا من التبديل والتغيير.

ثم قد علم بالاضطرار من الدين أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنن بدون نقل علي، فإن عمر لما فتح الأمصار بعث إليها من علمهم وفقههم ثم اتصل العلم من أولئك إلى المسلمين. وعلي بلغ جملة من ذلك كما بلغ ابن مسعود ومعاذ ابن جبل وأبي وخلائق. فتبارك الله ما أجهل الرافضة!

قال: "والله قادر على نصب معصوم والحاجة داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه. وغير علي لم يكن كذلك، فتعين هو".

قلنا: هذا تكرار منك. وقد مر أن الإجماع إن كان معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي. وإن زعمت أن حال الأمة مع وجود المعصوم أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نوابه أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وأكمل، ولا يجب على الله ذلك. وإذا ادعيت أن مع عدمه يدخلون النار ولا يعيشون في الدنيا أو يشتد البلاء فيقال: هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن إزالة هذا واجب، ومعلوم أن الأمراض والهموم موجودة والغلاء والجوائح والمصائب كثيرة، وليس ما يصيب [المظلوم] من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأمور، والله لم يزل ذلك، وحوائج البشر داعية إلى ما لا نهاية له من الصحة والقوة والمال والسرور. وعلى أصلك الفاسد إن الله لا يقدر على خلق مؤمن ولا كافر، فكيف يقدر على خلق معصوم؟ وقد تقدم هذا وبان تناقضكم حيث جمعتم بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولكم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي. ثم يقال: الذي تدعو إليه الحاجة أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو المعصوم وإن كان عاجزا عن ذلك؟ الثاني ممنوع فإن العاجز لا تحصل به فائدة بل القدرة شرط في ذلك. والأول لم يوجد وإن وجد لم يفعل ذلك فهو عاص أو عاجز قطعا.

قال: "والإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، وعلي فاضل أهل زمانه فهو الإمام لقبح تقدم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا".

قلنا: لا نسلم أنه أفضل أهل زمانه فإنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ثم كثير من العلماء لا يوجبون تولية الأفضل. ومنهم من يقول بولاية المفضول إذا كان فيها مصلحة راجحة كما تقوله الزيدية.

قال: "المنهج الثاني في الأدلة من القرآن [على إمامة علي] قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} وقد أجمعوا أنها نزلت في علي. روى الثعلبي بإسناده إلى أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله بهاتين وإلا صمتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله يوما الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع يده إلى السماء وقال اللهم اشهد أني سألت في مسجد نبيك فلم أعط شيئا، وكان علي راكعا فأومأ إليه بخنصره فأقبل فأخذ الخاتم وذلك بعين رسول الله ، فلما فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن موسى سألك {واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} فأنزلت عليه قرآنا ناطقا {سنشد عضدك بأخيك} اللهم وأنا نبيك وصفيك [اللهم، فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري،] فما استتم كلامه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} ونقل الفقيه ابن المغازلي عن ابن عباس أن الآية نزلت في علي. والولي المتصرف. وقد أثبت له الولاية في الأمة كما أثبتها الله لنفسه ولرسوله".

والجواب إن قولك: "أجمعوا أنها نزلت في علي" من أعظم الدعاوي الكاذبة، بل أجمعوا على أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وإن الخبر كاذب. وفي تفسير الثعلبي من الموضوعات ما لا يخفى، وكان حاطب ليل وكذا تلميذه الواحدي. ثم سائر ما سقته من البراهين باطل لا يروج إلا على من أعمى الله قلبه من الصم البكم أولي الهوى والجهل. ولهذا دخلت عامة الزنادقة من باب الرفض وتسلطوا بتلك الأكاذيب على الطعن في الإسلام، وصارت شبها عند الجهلة، و[بها] ضلت النصيرية والإسماعيلية، وكان منشأ ضلالهم تصديقهم الرافضة بيت الكذب فيما ينقلونه من التفسير والفضائل والمثالب، فيشرعون في التوجع لآل محمد، ثم ينتقلون إلى سب الصحابة والقدح فيهم، ثم ينتقلون إلى القدح في علي لأنه سكت، ثم إلى القدح في الرسول ثم في الإله، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم. ثم هبك اعتضدت بالثعلبي، فقد نقل الثعلبي عن ابن عباس قال: إنها نزلت في أبي بكر. ونقل عن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر الباقر عن الآية فقال: هم المؤمنون، قلت: فإن ناسا يقولون هو علي؟ فقال: علي من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله. وروى عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال: كل من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا. ثم نعفيك من ادعائك الإجماع ونطالبك بسند واحد صحيح. وما أوردته عن الثعلبي واه فيه رجال متهمون. وأما ابن المغازلي الواسطي فقد جمع في كتابه من الكذب ما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث. ولو كان المراد بالآية أن يؤتي الزكاة في حالة الركوع لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة ولا يتولى المسلم إلا عليا فقط، فلا يتولى الحسن ولا الحسين. ثم قوله {الذين يقيمون} صيغة جمع فلا تصدق على واحد فرد. وأيضا فلا يثنى على المرء إلا بمحمود، وفعل ذلك في الصلاة ليس بمستحب ولو كان مستحبا لفعله الرسول ولحض عليه ولكرر علي فعله، و«إن في الصلاة لشغلا» فكيف يقال: لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في حال الركوع؟ ثم قوله: {ويؤتون الزكاة} يدل على وجود زكاة، وعلي ما وجبت عليه زكاة قط في زمن النبي [فإنه كان فقيرا، وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولا وعلي لم يكن من هؤلاء]. ثم إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند الأكثر. ثم إن الآية بمنزلة قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} وكقوله تعالى: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}

ثم من المعلوم المستفيض عند المفسرين أنها نزلت في النهي عن موالاة الكفار ووجوب موالاة المؤمنين. وسياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر فإنه تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى ثم قال: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصينا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} إلى أن قال: {إنما وليكم الله} فهذا وصف عام للمؤمنين ولا بد، لكن علي وأبو بكر والسابقون أولى الأمة بالدخول فيها.

ومن تأمل الحديث وركته لاح له كذبه. ولو كان حقا لكان من خذله ومنعه حقه من النصر مخذولين، ولم يكن الأمر كذلك بل نصروا وافتتحوا البلاد فارس والروم والقبط. فالشيعة يدعون أن الأمة كلها خذلته إلى أن قتل عثمان. ومن المعلوم أن الأمة إلى أن قتل عثمان كانت منصورة نصرا عظيما لم ينصر بعده مثله أبدا. فلما قتل عثمان تفرقت الأمة فحزب مع علي وحزب عليه وحزب انعزلوا لا له ولا عليه. ومن المعلوم أن إيمان الناس بالرسول وطاعتهم له ما كان لأجل علي كما كان هارون مع موسى، فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى، وكان هارون يتألفه ويداريه؛ والرافضة تدعي أن المسلمين كانوا يبغضون عليا وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه وكتموا النص عليه. فكيف يقال إن النبي احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون؟ وهذا أبو بكر أسلم على يديه خمسة من العشرة [المبشرين بالجنة] عثمان وطلحة وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة. ولم نعلم أن أحدا من السابقين أسلم على يد علي. وهذا مصعب بن عمير أحد السابقين قد أسلم على يديه أسيد بن حضير وسعد بن معاذ.

وأما الموالاة فقد قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله والله مولاه وجبريل مولاه. وليس في كون الصالح من المؤمنين مولى أن يكون متوليا على رسول الله ولا متصرفا فيه. وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فكل مؤمن تقي فهو ولي الله والله وليه. قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} وقال {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم} وما في هذه الآيات أن من كان ولي الآخر كان متوليا عليه دون الناس. والفرق بين الوَلاية والوِلاية معروف، فالأمير يسمى الوالي ولا يسمى الولي. واختلف الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي أيهما يقدم. فالموالاة ضد المعاداة.

قال الرافضي: "البرهان الثاني قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} اتفقوا على نزولها في علي. روى أبو نعيم بإسناده إلى عطية أنها نزلت في علي. وفي تفسير الثعلبي {بلغ ما أنزل إليك} في فضل علي فلما نزلت أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. والنبي مولى أبي بكر وعمر والصحابة بالإجماع، فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام. ومن تفسير الثعلبي قال: لما كان يوم غدير خم نادى رسول الله الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فشاع ذلك وطار في البلاد وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله فأناخ بالأبطح فنزل وأتى رسول الله وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا بالشهادتين وبالصلاة والزكاة والصيام والحج فقبلنا منك ثم لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فإن كان هذا من الله فحدثنا فقال: أي والله من أمر الله. فولى الحارث وهو يقول: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فما وصل حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وأنزلت: {سأل سائل بعذاب}. وقد روى هذا النقاش في تفسيره".

قلنا: هذا أعظم كذبا وفرية من الأول. فقولك: "اتفقوا على نزولها في علي" كذب، بل ولا قاله عالم. وفي كتاب أبي نعيم والثعلبي والنقاش من الكذب ما لا يعد. والمرجع في النقل إلى أمناء حديث رسول الله؛ كما أن المرجع في النحو إلى أربابه وفي القراءات إلى حذاقها وفي اللغة إلى أئمتها وفي الطب إلى علمائه، فلكل فن رجال، وعلماء الحديث أجل وأعظم تحريا للصدق من كل أحد، علم ذلك من علمه، فما اتفقوا على صحته فهو الحق وما أجمعوا على تزييفه وتوهينه فهو ساقط وما اختلفوا فيه نُظر فيه بإنصاف وعدل، فهم العمدة كمالك وشعبة والأوزاعي والليث والسفيانين والحمادين وابن المبارك ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع وابن علية والشافعي وعبد الرزاق والفريابي وأبي نعيم والقعنبي والحميدي وأبي عبيد وابن المديني وأحمد وإسحاق وابن معين وأبي بكر بن أبي شيبة والذهلي والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم وموسى بن هارون وصالح جزرة والنسائي وابن خزيمة وأبي أحمد بن عدي وابن حبان والدارقطني وأمثالهم من أهل العلم بالنقل والرجال والجرح والتعديل.

وقد صنف في معرفة الرجال كتب جمة كالطبقات لابن سعد وتاريخي البخاري وكلام ابن معين من رواية أصحابه عنه وكلام أحمد من رواية أصحابه عنه وكتاب يحيى بن سعيد القطان وكتاب علي بن المديني وتاريخ يعقوب الفسوي وابن أبي خيثمة وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني. والمصنفات في الحديث على المسانيد كمسند أحمد وإسحاق وأبي داود وابن أبي شيبة والعدني وابن منيع وأبي يعلى والبزار والطبراني وخلائق؛ وعلى الأبواب كالموطأ وسنن سعيد بن منصور وصحيحي البخاري ومسلم والسنن الأربعة وما يطول الكتاب بتعداده.

وفي الجملة ليس في فرق الأمة أجهل بالآثار ورجالها وأقبل للباطل وأدفع للصحيح من الرافضة. ثم أضدادهم من الخوارج وإخوانهم من المعتزلة يتحرون الصدق ولا يحتجون بخبر مكذوب، بل ولا بالصحيح، بل لهم طرق وقواعد مبتدعة وعقول في الجملة. وهؤلاء الرافضة لا عقل ولا نقل. فالآثار ومعرفتها والأسانيد من خصائص السنة والجماعة. وعلامة صحة الحديث عند الرافضي أن يوافق هواه. قال عبد الرحمن بن مهدي: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم"

ثم نقول لهم: ما يرويه مثل النقاش والثعلبي وأبي نعيم ونحوهم أتقبلونه مطلقا لكم وعليكم أم تردونه مطلقا أو تأخذون بما وافق أهواءكم وتردون ما خالف؟ فإن قبلوه مطلقا ففي ذلك من فضائل الشيخين جملة من الصحيح والضعيف. وإن ردوه مطلقا بطل اعتماده بمل ينقل عنهم. وإن قبلوا ما يوافق مذهبهم أمكن المخالف رد ما قبلوه والاحتجاج بما ردوه. والناس قد كذبوا في المناقب والمثالب أكثر من كل شيء.

ثم هذا الحديث كذب باتفاق أهل الحديث. ولهذا لم يرو في شيء من كتب الحديث المرجوع إليها. وإنما يجوّز صدقه من يقول إن النبي كان على مذهب أحد الأربعة وإن أبا حنيفة ونحوه كانوا قبل النبي أو كما تظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة وينقلونها بينهم، وحمزة ما شهد إلا بدرا واستشهد يوم أحد، ومثل ما يعتقد كثير من العوام أن أبي بن كعب وأم سلمة زوج النبي في مغائر دمشق، أو أن عائشة كانت تحدث الناس في باب القبة التي بجامع دمشق أو أن قبر علي رضي الله عنه بباطن النجف. وأهل العلم يعلمون أن عليا ومعاوية وعمرو بن العاص دفن كل واحد منهم بقصر الإمارة خوفا عليه من نبش الخوارج.

واتفق الناس على أن ما قاله النبي بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع. ألا ترى أن الشيعة تجعل يوم ثاني عشر ذي الحجة عيدا؟ فبعد ذلك لم يرجع النبي إلى مكة. وهذا الحديث المكذوب فيه ما يبين كذبه من قوله: "فجاءه الحارث وهو بالأبطح" ثم قوله: "ونزلت {سأل سائل}" وهي إنما نزلت قبل الهجرة بمكة. ثم قوله تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق} نزلت عقيب بدر بالاتفاق. وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي بمكة كأبي جهل وذويه. ثم لم تنزل عليهم حجارة من السماء. ولو كان هذا المجهول قد نزل عليه حجر خرق هامته وخرج من دبره لكان آية من جنس أصحاب الفيل وذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله.

قال: "البرهان الثالث قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية. روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد أن النبي دعا الناس إلى غدير خم وأمرنا بحتِّ الشجر من الشوك فقام فأخذ بضبعي علي فرفعهما حتى نظر الناس إلى باطن إبطي رسول الله ثم لم يتفرقوا حتى نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال الرسول: الله أكبر على إكمال الدين ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وانصر من نصره واخذل من خذله". 9

قلنا: وهذا من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات. وقد ثبت أن الآية نزلت على الرسول وهو واقف بعرفة قبل يوم الغدير بسبعة أيام. ثم ليس فيها دلالة على علي رضي الله عنه بوجه ولا على إمامته. فدعواك أن البراهين دلت عليه من القرآن من الكذب الواضح، وإنما يكون ذلك من الحديث لو صح.

قال: "البرهان الرابع قوله: {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى} روى الفقيه علي بن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس قال: كنت جالسا مع فئة من بني هاشم عند النبي إذ انقض كوكب من السماء فقال: من انقض هذا الكوكب في منزله فهو الوصي من بعدي. فإذا هو قد انقض في منزل علي. قالوا: يا رسول الله قد غويت في حب علي، فأنزل الله تعالى: {والنجم إذا هوى}".

قلنا: وهذا من أبين الكذب. والقول على الله بلا علم حرام. قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} فكل من احتج بحديث عليه أن يعلم صحته قبل أن يستدل به. وإذا احتج به على غيره فعليه بيان صحته. وإذا عرف أن في الكتب الكذب صار الاعتماد على مجرد ما فيها مثل الاستدلال بشهادة الفاسق الذي يصدق ويكذب.

ثم هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات بلفظ آخر من حديث محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما عرج بالنبي إلى السماء السابعة وأراه الله من العجائب فلما أصبح جعل يحدث فكذبه من أهل مكة من كذبه فانقض نجم من السماء فقال النبي : في دار من وقع هذا النجم فهو خليفتي من بعدي. فوقع في دار علي، فقال أهل مكة: ضل محمد وغوى وهوى أهل بيته ومال إلى ابن عمه، فنزلت {والنجم}. قال ابن الجوزي: "هذا موضوع، فما أبرد من وضعه [وما أبعد ما ذكر، وفي إسناده ظلمات منها أبو صالح وكذلك الكلبي ومحمد بن مروان السدي، والمتهم به الكلبي، قال أبو حاتم بن حبان: كان الكلبي من الذين يقولون إن عليا لم يمت وإنه يرجع إلى الدنيا وإن وأوا سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها، لا يحل الاحتجاج به. قال: والعجب من تغفل من وضع هذا الحديث كيف رتب ما لا يصلح في المعقول من أن النجم يقع في دار ويثبت إلى أن يرى، ومن بلهه أنه وضع هذا الحديث على ابن عباس، وكان ابن عباس زمن المعراج ابن سنتين، فكيف يشهد تلك الحالة ويرويها".

قلتُ: إذا لم يكن هذا الحديث في تفسير الكلبي المعروف عنه فهو مما وُضع بعده وهذا هو الأقرب. قال أبو الفرج: "وقد سرق هذا الحديث بعينه قوم وغيروا إسناده ورووه بإسناد غريب".] ثم إنه لم ينقض قط كوكب إلى الأرض [بمكة ولا بالمدينة ولا غيرهما]. ولما بعث نبي الله كثر الرمي بالشهب. ومع هذا لا يروي مثل هذا البهتان إلا أوقح الناس وأقلهم حياء. ثم لو كان هذا جرى لكان يغني عن الوصية يوم غدير خم.

قال: "البرهان الخامس قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} فروى أحمد في مسنده عن واثلة بن الأسقع قال: طلبت عليا في منزله فقالت فاطمة: ذهب إلى رسول الله ، قال: فجاءا جميعا فدخلت معهما فأجلس عليا عن يساره وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين بين يديه ثم التفع عليهم بثوبه وقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} اللهم إن هؤلاء أهلي. وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله في بيتها -الحديث وفي آخره- إنك إلى خير. ففي هذه [الآية] دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظة إنما وإدخال اللام في الخبر. وغيرهم ليس بمعصوم، فتكون الإمامة في علي. ولأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى. وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا".

قلنا: الحديث صحيح قول النبي لهم، ورواه مسلم في صحيحه عن عائشة، وفي السنن عن أم سلمة. وليس فيه دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم أصلا. فنقول: قوله {إنما يريد الله} كقوله {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} وكقوله تعالى {يريد الله بكم اليسر} وقوله {يريد الله ليبين لكم} {والله يريد أن يتوب عليكم} فإرادته في هذه الآيات متضمنة لمحبته لذلك المراد ورضائه به وأنه شرعه، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ولا أنه قدره وأوجده. والنبي بعد نزول الآية قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس. فطلب من الله ذلك. فلو كانت الآية تتضمن الوقوع ولا بد لم يحتج إلى الدعاء. وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله عندكم لا تتضمن وجود المراد بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد. أفنسيت أصلك الفاسد؟ أما على قولنا فالإرادة نوعان: شرعية تتضمن محبة الله ورضاه كما في الآيات، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره كقوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}

ثم إن أزواج النبي مذكورات في الآيات فبدأ بهن وختم بهن وسائر الخطاب لهن، وإرادة إذهاب الرجس وتطهير أهل البيت ليس بمختص بالأزواج بل متناول لكل أهل البيت، وعلي وفاطمة وحسن وحسين أخص من غيرهم، ولذلك خصهم بالدعاء، وثبت في الصحيح أنه علمهم الصلاة عليه: «اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته..»

فإن قيل: هب أن القرآن لا يدل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم لكن دعاؤه لهم يدل على وقوعه؛ قلنا: المقصود أن القرآن بمفرده لا يدل على ذلك، فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة. ثم هب أن القرآن دل على طهارتهم فأين لزوم العصمة وأن لا يجوز عليهم خطأ ولا سهو؟ والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به الزوجات أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ وسياق الآية يدل على أن الله يذهب عنهم الخبث والفواحش ويطهرهم منها، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث والرجس وطهرهم من هذه الفواحش. وليس من شرط المتقي أن لا تقع منه صغيرة ويستغفر منها، ولو كان ذلك شرطا لعدم المتقون من أمة محمد . فمن فعل ما يكفر سيئاته كان من المتقين. وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة فإنها أوساخ الناس.

وبالجملة فالتطهير الذي في الآية ودعا به الرسول ليس هو العصمة بالاتفاق. فإن أهل السنة يثبتونها للرسول والشيعة لا يثبتونها [لغير النبي ] إلا لعلي أو للإمام فانتفت عن الزوجات والبنات وغيرهم، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمنا للعصمة المختص بها النبي والإمام.

ثم الدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية بل والتطهير، فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب، فلا يمكنه أن يجعل العبد متطهرا ولا طائعا ولا عاصيا، فامتنع على أصلهم الدعاء بفعل الخيرات وترك المنكرات. وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح لهذا وهذا، كالسيف يصلح لقتل المسلم والكافر والمال يمكن بذله في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل ما شاء من خير أو شر بتلك القدرة. والحديث حجة عليهم في إبطال هذا القول حيث دعا النبي لأهل بيته بالتطهير. وإن قالوا المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم كان ذلك أدل على بطلان دلالته على العصمة، ويمتنع عندهم سؤال الله العصمة من المعاصي. ولو قدر ثبوت العصمة فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة.

وقولك: "إن عليا ادعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا" فلا نسلم أنه ادعاها بل نعلم بالضرورة أنه ما ادعاها حتى قتل عثمان. وإن كان قد يوده [بقلبه] لكن ما قال: أنا الإمام ولا أنا معصوم ولا إن الرسول جعلني الإمام بعده [ولا أنه أوجب على الناس متابعتي ولا نحو هذه الألفاظ. بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه. ونحن نعلم أن عليا أتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي يعلم الصحابة كلهم أنه كذب].

وقولك عنه: "لقد تقمصها.. إلخ" فلم يقله، وأين إسنادك به؟ وإنما يوجد هذا في نهج البلاغة، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب قديم ولا لها إسناد معروف، فهي بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ولا نعلم أحدا من سلفه ادعى ذلك قط فيعلم كذبه، فإن النسب يكون معروفا من أصله حتى يتصل بفرعه. وفي هذه الخطب أشياء قد علم يقينا من علي ما يناقضها. ولم يوجب الله على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه وإن ذلك من تكليف ما لا يطاق. وكيف يمكننا أن نثبت ادعاء علي الخلافة بمثل حكاية منبعها من متهمين؟ ثم هب أنه قال ذلك، فلم قلتم إنه أراد أني إمام منصوص عليه؟ فيجوز عليه أنه أراد أنه أحق من غيره، [وحينئذ لا يكون مخبرا عن أمر تعمد فيه الكذب، ولكن يكون تكلم] باجتهاد منه. [لكن هذا كله لو صح شيء منه لم يصح إلا بمقدمات ليست في القرآن،] فأين براهينك القرآنية؟

قال: "البرهان السادس قوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} روى الثعلبي بإسناده عن أنس وبريدة قالا: قرأ رسول الله هذه الآية فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقال أبو بكر: يا رسول الله هذا البيت منها؟ يعني بيت علي وفاطمة، قال: نعم من أفضلها".

قلنا: نطالبك بصحة النقل فلا سبيل لك إلى ذلك. والثعلبي كحاطب ليل. فكيف والحديث كذب بلا ريب. ثم الآية باتفاق الناس هي في المساجد. ولو قدر أن عليا من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع لما لزم من ذلك أنه أفضل الأمة بعد نبيها. ثم لفظ الآية: {رجال} لم يقل رجل واحد. ولو قدر أنه أفضل فلم قلت بوجوب إمامة الأفضل؟

قال: "البرهان السابع قوله: {لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك التي وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وابناهما. وكذا في تفسير الثعلبي. ونحوه في الصحيحين. وغير علي من الصحابة لا تجب مودته. فيكون علي أفضل، فيكون هو الإمام. ومخالفته تنافي المودة وطاعته مودة فيكون واجب الطاعة".

فالجواب قولك: "في مسند أحمد" كذب بيّن على المسند. وكذا قولك: "في الصحيحين" افتراء عليهما. بل فيهما وفي المسند ما يناقض ذلك، فكيف العمل بخطاب جهال كذبة؟ ولكن أحمد صنف كتابا في فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم فيه الصحيح والسقيم؛ ثم زاد ابنه عبد الله فيه أحاديث، وزاد القطيعي فيه جملة كثيرة واهية ومكذوبة، فظن الجهلة أن الكل من رواية أحمد، وهذا خطأ قبيح، فإن زيادات عبد الله تظهر بكونها عن غير أبيه، وزيادات القطيعي تعرف بروايته لها عن غير عبد الله بن أحمد.

وأيضا فالآية في الشورى وهي مكية باتفاق، وعلي ما تزوج فاطمة إلا في المدينة، والحسن ولد سنة ثلاث والحسين سنة أربع. فكيف يفسر النبي الآية [المكية] بوجوب مودة من لا يعرف؟

ثم تفسير الآية في الصحيحين أن ابن عباس سئل عنها فقال له سعيد بن جبير: إلا أن تودوا محمدا في قرابته، فقال ابن عباس: "عجلت، إنه لم يكن بطن من قريش إلا ولرسول الله فيهم قرابة فقال: {لا أسألكم عليه أجرا} لكن أسألكم مودة القرابة التي بيني وبينكم". فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت بعد علي يقول ما تسمع.

وأيضا فإنه قال: {إلا المودة في القربى} لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد ذلك لقال هكذا، كما قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} وقال: {فلله وللرسول ولذي القربى} {فآت ذا القربى حقه} {وأتى المال على حبه ذوي القربى} فجميع ما أوصى به من حق ذوي قربى النبي أو ذوي قربى الإنسان هكذا؛ فلما ذكر قوله {إلا المودة} بالمصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى، ولو أراد لقال المودة لذوي القربى ولم يقل "في"، فإنه لا يقال: لا أسألك المودة في فلان ولا في قربى فلان بل لفلان.

ونقول: الرسول لا يسأل على تبليغ الرسال أجرا البتة، بل أجره على الله كما قال: {قل ما أسألكم عليه من أجر} وقال {أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} وقال {إن أجري إلا على الله} ولكن الاستثناء منقطع كقوله: {قل ما أسألكم عليه من اجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا} ولا ريب أن محبة أهل البيت واحبة، لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر الرسول بل هو مما أمرنا به فهو من العبادات. وفي الصحيح أنه خطب بغدير خم فقال: «أذكركم الله في أهل بيتي» قالها ثلاثا. وفي السنن أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي". ولو كانت مودتنا لهم أجرا له لم نثب عليها لأنا أعطينا أجره الذي استحقه بالرسالة، فهل يقول هذا مسلم؟ سلمنا أن عليا تجب مودته بدليل آخر فما في ذلك ما يوجب اختصاصه بالإمامة والفضيلة.

وقولك: "والثلاثة لا تجب مودتهم" ممنوع، بل تجب أيضا مودتهم وموالاتهم، فإنه ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه. والحب في الله والبغض في الله واجب وهو أوثق عرى الإيمان. وهم من أولياء الله الكبار، وثبت أن الله رضي عنهم. وفي الصحيحين أن النبي قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»

والرافضي لا يقدر أن يركب الحجة على الخارجي والناصبي؛ فإذا قالا له: بأي شيء علمت أن عليا ولي الله؟ فإن قال: بالتواتر لإسلامه وحسناته، قالا له: فالنقل المتواتر في أبي بكر وأمثاله كذلك؛ فإن قال: بالقرآن، قالا: القرآن يدل بعمومات أنت تخرج منها أكابر الصحابة فإخراج واحد أسهل؛ وإن قال: بالأحاديث الدالة على فضائله، قيل: أحاديث فضل أولئك أكثر وأصح وقد قدحت فيها وما ورد فيه إنما نقله الصحابة الذين تقدح فيهم فإن صح قدحك بطل النقل وإن صح النقل بطل القدح، وإن قال: صح بنقل الشيعة، قيل: الصحابة عندك مطعون فيهم سوى بضعة عشر نفسا فقد يقال إن البضعة عشر تواطأوا على ما نقلوه، ومن قدح في نقل الجمهور كيف يمكنه إثبات نقل نفر قليل؟

ونحن علينا أن نحب من أحبه الله ورسوله كعلي. وفي الصحيحين أن النبي سُئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قيل: فمن الرجال؟ قال: «أبوها». وفي الصحيح أن عمر قال لأبي بكر يوم السقيفة: "بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله " وقال : «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا»

وقولك: "مخالفته تنافي المودة إلخ" فالجواب إن كانت المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم [فيجب أن تكون فاطمة أيضا إماما،] وإلا فالمودة ليست مستلزمة للإمامة، فإن كانت ملزوم الإمامة وانتفاء الملزوم يقتضي انتفاء اللازم فلا تجب مودة إلا من يكون إماما معصوما.

وقولك: "المخالفة تنافي المودة" فنقول: إذا لم تكن المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب أن نعلم وجوب الطاعة أولا، فإذا ثبت وجوبها بمجرد وجوب المودة كان دورا إلا إذا علم أنه إمام. ثم المخالفة تقدح في المودة إذا أمرنا ونحن نعلم أنه لم يأمرنا بطاعته في زمن أبي بكر وعمر وعثمان فتجب مودتهم أيضا وطاعتهم، ومخالفتهم تقدح في مودتهم بل تقدح في محبة الله ورسوله.

قال: "البرهان الثامن قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} قال الثعلبي: إن رسول الله لما أراد الهجرة استخلف عليا لقضاء ديونه ورد الودائع وأمره ليلة خرج إلى الغار وأحاطوا بالديار أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الأخضر وقال إنه لا يخلص إليك منهم مكروه، ففعل فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فقال: ألا كنتما مثل علي آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره الحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه، فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله على نبيه وهو متوجه إلى المدينة فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} وقال ابن عباس: إنها نزلت في علي لما هرب النبي إلى الغار. وهذه فضيلة لم تحصل لغيرة تدل على أفضليته، فيكون هو الإمام".

والجواب المطالبة بصحة النقل. وعزوك ذلك إلى الثعلبي لا يجدي شيئا. فالنبي لما هاجر لم يكن لقريش غرض في طلب علي، إنما كان مطلوبهم النبي وأبا بكر، فجعلا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به كما صح، لا كما سقت من الكذب السمج. فترك عليا على فراشه ليظنوا أن النبي في البيت فلا يطلبوه فلما أصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم ولم يؤذوا عليا بل سألوه عن رسول الله فقال: لا علم لي به. ولو كان لهم في علي غرض لآذوه. فلما لم يتعرضوا له دل على أنه لا غرض لهم فيه. والذي كان يقصد الدفع بنفسه هو أبو بكر بلا ريب، وكان يذكر الطلب فيكون خلف رسول الله ويذكر الرصد فيكون أمامه. ثم غير واحد من الصحابة قد فدوا النبي بأنفسهم في الحروب فمنهم من قتل بين يديه ومنهم من شلت يده كطلحة، وهذا واجب على المؤمنين.

وفي السيرة لابن إسحاق قال: فأتى جبريل النبي فقال: لا تبت الليلة على فراشك، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مقامهم قال لعلي: نم على فراشي واتشح ببردي هذا فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. [وعن] محمد بن كعب القرظي قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنات كجنات الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها، قال وخرج رسول الله عليهم فأخذ حفنة من تراب ثم قال: نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم، وأخذ الله بأبصارهم عنه فلا يرونه ولم يبق منهم رجل إلا وضع التراب على رأسه ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدا، قال: خيبكم الله قد والله خرج ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا فنظروا فرأوا التراب، ثم جعلوا يطعلون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد النبي فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا، وأنزلت قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فهذا يوضح لك أن النبي وعده أنه لا يصيبه مكروه فاطمأن إلى قول الصادق.

ثم ما أوردته هذيان باطل، لا سيما محاورة جبريل وميكائيل ومؤاخاتهما وأعمارهما. ثم مؤاخاة النبي لعلي لم تصح. ومع ذلك فيروى أنها كانت بالمدينة كما رواه الترمذي وذلك بعد الهجرة.

ثم قوله [تعالى]: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} في البقرة وهي مدنية باتفاق. وقيل نزلت الآية لما هاجر صهيب وطلبه المشركون فأعطاهم ماله وأتى المدينة فقال له النبي : "ربح البيع أبا يحيى". وهذه القصة في عدة تفاسير. وعن قتادة قال: نزلت في المجاهدين المهاجرين. وقال عكرمة: نزلت في صهيب وأبي ذر حين أخذ أهل بدر أبا ذر فانفلت منهم فقدم على النبي فلما رجع مهاجرا عرضوا له بمر الظهران فانفلت منهم أيضا، وأما صهيب فأخذه أهله فافتدى منهم بماله. وأيضا فلفظ الآية مطلق، فكل من باع نفسه ابتغاء مرضاة الله فقد دخل فيها. وأهل بيعة الرضوان بايعوا رسول الله على الموت. أخرجه البخاري.

ولا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الغار والهجرة انفرد بها، فتكون[هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام. فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه.] قال الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} فأين مثل هذه الخصيصة لغير الصديق بنص القرآن؟ ثم إن عليا لم يؤذ في مبيته على فراش النبي ، وقد أوذي غيره في وقايتهم النبي .

قال: "البرهان التاسع قوله {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} الآية. نقل الجمهور أن {أبناءنا} إشارة إلى الحسن والحسين {ونساءنا} إلى فاطمة {وأنفسنا} إلى علي. وهذه الآية أدل دليل على ثبوت الإمامة له لأن الله جعله نفس الرسول، والاتحاد محال، فبقي المراد بالمساواة له الولاية. وأيضا فلو كان غير هؤلاء مساويا لهم وأفضل منهم لاستجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة، وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم. فهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه".

الجواب: أما أخذه عليا وفاطمة وابنيهما في المباهلة ففي مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص: لما نزلت هذه الآية دعاهم فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية.

وقولك: "جعله نفس الرسول" قلنا: لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع لأن أحدا لا يساوي الرسول، وهذا اللفظ في اللغة لا يقتضي المساواة قال الله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين، وقال تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} أي يقتل بعضكم بعضا، ولم يوجب ذلك تساويهم ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده، وكذلك: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي لا يقتل بعضكم بعضا وإن كانوا غير متساوين بل بينهم من التباين ما لا يوصف، ومنه: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} فهذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة في أمور. فقوله تعالى: {ندع أبناءنا أبناءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي ورجالنا ورجالكم، أي الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب، والمراد التجانس في القرابة مع الإيمان، فذكر الأولاد والنساء والرجال الأقربين ولم يكن عنده أحد أقرب إليه من العصبات من علي ثم أدار عليهم الكساء. والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل لم يحصل المقصود. وآية المباهلة سنة عشر [لما قدم وفد نجران ولم يكن النبي قد بقي من أعمامه غير العباس،] والعباس لم يكن له سابقة ولا دلالة اختصاص على النبي.

وقولك: "لو كان غير هؤلاء مساويا لهم لأمر بأخذهم معه" قلنا: نحن نعلم بالاضطرار أنه لو دعا أبا بكر وعمر وطائفة من الكبار لكانوا من أعظم شيء استجابة لأمره، لكن لم يؤمر بأخذهم لأن ذلك لا يحصل به مقصود المباهلة، فإن أولئك يأتون بمن يعز عليهم طبعا كأقرب الناس إليهم، فلو دعا الرسول قوما أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليهم نزول المباهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين، فإن طبع المرء يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب، والناس عند المهادنة تقول كل طائفة للأخرى: ارهنوا عندنا أبناءكم ونساءكم، فلو رهنت أجانب لم يرض أولئك، ولا يلزم أهل الرجل أن يكونوا أفضل عند الله من غيرهم. فدع عنك التشبث بألفاظ مجملة ولا تزغ عن النصوص الصريحة ولا تظنن أحدا مساويا للرسول أصلا. ولو كان باقي بناته في الحياة لباهل بهن، ولو كان ابنه إبراهيم يعرف لباهل به، ولو كان عمه حمزة حيا لباهل به.

قال: "البرهان العاشر قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} روى ابن المغازلي بإسناد عن ابن عباس قال: سئل النبي عن الكلمات فقال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه. وفيه مساواته للنبي في التوسل به".

الجواب المطالبة بصحة ذلك وأنى لك صحته فإنه من أقبح الكذب على الله ورسوله. وقد ساقه ابن الجوزي في الموضوعات من أفراد أبي الحسن على بن عمر الدارقطني فإن له كتبا في الأفراد والغرائب. قال الدارقطني: تفرد به حسين الأشقر راوي الموضوعات عن الأثبات عن عمرو بن ثابت وليس بثقة ولا مأمون.

فأما الكلمات فقد جاءت في القرآن مفسرة في قوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} ومن المعلوم أن من هو دون آدم من الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله توبة نصوحا تاب الله عليه وإن لم يقسم عليه بأحد. ونبينا ما أمر أحدا في توبته بمثل هذا الدعاء.

قال: "البرهان الحادي عشر قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي} روى ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود: قال رسول الله : انتهت الدعوة إلي وإلى علي لم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا. وهذا نص في الباب".

الجواب: إن هذا كذب باتفاق الحفاظ، فإن أريد انتهاء الدعوة إلى علي لزم أن لا يكون باقي الاثني عشر أئمة. وسائر الأمة لم يسجدوا لصنم كخلق من الفساق. بل عامة الصحابة الذين سجدوا للصنم أفضل من أولادهم باتفاق. وقد ذكر الله أن لوطا آمن لإبراهيم وهو نبي. وقال شعيب: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها}

قال: "البرهان الثاني عشر قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} روى أبو نعيم بإسناده إلى ابن عباس قال: نزلت في علي، والود محبته في القلوب المؤمنة. 10 ومن تفسير الثعلبي عن البراء قال: قال رسول الله : يا علي قل اللهم اجعل عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزلت الآية. ولم يثبت ذلك لغيره فيكون هو الإمام".

قلنا: لا بد من إقامة الدليل على صحة المنقول، وإلا فالاستدلال بما لم تثبت مقدماته باطل وهو من القول بلا برهان. ثم ما أوردته موضوع عند أهل المعرفة. ثم قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} عام، فكيف تقصره على علي؟ بل يتناول عليا كما يتناول غيره ويتناول الحسن والحسين وفاطمة، فعلم بالإجماع عدم اختصاصها بواحد. والله لا يخلف الميعاد فقد وعد بأن يجعل لهم الود في القلوب، فقد جعله في قلوب جماهير المسلمين للصحابة والسابقين، [لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم ولا سيما أبو بكر وعمر.] وعامة الصحابة -وأولهم علي- يودون أبا بكر وعمر، وما علمنا أحدا من الصحابة سبهما ولم يتفق ذلك للإمام علي بل نال جماعة من الصحابة من علي وسبوه كما جرى لعثمان، فعلمنا أن المودة التي جعلها الله لأبي بكر وعمر أعظم من المودة التي جعلها للآخرين.

قال: "البرهان الثالث عشر قوله: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} ففي كتاب الفردوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله : أنا المنذر وعلي الهاد بك يا علي يهتدي المهتدون. وروى نحوه أبو نعيم. وهو صريح في ثبوت الإمامة".

والجواب أنك ما ذكرت دليلا على صحته. وأجمع العلماء أن الخبر مجرد كونه في كتاب كذا لا يدل على ثبوته. وكتاب الفردوس للديلمي محشو بالموضوعات كغيره، وهذا من أقبحها ولا تحل نسبته إلى الرسول. فإن قوله "وأنت الهاد" وما بعده ظاهره أنهم يهتدون بك دوني، وهذا لا يقوله مسلم. وإن قلت معناه يهتدون به كهدايتهم بالرسول اقتضى المشاركة، والله بنص كتابه قد جعل محمدا هاديا فقال: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقولك: وبك يهتدي المهتدون ظاهره أن كل مسلم اهتدى فبعلي اهتدى، وهذا كذب فإن محمد قد اهتدى به أمم ودخلوا الجنة ولم يأخذوا عن علي مثله. ثم لما فتحت الأمصار اهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة، وعلي مقيم بالمدينة لم يروه. فكيف يسوغ أن يقال بك يهتدي المهتدون. ثم قوله تعالى: {ولكل قوم هاد} عام في كل الطوائف فكيف يجعل عليا هاديا للأولين والآخرين. ثم الاهتداء بالشخص قد يكون بغير تأمّره عليهم، كما يهتدى بالعالم، فدعواك دلالة القرآن على علي باطل.

قال: "البرهان الرابع عشر قوله: {وقفوهم إنهم مسئولون} من طريق أبي نعيم الحافظ عن الشعبي عن ابن عباس قال: مسئولون عن ولاية علي. 11 وكذا في كتاب الفردوس عن أبي سعيد عن النبي . وإذا سئلوا عن الولاية يوم القيامة وجب أن تكون ثابتة له، فيكون هو الإمام".

قلنا: وهذا كذب، فانظر إلى سياق الآيات في قريش: {ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} إلى قوله {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسئولون} فهذا نص في المشركين المكذبين بيوم الدين، فهؤلاء يسألون عن التوحيد والإيمان. وأي مدخل لحب علي في سؤال هؤلاء؟ أتراهم لو أحبوه مع شركهم لكان ذلك ينفعهم؟ ومعاذ الله أن يفسر كتاب الله بمثل هذا.

قال: "البرهان الخامس عشر قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} روى أبو نعيم بإسناده عن أبي سعيد قال: ببغضهم عليا. 12 ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون هو الإمام".

قلنا: وهذا كذب على أبي سعيد. ونعلم بالاضطرار أن عامة المنافقين لم يكن ما يعرفون به في لحن القول هو بغض علي. ثم لم يكن علي بأعظم معاداة لهم من عمر، فبغضهم لعمر أوكد. وصح أن النبي قال: «آية النفاق بغض الأنصار» 13 فكان معرفة المنافقين في لحنهم ببغض الأنصار أولى. وكذلك لا يبغض عليا إلا منافق. وعلامات النفاق كثيرة، فهذا منها ومنها الكذب ومنها الخيانة وخلف الوعد والفجور. فنقول: من أحب عليا لما يستحقه من المحبة من إيمانه وجهاده أو أحب الأنصار لذلك فذلك من علامات إيمانه. ومن أبغض عليا أو الأنصار لإيمانهم وجهادهم ونصرهم الرسول فهو منافق. أما من أحبهم لأمر طبعي مثل قرابة أو دنيا فذلك كمحبة أبي طالب النبي . وكذا من غلا في المسيح أو في موسى أو علي فأحب من اعتقد فيه فوق مرتبته فذاك محبٌّ مُطْرٍ بما لا وجود له. فالمسيح الذي أطرته النصارى أفضل من علي، ولا ينفعهم حبه، ولا ينفع إلا الحب في الله لا الحب مع الله. وكذا من أبغض الأنصار أو أحدا من كبار الصحابة لأمر سمعه غير مطابق كان مخطئا ضالا جاهلا ولم يكن منافقا.

قال: "البرهان السادس عشر قوله تعالى: {والسابقون السابقون * أولئك المقربون} عن ابن عباس قال: سابق هذه الأمة علي".

قلنا: هذا لم يصح ولا ذكرت سنده. ولو صح لم تكن فيه حجة، والله يقول: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم} فالسابقون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان. فكيف يقال إن سابق هذه الأمة واحد؟ وأول من سبق إلى الإسلام من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد. وإسلام الصبي فيه نزاع. وإسلام أبي بكر كان أكمل وأنفع.

قال: "البرهان السابع عشر قوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة} الآية. روى رزين بن معاوية في الجمع بين الصحاح الستة أنها نزلت في علي. فيكون أفضل ويكون هو الإمام".

الجواب المطالبة بصحة النقل. ورزين قد يزيد أشياء من عنده. 14 بل الذي في الصحيح ما رواه النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: [لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام] إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} الآية. رواه مسلم.

فهذا يقتضي أن قول علي الذي فضل به الجهاد على السدانة والسقاية أصح من قول من فضل السدانة والسقاية، وأن عليا كان أعلم بالحق في هذه المسألة ممن نازعه فيها. وهذا عمر قد وافق ربه عز وجل في عدة أمور [يقول شيئا وينزل القرآن بموافقته]: مقام إبراهيم والحجاب وأسارى بدر وقوله {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن}.

وهب أن عليا اختص بمزية، فما ذلك [من خصائص الإمامة ولا] بموجب أن يكون أفضل الأمة. فإن الخضر لما علم مسائل لم يعلمها موسى لم يكن أفضل من موسى. بل هذا الهدهد قال لسليمان نبي الله: {أحطت بما لم تحط به} بل الآية بأبي بكر أولى من علي، فإن عليا كان فقيرا لا مال له وأبو بكر أنفق في سبيل الله.

قال: "البرهان الثامن عشر قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} فعن ابن عباس قال: حرم الله كلام رسوله إلا بتقديم صدقة وبخلوا أن يتصدقوا وتصدق علي ولم يفعل ذلك غيره. وعن ابن عمر قال: كان لعلي ثلاث لأن تكن في واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم تزويجه بفاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى. وعن علي قال: ما عمل بهذه الآية غيري وفي خفف الله عن الأمة. وهذا يدل على فضيلته عليهم فيكون أحق بالإمامة".

قلنا: عمل بالآية ونسخت. وما فيها إيجاب الصدقة لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدقوا ومن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدق، ولم تكن المناجاة واجبة فلا لوم [على أحد إذا ترك ما ليس بواجب، ومن كان منهم عاجزا عن الصدقة، ولكن لو قدر لناجى فتصدق فله نيته وأجره. ومن لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يجعل ناقصا. ولكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلا فهذا قد ترك المستحب. ولا يمكن أن يشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب ولا يعلم أنهم ثلاثتهم كانوا حاضرين عند نزول هذه الآية. بل يمكن غيبة بعضهم ويمكن حاجة بعضهم ويمكن عدم الداعي إلى المناجاة. وبتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب] أفكل من أدى مستحبا يكون أفضل الأمة؟ وثبت أنه قال: «من أصبح منكم صائما» قال أبو بكر: أنا، قال: «هل فيكم من شيع جنازة» قال أبو بكر: أنا، قال: «هل فيكم من تصدق بصدقة» قال أبو بكر: أنا، فقال: «ما اجتمعت هذه الخصال لعبد إلا كان من أهل الجنة» وثبت أنه قال: «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر» [وكذلك قوله في الصحيحين: «إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا لكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب في المسجد إلا سد إلا باب أبي بكر» وفي سنن أبي داود أن النبي قال لأبي بكر: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي". وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله أن نتصدق فوافق مني مالا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، قال: فجئت بنصف مالي فقال النبي : «ما أبقيت لأهلك» قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك» قال: الله ورسوله، قلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا. وفي الترمذي مرفوعا: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"] وتجهيز عثمان بألف بعير أعظم من صدقة النجوى بكثير، [فإن الإنفاق في الجهاد كان فرضا بخلاف الصدقة أمام النجوى فإنه مشروط بمريد النجوى فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق.] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي : «بينما رجل يسوق بقرة وقد حمل عليها التفتت إليه فقال إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث» فقال الناس: سبحان الله -تعجبا وفزعا- أبقرة تتكلم؟ فقال : «فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر» وقال : «بينما راع في غنمه غدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري» فقال الناس: سبحان الله، فقال: «إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثَمَّ. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار بات به ضيف فلم يكن له إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، ففعلت فأنزلت: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. وهذا أعظم من صدقة النجوى.

قال: "البرهان التاسع عشر قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} قال ابن عبد البر وأخرجه أبو نعيم أيضا: إن النبي ليلة أسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء ثم قال: سلهم يا محمد على ماذا بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي. وهذا صريح بثبوت الإمامة لعلي". 15

الجواب: لا شك أن هذا وأمثاله من الكذب. ولو لم يكن كذبا لم يسغ أن يحتج به حتى تثبت صحته. ثم كيف يسألون عما لا يدخل في أصل الإيمان؟ فقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالرسول وأطاعه ومات ولم يعلم أن الله خلق أبا بكر وعليا لم يضره ذلك في إيمانه. فكيف يقال إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة؟ والله أخذ عليهم الميثاق لئن بعث محمدا وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، قاله ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية. ثم إن لفظ الآية {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} ليس في هذا سؤال لهم بما بعثوا بل بما نص عليه في الآية.

قال: "البرهان العشرون قوله تعالى: {وتعيها أذن واعية} في تفسير الثعلبي: قال النبي : سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي. وذكر نحوه من طريق أبي نعيم. 16 وهذه فضيلة لم تحصل لأحد غيره فيكون هو المقدم".

والجواب هذا موضوع. وقوله تعالى: {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} خطاب لبني آدم، لم يرد واحدا من الناس. فإن حمل نوح وقومه في السفينة من أعظم الآيات. نعم أذن علي واعية كآذان أبي بكر وعمر وخلق من الأمة بلا ريب. أترى أذن نبينا ليست واعية ولا أذن الحسن والحسين وعمار وأبي ذر؟ فانتفى التفرد والأفضيلة.

فكم تبني أمرك على مقدمات واهية متلاشية كدأب أئمتك فما برحتم كذلك فما تنفق حججكم إلا على تلميذ أو صاحب هوى وعصبية، ولهذا يقال ليس للرافضة عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دولة منصورة.

قال: "البرهان الحادي والعشرون سورة {هل أتى} في تفسير الثعلبي بطرق قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما وعامة العرب فقالوا: يا أبي الحسن لو نذرت على ولديك؟ فنذر صوم ثلاثة أيام وكذلك نذرت أمهما وجاريتهم فضة فبرئا، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فاستقرض علي ثلاثة آصع من شعير فعملت منه [فاطمة] خمسة أقراص وصلى علي مع النبي المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف فسأل فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء، فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة وخبزت صاعا وجاء علي فأتى يتيم فوقف بالباب وقال: يا أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين، فلما كان اليوم الثالث طحنت الصاع الثالث وخبزته وأتى علي فوضع الطعام إذ أتى أسير فقال: أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة فأمر علي بإعطائه فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء، فلما كان اليوم الرابع ونفد ما عندهم أخذ علي الحسن بيده اليمنى والحسين بيده اليسرى وأقبل على رسول الله وهم يرتعشون كالفراخ من الجوع فانطلق معهم إلى منزل فاطمة وقد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها من الجوع فهبط جبريل فقال: يا محمد خذ ما هنأك الله في أهل بيتك، فأقرأه {هل أتى على الإنسان}. وهي تدل على فضائل جمة لم يسبق إليها فيكون هو الإمام".

والجواب المطالبة بصحة هذا. فإنه من وضع الطرقية لا يرتاب حافظ في وضعه. ولا أراك تنقل من مسند معتبر ولا من كتاب محدث. هذا كتاب خصائص علي رضي الله عنه للنسائي وفيه الصحيح والواهي، ولكن ما فيه مثل هذه الخرافات التي تأتي بها. [وكذلك أبو نعيم في الخصائص وابن أبي حثمة،] وكذلك في جامع الترمذي أشياء [ضعيفة] في مناقب علي وفي صفاته. ولكن حاشاهم ما أوردت أنت من الإفك. [وأصحاب السير كابن إسحاق وغيره يذكرون من فضائله أشياء ضعيفة ولم يذكروا مثل هذا ولا رووا مما قلنا فيه إنه موضوع باتفاق أهل النقل.]

ومن المعلوم أن عليا إنما تزوج بفاطمة بالمدينة و {هل أتى على الإنسان} مكية باتفاق المفسرين؛ فلاح كذب الحديث. ثم قد ثبت في الصحيحين أن النبي نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل» فالله مدح الوفاء بالنذر لا على نفس عقده، كما ينهى المرء على الظهار فإذا ظاهر وأدى الكفارة الواجبة مدح. ثم لم تكن لفاطمة جارية اسمها فضة، [ولا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة،] وإنما هي بمنزلة "ابن عقب"، أسماء موضوعة لمعدومين. وقد ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها سألت النبي خادما فعلمها أن تسبح عند المنام وتكبر وتحمد مائة وقال: «هذا خير لكم من خادم» ثم ترك الأطفال ثلاثة أيام بلا غذاء خلاف الشرع وتعرض للتلف والنبي قال: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وأيضا فكان يمكنهم أن يواسوا السائل بقرص يكفيه. ثم قول اليتيم: "استشهد أبي يوم العقبة" هذا من الكذب الظاهر المهتوك، فليلة العقبة كانت مبايعة محضة ليست غزوة. فقبح الله من وضعه. ثم إنه لم يكن في المدينة أسير قط يسأل الناس بل كان المسلمون يقومون بالأسير الذي يستأسرونه. فدعوى المدعي أن أسراهم كانوا محتاجين إلى مسألة الناس كذب عليهم وقدح فيهم. وقد كان جعفر بن أبي طالب أكثر إطعاما للمساكين من غيره حتى قال له النبي : «أشبهت خلقي وخلقي» وحتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما احتذى أحد النعال بعد النبي أفضل من جعفر. يعني في الإحسان والبر. ومع هذا فما هو أفضل من علي. ثم إنفاق أبي بكر أمواله في الله متواتر، [وتلك النفقة ما بقي يمكن مثلها. ولهذا] قال النبي : «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»

قال: "البرهان الثاني والعشرون قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} من طريق أبي نعيم عن مجاهد {وصدق به} قال: علي. 17 فهذه فضيلة اختص بها فيكون هو الإمام".

قلنا: قول مجاهد وحده ليس بحجة أن لو ثبت عنه، كيف والثابت عنه خلاف هذا وهو أن الصدق القرآن والذي صدق به هو من عمل به. ثم ما ذكرت معارض بما هو أشهر منه عند المفسرين وهو أن الذي صدق به أبو بكر الصديق، ذكره ابن جرير الطبري وغيره. وبلغنا عن أبي بكر بن عبد العزيز بن جعفر الفقيه غلام الخلال أنه سئل عن هذه الآية فقال: نزلت في أبي بكر، فقال السائل: بل في علي، فقال أبو بكر الفقيه: اقرأ ما بعدها، فقرأ إلى قوله: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} فقال: علي عندك معصوم لا سيئة له فما الذي يكفر عنه؟ فبهت السائل. ولفظ الآية عام مطلق دخل في حكمها أبو بكر وعلي وخلق.

قال: "البرهان الثالث والعشرون قوله تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} فمن طريق أبي نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مكتوب على العرش محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي. 18 وهذه من أعظم الفضائل فيكون هو الإمام".

والجواب أين ثبوت النقل؟ وإن احتججت بأبي نعيم وما رواه في الفضائل وفي الحلية من مناقب الصحابة مطلقا يهدم بنيانك. ونحن نشهد بالله أن هذا كذب على أبي هريرة، نجد عندنا علما ضروريا بذلك لا تقدر أن تدفعه عن قلوبنا. ومن لم يكن أعلم بنقل الآثار فلا يدخل معنا، كما أن الناقد الجهبذ يحلف على ما يعلم أنه مغشوش. ثم الله يقول: {أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} فهذا نص في عدد مؤلف بين قلوبهم، فصرفه إلى واحد تحريف وتبديل. ثم من المعلوم بالضرورة أن النبي ما كان قيام دينه وتأييده بمجرد موافقة علي بل ولا بأبي بكر، ولكن بالمهاجرين والأنصار.

قال: "البرهان الرابع والعشرون قوله {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} فمن طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي. 19 [وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره فيكون هو الإمام]".

والجواب المنع من صحة النقل. وإنما معنى الآية إن الله حسبك أيها النبي وحسب من اتبعك من المؤمنين، كقول الشاعر:

فحسبك والضحاك، سيف مهند

وذلك أن حسب مصدر، فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار، ويندر بدونه. [وقد ظن بعض العارفين أن معنى الآية إن الله والمؤمنين حسبك، ويكون من اتبعك رفعا عطفا على الله. وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر، فإن الله وحده حسب جميع الخلق كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}] ثم لو فرضنا أن {ومن اتبعك من المؤمنين} فاعل معطوف على الله لما كان مختصا بعلي، إذ كان وقت نزول الآية قد اتبع الرسول من المؤمنين عدد كثير جدا. ولم يقل عاقل: إن عليا وحده كان يكفي الرسول في جهاد الكفار ولو لم يكن معه إلا علي لما ظهر. فقد كان معه بمكة بضع عشرة سنة هو وطائفة وما قام الدين وانتصر إلا بعد الهجرة، بل هذا علي ومعه أكثر جيوش الإسلام ما قدر على أخذ الشام من معاوية. وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين جهلا وظلما: يجعلون عليا رضي الله عنه أكمل البشر قدرة وشجاعة وأن الرسول كان محتاجا إليه، وأنه الذي أقام الدين ثم يصفونه بالعجز والتقية بعد ظهور الإسلام، فمن يقهر عندكم المشركين والجن والإنس في مبدأ الإسلام وقلة أهله وكثرة أعدائه كيف لا يقهر طائفة بغت عليه؟ فتبين أنه وحده لم يقهر المشركين. فلا تغتر بتلك الغزوات التي ينفق بها الطرقية فوالله ما لها وجود قاتل الله من افتراها. ونظير هذا جعل النصارى عيسى إلها ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه وأنه بقي يستغيث فلا يغيثونه. فإن كان تسمير هذا الرب برضاه وإرادته فتلك طاعة وعبادة من اليهود الذين صلبوه [فيمدحون على ذلك لا يذمون. وهذا من أعظم الجهل والكفر]. وهكذا تجد كثيرا من الشيوخ والفقراء الجهلة في غاية الدعاوي ونهاية العجز، كما صح في الحديث: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم» فذكر الفقير المختال، وفي لفظ: «وعائل مستكبر» وهذا كما يقال: "الفقر والزنطرة" فيشطح أحدهم حتى كأنه رب [ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته، ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته] أو متلقح على أبواب الرؤساء، كما قال الله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} وكل من تكبر عوقب بالذل، قال الله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} فالجهل والغلو والتصديق بالأباطيل دين النصارى؛ والكبر والحسد ورد الحق والذلة والتقية دين اليهود؛ وهؤلاء الرافضة قد التقطوا الكل وتمسكوا به. اللهم اهدنا وإياهم صراطك المستقيم، فيا ما يعمل الجهل والهوى بأهله.

قال: "البرهان الخامس والعشرون قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال الثعلبي: إنما نزلت في علي. [وهذا دليل على أنه أفضل فيكون هو الإمام]".

قلنا: هذا افتراء على الثعلبي، وإنما قال الرجل في هذه الآية {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال علي بن أبي طالب وقتادة والحسن: إنهم أبو بكر وأصحابه، وقال مجاهد: هم أهل اليمن. وبلا ريب إن عليا ممن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين والتابعين. وقوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} أيقول عاقل إنها نزلت في واحد واللفظ صيغة جمع.

قال: "البرهان السادس والعشرون قوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} روى أحمد بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبيه: قال رسول الله : الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين وحزقيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم. [وهذه فضيلة تدل على إمامته]".

والجواب المطالبة بصحة الحديث، فما كل حديث رواه أحمد صحيح. ثم هذا لم يروه أحمد لا في المسند ولا في الفضائل؛ ولا رواه أبدا. وإنما زاده القطيعي عن الكديمي: حدثنا الحسن بن محمد الأنصاري: حدثنا عمرو بن جميع: حدثنا ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه مرفوعا فذكره. ثم قال [القطيعي]: كتب إلينا عبد الله بن غنام: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن [بن أبي ليلى] المكفوف: حدثنا عمرو بن جميع. فعمرو هذا قال فيه ابن عدي الحافظ: يتهم بالوضع، والكديمي يتهم معروف بالكذب. فسقط الحديث.

ثم قد ثبت في الصحيح تسمية غير علي صديقا. وفي الصحيحين أن النبي صعد أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال النبي : «اثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان» وصح أنه قال: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» وأيضا فقد سمى الله مريم صديقة وقد سمى الله النبيين كذلك فقال: {إنه كان صديقا نبيا} وإخبار الله تعالى في الآية عام فقال: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} فهذا يقتضي أن كل من آمن بالله ورسله فهو صديق. ثم إن كان الصديق هو الذي يستحق الإمامة فأحق الناس بهذا الاسم أبو بكر، وهو الذي ثبت له هذا الاسم والإمامة.

قال: "البرهان السابع والعشرون قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في الليل والنهار سرا وعلانية} من طريق أبي نعيم بإسناده إلى ابن عباس أنها نزلت في علي كان معه أربعة دراهم فأنفق درهما بالليل ودرهما بالنهار ودرهما سرا ودرهما علانية. 20 فلم يحصل ذلك لغيره، فيكون هو الإمام".

قلنا: أين ثبوت ما نقلت؟ كيف وهو كذب، والآية عامة في كل من ينفق أمواله، فيمتنع أن يراد بها واحد لم يكن صاحب مال. ثم ما نسبته إلى علي يمتنع عليه، إذ من فعل ذلك كان جاهلا بمعنى الآية؛ فإن الذي ينفق سرا وعلانية ينفق ليلا ونهارا، ومن أنفق ليلا ونهارا فقد أنفق سرا وعلانية، فالدرهم ينصف نصفين ولا يتحتم أن يكون المراد أربعة دراهم، ولو كان كذلك لقال: وسرا بالواو وعلانية، بل هما داخلان في الليل والنهار سواء قيل نصبا على المصدر أي إسرارا وإعلانا أو قيل على الحال مسرا ومعلنا. وهب أن عليا فعل ذلك، فباب الإنفاق مفتوح إلى [قيام] الساعة، فأين الخصوصية؟ ولو كان إنفاق أربعة دراهم خاصا به فلم قلت إنه صار بذلك أفضل الأمة؟

قال: "البرهان الثامن والعشرون [ما رواه أحمد بن حنبل] عن ابن عباس قال: ليس في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} إلا وعلي رأسها وأميرها. ولقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير. وهذا يدل على أنه أفضل، [فيكون هو الإمام]".

الجواب المطالبة بصحة النقل. فإنك زعمت أن أحمد بن حنبل رواه، وإنما ذا من زيادات القطيعي رواه عن إبراهيم بن شريك عن زكريا بن يحيى الكسائي: حدثنا عيسى عن علي ابن بذيمة عن عكرمة عن ابن عباس. فهذا كذب على ابن عباس، فإن زكريا ليس بثقة. والمتواتر عن ابن عباس تفضيله الشيخين على علي، وله معاتبات ومخالفات لعلي، ولما حرق علي الزنادقة قال: لو كنت أنا لقتلتهم لنهي النبي أن يعذب بعذاب الله. أخرجه البخاري.

ثم هذا الكلام ما فيه مدح لعلي؛ فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فإن كان علي رأس هذه الآية فقد عاتبه الله وهو مخالف لما في حديثك من أن الله ما ذكره إلا بخير. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وثبت أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. وأمثال هذا كثير. وإنما اللفظ شامل للمؤمنين. وفي بعض الآيات آيات عمل بها ناس قبل علي، وفيها آيات لم يعمل بها علي.

وقولك: "لقد عاتب الله الصحابة وما ذكر عليا إلا بخير" كذب ظاهر، فما عاتب أبا بكر في القرآن قط. وعن النبي أنه قال في خطبته: أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه فإنه لم يسؤني يوما قط. وهذا بخلاف خطبة بنت أبي جهل، [فقد خطب النبي الخطبة المعروفة. وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط]. وأيضا فعلي لم يكن يدخل في الأمور الكبار مع رسول الله كما كان يدخل معه أبو بكر وعمر فإنهما كانا كالوزيرين وعلي صغير في سن ولديهما. وفي الصحيحين عن علي: لما مات عمر جاء علي فقال: والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك فإني كنت كثيرا ما أسمع النبي يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر». وقد شاور عليا في أمر يخصه كما شاوره في قصة الإفك في شأن عائشة فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك. وشاور فيها أسامة بن زيد فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيرا. فنزل القرآن ببراءتها وإمساكها كما أشار أسامة. ومع هذا فأين أسامة من علي.

قال: "البرهان التاسع والعشرون قوله {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} فمن صحيح البخاري عن كعب ابن عجرة قلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..» ولا شك أن عليا أفضل آل محمد، فيكون أولى بالإمامة.

قلنا: هذا حق، [وإن عليا من آل محمد الداخلين في قوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» ولكن ليس هذا من خصائصه. فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا، كالعباس وولده والحارث بن عبد المطلب وكبنات النبي زوجتي عثمان رقية وأم كلثوم وبنته فاطمة، وكذلك أزواجه.] وفي الصحيحين: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته» فالصلاة على الآل عامة، فلا يختص بها علي. ثم يدخل فيها مثل عقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن الحارث. [ومعلوم أن دخول كل هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك، ولا أنه يصلح بذلك للإمامة فضلا عن أن يكون مختصا بها. ألا ترى أن عمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم ممن اتفق أهل السنة والشيعة على فضلهم لا يدخلون في الصلاة على الآل، ويدخل فيها عقيل والعباس وبنوه، وأولئك أفضل من هؤلاء باتفاق أهل السنة والشيعة. وكذلك يدخل فيها عائشة وغيرها من أزواجه، ولا تصلح امرأة للإمامة وليست أفضل الناس باتفاق أهل السنة والشيعة. فهذه فضيلة مشتركة بينه وبين غيره، وليس كل من اتصف بها أفضل ممن لم يتصف بها.]

"البرهان الثلاثون قوله: {مرج البحرين يلتقيان} من تفسير الثعلبي وطريق أبي نعيم عن ابن عباس قال: علي وفاطمة، {بينهما برزخ} النبي ، {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين. ولم تحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة فيكون أولى بالإمامة".

الجواب أن هذا هذيان ما هو تفسير للقرآن بل هو من وضع الملاحدة. ونظيره قول الجهلة المنتسبين إلى السنة حيث فسروا وما فسروا فقالوا: {الصابرين} محمد و {الصادقين} أبو بكر و {القانتين} عمر و {المستغفرين بالأسحار} علي. وكقولهم {محمد رسول الله والذين معه} أبو بكر {أشداء على الكفار} عمر {رحماء بينهم} عثمان {تراهم ركعا سجدا} علي. وكقولهم {والتين والزيتون} أبو بكر وعمر {وطور سينين} عثمان {وهذا البلد الأمين} علي. وكذا {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا} أبو بكر {وعملوا الصالحات} عمر {وتواصوا بالحق} عثمان {وتواصوا بالصبر} علي. وكقول تيوس الرافضة: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} علي، و {الشجرة الملعونة} بنو أمية.

ونحن نجد ضرورة لا تندفع أن ابن عباس ما قال هذا. ثم سورة الرحمن [مكية بإجماع المسلمين] وإنما اتصل علي بفاطمة بالمدينة. ثم تسمية هذين بحرين وهذا اللؤلؤ وهذا مرجان وجعل النكاح مرجا أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه. ثم نعلم أن آل إبراهيم كإسماعيل وإسحاق أفضل من آل علي؛ فلا توجب الآية تخصيصا ولا أفضلية لو تنازلنا وخاطبنا من لا يعقل ما يخرج من رأسه. ثم إن الله تعالى قد ذكر {مرج البحرين} في آية أخرى فقال: {هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا} فأيهما الملح الأجاج عندك أعلي أم فاطمة؟ ثم قوله: {لا يبغيان} يقتضي أن البرزخ هو المانع من بغي أحدهما على الآخر، وهذا بالذم أشبه منه بالمدح.

قال: "البرهان الحادي والثلاثون قوله: {ومن عنده علم الكتاب} عن ابن الحنفية قال: هو علي. وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قال: قلت من ذا الذي عنده علم الكتاب؟ فقال: إنما ذاك علي".

قلنا: أين صحة النقل بهذا عنهما؟ وما هما بحجة مع مخالفة العلماء، كيف وهذا كذب عليهما باطل، فلو كان المراد علي لكان النبي يستشهد على الكفار بابن عمه، ولو شهد له بالرسالة لما كان حجة عليهم ولا حصل لهم دليل ينقادون له ولقالوا إنما الذي عند ابن عمك علي مستفاد منك فتكون أنت الشاهد لنفسك ولعله داهنك وحاباك وأين براءته من التهمة بذلك. وأما أهل الكتاب الذين عندهم علم به إذا شهدوا بما تواتر عندهم عن الأنبياء كانت شهادتهم نافعة كما لو كان الأنبياء موجودين وشهدوا له، لأن ما ثبت بالتواتر فهو بمنزلة شهادتهم أنفسهم. ولهذا نحن نشهد على الأمم مما علمناه من جهة نبينا. ثم إن الله تعالى ذكر الإستشهاد بأهل الكتاب في أماكن كقوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} وقال: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} ثم هب أن عليا هو الشاهد، أيلزم أن يكون هو أفضل الصحابة فكما أن أهل الكتاب الذين يشهدون بذلك كعبد الله بن سلام وسلمان وكعب الأحبار وغيرهم ليسوا بأفضل من الباقين فكذا هذا.

قال: "البرهان الثاني والثلاثون قوله: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} عن ابن عباس قال: أول من يلبس من حلل الجنة إبراهيم بخلّته ومحمد لأنه صفوة الله ثم علي يزف بينهما إلى الجنان، ثم قرأ: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه}".

قلنا: قبح الله من اختلق هذا على ابن عباس الذي نجزم بأنه ما قاله. ثم النص عام في المؤمنين فلا تثبت بها أفضلية واحد.

قال: "البرهان الثالث والثلاثون {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} روى أبو نعيم بإسناده إلى ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله لعلي: هم أنت وشيعتك يأتون يوم القيامة راضين ويأتي خصماؤك غضابا مفحمين. وإذا كان خير البرية وجب أن يكون الإمام". 21

والجواب المطالبة بصحته وإن كنا جازمين بوضعه. ثم هو معارض بمن قال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الخوارج والنواصب، ويقولون من تولى عليا فهو كافر، ويحتجون على ذلك بقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قالوا: ومن حكّم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافرا. وقال: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقال: هو وعثمان وشيعتهما مرتدون بقول النبي : «ليذادن رجال عن حوضي كما تذاد الإبل الغريبة فأقول رب أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وبقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» فهذا وإن كان باطلا فحجج الرافضة أبطل منه. وقد صنف الجاحظ كتابا للمروانية وذكر حججا لهم لا يمكن الرافضي نقضها، بل يحتاج إلى أهل السنة حتى ينقضوها.

قال: "البرهان الرابع والثلاثون قوله: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا} في تفسير الثعلبي عن ابن سيرين قال: نزلت في النبي زوج عليا فاطمة. ولم يثبت لغير علي ذلك فكان أفضل [فيكون هو الإمام]".

قلنا: وهذا من الكذب على ابن سيرين. والسورة مكية قبل زواجه بفاطمة بدهر. والآية مطلقة، فإن تناولت مصاهرة النبي لعلي فقد تناولت مصاهرته لعثمان مرتين ولأبي العاص مرة وتناولت مصاهرة أبي بكر وعمر للنبي فإنه تزوج بابنتيهما، فمصاهرته ثابتة للخلفاء الأربعة، فانتفت الخصوصية.

قال: "البرهان الخامس والثلاثون قوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلا المعصوم إذ لا معصوم من الأربعة سواه. وعن ابن عباس أنها نزلت في علي".

قلنا: الصديق مبالغة في الصادق، وأبو بكر صديق بأدلة عدة، فهو أول من تناولته الآية فيجب أن نكون معه. وإن كان الأربعة صديقين لم يكن علي مختصا بذلك. بل الآية إنما نزلت في قصة كعب لما تخلف عن غزوة تبوك وتيب عليه ببركة الصدق وذلك ثابت في الصحيح. ثم إنه قال: {وكونوا مع الصادقين} ولم يقل وكونوا مع الصادق، ومعناها فاصدقوا كما يصدق الصادقون، لا تكونوا مع الكاذبين. كما قال: {واركعوا مع الراكعين} ولم يرد المعية في كل شيء، فلا يجب على الإنسان أن يكون مع الصادقين في المباحات والملبوسات ونحو ذلك. ومثل ذلك كن مع الأبرار كن مع المجاهدين أي ادخل معهم في هذا الوصف وجامعهم عليه.

قال: "البرهان السادس والثلاثون قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} عن ابن عباس أنها نزلت في علي والنبي وهما أول من صلى وركع".

قلنا: لا نسلم صحته. ثم الآية في البقرة وهي مدنية وسياقها مخاطبة بني إسرائيل، فنزلت بعد وجود خلق من الراكعين. ولو أراد الله نبيه وعليا لقال مع الراكعَيْنِ. وصيغة الجمع لا يراد بها التثنية فقط. ثم قد قال لمريم: {واركعي مع الراكعين}. ثم لو أراد الركوع معهما لانقطع حكم الآية بعد موتهما. ثم أكثر الناس على أن أبا بكر صلى مع نبي الله قبل علي.

قال: "البرهان السابع والثلاثون {واجعل لي وزيرا من أهلي} فمن طريق أبي نعيم عن ابن عباس: أخذ النبي بيد علي وبيدي ونحن بمكة وصلى أربعا ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إن موسى سألك وأنا أسألك أن تجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري. قال ابن عباس: فسمعت مناديا ينادي يا أحمد قد أوتيت سؤلك". 22

قلنا: علماء الحديث يعلمون وضع هذا بالضرورة. ثم ابن عباس كان بمكة قبل الهجرة رضيعا؛ وبعد الهجرة فكان الله قد شد أزر نبيه وأغناه وأيده. وإن زعموا أن عليا كان شريك النبي في أمره كما كان هارون شريك موسى فهذا نص في نبوة علي! وإن قالوا كان شريكه في الأمر سوى النبوة فهذا يعطي أنه ما كان مستقلا بأمر الأمة في حياته! ثم قلنا: يا أحمق فهذا نص في الباب، فأي الشريكين تعني؟

قال: "البرهان الثامن والثلاثون {إخوانا على سرر متقابلين} من مسند أحمد بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال: دخلت على رسول الله في مسجده فذكر قصة مؤاخاة رسول الله فقال علي: لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين فعلت بأصحابك ما فعلت غيري فإن كان هذا من سخطك علي فلك العتبى، فقال [رسول الله ]: والذي بعثني بالحق ما اخترتك إلا لنفسي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي وأنت معي في قصري في الجنة ومع ابنتي. ثم تلا رسول الله {إخوانا على سرر متقابلين}. فلما اختص علي بمؤاخاة رسول الله كان هو الإمام".

قلنا: هذا ما رواه أحمد قط. وإنما هو من زيادات القطيعي التي غالبها ساقط، فقال حدثنا [عبد الله بن محمد بن عبد العزيز] البغوي: حدثنا حسين بن محمد الدراع: حدثنا عبد المؤمن بن عباد: أخبرنا يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى. وقد أسقطت منه يا رافضي فإن فيه فقال: يا رسول الله وما أرث منك؟ قال: ما ورث الأنبياء قبلي كتاب الله وسنة نبيهم. وهو مكذوب باتفاق أهل المعرفة. وأحاديث المؤاخاة كلها كذب؛ ولا آخى النبي بين مهاجري ومهاجري ولكن بين المهاجرين والأنصار. ثم قوله: "ووارثي" لا يستقيم فإن أراد ميراث المال [بطل قولهم إن فاطمة ورثته، وكيف يرث ابن العم مع وجود العم وهو العباس، وما الذي خصه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة.] وإن أراد وارث علمه أو الولاية بطل احتجاجهم بقوله: {وورث سليمان داود} وبقوله: {يرثني ويرث من آل يعقوب}. وما ورثه الرسول من العلم لم يختص به علي، بل كل واحد من الصحابة حصل له نصيب. وحفظ ابن مسعود من في رسول الله سبعين سورة. ثم ليس العلم كالمال بل الذي يرثه هذا يرثه الآخر ولا يتزاحمان بخلاف المال. ثم قد ثبت في الصحيحين أن النبي قال لمولاه زيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال له أبو بكر لما خطب ابنته: ألست أخاك؟ قال: بلى وابنتك حلال لي. وفي الصحيح أنه قال: «ولكن أخوة الإسلام أفضل» وفي الصحيح أيضا: «وددت أني قد رأيت إخواني» قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: لا، «أنتم أصحابي ولكن إخواني قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني» وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال النبي : «المسلم أخو المسلم» وقال: «كونوا عباد الله إخوانا» ومطلق المؤاخاة لا يقتضي التماثل من كل وجه ولا المناسبة. وإذا كان كذلك لم قيل مؤاخاة علي لو كانت صحيحة توجب الإمامة أو الأفضلية. وقد ثبت أنه قال: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» وصح أنه سئل: من أحب الناس إليك؟ من الرجال؟ قال: «أبو بكر» وتواتر أن عليا قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" أخرجه البخاري. ولن يرتاب في هذه النصوص الثابتة إلا من لا يعلم أو غلبه الهوى. ونقل البيهقي بإسناده إلى الشافعي قال: لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة. وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والثوري والليث والأوزاعي وإسحاق وداود وابن جرير وأصحابهم من الأئمة والسلف والخلف. وهذا مالك يحكي الإجماع عمن لقيه أنهم لم يختلفوا في تقديم أبي بكر وعمر. وابن جرير ومسلم بن خالد الزنجي وابن عيينة وعلماء مكة على ذلك. وبه يقول ابن أبي عروبة والحمادان وغيرهم من علماء البصرة، وابن أبي ليلى وشريك وجماعة من علماء الكوفة التي هي دار الشيعة، وعمر بن الحارث والليث بن سعد وابن وهب من علماء [مصر، والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وغيرهما] من علماء الشام، ومن لا يحصي عددهم إلا الله تعالى.

وقال: "البرهان التاسع والثلاثون {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية. ففي كتاب الفردوس عن حذيفة قال: قال رسول الله : لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد قال الله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} قالت الملائكة: بلى، فقال تعالى: أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلي أميركم. وهذا صريح في الباب".

والجواب منع الصحة؛ بل هو كذب باتفاق أهل المعرفة والنقد. ثم إن الذي في القرآن أنه قال: {ألست بربكم قالوا بلى} لم يتعرض لذكر نبي ولا أمير، فهذا ميثاق التوحيد خاصة، ألا تراه قال {أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ليس فيه ميثاق النبوة فكيف ما دونها.] وأيضا فإن الميثاق أخذ على الذرية كلها، أفيكون علي أميرا على الأنبياء [كلهم من نوح إلى محمد ؟ وهذا كلام المجانين، فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا، فكيف يكون أميرا عليهم. وغاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه؛ أما الإمارة على من خلق قبله وعلى من خلق بعده فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول ولا يستحي مما يقول.

ومن العجب أن هذا الحمار الرافضي هو أحمر من عقلاء اليهود الذين قال الله فيهم: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا}] والعامة معذورون في قولهم: "الرافضي حمار اليهودي". والعاقل يعلم أن هذا وأمثاله باطل عقلا وشرعا. وإنما هذا نظير قول ابن عربي الطائي وأمثاله: إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، الذي خلق بعدهم بدهور. فغلو هؤلاء في الولاية كغلو أولئك في الإمامة. ثم يقول: هو صريح في الباب! فهل يكون هذا حجة عند أحد ويحتج بهذا في جزرة بقل؟ والله حسبك وحسبنا على ما تقول.

قال: "البرهان الأربعون قوله: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} أجمع المفسرون على أن عليا صالح المؤمنين. روى أبو نعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله يقرأ: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} علي بن أبي طالب. واختصاصه بهذا يدل على أفضليته، [فيكون هو الإمام] والآيات في هذا المعنى كثيرة".

والجواب أن نقلك الإجماع افتراء منك، فما أجمعوا على هذا. بل كتب التفسير بنقيض هذا، فقال مجاهد وغيره: هو أبو بكر وعمر، نقله ابن جريج وغيره. وقيل: هم الأنبياء. ولم يثبت القول بتخصيص علي به عمن قوله حجة. والحديث المذكور كذب بيقين. ثم قوله {وصالح المؤمنين} اسم يعم كل صالح من المؤمنين كما في الصحيحين عن النبي : «إن آل فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين» ثم يقال: إن الله جعل في الآية صالح المؤمنين مولى رسول الله [كما أخبر أن الله مولاه؛] والمولى يمتنع أن يراد به المولى عليه، فلم يبق المراد به إلا الموالي. ومن المعلوم أن كل من كان صالحا من المؤمنين كان مواليا للنبي قطعا، فإنه لو لم يواله لم يكن من صالحي المؤمنين، بل قد يواليه المؤمن وإن لم يكن صالحا.

وقولك: "والآيات [في هذا المعنى] كثيرة" فغاية ذلك أن يكون المتروك من جنس المذكور، والذي أوردته خلاصة ما عندك، وباب الكذب لا ينسد، ولكن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون.

وحكاية قاسم بن زكريا المطرز مشهورة أنه دخل على عباد بن يعقوب [الأسدي الرواجني] الرافضي -وكان صدوقا في الحديث على بدعته- فقال لي: من حفر البحر؟ قلت: الله تعالى، قال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ قلت: يذكر الشيخ، فقال: حفره علي، فمن أجراه؟ قلت: يفيد الشيخ، قال: أجراه الحسين، وكان عباد مكفوفا فرأيت سيفا وجحفة فقلت: لمن هذا؟ قال: أعددته لأقاتل به مع المهدي، فلما فرغت من سماع ما أردت منه دخلت عليه فقال لي: من حفر البحر؟ قلت: معاوية وأجراه عمرو بن العاص، ثم وثبت وعدوت أصيح: أدركوا الفاسق عدو الله فاقتلوه. 23

قلت: هذه حكاية صحيحة رواها ابن مظفر عن القاسم. وقد قال محمد بن جرير: سمعت عباد بن يعقوب يقول: من لم يتبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد حشر معهم.

قال الرافضي: "المنهج الثالث في الأدلة المسندة إلى الحديث. فمن ذلك [ما نقله الناس كافة] لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} جمع رسول الله بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم طعاما [وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق من الشراب فأكلت الجماعة كلهم من ذلك اليسير حتى شبعوا ولم يتبين ما أكلوا فبهرهم ذلك وتبين لهم أنه صادق في نبوته فقال: يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بهما العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الأمم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار شهادة أن لاإله إلا الله وأني رسول الله،] من يجبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي، فقال علي: أنا يا رسول الله".

والجواب المطالبة بصحة النقل، فلا هو في السنن ولا في المسانيد ولا في المغازي. فأين قولك فيه: "نقله الناس كافة" وإنما هو من الموضوعات. ثم إن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا وقت نزول الآية ولا كانوا أربعين في حياة الرسول أبدا. وجميع بني عبد المطلب من أولاد العباس وأبي طالب والحارث وأبي لهب فكان لأبي طالب أربعة علي وجعفر وعقيل وطالب، فطالب لم يدرك الإسلام والعباس كان أولاده رضعا أو لم يولد له، والحارث كان له ثلاثة أبو سفيان وربيعة ونوفل، وأبو لهب كان له ولدان أو ثلاثة؛ فكل بني هاشم إذ ذاك لم يبلغوا بضعة عشر، فأين الأربعون؟ ثم قوله في الحديث: "كل رجل منهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن" كذب ليس بنو هاشم معروفين بكثرة الأكل بل ولا واحد منهم يحفظ عنه هذا. ثم لفظ الحديث ركيك يشهد القلب ببطلانه، فإنه عرضه كما زعمت على أربعين رجلا فلو فرضنا أنهم أجابوه كلهم من الذي يكون الخليفة منهم؟ ثم في الصحيحين ما يبين بطلان هذا عن أبي هريرة وغيره أن النبي لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا قريشا فاجتمعوا فعمَّ وخصَّ فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» وفي الصحيحين لما نزلت هذه الآية قال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، [يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا،] يا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، سلاني ما شئتما من مالي» وأخرجه مسلم من حديث قبيصة بن مخارق وزهير وعائشة وفيه أنه قام على الصفا فنادى.

قال: "الخبر الثاني عن النبي قال لما نزلت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} خطب بغدير خم وقال: أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، فقال عمر: بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. والمراد بالمولى هنا التصرف لتقدم التقرير منه بقوله: ألست أولى منكم بأنفسكم".

والجواب عن هذا قد تقدم، وأن الآية قد نزلت قبل يوم الغدير بمدة وإن كانت من المائدة. ألا ترى أن في سياقها: {والله يعصمك من الناس} وهذا شيء كان في أوائل الإسلام. ثم صدر الحديث رواه الترمذي وأحمد في المسند؛ وأما "اللهم وال من والاه إلخ" فلا ريب في كذبه. ونقل الأثرم في سننه عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر وأنه حدث بحديثين هذا أحدهما والآخر قوله لعلي: "إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ مني" فأنكره أبو عبد الله جدا ولم يشك أن هذين كذب. وقد صنف ابن عقدة مصنفا في جمع طرق الحديث. وقال ابن حزم: الذي صح في فضائل علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولأعطين الراية، وعهده أن عليا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، وصح نحوه في الأنصار، وأما من كنت مولاه فلا يصح. إلى أن قال: وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها. فإن قيل: فما ذكر ابن حزم قوله: أنت مني وأنا منك، وحديث المباهلة والكساء؛ قيل: مراد ابن حزم ما يذكر فيه علي وحده. ونحن نقول إن كان النبي قال هذا يوم الغدير فلم يرد به الخلافة قطعا، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه دلالة ظاهرة؛ ومثل هذا الأمر العظيم ينبغي أن يبين بيانا واضحا، فالمولى كالولي، وقد قال الله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وأن المؤمنين أولياء الله وأن {بعضهم أولياء بعض}، فالموالاة ضد المعاداة وهي تثبت من الطرفين. وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إحسان وتفضل وولاية الآخر طاعة وعبادة فمعنى كونه تعالى ولي المؤمنين ومولاهم وكون نبيه وليهم ومولاهم وكون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة، والمؤمنون أيضا يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعلي من كبارهم يتولاهم ويتولونه، ففيه رد على الخوارج والنواصب، لكن ليس في الحديث أنه ليس للمؤمنين مولى سواه، وقد قال النبي : «أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقريش والأنصار موالي دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله»

قال: "[الثالث] قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لخلفه، [ولأنه خلفه مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة فيكون أولى بأن يكون خليفة]".

الجواب هذا الحديث في الصحيحين وقاله له في غزوة تبوك. وكان النبي إذا غاب عن المدينة يستخلف عليها رجلا فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف فما تخلف عنه إلا معذور بالعجز أو منافق وأولئك الثلاثة. كذا كان الاستخلاف في غزوة الفتح أيضا وفي حجة الوداع فما علمنا من يذكر تخلف ولم يبق بالمدينة طائفة من المؤمنين. وكان هذا الاستخلاف دون الاستخلافات المعتادة منه فخرج علي إلى النبي يبكي وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ وقيل إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه، فبين له الرسول إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي وإن الاستخلاف ليس ببغض فإن موسى استخلف هارون على قومه فطيب قلبه. ولم يكن الاستخلاف كاستخلاف هارون لأن ذلك كان على كل قوم موسى وذهب هو للمناجاة، واستخلاف علي كان على من ذكرنا وسائر المسلمين كانوا مع نبيهم. وقول القائل: هذا بمنزله هذا أو مثل هذا أو كهذا، تشبيه للشيء بالشيء ويكون بحسب ما دل عليه السياق ولا تقتضي المساواة في كل شيء. ألا ترى إلى ما ثبت من قول النبي في حديث الأسارى حين استشار أبا بكر فأشار بالفداء واستشار عمر فأشار بالقتل فقال: مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} الحديث. فقد جعل هذين مثلهما ولم يرد أنهما مثلهما في كل شيء، لكن فيما دل عليه السياق من الشدة واللين. وكذلك علي إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق وهو استخلافه في مغيبه، وهذا الاستخلاف ليس من خصائص علي ولا هو مثل سائر استخلافاته ولا أولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى. وتخصيصه لعلي بالذكر هنا هو مفهوم اللقب وهو نوعان لقب هو جنس ولقب يجري مجرى العلم مثل زيد وأنت، وهذا المفهوم أضعف المفاهيم. ولهذا كان جماهير الأصوليين على أنه لا يحتج به. وقول القائل إنه جعله بمنزلة هارون من موسى في كل شيء إلا النبوة باطل فإن قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه أي مثل منزلة هارون، ولو كان مثل هارون مطلقا لما أمر عليه أبا بكر في حجة سنة تسع فكان يصلي خلف أبي بكر ويطيع أمره وخصه بنبذ العهود إلى العرب فقط، فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود ولا ينبذها إلا السيد المطاع أو رجل من أهل بيته.

وقولك: "ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته بطول الغيبة يكون أولى بأن يكون خليفة"

فيقال: هو مع وجوده وغيبته قد استخلف غير واحد سوى علي، فالاستخلاف على المدينة ليس من خصائصه وليس كل من صلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يكون خليفة بعد الموت.

قال: "الرابع أنه استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة فيجب أن يكون خليفة له بعد موته وليس غير علي إجماعا ولأنه لم يعزله عن المدينة فيكون خليفته بعد موته فيها وإذا كان خليفة في المدينة كان خليفة في غيرها إجماعا".

قلنا: هذه حجة داحضة كأمثالها من جنس نسيج العنكبوت. والجواب عنها من وجوه: أحدها أن نقول على أحد القولين إنه استخلف أبا بكر بعد موته، وإن قلت [بل] استخلف عليا؛ قيل والراوندية من جنسك قالوا: استخلف عمه العباس، [وكل من له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحد بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر ليس فيها شيء يدل على استخلاف علي ولا العباس،] وإن لم يكن استخلف فقد ترك مباحا، أما الاستخلاف في الحياة فإنه نيابة ولا بد منه لكل إمام عزما، وبعد موته انقطع التكليف عنه كما قال المسيح: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} وقولك: "لم يعزله عن المدينة" قول زيف، فإنه بمجرد مجيء النبي انعزل علي كما كان غيره من نواب الرسول على المدينة ينعزلون بمقدمه. وقد أرسله بعد ذا ببراءة إلى الموسم وبعثه عاملا على اليمن ثم وافاه في حجة الوداع.

قال: "الخامس ما رواه الجمهور بأجمعهم عن النبي أنه قال لعلي: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني".

والجواب أولا المطالبة بصحة هذا، فقد شطحت وانتفخت إذ قلت: "رواه الجمهور بأجمعهم" فإن أردت علماء الحديث فقد افتريت، وإن أردت أن أبا نعيم رواه في الفضائل والمغازلي أو خطيب خوارزم فليس حجة باتفاق. ثم بطلانه معلوم. قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات لما روى هذا الحديث من طريق أبي حاتم البستي: "حدثنا محمد بن سهل بن أيوب: حدثنا عمار بن رجاء: حدثنا عبيد [الله بن موسى]: حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف عن أنس أن النبي قال: إن أخي ووزيري وخليلي من أهلي وخير من أترك من بعدي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب؛ وهذا موضوع، قال ابن حبان: مطر يروى الموضوعات لا تحل الرواية عنه".

ورواه من طريق ابن عدي بنحوه. ومداره على مطر هذا، مع أنه ليس في لفظه: "وخليفتي ووصيي" وأما في تلك الطريق: "وخليفتي في أهلي".

قال: "السادس حديث المؤاخاة روى أنس أن النبي لما كان يوم المباهلة وآخى بين المهاجرين والأنصار [وعلي واقف يراه ويعرفه ولم يؤاخ بينه وبين أحد فانصرف باكيا فقال النبي : ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين، فقالت له: فاطمة ما يبكيك؟ قال: آخى النبي بين المهاجرين والأنصار ولم يؤاخ بيني وبين أحد، قالت: لا يخزيك الله لعله إنما ادخرك لنفسه، فقال بلال: يا علي أجب رسول الله ، فأتى فقال: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فأخبره فقال: إنما ادخرك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى، فأخذ بيده فأتى المنبر فقال: اللهم هذا مني وأنا منه ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى ألا من كنت مولاه فعلي مولاه. فانصرف فاتبعه عمر فقال: بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فالمؤاخاة تدل على الأفضلية فيكون هو الإمام]".

قلنا: هذا موضوع باطل، والمباهلة إنما كانت سنة تسع أو نحوها والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في أول الهجرة. ثم لم تقع مباهلة لكن دعي نصارى نجران إليها فاستمهلوا حتى يشتوروا فلما خلوا قالوا: هو نبي وما باهل قوم نبيا إلا استؤصلوا، فأقروا بالجزية وذهبوا.

قال: "السابع حديث فتح خيبر على يديه" فأورده بلفظ منكر [وفيه: أروني رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله].

ولا ريب أن عليا يحبه الله؛ ففيه رد على الخوارج والأموية. قال الأشعري في كتاب المقالات: أجمعت الخوارج على كفر علي. وليس هذا الحديث مما يختص به علي بل غيره يحبه الله، وكون الفتح على يديه يدل على فضيلته لا أفضليته.

قال: "الثامن خبر الطائر روى الجمهور كافة أن النبي أتي بطائر فقال: اللهم ائتني بأحب الخلق إليك وإلي يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي".

فنقول: [حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح. مع أن الحاكم منسوب للتشيع؛ لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر؛ فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما.

ثم] إما أن يكون الرسول كان يعرف أن عليا أحب الخلق إلى الله تعالى أو لا. فإن كان يعرف هلا أرسل خلفه أو هلا قال: "اللهم ائتني بعلي" فأراح أنفسا من الاحتمال والرجاء الباطل. ثم في لفظه: "أحب خلقك إليك وإلي" فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه؟ لا سيما وفي الصحاح ما يناقض هذا كقوله: «لو كنت متخذا خليلا من الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا» وهذا متواتر جاء من حديث ابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد وابن الزبير. والخلة كمال الحب. وثبت في الصحيح أن النبي سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قيل: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» وقال له عمر يوم السقيفة بحضرة الملأ: أنت خيرنا وأحبنا إلى رسول الله . فما أنكره على عمر منكر. وقال الله تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى} وأئمة التفسير يقولون: هذا أبو بكر. فنقول: {الأتقى} قد يكون نوعا فتدخل فيه جماعة؛ وقد يكون شخصا معينا، فإما أن يكون أبا بكر أو عليا، فلا يصح أن يكون عليا لأنه قال: {الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى} وهذا وصف منتف عن علي لأن السورة مكية وعلي كان بمكة فقيرا في عيال النبي ضمه إليه لما أصابت أهل مكة سنة، فكانت للنبي عنده نعمة تجزى دنيوية ونعمة الدين لا تجزى بل أجرها على الله وحده. فالوصف ثابت للصديق دون علي. وعلي أتقى من غيره لكن أبو بكر أكمل في الوصف هنا منه. قال النبي : «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر» وقال: «إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» واشترى أبو بكر سبعة من المعذبين في الله ابتغاء وجه الله. فإن قلنا: الأتقى اسم جنس، فأبو بكر أول داخل فيه وسادة الصحابة وتابعوهم.

قال: "التاسع ما رواه الجمهور من أنه أمر الصحابة بأن يسلموا على علي وقال: إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين. وقال: هذا أولى بكل مؤمن من بعدي. فيكون هو الإمام".

والجواب المطالبة بإسناد هذا وبيان صحته، فما هو في كتاب صحيح ولا في مسند معتبر. بل رواه آحاد الناس بإسناد فيه متهم بالكذب، وهو موضوع عند من له أدنى معرفة بالحديث ولا تحل نسبته إلى الرسول المعصوم. ولا نعلم أحدا هو سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين غير نبينا . واللفظ مطلق ما قال فيه: "من بعدي" ولا في اللفظ ما يدل على ذلك. ولأن خير المسلمين والمتقين والمحجلين هم القرن الأول والرسول قائدهم بل وقائد من بعدهم في القيامة، فلمن يقود علي؟ وعندكم جمهور الأمة المحجلين كفار وفساق فكيف يقودهم؟ وقال : «يأتون غرا محجلين يوم القيامة من آثار الوضوء» و «أنا فرطكم على الحوض» فهذا يبين أن كل من توضأ وغسل وجهه ويديه ورجليه فإنه من المحجلين. وهؤلاء جماهير أمة محمد سواكم، فإنكم لا تغسلون الأرجل، فلا تكونون من المحجلين في الأرجل، فلا يقودكم الرسول ولا علي، وإنما الحجلة في الرجل كهِيَ في اليد. قال النبي : «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» ومعلوم أن الفرس لو لم يكن له لمعة في يده أو في رجله لم يكن محجلا، فمن لم يغسل إلى الكعبين لم يكن من المحجلين.

ومما يوضح أن الحديث كذب ما ثبت من أن الرسول كان يفضل على علي أبا بكر وعمر تفضيلا ظاهرا عرفه الخاص والعام حتى المشركون. [وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون له ويثنون عليه ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفتُّ فإذا هو عليٌّ فترحم على عمر وقال: "ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كثيرا ما كنت أسمع النبي يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما". فلم يكن تفضيلهما عليه وعلى أمثاله مما يخفى على أحد.] ولهذا كانت الشيعة الأول مع فرط حبهم لعلي يقدمون أبا بكر وعمر عليه وإنما يفضلونه على عثمان كما قال عبد الرزاق: "كفى بي أزرا أن أحبه وأخالف قوله: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته". ولما كان يوم أحد واستظهر أبو سفيان أمير المشركين قال: أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ فقال النبي : «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي : «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: «لا تجيبوه» فقال أبو سفيان لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد بقي لك ما يسؤوك، الحديث. أخرجه البخاري. فهذا رأس العدو لا يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة، فدل على عظمهم عند المشركين بخلاف غيرهم. [وكذلك قوله: "هو ولي كل مؤمن بعدي" كذب على رسول الله ، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن، وكل مؤمن وليه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان،] فأما الولاية التي هي الإمارة فإنما يقال فيها: والي كل مؤمن.

وأما قوله لعلي: «أنت مني وأنا منك» فصحيح. وفي الحديث قال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال لجعفر بن أبي طالب: «أشبهت خلقي وخلقي» وفي الصحيحين أن النبي قال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم في ثوب ثم قسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم» فعلمنا أن هذا اللفظ مدح ولا يدل على الإمامة. وقال في جليبيب: «هذا مني وأنا منه»

قال: "العاشر ما رواه الجمهور من قوله : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. وقال: أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وسيد أهل بيته علي. فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون الإمام".

قلنا: إنما لفظ الحديث في مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله خطيبا بخم فقال: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله» وأما قوله: «وعترتي» فهذا رواه الترمذي، تفرد به زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. والأنماطي قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. وأخرجه الترمذي من حديث ابن فضيل: حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله : "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما". حسنه الترمذي. وأما حديث: "سفينة نوح" فغير صحيح ولا هو في شيء من الكتب المعتمدة. وقوله : لن يتفرقا يدل على أن إجماع العترة حجة وهو قول طائفة من أصحابنا. وذكر القاضي في المعتمد: والعترة هم بنو هاشم كلهم ولد علي وولد العباس وولد الحارث بن عبد المطلب. وسيد العترة هو رسول الله . وكان ابن عباس أفقه العترة وكان يخالف عليا في مسائل وعلي ما كان يوجب على أحد طاعته فيما يفتي به. ثم العترة ما اجتمعوا على إمامته ولا على أفضليته، بل ابن عباس -بل هو نفسه- يقولان إن أفضل الأمة أبو بكر وعمر وإن خلافتهما حق. وكذلك سائر العباسيين وأكثر العلويين والحسن والحسين وعلي بن الحسين وابنه وحفيده جعفر الصادق. والنقول بذلك متواترة عنهم. وقد صنف الدارقطني كتاب [ثناء الصحابة على القرابة وثناء] القرابة على الصحابة. ثم إجماع الأمة -والعترة بعضهم- حجة بلا نزاع، وأفضلهم أبو بكر. فإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع أفضلها مطلقا فهو أبو بكر، وإن لم يكن بطل ما ذكرتم في إمامة علي رضي الله عنه.

قال: "الحادي عشر ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته: روى أحمد في مسنده أن رسول الله أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأحب أباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة".

قلنا مجرد رواية أحمد له لا توجب صحته، مع أنه ما رواه أبدا، وإنما زاده القطيعي في كتاب الفضائل. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من رواية علي بن جعفر عن موسى بن جعفر. وهل يقول رسول الله هذه المجازفة أصلا من كون المسلم الخطاء يصير في درجة المصطفى بمجرد الحب؟

قال: "وروى ابن خالويه عن حذيفة قال: قال رسول الله : من أحب أن يتمسك بقضيب الياقوت الذي خلقه الله بيده ثم قال له كن فكان فليتول عليا من بعدي".

فهذا من كذب الطرقية فما أركَّ لفظه مع عدم فائدته، فكيف يقال: خلقه بيده، ثم قال له: كن فكان؟ بل قد جاء في الأثر: أن الله لم يخلق بيده إلا آدم والقلم وجنة عدن ثم قال لسائر الخلق كن فكان.

قال: "وعن أبي سعيد مرفوعا أنه قال لعلي: حبك إيمان وبغضك نفاق وأول من يدخل الجنة محبك وأول من يدخل النار مبغضك".

قلنا: وهذا من المكذوبات. فهل يقول مسلم إن الخوارج والنواصب يدخلون النار قبل فرعون وأبي جهل ورءوس الكفر؟ أم يقول مسلم إن أول من يدخل الجنة قبل الأنبياء غلاة الإسماعيلية وكذبة الرافضة وفسقه الإمامية؟ وهذا من جنس قول الناصبي أن لو قال: من أحب يزيد والحجاج، أو قول الخارجي: من أحب ابن ملجم دخل الجنة، ومن أبغضهم دخل النار بهذا الحب والبغض.

قال: "وروى أخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر: قال رسول الله : من ناصب عليا الخلافة فهو كافر وقد حارب الله ورسوله. وعن أنس قال كنت عند النبي فرأى عليا مقبلا فقال: أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة. وعن معاوية بن حيدة القشيري قال: سمعت النبي يقول [لعلي]: لا تبال من مات ببغضك أن يموت يهوديا أو نصرانيا. فإذا رأينا المخالف يورد مثل هذه الأحاديث ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات وجب علينا المصير إليها وحرم العدول عنها".

والجواب أنا نتنزل ونطالب بصحة النقل، فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على الثبوت، كيف وقد حشا تأليفه بالموضوعات التي يتعجب منها المحدث الصادق ويقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. ومن كان خبيرا بما جرى ومهر في الآثار علم باضطرار أن هذا وأمثاله مما ولده الكذابون بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين. ونقول: علمنا بالتواتر أن المهاجرين والأنصار كانوا يحبون الله ورسوله وأن الرسول كان يحبهم ويتولاهم أعظم من علمنا بهذه الأخبار الملفقة وأن الإمام بعده أبو بكر باتفاق من أولئك السادة، فكيف يجوز رد ما علمناه يقينا بأخبار لا نعلم صدقها، كيف وقد علمنا أنها كذب وأنها لا توجد في كتاب معتمد بإسناد مقارب؟ ثم هذا كتاب الله يشهد في غير موضع بأن الله رضي عن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه وبأنه رضي {عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وقال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الآية وقال: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} وأمثال ذلك فكيف يجوز رد هذه النصوص بأخبارك المفتراة، ثم منها ما يقدح بعلي ويوجب أنه مكذب بالله ورسوله. أما الذين ناصبوه الخلافة إذا قلت هم كفار، فما عمل هو بموجب النص بل كان يجعلهم هو مسلمين. وشر من قاتلهم الخوارج، ومع هذا فما حكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم وسبيهم. ولما قتله ابن ملجم قال إن عشت فأنا ولي الدم، ولم يقتله. ولو كان ارتد لبادر إلى قتله. وتواتر عنه أنه نهى عن اتباع مدبر أهل الجمل أو أن يجهز على جريحهم أو تغنم أموالهم؛ فإن كانوا كفارا بأحاديثك هذه فعلي أول من كذب بها ولم يعمل بمقتضاها. وكذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ويقول فيما بلغنا عنه: إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف. ونعلم بالاضطرار أن عليا ما كفر الذين قاتلوه. وكذا لو كانوا كفارا عند السيد الحسن لما حل له أن يسلم إليهم الخلافة طوعا منه في عزه ومنعته وكثرة جيشه، ولكن بان سؤدده بقول جده فيه: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» أخرجه البخاري. وعندك أنه إنما أصلح الله به بين المؤمنين والمرتدين. ثم إنكم تدعون أن الإمام المعصوم لطف من الله لعباده؛ فعلى ما زعمت إنما كان نقمة لا لطفا ورحمة، فإن الذين خالفوه صاروا مرتدين والذين وافقوه مقهورين منافقين أذلاء، فأي مصلحة في ذلك؟ وأنتم تقولون إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد، وهو تعالى يمكن الخوارج حتى كفروه وقاتلوه، ويجعل الأئمة المعصومين تحت القهر والخوف والتقية بمنزلة أهل الذمة، بل أهل الذمة يظهرون دينهم في الجملة، فأين اللطف والمصلحة التي أوجبتها على الله تعالى؟ ثم تزعم أنهم حجج الله على عباده وأن لا هدى إلا منهم ولا نجاة إلا بمتابعتهم وخاتمهم قد غاب من دهور لم ينتفع به أحد في دينه ولا دنياه؟ فصح أن الرفض ما وضعه إلا زنديق، ولهذا فإن صاحب دعوة الباطنية أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع فإذا طمع فيه قال: علي مثل غيره، فدعاه إلى القدح فيه فإذا استوثق منه دعاه إلى القدح في الرسول ثم إلى إنكار [الصانع]. وكل عاقل يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض والله لا مع علي ولا مع غيره، ولا غرضهم تكذيب نبيهم ولا رد ما أمر به. ولو علموا أن الرسول نص لهم على علي لكانوا أسبق شيء إلى أمره وإلى التصديق به. غاية ما يقدر أنه خفي عليهم هذا الحكم، فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود والنصارى؟ بل يكفي من وضع ما جئت به قول المصطفى : «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم ومن كتم ما نص عليه الرسول مراغمة لله ورسوله فهو من أصحاب النار.

وقولك: "ونقلنا أضعافها عن رجالنا الثقات"

فنقول: نحن ننقد رجالنا من أهل السنة والحديث نقدا لا مزيد عليه، ولنا مصنفات كثيرة جدا في تعديلهم وضعفهم وصدقهم وغلطهم وكذبهم ووهمهم لا نحابيهم أصلا مع صلاحهم وعبادتهم، ونسقط الاحتجاج بالرجل منهم لكثرة غلظه وسوء حفظه ولو كان من أولياء الله. وأنتم حد الثقة عندكم أن يكون إماميا سواء غلط أو حفظ أو كذب أو صدق، فغاية رجالكم أن يكونوا مثل رجالنا فيهم وفيهم. فإذا كان من المعلوم بالاضطرار أن أهل السنة فيهم كذابون -وأنتم أكذب منهم بكل حال- حرم علينا العمل بالأحاديث حتى ننظر في أسانيدها. فمن أين لك يا مغتر أن توثق من لا تعرفه ولا تعرف أن تتهجى اسمه بل ولا ذكر في الثقات. وغالب ما في أيديكم صحف وأخبار على ألسنتكم مكذوبة أو لم تعلم صحتها، كدأب أهل الكتابين سواء. وكذب الرافضة مما يضرب به المثل.

ونحن نعلم أن الخوارج شر منكم، ومع هذا فما نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم. وأنتم فالصادق فيكم شامة. قال ابن المبارك: "الدين لأهل الحديث والكلام والحيل لأهل الرأي والكذب للرافضة". فأهل السنة والحديث لا يرضون بالكذب ولو وافق أهواءهم، فكم قد روي لهم من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان بل ومعاوية وغيرهم أحاديث بالأسانيد يرويها مثل النقاش والقطيعي والثعلبي والأهوازي وأبي نعيم والخطيب وابن عساكر وأضعافهم ولم يقبل منها علماء الحديث شيئا ويبينون الكذب منه، بل إذا كان في إسناد الحديث واحد مجهول الحال توقفوا في الحديث. وأنتم شرط الحديث عندكم أن يوافق أهواءكم غثا كان أو سمينا، وإن أَتيتم بنص ثابت فلا يدل على ما قلتم. ونحن عمدتنا نصوص القرآن وما يثبت من السنة أو أجمع عليه المسلمون سواكم، فإذا جاءنا ما يناقض ذلك رددناه. قال أبو الفرج بن الجوزي: فضائل علي الصحيحة كثيرة غير أن الرافضة لا تقنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل.

وأنت أيها الرافضي لم تورد كل ما قيل ونحن نعرف أحاديث عدة ساقطة أدل على مقصودك. فمن أماثل الموضوعات ما رواه النسائي في كتاب خصائص علي من حديث العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال: قال علي: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب صليت قبل الناس سبع سنين. ورواه أحمد في الفضائل وفي رواية له: ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين. قال ابن الجوزي: هذا موضوع والمتهم به عباد، قال ابن المديني: وكان ضعيف الحديث، والمنهال تركه شعبة، وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن هذا الحديث فقال: اضرب عليه فإنه حديث منكر. ثم نقول: علي كان أبر وأصدق من أن يقول هذا، فالناقل إما متعمد الكذب أو أخطأ سمعه. ونظير هذا ما رواه عبد الله في المناقب: حدثنا يحيى بن عبد الحميد: حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله؛ وأخبرنا أبو خيثمة: حدثنا أسود بن عامر: حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد عن علي قال: لما نزلت {فأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله رجالا من أهل بيته إن كان الرجل لآكلا جذعة ولشاربا فرقا إلخ. وهذا كذب على علي لم يروه قط وكذبه ظاهر من وجوه. وقد رواه أحمد في الفضائل: حدثنا عفان: حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي. وساق ابن الجوزي من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين: سمع عليا يقول: أنا عبدت الله مع رسوله قبل أن يعبده رجل [من هذه الأمة] خمس سنين أو سبع سنين. قال ابن الجوزي: وحبة لا يساوي حبة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال السعدي: غير ثقة. وأما الأجلح فقال أحمد: وقد روى غير حديث منكر. قال أبو الفرج: ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبي بكر وزيد وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا، فكيف يصح أن عليا صلى قبل بسبع سنين. ثم ذكر حديثا مرفوعا أن عليا الصديق الأكبر وهو من كذب أحمد بن نصر الذراع؛ وحديثا يقول فيه: أنا أقومهم بأمر الله وأقسمهم بالسوية. قال وهو موضوع المتهم به بشر بن إبراهيم رماه بالوضع ابن عدي وابن حبان. وحديثا يقول فيه: أنت أول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق وأنت يعسوب المؤمنين. وقال: هذا موضوع وفيه عباد بن يعقوب وعلي بن هاشم وغيرهما ممن تكلم فيه، وفي طريقه الآخر عبد الله بن داهر قال ابن معين: لا يكتب عنه.

فصل

وهنا طريق يمكن سلوكها لمن [لم تكن] له معرفة بالأخبار، فإن كثيرا من العلماء يتعذر عليهم التمييز بين الصدق والكذب ومن جهة الإسناد وإنما ينهض بذلك جهابذة الحفاظ:

نقدر أن الأخبار [المتنازع فيها] لم تكن، فنرجع إلى ما هو معلوم بالتواتر أو بالعقل والعادات أو ما دلت عليه النصوص المتفق عليها، فنقول: من المتواتر أن أبا بكر لم يطلب الخلافة برغبة ولا برهبة فلا بذل فيها مالا ولا شهر عليها سيفا ولا كانت له عشيرة ضخمة ولا عدد من الموالي تقوم بنصره كما جرت عادة طلاب الملك، بل ولا قال بايعوني، وإنما أشار ببيعة عمر أو بيعة أبي عبيدة؛ ثم من تخلف عن مبايعته لم يؤذه ولا أكرهه عليها كسعد [بن عبادة]، ثم الذين طائعين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة الذين {رضي الله عنهم} فقاتل بهم المرتدين وفارس والروم وثبتَّ الإسلام وأهله، ولا أكل منها ولا لبس إلا كعادته وعيشه، فلما جاءه اليقين خرج منها أزهد مما دخل فيها لم يستأثر منها بشيء عنهم ولا آثر بها قرابة، بل نظر إلى أفضلهم في نفسه فولاه عليهم. فأطاعوه كلهم، ففتح الأمصار وقهر الكفار وأذل أهل النفاق وبسط العدل ووضع الديوان والعطاء، لازما لعيش مَن قبله في مأكله ومشربه وملبسه حتى خرج منها شهيدا لم يتلوث لهم بمال ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية. هذا أمر يعرفه من يعرف وينصف.

ثم بايعوا عثمان كلهم طوعا منهم، فسار وبنى على أمر قد استقر قلبه بسكينة وحلم [وهدى ورحمة] وكرم ولين، لكن لم تكن فيه قوة عمر ولا سياسته التي بهرت العقول ولا كمال عدله الذي ملأ الوجود ولا فرط زهده الذي ما ينكره إلا جاهل، فطمع فيه الناس بعض الطمع وتوسعوا في الدنيا وكثرت عليهم الأموال ودخل بسبب توليته أقاربه عليه الداخل وأنكرت منهم أمور ما اعتادها الناس قبله وتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا وضعف خوفهم من الله تعالى ومنه ومن ضعفه هو بالنسبة إلى كمال الذين قبله ومما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما استحكم به الشر وحرك الفتنة، حتى قتل مظلوما وذبحوه صبرا.

فتولى علي رضي الله عنه والفتنة قائمة واتُّهم بالتخلي عن عثمان حتى قُتل وبعضهم اتهمه بدمه والله يعلم براءته من دمه، ثبت عنه أنه لم يرض بقتله ولا أعان عليه، فلم تصف قلوب كثير منهم ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ولا اقتضى رأيه الكف عن القتال حتى ينظر ما يأول إليه أمره كما أشار عليه ولده الحسن، فظن أن الطاعة تحصل والأمة تجتمع بالقتال فما زاد الأمر إلا شدة وافتراقا حتى خرج عليه من جنده ألوف ومرقوا وكفروه وقاتلوه -قاتلهم الله- حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عن قتال من لم يطعه فكان آخر الخلفاء الراشدين الذين ولايتهم خلافة النبوة.

ثم آل الأمر إلى معاوية أول الملوك كما قال : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا» وسيرة معاوية من أجود سير الملوك بالنسبة.

فإذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر: كانا طالبين للرياسة مانعين للحقوق ظلما المنصوصَ عليه ومنعا أهل البيت إرثهم، أوشك أن يقول قادح النواصب نحوا من ذلك في علي إنه قاتل على الرياسة وسفك الدماء ولم ينل غرضه. فإذا كنا ندفع من يقدح في علي بهذه الشبهة، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى لأنهما أبعد عن التهمة إذ لم يقاتلا على الإمارة وأطاعهما علي والكبار. وإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصدا الحق غير مريد علوا ولا فسادا في الأرض فلأن نظن ذلك بهما بطريق الأولى. فدع عنك المكابرة والهوى.

طريق آخر، وهو أن يقال: دواعي المسلمين بعد موت نبيهم كانت متوجهة إلى اتباع الحق قطعا، وليس لهم ما يصرفهم عن الحق وهم قادرون على ذلك. وإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل. فعلم أن المسلمين خير القرون اتبعوا الحق فيما فعلوه لأنهم خير الأمم، أكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة. بايعوا أبا بكر تدينا لا لرغبة ولا لرهبة، فلو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا أو العباس لشرف بني هاشم على بني تيم. ولما قيل لأبي قحافة وكان بمكة شيخا كبيرا إن ابنك ولي الخلافة قال: ورضيت بنو أمية وبنو هاشم وبنو مخزوم؟ قالوا: نعم، فعجب وقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. لعلمه بأن بني تيم أضعف القبائل، والإسلام إنما يقدِّم بالتقوى لا بالنسب.

طريق آخر. تواتر أن الرسول قال: «خير هذه الأمة قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فخير الأمم بلا نزاع القرن الأول. ومن تأمل حال المسلمين في القرن الثاني بالنسبة إلى الأول علم تباين ما بينهما. فإن كان القرن الأول قد جحد حق الإمام المنصوص عليه ومنعوا آل نبيهم ميراثهم وبايعوا فاسقا ظالما ومنعوا عادلا عالما عنادا ودفعا للحق فهؤلاء شر الخلق وهذه الأمة شر أمة أخرجت للناس.

طريق آخر. عرف بالتواتر الذي لا يخفى أن أبا بكر وعمر وعثمان كان لهم بالنبي اختصاص عظيم وخلطة وصحبة ومصاهرة لهم، وما عرف عنه أنه كان يذمهم ولا يمقتهم بل يثني عليهم ويحبهم. فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا معه وبعده أو لا. فالأول هو المطلوب والثاني إما أنه علم وداهنهم أو لم يعلم؛ وأيهما قُدر فهو من أعظم القدح في الرسول ، وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله لنبيه في خواص أمته. فمن قد أَخبر بما سيكون أين كان عن علم ذلك؟ فأين الاحتياط للأمة حتى لا يولى هؤلاء؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الأديان كيف يكون أكابر خواصه مرتدة؟ هذا من أعظم القدح في الرسول والطعن فيه ليقول الباطني والزنديق: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان صالحا لكانوا مثله. [ولهذا قال أهل العلم]: إن الرفض دسيسة الزندقة.

وطريق آخر أن يقال الأسباب الموجبة لولاية علي إن كان هو الأولى قوية والصوارف منتفية والقدرة موجودة. ومع توفر الدواعي والقدرة وانتفاء الصوارف يجب الفعل. وذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم وأفضلهم نسبا وله السبق والجهاد والصهر مع انتفاء عداوتهم له، ولم يقتل أحدا من بني تيم ولا من بني عدي، بل الذي قتل منهم بنو عبد مناف، وكانوا يوالونه ويختارون ولايته لقربهم منه، وكلمه في ذلك أبو سفيان. فلو كان الرسول نص على ولايته أو كان هو الأفضل الأولى كان ذلك موجبا لانبعاث إرادتهم إلى ولايته والحالة هذه. ولو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فغالبهم لم يكن لهم صارف [يصرفهم عنه بل هم قادرون على ولايته. ولو قالت الأنصار علي أحق بها من سعد ومن أبي بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ولقام أكثر الناس مع علي،] بل جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم، فالقياس أن لا ينقادوا لبيعته، وبعد هذا فلما استخلفه أبو بكر أطاعوه كلهم حتى إن طلحة قال لأبي بكر: ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا؟ فقال: أجلسوني أبالله تخوفوني أقول وليت عليهم خيرهم. فإذا فرضنا أن غالب المسلمين قاموا مع علي فمن الذي يغلبه؟ هب أنهم لو قاموا ولم يغلبوا أما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب القيام أو أن يجري في ذلك قيل وقال ونوع جدال؟ أما ذلك أولى بالكلام منه في تولية سعد؟ وإذا كان الأنصار بشبهة ما طمعوا أن يتأمر سعد فمن يكون معه الحق وفيه النص من الرسول كيف لا يكون أعوانه أطمع في تأميره؟ فإذا لم يتكلم أحد ولم يدع داع إلى علي لا هو ولا غيره واستمر الأمر إلى أن وصلت النوبة إليه فقام هو وأعوانه وقاتل ولم يسكت حتى جرى ما جرى، علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع. وقد كان أبو بكر أبعد من الممانعة بكثير من معاوية لو كان لعلي حق منصوص. ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق لكان الشرع والعقل يقضي أن يكون الناس مع المحق المعصوم المنصوص عليه على أبي بكر المعتدي الظلوم لو كان الأمر كذلك.

فاسلك التحقيق ودع بنيات الطريق، فالسفسطة أنواع: أحدها النفي والجحد والتكذيب إما بالوجود وإما بالعلم به؛ والثاني الشك والريب وقول لا ندري فهذه طريقة اللاأدرية فلا ينفون ولا يثبتون فهم في الحقيقة قد نفوا ما يعلم؛ الثالث قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد فيقول من اعتقد العالم قديما فهو قديم ومن اعتقده محدثا فهو محدث. وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول وخلفائه الراشدين وسيرتهم بأخبار ترويها الرافضة وتكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة. وكذلك من روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي وأصحابه كان مسفسطا كاذبا.

قال: "المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامته [من أحواله]" فذكر أنه كان أزهد الناس وأعبدهم وأعلمهم وأشجعهم وذكر أنواعا من خوارق العادات له.

فيقال: بل كان أزهد الناس بعد رسول الله أبو بكر فإنه كان له مال يتجر به فأنفقه كله في سبيل الله. وولي الخلافة فذهب إلى السوق على يديه برود يبيع ويتكسب، فأخبر بذلك المهاجرون ففرضوا له شيئا، فاستحلف عمر أبا عبيدة فخلف له أنه يباح له أخذ درهمين كل يوم. قال ابن زنجويه: كان علي فقيرا في أول الإسلام ثم استفاد الرباع والمزارع والنخيل واستشهد رضي الله عنه وعنده تسع عشرة سرية وأربع نسوة. وقال شريك عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب القرظي قال: قال علي: لقد رأيتني على عهد رسول الله أربط الحجر على بطني من شدة الجوع وإن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا. وروى إبراهيم بن سعيد الجوهري فقال: لتبلغ أربعة آلاف [دينار]. فأين هذا من هذا وإن كانا زاهدين. وتلا عمر أبا بكر في زهده وكذا أبو عبيدة وأبو ذر، بخلاف غيرهم من الصحابة فإنهم توسعوا في الدنيا وتمتعوا واتخذوا الأموال. قال ابن حزم: من جملة عقار علي ينبغ كانت تغل كل سنة ألف وسق تمر سوى زرعها. والزهد عزوف النفس عن حب الصوت وعن المال واللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية فلا معنى للزهد إلا هذا. وأبو بكر قد أنفق ماله قيل كان أربعين ألفا حتى بقي في عباءة قد خللها بعود إذا جلس افترشها، وغيره اقتنى الرباع والضياع. ثم إنه ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال، وأما علي فتوسع فيما يحل له ومات عن زوجات وتسع عشرة أم ولد وعبيد وخدم وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار ما أغناهم. هذا أمر مشهور لا يقدر أحد على إنكاره. ثم قد كان لأبي بكر من الولد مثل عبد الرحمن ومن القرابة مثل طلحة أحد العشرة، فما استعمل هذا ولا هذا في جهاته وهي مكة والمدينة واليمن وخيبر والبحرين وحضرموت وعمان والطائف واليمامة. ثم جرى عمر على مجراه ولم يستعمل من بني عدي أحدا على سعة عمله، وقد فتح الشام ومصر والعراق إلى خراسان، إلا النعمان بن عدي العدوي وحده على ميسان ثم أسرع عزله، وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد العشرة وأبي جهم بن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وولده عبد الله بن عمر. ثم كل منهما لم يستعمل ابنه من بعده على الأمة. وقد رضي بابن عمر رضي الله عنهما بعض الناس وكان أهلا لذلك، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد. ووجدنا عليا استعمل أقاربه ابن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وقثما ومعبدا ابني عباس على الحرمين وابن أخته جعدة بن هبيرة على خراسان وابن امرأته وأخا ولده محمد بن أبي بكر على مصر ورضي ببيعة المسلمين لابنه بعده؛ ولسنا ننكر أهليته وزهده وعظمته ولا أهلية عبد الله بن عباس للخلافة ولكنا نقول إن أبا بكر وعمر أتم زهدا وأعزف عن الدنيا من زاهد يفعل المباحات.

قال: "وعلي عليه السلام قد طلق الدنيا ثلاثا وكان قوته جريش الشعير ولبسه خشن الثياب ورقع مدرعته وكان حمائل سيفه ليفا وكذا نعله. وروى أخطب خوارزم عن عمار قال: سمعت رسول الله يقول: يا علي إن الله زينك بالزهد في الدنيا وبغضها إليك وحبب إليك الفقراء فرضيت بهم أتباعا ورضوا بك إماما طوبى لمن أحبك وصدق عليك والويل لمن أبغضك وكذب عليك. الحديث. وقال سويد بن غفلة دخلت على علي فوجدت بين يديه صفحة فيها لبن أجد ريحه من شدة حموضته وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه. الحديث بطوله. وقال ضرار: دخلت على معاوية بعد قتل علي فقال لي: صف لي عليا، فقلت: كان بعيد المدى شديد القوى يقول فضلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه [وتنطق الحكمة عن نواحيه] يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل [ووحشته]، كان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما قشب وكان فينا كأحدنا -وذكر أشياء- فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن لقد كان والله كذلك، فما حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها".

والجواب لا نزاع في زهد علي لكنه لا يبلغ زهد أبي بكر كما ذكرنا. وبعض ما أوردته كذب عليه ولا مدح فيه. أما كونه قد طلقها ثلاثا فمن المشهور عنه أنه قال: "يا صفراء يا بيضاء قد طلقتك ثلاثا غري غيري لا رجعة لي فيك" فهذا لا يدل على أنه أزهد ممن لم يقل هذا، فإن نبينا وعيسى وغيرهما ممن هو أزهد الأنبياء لم يقولوا هذا، والسكوت أجمل وأقرب إلى الإخلاص.

وقولك: "كان يقتات خبز الشعير بلا أدم" فكذب عليه، ثم لا مدح فيه. فالرسول إمام الزهاد وكان يأكل ما اتفق، أكل لحم الغنم ولحم الدجاج والحلوى والعسل وكان يحب ذلك وإذا حضر طعام فإن اشتهاه أكل وإلا تركه، فلا يرد موجودا ولا يكلف مفقودا، وربما ربط الحجر على بطنه من الجوع. وفي الصحيحين أن رجالا قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال آخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فبلغ النبي فقال: «لكني أصوم وأفطر وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني». فكيف تظن بعلي أنه رغب عن سنة ابن عمه؟ بل النقل عنه بخلاف ما أوردت.

وقولك في حديثك: "كان حمائل سيفه ونعله ليفا" فكذب. ثم قد كان نعل سيف النبي فضة. والله قد يسر ووسع عليهم، فأي مدح في أن يعدل عن السيور مع كثرتها بالحجاز؟ وإنما يمدح هذا عند العدم كما قال أبو أمامة: لقد فتح البلاد أقوام كانت خطم خيلهم الحبال وركبهم العلابي. رواه البخاري.

قال: "وبالجملة زهده لم يلحقه أحد فيه ولا سبق إليه. وإذا كان كذلك كان هو الإمام".

قلنا: كلا المقدمتين باطلة؛ لم يكن أزهد من أبي بكر، ولا كل من كان أزهد كان أحق بالإمامة. قال عبد الله بن أحمد [بن حنبل]: أخبرنا علي بن حكيم: حدثنا شريك عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب: سمعت عليا يقول: إن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا. وخلف عند موته سراري وعبيدا وأملاكا ووقوفا، لكن لم يترك من المال إلا سبعمائة درهم. وهذا عمر قد وقف نصيبه من خيبر، ما علمنا له عقارا غيره، ومات وعليه من الديون ثمانون ألفا.

قال: "وكان أعبد الناس يصوم النهار ويقوم الليل، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار. [وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت.] وكان يصلي في ليله ونهاره ألف ركعة -إلى أن قال- وجمع بين الصلاة والزكاة فتصدق وهو راكع -إلى أن قال- وأعتق ألف عبد من كسب يده وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله في الشعب".

قلنا: في هذا من الأكاذيب ما لا يخفى على العالم. ثم لا مدح فيه لمخالفة أكثره السنة. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي قال [له]: «ألم أخبر أنك تقول لأصومن النهار ولأقومن الليل [ما عشت]» قال: بلى، قال: «فلا تفعل..» الحديث. وفي الصحيحين عن علي قال: طرقني رسول الله وفاطمة فقال: «ألا تقومان تصليان» فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فولى وهو يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}. فهذا دليل على نومه بالليل وأن الرسول ما أعجبه مجادلته له.

وقولك: "ومنه تعلم الناس" إن أردت بعض المسلمين فهكذا الكبار يعلمون أتباعهم، وإن أردت الكل منه تعلموا فهذا من أسمج الكذب، فإخوانه من الصحابة أخذوا عن نبيهم، و[أما] التابعون فخلائق منهم لم يروه.

ثم قلت: "والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت"

قلنا: عامتها موضوع عليه، هو كان أجل من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله. وأفضل الأدعية المأثورة ما ثبت عن الرسول، وهي بحمد الله كثيرة فيها غنى.

وأما قولك: "يصلي ألف ركعة" فباطل. فهذا نبي الله كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة. والزمان لا يتسع لألف ركعة من أمير الأمة مع سياستهم ومصالحه في أهله ونفسه إلا أن تكون صلاته صلاة نقر نزه الله عليا عنها.

وأما قولك: "جمع بين الصلاة والزكاة" فكذب كما تقدم. ولا مدح فيه ولا يشرع لنا فعله.

وقولك: "أعتق ألف عبد من كسب يده" كذب لا يروج إلا على الجهلة؛ بل ولا أعتق مائة، [ولم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا،] وكان مشغولا بالجهاد وبغيره وما علمناه يتجر ولا له صنعة فمن أين هذا؟

وقولك: "كان يؤجر نفسه [وينفق على رسول الله ] وقت الشعب" كذب بين، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب ولا ثم من يستأجرهم، وكان أبوه أبو طالب معهم ينفق عليه وكانت خديجة موسرة تنفق من مالها، وكان علي زمن الشعب له نحو من خمس عشرة سنة أقل أو أكثر.

قال: "وكان أعلم الناس"

قلنا: بل أبو بكر وعمر، فإنه لم يكن أحد يقضي ويخطب ويفتي بحضرة رسول الله إلا أبو بكر. وقد شك الناس في موت نبيهم فبينه أبو بكر. ثم توقفوا في دفنه فبينه أبو بكر. ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة فبينه بالنص. وأوضح قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} لعمر. وبين لهم قول النبي : «إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة» وفسر لهم الكلالة. وحمل علي عنه شيئا من العلم. ففي السنن عن علي قال: كنت إذا سمعت من النبي حديثا ينفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن رسول الله قال: «ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له» ثم قد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلمهم وحكاه منصور بن السمعاني. وقال : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وفي صحيح مسلم أن المسلمين كانوا مع النبي في سفر فقال: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر بن الخطاب يرشدوا» وروي عنه أنه قال لأبي بكر وعمر: "إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما" وثبت عن ابن عباس أنه كان إذا لم يجد نصا أفتى بقول أبي بكر وعمر. وثبت في حق ابن عباس أن النبي دعا له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» وعن ابن أبي شيبة: أخبرنا أبو معاوية: حدثنا الأعمش: حدثنا إبراهيم: أخبرنا علقمة عن عمر قال: كان النبي يسمر عند أبي بكر رضي الله عنه في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه. وفي هجرة الرسول وخوفه لم يصحب غير أبي بكر. ولم يبق معه يوم بدر في العريش غيره. وفي الصحيحين عن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي : «أما صاحبكم فقد غامر» فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي وإني أتيتك، فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى النبي فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر وقال: أنا كنت أظلم يا رسول الله، مرتين، فقال النبي : «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي» فما أوذي بعدها. قال البخاري: غامر سبق بالخير. وقال غيره: غامر خاصم.

وقد سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي فقال: "منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته"

ولم يحفظ لأبي بكر قول يخالف نصا. فهذا يدل على غاية البراعة [والعلم]. وأما غيره فله أقوال مخالفة للنصوص لكونها لم تبلغهم.

وثبت في الصحيحين قوله : «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد فعمر» وفي الصحيحين: «رأيت كأني أتيت بقدح فيه لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر» قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم» وفي الترمذي من حديث بكر بن عمرو عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : «لو كان بعدي نبي لكان عمر» حسنه الترمذي. وفي الصحيحين أن أبا سعيد الخدري قال: كان أبو بكر أعلمنا بالنبي . وقال علي: لا يبلغني أن أحدا فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.

وقد روى عن علي من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبره: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". وقال البخاري: حدثنا محمد بن كثير: حدثنا سفيان: حدثنا جامع بن شداد: حدثنا منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبة من خير الناس بعد رسول الله ؟ قال: يا بني أوما تعرف؟ فقلت: لا، فقال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر.

قال: وقال النبي : أقضاكم علي. والقضاء مستلزم للعلم والدين".

قلنا: لم يصح له إسناد تقوم به الحجة. وقوله : أعلمكم «بالحلال والحرام معاذ» أصح منه، والعلم بالحلال والحرام أعظم. وحديثك لم يروه أحد في السنن المشهورة [ولا المسانيد المعروفة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف]، وإنما جاء من طريق من هو متهم. وقول عمر: "علي أقضانا" والقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الحكم في الباطن بخلافه، كما صح أن النبي قال: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فقد أخبر سيد القضاة أن حكمه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.

وحديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" [أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات وإن رواه الترمذي. وذكره ابن الجوزي وبين أن سائر طرقه موضوعة. والكذب يعرف من نفس متنه فإن النبي إذا كان مدينة العلم ولم يكن لها إلا باب واحد ولم يبلغ العلم عنه إلا واحد فسد أمر الإسلام. ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم بالقرآن والسنن المتواترة. وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره؛ قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولا وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعرف عصمته لأنه دور ولا تثبت بالإجماع فإنه لا إجماع فيها.] ثم علم الرسول من الكتاب والسنة قد طبق الأرض، وما انفرد به علي عن رسول الله فيسير قليل. وأجل التابعين بالمدينة [هم] الذين تعلموا في زمن عمر وعثمان. وتعليم معاذ للتابعين ولأهل اليمن أكثر من تعليم علي رضي الله عنه. وقدم علي على الكوفة وبها من أئمة التابعين عدد كشريح وعبيدة وعلقمة ومسروق وأمثالهم.

قال أبو محمد بن حزم: احتج الرافضة بأن عليا رضي الله عنه كان أكثرهم علما، قال: وهذا كذب، وإنما يعرف علم الصحابي بكثرة روايته أو بفتاويه وكثرة استعمال الرسول له، فنظرنا فوجدناه قد استعمل أبا بكر على الصلاة أيام مرضه بمحضر من عمر وعلي وابن مسعود وأبي والكبار، وهذا خلاف استخلافه عليا إذ غزا لأن ذلك كان على النساء وذوي الأعذار فقط، فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم بالصلاة [وهي عمود الإسلام]. وأيضا فاستعمله على الصدقات وعلى الحج؛ فصح أنه أعلم من جميع الصحابة بذلك [وهذه دعائم الإسلام. ثم وجدناه استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي على البعوث، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل فعند أبي بكر من علم الجهاد كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أقل. وإذا صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في العلم والصلاة والزكاة والحج وساواه في الجهاد فهذه عمدة للعلم.] وكان شديد الملازمة للرسول فشاهدَ فتاويه وأحكامه [أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها]. فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها والمشارك. وأما الرواية والفتوى فتوفي [أبو بكر] بعد الرسول بسنتين ونصف ولم يحتج إلى ما عنده لأن رعيته صحبوا الرسول مثله وقد روى عنه مائة وأربعون حديثا وجملة فتاوى. وعلي روى له خمسمائة وستة وثمانون حديثا لكونه عاش بعد النبي ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس له واحتاجوا إلى علمه لذهاب جمهور الصحابة وسألوه بالمدينة والبصرة والكوفة وبصفين. [فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقرّي علي البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه وفتاويه من فتاويه عَلِمَ كل ذي حظ من علم أن الذي عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه. وبرهان ذلك أن من عمّر من الصحابة عمرا قليلا قل النقل عنه، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه.] وعمر ما برح بالمدينة بل جاء إلى الشام، وقد روى له عن النبي خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثا وذلك نحو مما روى علي رضي الله عنه، ولكنه مات قبل علي بسبع عشرة سنة وخلق من علماء الصحابة أحياء بعد. [فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعون حديثا في هذه المدة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان. وفتاوى عمر موازية لفتاوى علي في أبواب الفقه. فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثا إلى حديث وفتاوى إلى فتاوى عَلِمَ كل ذي حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي.] ثم نظرنا عائشة رضي الله عنها لتأخرها روت أكثر من ألفي حديث وكذلك ابن عمر وأنس. ووجدنا أبا هريرة روى نحو خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند. ولابن مسعود ثمانمائة ونيف. وله ولعائشة ولابن عمر من الفتاوى أكثر مما لعلي لتأخر حياتهم، وكذا لابن عباس أزيد من ألف وخمسمائة حديث ولا يحصى ما له من الفتاوى والتفسير وغير ذلك. فبطل قول الرافضة. نعم قد استعمل الرسول عليا أيضا ولا يستعمل إلا عالما، واستعمل معاذا وأبا موسى على اليمن.

قال: "وكان في غاية الذكاء شديد الحرص على التعلم ملازما للرسول من الصغر إلى أن مات".

فيقال: من أين علم أنه أذكى من أبي بكر وعمر وأرغب في العلم منهما [وأن استفادته من النبي أكثر منهما]؟ وفي الصحيحين في علمهما أحاديث ومن ذلك قوله [عن أبي سعيد الخدري]: «رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «الدين» وقال ابن مسعود: لما مات عمر إني لأحسب أن هذا ذهب بتسعة أعشار العلم وشارك الناس في العشر الباقي.

قال: "وقال : العلم في الصغر كالنقش في الحجر فتكون علوم علي أكثر من غيره [لحصول القابل الكلي والفاعل التام]".

فيقال: هذا من فضول الحديث، فإن هذا مثل سائر ما قاله [ليس من كلام] الرسول . والصحابة قد تعلموا القرآن والسنن مع الكبر فيسر الله ذلك عليهم، وكذلك علي فما كمل الوحي حتى صار لعلي نحو من ثلاثين سنة، وإنما حفظ أكثر ذلك في كبره، وقد اختلف في حفظه لجميع القرآن. وهذا أبو هريرة قد حفظ في أكثر من ثلاث سنين ما لم يحفظه غيره.

قال: "وأما النحو فهو واضعه. قال لأبي الأسود: الكلام كله ثلاثة أشياء اسم وفعل وحرف، وعلمه وجوه الإعراب".

قلنا: ليس هذا من علوم النبوة وإنما هو علم مستنبط. ولم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحن فلم يحتج إليه. فلما سكن علي الكوفة وبها الأنباط روي أنه قال: لأبي الأسود الدؤلي ذلك وقال له: انح هذا النحو، كما أن غيره استخرج للخط الشكل والنقط [وعلامة المد والشد ونحوه للحاجة] وكما استخرج الخليل العروض.

قال: "والفقهاء كلهم يرجعون إليه"

قلنا: هذا كذب، فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من يرجع إلى فقهه. أما مالك فعلمه عن أهل المدينة وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي، بل مادتهم من عمر وزيد وابن عمر وغيرهم. وأما الشافعي فإنه تفقه أولا على المكيين أصحاب ابن جريج، وابن جريج أخذ عن أصحاب ابن عباس، ثم قدم الشافعي المدينة وأخذ عن مالك، ثم كتب كتب أهل العراق واختار لنفسه. وأما أبو حنيفة فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان صاحب إبراهيم النخعي وإبراهيم صاحب علقمة وعلقمة صاحب ابن مسعود، وأخذ أبو حنيفة عن عطاء بمكة وعن غيره. وأما أحمد بن حنبل فكان على مذهب أئمة الحديث، أخذ عن هشيم وابن عيينة ووكيع والشافعي وغيرهم واختار لنفسه. وكذا فعل ابن راهويه وأبو عبيد.

وقولك: "إن المالكية أخذوا علمهم من علي وأولاده" فكذب. هذا الموطأ ليس فيه عن علي وأولاده إلا اليسير. وكذلك الكتب والسنن والمسانيد جمهور ما فيها عن غير أهل البيت.

وقولك: "إن أبا حنيفة قرأ على الصادق" كذب، فإنه من أقرانه، مات جعفر قبله بسنتين ولكن ولد أبو حنيفة مع جعفر بن محمد في عام. ولا نعرف أنه أخذ عن جعفر ولا عن أبيه مسألة [واحدة، بل أخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح وشيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان. وجعفر بن محمد كان بالمدينة].

وقولك: "إن الشافعي أخذ عن محمد بن الحسن"، فما جاءه الشافعي إلا وقد صار إماما فجالسه وعرف طريقته وناظره وألف في الرد عليه.

وفي الجملة فهؤلاء لم يأخذوا عن جعفر مسائل ولا أصولا، ولكن رووا عنه أحاديث يسيرة رووا عن غيره أضعافها.

ولم يُكذب على أحد ما كذب على جعفر بن محمد الصادق مع براءته مما كذب عليه. فنسب إليه علم البطاقة والهفت والجدول واختلاج الأعضاء والجفر ومنافع القرآن والرعود والبروق وأحكام النجوم والقرعة والاستقسام بالأزلام والملاحم.

قال: "وعن مالك أنه قرأ على ربيعة وربيعة على عكرمة [وعكرمة على ابن عباس وابن عباس تلميذ علي]".

قلنا: هذه كذبة، ما أخذ ربيعة عن عكرمة شيئا، بل عن سعيد بن المسيب. وسعيد كان يرجع في علمه إلى عمر وزيد وأبي هريرة.

وقولك: "علي تلميذه ابن عباس" باطل، فإن روايته عن علي يسيرة، وغالب أخذه عن عمر. وزيد وكان يفتي في أشياء بقول أبي بكر وعمر وينازع عليا في مسائل.

قال: "وأما علم الكلام فهو أصله، ومن خطبه تعلم الناس، وكان الناس تلاميذه".

قلنا: هذا كذب ولا فخر فيه. فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة قد نزّه الله عليا عنه، فما كان في الصحابة ولا التابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون وأن الأجسام مستلزمة لذلك؛ بل أول ما ظهر هذا الكلام من جهة جعد بن درهم والجهم بن صفوان بعد المائة الأولى. ثم صار إلى عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وهما لما تكلما في إنفاذ الوعيد وفي القدر صار ذلك وهذا إلى أبي الهذيل العلاف والنظام وبشر المريسي وهؤلاء المبتدعة. وليس في الخطب الثابتة [عن علي] شيء من أصول المعتزلة الخمسة. وقدماء المعتزلة [لم يكونوا يعظمون عليا بل كان فيهم من] يشكّون في عدالته ويقفون، ويقولون في أهل الجمل فسق إحدى الطائفتين لا بعينها. والشيعة القدماء يثبتون الصفات ويقرون بالقدر حتى صرح منهم هشام بن الحكم بالتجسيم. وثبت عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله.

ولا ريب أنا أبا الحسن الأشعري كان تلميذا لأبي علي الجبائي، لكنه فارقه ورجع عنه وأخذ الحديث والسنة عن زكريا [بن يحيى] الساجي وذكر في المقالات أنه معتقد مذهب السلف. لا كما فعلت أنت وأصحابك إذ جمعتم أخس المذاهب [مذهب الجهمية في الصفات ومذهب القدرية في أفعال العباد ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل. فتبين أن ما نقل عن علي من الكلام فهو كذب عليه ولا مدح فيه].

وأبلغ مما افتريتَ على علي أن هؤلاء القرامطة والإسماعيلية ينسبون قولهم إلى علي وأنه أعطي علما باطنا مخالفا للظاهر. وقد ثبت عنه أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إلي النبي شيئا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه". ولا يوصف ما قد كُذب على أهل البيت، حتى أن اللصوص العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي بالإذن لهم في السرقة، كما زعمت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من علي بإسقاط الجزية. أفبعد هذا ضلال؟ ومما يقوله الباطنية المنتمون إلى علي يجعلون منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار بربوبية الأفلاك وأنها مدبرة للعالم وأنه ليس وراءها صانع لها، ويجعلون هذا باطن دين الإسلام الذي بعث به محمد وأنه ألقاه على علي وألقاه علي إلى الخواص حتى اتصل محمد بن إسماعيل بن جعفر وهو عندهم القائم. وبنو عبيد هم ملوكهم الذين استولوا على المغرب ثم على مصر أكثر من مائتي سنة. وصنف فيهم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي عبد الجبار بن أحمد والقاضي أبو يعلى والغزالي وابن عقيل و[أبو عبد الله] الشهرستاني وكشفوا أستارهم. وأصحاب الألموت منهم، وسنان من دعاتهم. وشعارهم الظاهر الرفض وباطن أمرهم الزندقة والانحلال. [وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المفسدين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام. ولهذا وصّوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء، حتى فعلوا في أهل الإيمان ما لم يفعله عبدة الأوثان والصلبان.]

قال: "وعلم التفسير إليه يعزى لأن ابن عباس كان تلميذه فيه. قال ابن عباس: حدثني أمير المؤمنين في تفسير الباء من اسم الله من أول الليل إلى آخره".

قلنا: هذا كذب صراح. وهذا يرويه من يؤمن بالمجهولات من جهلة الصوفية كما يروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. وينقلون عن عمر أنه تزوج بامرأة أبي بكر ليسألها عن عمله في السر فقالت: كنت أشم منه رائحة الكبد المشوية. وهذا من أبين الكذب، وإنما تزوج بامرأة أبي بكر أسماء بنت عميس بعده عليٌّ. وقد أخذ ابن عباس عن عدد كبير من الصحابة، وأخذ التفسير عن ابن مسعود وعن طائفة من الصحابة والتابعين. وما يعرف بأيدي الأمة تفسير ثابت عن علي، وما ورد عنه من التفسير فقليل. وأما ما ينقل أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي في حقائق التفسير عن جعفر الصادق فكذب عليه.

قال: "وعلم الطريقة إليه منسوب فإن الصوفية إليه يسندون الخرقة".

قلنا: الخرق متعددة أشهرها خرقتان خرقة إلى عمر وخرقة إلى علي. فخرقة عمر لها إسناد إلى أويس القرني وإلى أبي مسلم الخولاني. وأما المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري. والمتأخرون يصلونها إلى معروف الكرخي، ومن بعده منقطع، فإنهم تارة يقولون إنه صحب علي بن موسى الرضا، وهذا باطل قطعا، ومعروف كان منقطعا ببغداد، وعلي [بن موسى] كان في صحبة المأمون بخراسان، ومعروف أسن من علي، ولا نقل ثقة أنه اجتمع به [أو أخذ عنه شيئا، بل ولا يعرف أنه رآه] ولا كان والله معروفٌ بوّابَه، ولا أسلم على يديه. وأما إسنادها الآخر فيقولون إن معروفا صحب داود الطائي. وهذا أيضا لا أصل له ولا عُرف أنه رآه. [وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي. وهذا [أيضا] لم يعرف له حقيقة. وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري؛ وهذا صحيح فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون مثل أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعبد الله بن عون 24 ومثل محمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة.] وفيها أن الحسن صحب عليا. وهذا باطل، ما جالسه قط. وما روي أن عليا دخل البصرة فأخرج القصاص من جامعها إلا الحسن كذب بين، بل ما طلب الحسن العلم إلا بعد وفاة علي مع أنه رأى عثمان يخطب. وقد أفرد ابن الجوزي تأليفا في مناقبه.

وأوهى من هذا نسبة لباس الفتوة إلى علي بإسناد مظلم يعلم بطلانه. ولهم إسناد آخر بالخرقة إلى جابر منقطع ساقط. وقد علمنا قطعا أن الصحابة لم يكونوا يُلبسون مريدهم خرقة ولا يقصون شعورهم ولا فعله التابعون؛ بل جالسوا الصحابة وتأدبوا بآدابهم كل طائفة أخذوا عمن في بلدهم من الصحابة، فأخذ أهل المدينة عن عمر وأبي وزيد وأبي هريرة. ولما ذهب علي إلى الكوفة كان أهلها قد تخرجوا في دينهم بابن مسعود وسعد وعمار وحذيفة. وأخذ أهل البصرة عن عمران بن حصين وأبي موسى وأبي بكرة وابن مغفل وخلق. وأخذ أهل الشام دينهم عن معاذ وأبي عبيدة وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وبلال. فكيف تقول إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره؟ وكتب الزهد كثيرة جدا [مثل الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك ولوكيع بن الجراح ولهناد بن السري. ومثل كتب أخبار الزهاد كحلية الأولياء وصفة الصفوة،] فيها خبر كثير عن المهاجرين والأنصار وتابعيهم بإحسان. [وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي أمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.]

قال: "وأما علم الفصاحة فهو منبعه حتى قيل: كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق".

قلنا: لا ريب أنه كان من أخطب الصحابة. وكان أبو بكر خطيبا وكان عمر خطيبا وكان ثابت بن قيس خطيبا بليغا. [ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي في حضوره وغيبته ونبي الله ساكت يقره على ما يقول.] وقد خطب أبو بكر يوم السقيفة فأبلغ حتى قال عمر: "كنت قد هيأت مقالة أعجبتني فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه وكنت أداري منه بعض الحدة، فتكلم فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها". وقال أنس بن مالك: خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأُسد. وكان ثابت بن قيس يسمى خطيب رسول الله ، كما أن حسان بن ثابت شاعر رسول الله . وكان زياد بن أبيه من أخطب العرب وأبلغهم، حتى قال الشعبي: "ما تكلم أحد فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خشية أن يسيء إلا زيادا كان كلما أطال أجاد" أو كما قال الشعبي. وكانت عائشة من أخطب الناس وأفصحهم حتى كان الأحنف بن قيس يتعجب من بلاغتها وقال: ما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أفصح منه من عائشة. وكان ابن عباس من أخطب الناس. والبلغاء في العرب جماعة قبل الإسلام وبعده، وعامة هؤلاء لم يأخذوا من علي شيئا وإنما الفصاحة موهبة من الله. ولا كان علي ولا هؤلاء يتكلفون الأسجاع ولا التجنيس الذي يسمى علم البديع، بل يخطبون بطباعهم ولا يقصدون سجعا. وإنما حدث هذا في المتأخرين وتكلفوا له وتتبعوه.

فقولك: "إنه منبع الفصاحة" مجرد دعوى بل أفصح الناس رسول الله . وليست الفصاحة التشدق في الكلام والتقعير ولا البلاغة التجنيس والسجع؛ بل البلاغة بلوغ المطلوب بأتم عبارة، فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه.

ثم غالب الخطب التي يأتي بها صاحب نهج البلاغة كذب [على علي]، وعلي أعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام. [ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح] فلا هي صدق ولا هي له مدح.

وقولك: "إن كلامه فوق كلام المخلوق" كلام ملعون فيه إساءة أدب على الرسول. وهذا مثل ما قال ابن سبعين: هذا كلام يشبه بوجه ما كلام البشر. وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر، [وليس هذا من كلام المسلمين.

وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره،] لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي؛ ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره. وفي كتاب البيان [والتبيين] للجاحظ كلام كثير منقول عن غير علي، وصاحب نهج البلاغة يأخذه ويلصقه بعلي. [وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها؛ فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يُعرف قبل هذا عَلِمَ أن هذا كذب. وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي وما إسناده؟ وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد.

ومن كانت له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها.]

قال: "وقال سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض".

فنقول: لا ريب أن عليا لم يكن يقول هذا بالمدينة بين سادة الصحابة الذين يعلمون كما يعلم. وإنما قال هذا لما صار إلى العراق بين قوم لا يعرفون كثيرا من الدين، وهو الإمام الذي يجب عليه أن يعلمهم ويفقههم. وقوله: "أنا أعلم بطرق السماء" إن كان قاله فمعناه أعلمُ بما يتقربون به من الأمر والنهي والعبادة والجنة والملائكة ما لا أعلمه في الأرض. ليس مراده أنه صعد ببدنه إلى السماء؛ هذا لا يقوله مسلم. وهذا كأنه موضوع ولا يعرف له إسناد، وقد تضل به الغلاة الذين يعتقدون نبوته فيحتجون بهذا؛ بل وكثير من العوام والنساك يعتقدون في بعض الشيوخ نحو هذا.

قال: "وإليه رجع الصحابة في مشكلاتهم ورد عمر في قضايا كثيرة قال فيها: لولا علي لهلك عمر".

فيقال: ما رجع الصحابة إليه في شيء من دينهم؛ بل كانت النازلة تنزل فيشاور عمر عليا وعثمان وابن عوف [وابن مسعود] وزيد بن ثابت [وأبا موسى] وجماعة حتى [كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه. وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسدّ الأمور.] وقد أجاب ابن عباس عن مشكلات أكثر مما أجاب علي بكثير لطول مدته، واحتاج الناس إلى علمه. وكان عمر يشاورهم مع أنه أعلم منهم وكثيرا ما كانوا يرجعون إلى قوله كالعُمَريتين والعول وغيرهما، [فإن عمر وهو أول من أجاب في زوج وأبوين أو امرأة وأبوين بأن للأم ثلث الباقي، واتبعه أكابر الصحابة وأكابر الفقهاء كعثمان وابن مسعود وعلي وزيد والأئمة الأربعة. وخفي قوله على ابن عباس فأعطى الأم الثلث ووافقه طائفة. وقول عمر أصوب.]

وقولك: "رد عمر في قضايا [كثيرة قال فيها: لولا علي لهلك عمر]" فهذا لا يعرف أن عمر قاله إلا في مسألة واحدة [إن صح ذلك]. وقد كان عمر يقول نحو هذا كثيرا لمن هو دون علي، قال للمرأة التي عارضته في الصداق: رجل أخطأ وأصابت امرأة.

وأما قولك: "معرفة القضايا بالإلهام" بمعنى أنه من ألهم أنه صادق حكم بذلك بمجرد الإلهام، فلا يحل الحكم بهذا في دين الإسلام. ولو كان الإلهام طريقا كان الرسول أحق من قضى به وكان الله يوحى إليه من هو صاحب الحق فلا يحتاج إلى بينة. فإن قلت: معناه أنه يلهم الحكم الشرعي؛ فهذا أيضا لا بد فيه من دليل شرعي. وقد ثبت أن النبي قال: «قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يحكم بالإلهام ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقه قبله وإن خالفه رده.

وأما ما ذكره من الحكومة في البقرة التي قتلت حمارا فلم يذكر له إسنادا ولا نعلم صحته. بل الأدلة المعلومة تدل على انتفائه. قال النبي : «جرح العجماء جبار» فالحيوان من بقرة أو شاة أو حمار إذا كان يرعى في المراعي المعتادة فأفلتت نهارا من غير تفريط حتى دخلت على زرع فأفسدته لم يكن على صاحبها ضمان بالإجماع فإنها عجماء ومالكها لم يفرط، وإن خرجت ليلا ضمن عند مالك والشافعي وأحمد؛ وذهب أبو حنيفة وابن حزم إلى أنه لا يضمن.

قال: "وكان أشجع الناس وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان كشف الكروب عن وجه رسول الله ولم يفر كما فر غيره إلخ".

والجواب لا ريب في شجاعته ونصره للإسلام وقتله جماعة. لكن ما هذا من خصائصه بل شاركه فيه عدة. وأشجع الناس رسول الله كما ثبت من حديث أنس وفيه: ولقد فزع أهل المدينة يوما فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: «لم تراعوا» وفي المسند عن علي قال: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله فيكون أقربنا إلى العدو. والشجاعة قوة القلب والثبات عند المخاوف أو شدة البطش وإحكام صناعة الحرب. ومع هذا فما قتل النبيُّ غير أبي بن خلف. ومن فرط شجاعته أن أصحابه انهزموا يوم حنين وهو راكب بغلة لا تكر ولا تفر، ويقدم عليها إلى ناحية العدو ويسمي نفسه ويقول:

«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»

وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الإمام شجاعة القلب فلا ريب أن أشجع الصحابة أبو بكر، فإنه باشر الأهوال التي كان الرسول يباشرها من أول الإسلام ولم يجبن ولا جزع بل يقدم على المخاوف ويقي الرسول بنفسه ويجاهد بلسانه وبيده وبماله. ولما كان مع الرسول في العريش يوم بدر قام نبي الله يدعو ويستغيث بربه ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» وجعل أبو بكر يقول له: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك. وهذا يدل على كمال يقينه وثباته. ولا نقص على الرسول في استغاثته بربه بل ذلك كمال له. فالالتفات إلى الأسباب نقص في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تقدح في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. فعلى الرسول أن يجاهد ويقيم الدين بكل ممكن بنفسه وماله ودعائه وتحريضه المؤمنين. والاستنصار بالله والاستعانة به أعظم الجهاد وأعظم أسباب النصر، وهو مأمور بذلك. والقلب إذا غشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عن شهود ما يعلمه. ومقام أبي بكر دون هذا، وهو معاونة الرسول والذب عنه وإخباره بأنا واثقون بنصر الله والنظرُ إلى جهة العدو هل قاتلوا بعد.

ولما مات النبي عظمت النازلة واضطربوا [اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة القعر] وطاشت العقول ووقعوا في نسخة القيامة [وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى] وارتدت الأعراب وذلت الحماة. فقام الصديق بقلب ثابت الجأش قد جمع له الصبر واليقين وأخبرهم بأن الله اختار لنبيه ما عنده وقال لهم: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" ثم تلا: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فكأن الناس لم يسمعوها. ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم وبادر إلى تنفيذ جيش أسامة. وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتربص، حتى كان عمر مع فرط شجاعته يقول له: يا خليفة رسول الله تألّف الناس. وهذا باب واسع.

وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل أكثر منه من الكفار. فإن من نظر المغازي والسيرة وأمعن النظر عرف ذلك. فالبراء بن مالك أخو أنس قتل مائة رجل مبارزة سوى من شرك في دمه. وأما خالد بن الوليد فلا يحصى عدد من قتله وقد انكسر في يده يوم مؤتة تسعة أسياف. وقال النبي : «إن لكل نبي حواريا وحواريَّ الزبير» وقال : "صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة".

وقال ابن حزم: وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وقتلا. والجهاد ثلاثة أقسام: أعلاها الدعاء إلى الله باللسان، وثانيها الجهاد عند البأس بالرأي والتدبير، الثالث الجهاد باليد. فوجدنا الجهاد الأول لا يلحق فيه أحد -بعد النبي - أبا بكر، فإن أكابر الصحابة أسلموا على يد أبي بكر، وأما عمر فإنه حين أسلم عز الإسلام. قال ابن مسعود: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" فقد انفرد الشيخان بالجهادين اللذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلا. وأما الرأي والمشورة فخالص لأبي بكر وعمر. بقي الثالث، فكان أقل عمل الرسول لا عن جبن، ووجدنا عليا لم ينفرد بالسبق فيه بل شاركه فيه غيره شركة العنان، كطلحة والزبير وسعد وحمزة وعبيدة بن الحارث [بن عبد المطلب] ومصعب بن عمير وسعد بن معاذ وسماك أبي دجانة. ووجدنا أبا بكر وعمر قد شركاه في ذلك بحظ وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة الرسول ومؤازرته. وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه.

فصل

وقولك: "إنه بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان" فكذب بين لكل من عرف أيام الإسلام. بل سيفه جزء من أجزاء كثيرة جدا من أسباب تثبيت قواعد الإسلام. وكثير من الوقائع التي ثبت الله بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها أثر. وكان سيفه يوم بدر سيفا من سيوف كثيرة. وغزوات القتال كلها تسع وبعد الرسول لم يشهد حرب فارس ولا الروم ولا شيئا من تلك الملاحم المهولة. وكان نصره في مغازيه تبعا لنصر رسول الله . وحروبه الكبار في خلافته الجمل وصفين والنهروان فكان منصورا لأن جيشه كان أكثر عددا من المقاتلين له. ومع ذلك فما استظهر على أهل الشام بل كان وهم كفرسي رهان.

وقولك: "ما انهزم قط" فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وجماعة لم يعرف لواحد منهم هزيمة. وإن كان قد وقع شيء خفيف خفي ولم ينقل، فيمكن أن عليا وقع منه ما لم ينقل يوم حنين ويوم أحد.

وقولك: "وطالما كشف الكروب عن وجه رسول الله " دعوى كاذبة من عبارات الطرقية. بل ما علمنا كشف كربة واحدة، بل ولا أبو بكر ولا عمر. نعم دفع أبو بكر عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة فحال بينهم وبينه وجعل يقول: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} حتى ضربوا أبا بكر. ووقاه طلحة يوم أحد بيده حتى شلت وكان يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله. أما أن يكون المشركون أحاطوا برسول الله حتى خلصه منهم علي بسيفه أو أبو بكر فهذا لم يقع. ولكنك طالعت فيما أحسب الغزوات التي للقصاص أو تنقلات الأنوار للبكري مما هو من جنس سيرة البطال وعنترة وأحمد الدنف وهذه الأخلوقات التي يكتريها صبيان الكتاب ليتمرنوا في القراءة ويطير النوم عنهم لفرط ما فيها من السخف والإفك.

قال: "وفي غزوة بدر كان لعلي سبع وعشرون سنة، فقتل من المشركين ستة وثلاثين رجلا وحده وهم أكثر من نصف المقتولين وشرك في الباقين".

فيقال: هذا من الكذب البين. بل قد ثبت في الصحيح قتل جماعة لم يشرك علي في قتلهم، منهم أبو جهل وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة وأبي بن خلف. ونقلوا أن عليا قتل يومئذ نحو العشرة.

قال: "يوم أحد انهزم الناس كلهم عن النبي إلا عليا ورجع إلى رسول الله نفر أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام فقال له رسول الله : لقد ذهبت فيها عريضة. وتعجبت الملائكة من ثبات علي فقال جبريل: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وقتل علي أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح على يديه. وروى قيس بن سعد عن علي قال: أصابني يوم بدر ست عشرة ضربة وسقطت إلى الأرض فجاءني رجل فأقامني - وذكر الحديث وأن الرجل جبريل".

فيقال: هذا الرجل ما يستحي من الله ولا يراقبه في نقل هذه الأكاذيب التي لا تنفق إلا على البقر، كقوله: "وقتل علي أكثر المشركين وكان الفتح" فأين قتل المشركين وأين الفتح؟ بل كانت غزوة أحد على المسلمين لا لهم كما قال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. هزم المسلمون العدو أولا وكان نبي الله قد وكل بثغر الجبل الرماة وأمرهم أن لا يبرحوا فلما انهزم المشركون طلبت الرماة الغنيمة فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فلم يطيعوه وكر العدو عليهم من ظهورهم وصاح الشيطان: قتل محمد، فاستشهد يومئذ نحو السبعين وشج النبي وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ودخلت حلقتا المغفر في وجنته حتى قال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فنزلت: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} ولم يبق معه يومئذ غير اثني عشر رجلا منهم أبو بكر وعمر وطلحة وسعد، وقتل حوله جماعة وقال رئيس المشركين: "اعل هبل اعل هبل يوم بيوم بدر" يعني أخذنا بالثأر. ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا بضعة عشر رجلا ولم يجرح علي يومئذ ولا أقامه جبريل؟ فأين الإسناد بهذا وفي أي كتب الموضوعات هو؟

وقولك: "إن عثمان جاء بعد ثلاث" كذب آخر.

وقولك: "إن جبريل قال لا سيف إلا ذو الفقار" كذب آخر، فإن ذا الفقار لم يكن لعلي بل كان لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر. فعن ابن عباس قال: تنفّل رسول الله سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد قال: رأيت في سيفي ذي الفقار فلًّا فأولته فلًّا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة فأولته المدينة، ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير والله خير. أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد في مسنده.

قال: "وفي غزاة الأحزاب أقبلت قريش ومن معها في عشرة آلاف ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم، فخرج بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف وعملوا الخندق وركب عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ودخلا من مضيق في الخندق وطلبا المبارزة فقام علي فقال له النبي إنه عمرو، فسكت. ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا ويقوم علي فأذن له النبي . فقال: يا عمرو كنت عاهدت الله تعالى أن لا يدعوك قرشي إلى إحدى خلتين إلا أجبت إلى واحدة منهما وأنا أدعوك إلى الإسلام، قال: لا حاجة لي به، قال: فأدعوك إلى النزال، قال: ما أحب أن أقتلك، ثم نزل وتجاولا فقتله علي وانهزم عكرمة ثم انهزم المشركون. فقال : قتل علي عمرا أفضل من عبادة الثقلين".

يقال: قد طرزت القصة بعدة أكاذيب. منها أنه لما قتل عمرا انهزموا وهذا كذب بارد فإنهم ما انهزموا بل بقوا محاصرين المسلمين حتى خبب بينهم نعيم بن مسعود الغطفاني، وأرسل الله عليهم الريح والملائكة فترحلوا {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال} فتبين أن المشركين ما ردهم الله بقتال ولا هزمهم المسلمون. والحديث الذي رملت به كذب بيقين. وحاشا الرسول من هذه المجازفة: أيكون قتل واحد أفضل من عبادة الإنس والجن؟ فما بقي لمن قتل أبا جهل وصناديد قريش الذين فعلوا بنبي الله الأفاعيل؟ وعمرو ما عرف له شر ينفرد به في عداوة الرسول.

قال: "وفي غزاة بني النضير قتل علي رامي قبة النبي بسهم وقتل بعده عشرة وانهزم الباقون".

قلنا: وهذا من الكذب الواضح. فإن بني النضير هم اليهود الذين نزلت فيهم سورة الحشر بالإجماع، وقصتهم قبل أحد. وكان المسلمون قد حاصروهم وقطعوا نخلهم ولم يخرجوا من حصونهم حتى يقال انهزموا. ثم صالحوا على الجلاء فأجلاهم الرسول. أفما تقرأ السورة وتتدبرها؟ وحملوا من أموالهم ما استقلت به إبلهم إلا السلاح، وكان الرجل منهم يخرب بيته عن نجاف بابه فيضعه على بعيره، فخرجوا إلى خيبر والشام.

قال: "وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي أن جماعة قصدوا أن يكبسوا عليه المدينة فقال: من للوادي؟ فقال أبو بكر: أنا، فدفع إليه اللواء وضم إليه سبعمائة فلما وصل إليهم قالوا: ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير، فرجع، فقال : من للوادي؟ فقال عمر: أنا، فبعثه ففعل كالأول، فقال في اليوم الثالث: أين علي؟ فدفع إليه الراية فمضى فلقيهم فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون. وأقسم الله بفعل أمير المؤمنين فقال {والعاديات ضبحا}".

قلنا: وهذا أيضا من الباطل فلا وجود لهذه الغزوة أصلا. بل هي من جنس غزاوت [الطرقية الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة] كسيرة عنترة والبطال. وقد اعتنى بأيام الرسول عروة والزهري وابن إسحاق وموسى بن عقبة وأبو معشر السندي والليث بن سعد وأبو إسحاق الفزاري والوليد بن مسلم والواقدي ويونس بن بكير وابن عائذ وأمثالهم، وما أبقوا دقا ولا جلا ولا غثا ولا ثمينا، وما ذكروا هذه الغزوة ولا نزلت فيها: {والعاديات} بل نزلت بالإجماع بمكة. بل المشهور عن علي في التفاسير أنه قال: العاديات إبل الحجاج وعدوها من مزدلفة إلى منى. وكان ابن عباس والأكثرون يفسرونها بالخيل التي تغزو في سبيل الله.

قال: "وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه وسبى كثيرا من جملتهم جويرية".

قلنا: هذا من أخبار الرافضة التي لا إسناد لها، ولو وجد للشيء [من أخبارهم] إسناد فإما أن تكون ظلمات ومجاهيل أو عن كذاب أو متهم. [فإنه لم ينقل أحد أن عليا فعل هذا في غزوة بني المصطلق ولا سبى جويرية بنت الحارث. وهي لما سبيت كاتبت على نفسها فأدى عنها النبي وعتقت من الكتابة وأعتق الناس السبي لأجلها وقالوا: أصهار رسول الله .]

قال: "وغزاة خيبر كان الفتح فيها على يده، دفعت إلى أبي بكر فانهزم ثم إلى عمر فانهزم وعالج علي باب الحصن فاقتلعه وجعله جسرا على الخندق وكان الباب يغلقه عشرون رجلا وقال : ما اقتلعه بقوة جسمانية بل بقوة ربانية. وكان فتح مكة على يديه بواسطته".

قلنا: لم تفتح خيبر كلها في يوم، بل كانت حصونا مفرقة بعضها فتح عنوة وبعضها صلحا، ثم كتموا ما صالحهم [عليه] النبي فصاروا محاربين. ولم ينهزم أبو بكر ولا عمر. وقد روي أن عليا اقتلع الباب؛ أما كونه يغلقه عشرون رجلا وأنه جعل جسرا فلا أصل له.

وأما فتح مكة فلا أثر لعلي فيه أصلا إلا كباقي الصحابة. والأحاديث المتوافرة في غزوة الفتح تبين هذا. قال أبو هريرة: فجعل النبي خالد بن الوليد يومئذ على الميمنة والزبير على الميسرة وأبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعاهم فجاءوا يهرولون فقال: «هل ترون أوباش قريش» قالوا: نعم، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا» وأكفأ بيده ووضع يمينه على شماله وقال: «موعدكم الصفا» قال: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، قال: فصعد رسول الله الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن» متفق عليه.

قال: "ويوم حنين خرج رسول الله في عشرة آلاف فعانهم أبو بكر وقال: لن نغلب اليوم من كثرة، فانهزموا ولم يبق مع النبي إلا تسعة من بني هاشم وابن أم أيمن وكان علي بين يديه فقتل من المشركين أربعين وانهزموا".

قلنا: هذا كذب مفترى. فهذه المسانيد والسير والتفاسير ما ذكر فيها أن أبا بكر عانهم. واللفظ الذي قاله بعض المسلمين لن نغلب بعد اليوم من قلة، لم يقل من كثرة. وقولك: "بقي معه تسعة" باطل بل قال ابن إسحاق: بقي معه نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته فثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان وربيعة ابنا الحارث وأسامة وأيمن.

وقولك: "إن عليا قتل بين يديه أربعين" كذب، ما قال هذا أحد يعتد به. وفي الصحيحين من حديث البراء أن النبي نزل يومئذ عن بغلته ودعا واستنصر وهو يقول:

«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»

اللهم أنزل نصرك. قال البراء: وكنا إذا احمر البأس نتقي به وكان الشجاع منا الذي يحاذيه. يعني النبي . 25

ولمسلم من حديث سلمة بن الأكوع قال: لما غشوا النبي نزل ثم قبض قبضة من التراب واستقبل به وجوههم فقال: «شاهت الوجوه» فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين.

فصل

قال: "الخامس إخباره بالغيب والكائن قبل كونه. أخبر أن طلحة والزبير لما استأذنا في الاعتمار قال: ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة. وكان كما قال. وأخبر وهو جالس بذي قار يبايع: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون يبايعونني على الموت. فكان كذلك آخرهم أويس القرني. وأخبر بقتل ذي الثدية. وأخبر بقتل نفسه الشريفة. وأخبر ابن شهريار اللعين 26 بقطع أربعته وصلبه ففعل به معاوية ذلك. وأخبر ميئم التمار 27 بأنه يصلب عاشر عشرة وأراه النخلة التي يصلب عليها فوقع كذلك. وأخبر رشيدا الهجري بصلبه فصلب. وأن الحجاج يقتل كميل بن [زياد] وأن قنبرا يذبحه الحجاج فوقع. فقال للبراء [بن عازب]: إن ابني [الحسين] يقتل ولا تنصره فكان كذلك. وأخبر بملك بني العباس: يسر لا عسر فيه لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسند والهند على أن يزيلوا ملكهم لما قدروا حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم ويسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم لا يمر بمدينة إلا فتحها ولا ترفع لحربه راية إلا نكسها الويل ثم الويل لمن ناوأه فلا يزال كذلك حتى يظفر ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به. وكان الأمر كذلك حيث ظهر هلاكو من ناحية خراسان".

فيقال: أما الإخبار ببعض المغيبات فيقع ممن هو دون علي من الصلحاء وغيرهم ممن لا يصلح للإمامة. وأبو هريرة وحذيفة وغيرهما كانوا يحدثون بأضعاف ذلك، وأبو هريرة يسنده وحذيفة يسنده مرة وتارة لا يسنده. فما أخبر به هو أو غيره قد يكون مما سمعه من الرسول وقد يكون مما كوشف به علي وعمر. وفي الزهد لأحمد بن حنبل والحلية لأبي نعيم وكرامات الأولياء لابن أبي الدنيا والخلال واللالكائي جملة من ذلك عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وما أورده عن علي فلا نسلم صحته؛ ومنه ما يعرف كذبه، فإن هلاكو ما دفع ظفره إلى علوي. ومما يبين أن عليا ما كان يعلم المستقبلات أنه كان في خلافته وحروبه يظن أشياء فيتبين له الأمر بخلاف ظنه، فلو عرف أنه يجري ما جرى من قتل الناس ولم يحصل المقصود لما قاتل، فإنه كان لو لم يقاتل أعز وأنصر. ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكما به لم يحكمهما. فأين علمه بالكوائن بعده؟ وأين كشفه الكرب عن وجه الرسول بسيفه حتى ثبت قواعد الدين وهو مع جيشه الذين هم تسعون ألفا لم يظفر بمعاوية؟ بل الرافصة تدعي فيه الشيء ونقيضه فتغلو فيه حتى يقولوا بعصمته وأنه لا يقع منه سهو وأنه يعلم المغيبات وما يقنعون له بما أعطاه الله من الشجاعة حتى يحملوه ما لا يطيقه بشر ولا يقبله عقل عاقل بافتراء الطرقية، ثم يذكرون عجزه عن مقاومة أبي بكر مع عدم مال أبي بكر وقلة رجاله، وكذلك فليكن التناقض! وإنما قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} فأيده الله بالمؤمنين كلهم، علي وغيره. ومما يبين أنه لم يكن يعلم المستقبلات قوله:

لقد عجزت عجزة لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

وكان يقول ليالي صفين: "يا حسن ما ظنَّ أبوك أن الأمر يبلغ هذا، لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير". وتواتر عنه أنه كان يتململ من اختلاف أصحابه ورعيته عليه. وقد دل الواقع على أن رأي ولده حسن من ترك القتال كان أجود وأنفع للأمة. وقد قعد عن القتال مثل سعد وسعيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وجماعة، ودلتهم النصوص على القعود: ثبت أن النبي قال: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم» ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. مع أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله حتى الخوارج الذين كفروه ولا سبى لهم ذرية. وكان يترضى عن طلحة والزبير ويدعو على معاوية وعمرو من غير أن يكفرهما.

فصل

قال: "السادس أنه كان مستجاب الدعاء. دعا على بشر بن أرطأة أن يسلبه الله عقله فخولط، ودعا على العيزار بالعمى فعمي، ودعا على أنس لما كتم شهادته بالبرص فبرص، وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمي".

قلنا: هذا موجود في الصحابة والصالحين فلا ينكر لعلي. وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطئ له دعوة لأن النبي دعا له: اللهم سدد رميته واجب دعوته. والبراء بن مالك كان يقسم على الله فيبر قسمه، كما في الصحيح: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك» وقد بارز مائة مبارزة. والعلاء بن الحضرمي نائب رسول الله ثم نائب أبي بكر على البحرين مشهور بإجابة الدعاء.

قال: "وروى الجمهور أن النبي لما خرج إلى بني المصطلق فنزل بقرب واد وعر وهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استنبطوا الوادي يريدون كيده فدعا بعلي وأمره بنزول الوادي فقتلهم".

فيقال: علي أعظم من هذا. وإهلاك الجن لمن هو دونه. لكن هذا من الأكاذيب المعلومة بالضرورة. [ولم يقاتل أحد من الإنس الجن.] وهو من جنس قتاله للجن ببئر ذات العلم وهذه الموضوعات لا تروج علينا. نعم تروج على إخوانك أهل الجرد وجزين. وعلي أرفع قدرا من أن تثبت له الجن. وقد سأل شيعي المحدث أبا البقاء [خالد بن يوسف] النابلسي عن قتال [علي] الجن فقال: [أنتم معشر الشيعة] أما لكم عقل، أيما أفضل عندكم عمر أو علي؟ قال: بل علي، فقال: إذا كان النبي يقول لعمر: «ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك» فإذا كان الشيطان يهرب من عمر، فكيف يقاتل بنوه عليا؟

وقد روى ابن الجوزي في الموضوعات حديثا طويلا في محاربته الجن وأنه كان عام الحديبية وأنه حاربهم ببئر ذات العلم من طريق محمد بن أحمد المفيد: أخبرنا محمد بن جعفر السامر: حدثنا عبد الله بن محمد السكوني: حدثنا عمارة بن يزيد: حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عبيد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قال: لما توجه رسول الله إلى مكة عام الحديبية أصاب الناس عطش وحر فنزل الجحفة فقال: من يمضي في نفر بالقرب فيردون بئر ذات العلم وأضمن لهم الجنة؟ فذكر حديثا طويلا فيه أنه بعث رجلا ففزع من الجن ورجع ثم آخر فرجع ثم أرسل عليا فنزل البئر وملأ القرب بعد هول شديد وأن النبي قال: الذي هتف بك من الجن هو سماعة بن غراب الذي قتل عدو الله مسعرا شيطان أصنام قريش. قال ابن الجوزي: وهذا موضوع، والمفيد ومحمد [بن جعفر و]السكوني مجروحون، قال أبو الفتح الأزدي: وعمارة يضع الحديث.

فصل

قال: "ورجوع الشمس له مرتين إحداهما في زمن النبي . روى جابر وأبو سعيد أن رسول الله نزل عليه جبريل يناجيه وتوسد فخذ علي فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس فصلى علي العصر إيماء فلما استيقظ نبي الله قال له: سل الله يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما فدعا فردت الشمس وصلى. وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه ببعض دوابهم وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر وفات كثيرا منهم فتكلموا في ذلك فسأل الله رد الشمس فردت. ونظمه السيد الحميري فقال:
ردت عليه الشمس لما فاته ** وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها ** للعصر ثم هوت هوى الكوكب
وعليه قد ردت ببابل مرة ** أخرى وما ردت لخلق مغرب"

قلنا: علمنا اليقيني بفضل علي لا يحتاج معه إلى هذا الكذب. فأما رد الشمس له في زمن النبي فقد ذكره طائفة بلفظ آخر كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات الرسول ؛ لكن الحذاق يعلمون أن هذا لم يكن. والحديث في ذلك ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال النبي : اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت. قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا موضوع بلا شك، وقد اضطربوا فيه فرواه سعيد بن مسعود المروزي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن الحسين عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء نحوه؛ وفضيل [بن مرزوق] ضعفه يحيى وقال أبو حاتم بن حبان: يروي الموضوعات [ويخطئ على الثقات، قال أبو الفرج وهذا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه،] وعن ابن عقدة: أخبرنا أحمد بن يحيى الصوفي: حدثنا عبد الرحمن بن شريك: حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال: دخلت على فاطمة بنت [علي بن] أبي طالب فحدثتني أن عليا - وذكر حديث رجوع الشمس، قال أبو الفرج: وهذا باطل، أما ابن شريك فقال أبو حاتم: واهي الحديث، وأنا لا أتهم بهذا الا ابن عقدة [فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة،] قال ابن عدي: سمعت أبا بكر بن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتدين بالحديث كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب يسوي لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها، وسئل الدارقطني عنه فقال: رجل سوء، وقد روى داود بن فراهيج عن أبي هريرة، وداود ضعفه شعبة.

قلتُ: لم يصح أن داود حدث به، رواه يزيد النوفلي عنه وهو واه، وعن يزيد ابنه يحيى وهو ضعيف.

فإن قيل: في الصحيحين رد الشمس لبعض الأنبياء؛ قلنا: ما ردت له ولكن تأخر غروبها وبورك له في النهار. وطول النهار وقصره قد يختفي. وإنما علمنا وقوفها ليوشع بالنص، فإن ثبت نص قلنا به فلا مانع من ذلك. لكن الشأن هل وقع الحادث العظيم أن الشمس غربت ثم طلعت وما نقله أهل التواتر كما نقلوا انشقاق القمر ونطق به [القرآن]. ثم إن يوشع كان محتاجا إلى ذلك لأن القتال كان محرما عليه بعد الغروب لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت. وأما أمتنا فلا حاجة بهم إلى ذلك فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومعها يستغني عن رد الشمس، وإن لم يكن مفرطا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في صلاتها بعد الغروب. ثم نفس غروب الشمس يخرج الوقت المضروب للصلاة فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت، ولو عادت وطلعت بعد غروبها حصل بغروبها إفطار الصائم وصلاة المسلمين المغرب؟ فبعد طلوعها أيبطل صوم الصائم وصلاته؟ وهذا تقدير ما لم يوجد. وهذا رسول الله وقد فاتته العصر يوم الخندق وصلاها قضاءً هو وكثير من أصحابه وما سأل الله أن يرد له الشمس، وقد دعا على من شغله عنها وتألم لذلك. فإن كانت الشمس احتجبت قبيل الغروب بغيم ثم انكشفت فيمكن، فلعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشفت الغمام عنها.

ولهذا الخبر إسناد آخر رواه جماعة عن [محمد بن إسماعيل بن] أبي فديك: أخبرنا محمد بن موسى القطري عن عون بن محمد عن أمه أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس أن رسول الله وضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس فقال النبي : اللهم إن عبدك عليا احتسب نفسه على نبيه فرد عليه شرقها، قالت أسماء فطلعت حتى وقفت على الجبال والأرض فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس وذلك بالصهباء في غزوة خيبر. عون بن محمد هو ابن الحنفية وأمه هي ابنة محمد بن جعفر بن أبي طالب. والخبر منكر. [وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ولا من المعروفين بنقل العلم ولا يحتج بحديثهم في أهون الأشياء، فكيف في مثل هذا، ولا فيه سماع المرأة من أسماء بنت عميس فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته.

وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة وعن القطري أنه ثقة ولم يمكنه أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة وإنما ذكر أنسابهم، ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة.]

قلتُ: ولفظ ابن المطهر من أن عليا صلاها للوقت ما علمت أحدا رواه. وأما رد الشمس لعلي ببابل فهذا من أباطيل الرافضة.

قال: "وزاد الماء بالكوفة وخافوا الغرق فركب علي بغلة رسول الله والناس معه فنزل علي على شاطئ الفرات فصلى ودعا وضرب صفحة الماء بقضيب فغاض الماء وسلم عليه كثير من الحيتان ولم ينطق الجَرّي فسئل عن ذلك فقال: أنطق الله لي ما طهر من السمك وأصمت ما أخرسه وأنجسه وأبعده".

قلنا: أين إسناد هذا؟ وإلا فمجرد الحكايات يقدر عليه كل أحد ولا يعني شيئا. ثم هو باطل. ولو وقع لتوفرت الدواعي والهمم على نقله. ثم السمك كله طاهر مباح أجمعوا على حله فكيف يقال: إن الله أنجسه؟ أفنحرم ما أحل الله بمثل هذه الخرافة؟ ونقول: نطق السمك ليس هو مقدورا له عادة بل من الخوارق، فالله أنطق ما أنطق منه بقدرته وما بقي فعلى الأصل أن لو كان ذلك وقع فأي ذنب للسمك؟ وقد قلنا إن عليا أجل قدرا من أن يحتاج إلى هذه الموضوعات.

قال: "وروى جماعة أن عليا كان يخطب [على منبر الكوفة] فظهر ثعبان فرقي المنبر وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم علي فخاطبه ثم نزل فسأل الناس عنه عليا فقال: هو حاكم الجن التبست عليه مسألة فأوضحتها له. وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه باب الثعبان، فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة فنصبوا على ذلك الباب قتلى كثيرة مدة طويلة حتى سمي باب القتلى".

فيقال من هو دون علي تحتاج الجن إليه وتستفتيه، وهذا معلوم قديما وحديثا. فإن كان هذا وقع فقدره أجل من ذلك، وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك. ولكن أئمتك المعتزلة تنكر كرامات الأولياء، ومن جحد وقوعها من صالحي الأمة فقد كابر. ولكن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وإن لم تقع له كرامة.

قال: "والفضائل إما نفسانية أو بدنية أو خارجية. وأمير المؤمنين جمع الكل فجمع الزهد والعلم والحكمة فهذه النفسانية. وجمع العبادة والشجاعة والصدقة فهذه البدنية. وأما الخارجية كالنسب فلم يلحق فيه، وتزوج بابنة سيد البشر سيدة نساء العالمين. وقد روى أخطب خوارزم بإسناده عن جابر قال: لما تزوج علي فاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سماوات وكان الخاطب جبريل والشهود ميكائيل وإسرافيل في سبعين ألفا فأوحى إلى شجرة طوبى: انثري ما فيك من الدر والجوهر ففعلت والتقطه الحور العين".

قلنا: الأمور الخارجة عن نفس الإيمان والتقوى لا يحصل بها فضل عند الله بمجردها. قال النبي : «ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى» وسئل رسول الله عن أكرم الناس قال: «أتقاهم» قيل ليس عن هذا نسألك فقال: «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله خليل الله» فإبراهيم أكرم على الله من يوسف، وأين ما بين أبويهما؟ فليس في بني آدم من حيث النسب مثل يوسف. وإذا فرضنا اثنين أحدهما أبوه نبي والآخر أبوه كافر وتساويا في التقوى والطاعة من كل وجه كانت درجتهما في الجنة سواء؛ ولكن أحكام الدنيا بخلاف ذلك في الإمامة والزوجية والشرف وتحريم الصدقة ونحو ذلك. والخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف. قال الله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} وقد قال أيضا: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} وقال: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} كما أنت راء في العلوية العبد الصالح والمسرف على نفسه. دعنا من ذا، أما هؤلاء اليهود المغضوب عليهم من أولاد الأنبياء؟ قال الله تعالى: {واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق}

ونحن إذا قلنا: العرب أفضل من العجم، فلكثرة ما في الصنف من الخير والتقوى والمحاسن التي هي [فيهم] أكثر منها في غيرهم. وعن النبي فيما رواه أبو داود وغيره قال: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب» وقال : «إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء؛ الناس رجلان مؤمن تقي وفاجر شقي»

ونحن لا ننازع أن عليا في الدرجة العليا من الكمال، وإنما النزاع في أنه أكمل من الثلاثة وأحق بالإمامة منهم، وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك. [وهذا الباب للناس في طريقان: منهم من يقول إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف، فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به فلا يعلم ذلك إلا بخبر الصادق. ومنهم من يقول قد يعلم ذلك بالاستدلال. وأهل السنة يقولون إن كلا من الطريقين إذا أعطي حقه من السلوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي. أما الطريق التوقيفي فالنص والإجماع،] والإجماع على أفضلية أبي بكر وعمر [اتفقت عليه الأمة] سواكم، والتوقيف فقد مر عدة نصوص بذلك. وفي الصحيحين عن ابن عمر الذي هو أصدق من برأ الله في زمانه أنه قال: كنا نقول ورسول الله حي: أفضل الأمة بعد النبي أبو بكر ثم وعمر، وفي لفظ ثم يبلغ ذلك النبي فلا ينكره. وأما عثمان فقال جماعة من العلماء كان عثمان أعلم بالقرآن من علي وعلي أعلم بالسنة؛ وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي اعظم جهادا بنفسه؛ وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال؛ وسيرة عثمان أرجح وهو أسن من علي ببضع وعشرين سنة وأجمعت الصحابة على تقديمه على علي فثبت أنه أفضل.

قالوا: علي أفضل لقرابته؛ قلنا: حمزة من أكبر السابقين وهو أقرب نسبا، وروي أنه «سيد الشهداء» فيكون أفضل.

قالوا في عثمان: فعل وفعل وولى أقاربه وأسرف في العطاء؛ قلنا: اجتهاد عثمان في ذلك أقرب إلى المصلحة، فإن الأموال أخف خطرا من الدماء، فلهذا كانت خلافته هادئة ساكنة كثيرة الجهاد والفتوحات الكبار كثيرة الفيء ولكنها لا تقارب خلافة من قبله. والذين خرجوا عليه فسّقوه والذين خرجوا على علي كفروه؛ ولا خير في الطائفتين.


هامش

  1. قال الذهبي في ميزان الاعتدال ج3 ص467: "ولقد ساق أخطب خوارزم من طريق هذا الدجال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب السيد علي رضي الله عنه، من ذلك بإسناد مظلم: عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: من أحب عليا أعطاه الله بكل عرق في بدنه مدينة في الجنة".
  2. قال في الأصل: "والجواب أن كتاب الفردوس فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله، ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبة الحديث ورواته، فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها؛ فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جدا."
  3. الحديث لم يروه البيهقي في أي من مصنفاته.
  4. في هامش مختصر الذهبي: "هذا الحديث في صحيح البخاري وليس هو في صحيح مسلم".
  5. أي رؤي أبو لؤلؤة عند الهرمزان
  6. في منهاج السنة: "والذي قال له: غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد، قليل جدا من المسلمين. ولم يعيّن منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك. وقد أجابهم عثمان وابن عمر..". أما في المنتقى المطبوع: "وقولك: "وقالوا له: غبت عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان" قلنا: هذا ما قاله إلا جهلة الرافضة ممن قاتله، وقد أجابهم عثمان.."
  7. في المطبوع: "والحمارية" والتصحيح من المنهاج.
  8. في المطبوع: "لا يمكنه" والتصحيح من المنهاج.
  9. لم يرو أبو نعيم شطره الأول، وإنما روى منه "من كنت مولاه فعلي مولاه" وروى: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله".
  10. لم يروه أبو نعيم في أي من مصنفاته.
  11. لم يروه أبو نعيم.
  12. رواه في الحلية لكنه لم يروه في تفسير {ولتعرفنهم في لحن القول}.
  13. في المطبوع: "أيسر النفاق" والتصحيح من المنهاج.
  14. ينظر كلام الشوكاني في الفوائد المجموعة ح106 وتعليق عبد الرحمن اليماني.
  15. ليس في شيء من مصنفات أبي نعيم ولا ابن عبد البر.
  16. رواه في حلية الأولياء.
  17. لم يروه أبو نعيم، بل روى في معرفة الصحابة عن أسيد بن صفوان موقوفا قال: قال الله تعالى: {جاء بالصدق} يعني محمدا، {وصدق به} يعني أبا بكر" في حديث طويل. وروى في حلية الأولياء عن مجاهد: "{والذي جاء بالصدق وصدق به} قال: هم الذين يجيئون بالقرآن ويقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه".
  18. رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية من طريق أبي نعيم عن أبي الحمراء وقال: "هذا حديث لا يصح. قال ابن حبان: أحمد بن الحسن الكوفي [أحد رواته] يضع الحديث، قال الدراقطني: متروك". وقال الذهبي في تلخيص العلل: "وضعه أحمد بن الحسن الكوفي."
  19. لم يروه أبو نعيم، وإنما روى في الحلية عن عطاء الخراساني في قوله: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} قال: "حسبك ومن اتبعك من المؤمنين الله".
  20. لم يروه أبو نعيم وإنما روى أنها "نزلت في أصحاب الخيل". قال ابن كثير في جامع المسانيد والسنن: "رفعه غريب، بل منكر".
  21. لم يروه أبو نعيم.
  22. لم يروه أبو نعيم.
  23. في ميزان الاعتدال للذهبي: "ثم وثبت فجعل يصيح".
  24. في المطبوع: "عبد الله بن عوف"
  25. الحديث في صحيح مسلم بلفظ: "جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله ما ولى. ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا. فأقبل القوم إلى رسول الله وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب. اللهم نزل نصرك» قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذى به. يعني النبي ". ورواه البخاري مختصرا.
  26. في كتاب الحلي: "وأخبر عليه السلام جويرية بن مسهر بأن اللعين يقطع يديه.."
  27. في المطبوع: "وأخبر مسمارا التمار".


المنتقى من منهاج الاعتدال
المقدمة | الفصل الأول: في نقل المذاهب في الإمامة | الفصل الثاني: في المذهب الواجب الاتباع | الفصل الثالث: في إمامة علي | الفصل الرابع: في إمامة باقي الاثني عشر | الفصل الخامس: في الرد على إبطاله خلافة أبي بكر وعمر وعثمان | الفصل السادس: في الحجج على إمامة أبي بكر | فهرس