المنتقى من منهاج الاعتدال/الفصل الخامس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال
  ► الفصل الرابع الفصل الخامس الفصل السادس ◄  



الفصل الخامس

(الرد على إبطاله خلافة أبي بكر وعمر وعثمان)


قال: "إن من تقدمه لم يكن إماما لوجوه".

قلنا: بل كانوا أئمة صالحين للإمامة، فتح الله بهم البلاد والأقاليم وكانوا خلفاء راشدين، وما خالف في هذا مسلم سواكم معشر الرافضة، وكانوا أحق بها وأهلها، نقطع بذلك ولا يمكن أن يعارض لا بدليل ظني ولا قطعي. أما القطعيات فلا يتناقض موجبها ومقتضاها. وأما الظنيات فلا تعارض قطعيا. [وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين: إما نقل لا نعلم صحته أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم؛ وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضة ما علم قطعا.] وإذا نفينا [الاعتراض على] إمامتهم بالقطع لم يلزمنا الجواب على الشبهة المفصلة، فإن بينا وجه فساد الشبهة كان زيادة علم وتأييدا للحق في النظر والمناظرة.

قال: "فمنها قول أبي بكر إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني. ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم الكمال".

قلنا المأثور أنه قال إن لي شيطانا يعتريني -يعني الغضب- فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أوثر في أبشاركم. وقال: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم. وهذا القول من أفضل ما مدح به، يخاف عند الغضب أن يعتدي على أحد. وفي الصحيح أن النبي قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» فأمر الحاكم باجتناب الحكم حال الغضب. والغضب يعتري بني آدم كلهم حتى قال سيد ولد آدم: «إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر» متفق عليه. ولمسلم أن رجلين دخلا على رسول الله فأغضباه فلعنهما وسبهما، وذكر الحديث. فمن عصى أبا بكر وأحرجه جاز له تأديبه، كما أن من عصى عليا فأغضبه جاز له تأديبه. وفي الصحيح عن ابن مسعود عن النبي قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن» قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا إلا ألا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي بنحوه.

وقوله: فإن زغت فقوموني، من كمال عدله وتقواه وإنصافه.

وقولك: "ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم التكميل".

قلنا: لا نسلم؛ لا يكملهم ولا يكملونه، بل يتعاونون على البر والتقوى. وإنما التكميل من الله الغني بنفسه الذي لا يحتاج إلى أحد. وقد كان الرسول يشاور أصحابه ويعمل برأيهم.

وقال: "ومنها قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. وهذا يوجب الطعن".

قلنا: إنما لفظ عمر الذي في الصحيحين: بلغني أن قائلا منكم يقول: لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها كانت كذلك ولكن وقى الله شرها وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.

فصل

قال: "وقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} أخبر تعالى أن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم، والظالم كافر لقوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} ولا شك أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام إلى أن ظهر النبي ".

والجواب -أيها الرويفضي المغتر- من وجوه: أحدها أن الكفر الذي يعقبه الإيمان لم يبق على صاحبه منه ذم، فإن الإسلام يجب ما قبله وهذا معلوم بالاضطرار من الدين. وليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، وإلا لزم أن يكون أفضل من الصحابة. وقد ثبت أن «خير الناس القرن» الأول الذين بعث فيهم الرسول، وسائرهم أسلموا بعد الكفر وهم أفضل بلا شك ممن ولد على الإسلام. ولهذا قال الأكثرون: يجوز على الله أن يبعث نبيا ممن آمن بالأنبياء قال تعالى: {فآمن له لوط} وقد قال شعيب: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} ثم إنه إذ نُبئ رسول الله لم يكن أحد من قريش مؤمنا لا كبيرا ولا صغيرا، وإذا قيل عن رجالهم إنهم يعبدون الأصنام فصبيانهم [كذلك علي وغيره]. فإن قيل: كفر الصبي لا يضره؛ قيل: ولا إيمان الصبي مثل إيمان الرجل، فالرجل يثبت له حكم الإيمان بعد الكفر وهو بالغ، والصبي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والطفل بين أبويه الكافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا بالإجماع، فإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء، بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما إذا أسلم بالإجماع. ثم لا يمكن الجزم بأن عليا ما سجد لصنم. وكذا الزبير فإنه أسلم وهو مراهق. فمن أسلم بعد كفره واتقى وآمن لم يجز أن يسمى ظالما. فقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} أي ينال العادلَ دون الظالم. فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله العهد وصار ممدوحا بآيات المدح لقوله: {إن الأبرار لفي نعيم} {إن المتقين في مقام أمين} فمن قال: "المسلم بعد إيمانه كافر" فهو كافر بإجماع الأمة.

قال: "ومن ذلك قول أبي بكر: أقيلوني فلست بخيركم. ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة".

قلنا: أين صحة هذا وإلا فما كل منقول صحيح. فإن صح هذا عنه لم يجز معارضته بقولك: "لا يجوز له طلب الإقالة" إذ ذلك مجرد دعوى.

قال: "وقال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق. وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه، مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة".

قلنا: [أما قول النبي : «الأئمة من قريش» فهو حق. و]من الذي يقول إن الصديق شك في هذا وفي صحة إمامته؟ ولكن ما نقلته كذب عليه. فإن المسألة عنده وعند الصحابة واضحة ظاهرة. وإن قدر أنه قاله ففيه فضيلة له لأنه لم يكن يعرف أن الأئمة من قريش فاجتهد فوافق اجتهاده النص، وفيه أنه ليس عنده نص من الرسول بعلي.

قال: "وقال عند موته: ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه، وليتني في سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير. وهذا يدل على إقدامه على بيت فاطمة عند اجتماع علي والزبير وغيرهما ويدل على أنه كان يرى الفضل لغيره".

قلنا: لا يُقبل القدح [إلا] إذا ثبت النقل. ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد [بن عبادة] الذي مات ولم يبايعه. وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي أمر بقسمته، ثم رأى أنه لو تركه لهم جاز. والجهلة يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى طرحت. أفيسوغ في عقل عاقل أن صفوة الأمة يفعلون هذا بابنة نبيهم لا لأمر؟ فلعن الله من وضع هذا ومن افتعل الرفض.

قال: "وقال : جهزوا جيش أسامة، وكرر ذلك وكان فيهم أبو بكر وعمر، ولم ينفذ عليا لأنه أراد منعهم من التوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه".

قلنا: أين صحة هذا؟ فمن احتج بالمنقول لا يسوغ له إلا بعد العلم بصحته، كيف وهذا كذب، لم يكن أبو بكر في جيش أسامة أصلا، بل قيل إنه كان فيهم عمر رضي الله عنه. وقد تواتر عن النبي أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات وصلى أبو بكر بهم الصبح يوم توفي وقد كشف سجف الحجرة فرآهم خلف أبي بكر فسُرَّ بذلك. فكيف يمكن مع هذا أن يكون من جيش أسامة الذين شرعوا في الرحيل ولو أراد النبي تولية علي لكان هؤلاء أعجز من أن يدفعوا أمره، ولكان جماهير الأمة أطوع لله ولرسوله من أن يدعوا أحدا يتوثب على من نص الرسول لهم عليه. ثم لو كان أراد توليته لكان أمره بالصلاة بالمسلمين أيام مرضه ولما كان يدع أبا بكر يصلي به.

قال: "ولم يولّ أبا بكر عملا وولى عليه".

قلنا: وأي ولاية فوق ولاية الصلاة والحج والزكاة؟ وقد ولى جماعة دون أبي بكر بكثير مثل عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وأبي سفيان بن حرب. وعدم ولايته لا يدل على نقصه. ولأنه كان وزيره وكان لا يستغني عنه في مهمات الأمور ويليه عمر.

قال: "وأنفذه رسول الله لأداء سورة براءة ثم أنفذ عليا وأمره برده وأن يتولى هو ذلك. ومن لا يصلح لأداء سورة كيف يصلح للخلافة".

الجواب أن هذا افتراء محض ورد للتواتر، فإن الرسول استعمل أبا بكر على الحج [سنة تسع] فما رده ولا رجع، بل هو الذي حج بالناس، فكان علي من جملة رعيته إذ ذاك يصلي خلفه ويسير بسيره. فالعلم بهذا لم يختلف فيه اثنان. فكيف تقول إنه أمر برده؟ ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم، لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العهود ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث عليا ببراءة. فيالله إذا كنت تجهل مثل هذا من أحوال الرسول وأيامه وسيرته فإيش عندك من العلم؟ وكان السكون أولى بك وبأشباهك. أفأملك أن أعمى الله قلبك إذ خبثت سريرتك فلا تبرز بفائدة ولا تأتي بخير، ولكنك معرق في الرفض. فلله الحمد على العافية.

ثم تقول: "والإمامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة".

سبل الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام، وإنما الإمام منفذ لما شرعه الرسول. والصديق كان عالما بعامة ذلك وإذا خفي عليه الشيء اليسير سأل الصحابة عنه كما سأل عن ميراث الجدة فأخبر أن نبي الله أعطاها السدس. وما عرف له قول خالف نصا. وقد عرف لعمر وعثمان من ذلك أشياء، وعرف لعلي أكثر مما عرف لهما كقوله إن الحامل المتوفى عنها تعتد أبعد الأجلين، وحديث سبيعة في الصحيحين بأنها تحل إذا وضعت. وقد جمع الشافعي رحمه الله تعالى كتابا في خلاف علي وابن مسعود. {وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك، فإنه كان إذا ناظره الكوفيون يحتج بالنصوص فيقولون نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود فجمع لهم أشياء كثيرة من قول علي وابن مسعود تركوه أو تركه الناس يقول: إذا جاز لكم خلافهما في تلك المسائل لقيام الحجة على خلافهما فكذلك في سائر المسائل. ولا يعرف لأبي بكر مثل هذا.} ثم القرآن بلغه كل أحد عن الرسول ، فيمتنع أن يقال لم يصلح أبو بكر لتبليغه. ولا يجوز أن يقال إن تبليغ القرآن يختص بعلي فإن القرآن لا يثبت بخبر الواحد.

قال: "ومن ذلك قول عمر إن محمدا لم يمت وهو يدل على قلة علمه. وأمر برجم حامل فنهاه علي فقال: لولا علي لهلك عمر".

قلنا: قد أوردنا لك نصوصا عدة في مكانة عمر من العلم فكان أعلم الناس بعد الصديق. وأما كونه ظن أن الرسول لم يمت فهذا كان ساعة ثم تبين له موته. وعلي قد ظن أشياء ثم ظهرت له بخلاف ذلك. ولم يقدح بمثل هذا في إمامتهما. وأما الحامل فلم يدر أنها حاملة فنبهه علي. وقد نزل الكتاب بموافقة عمر في مواضع. وقال : «لو كان بعدي نبي لكان عمر» ولما وضع على سريره أثنى عليه وأحب أن يلقى الله بمثل صحيفة عمر.

وقال: "وابتدع التراويح مع أن النبي قال: يا أيها الناس إن الصلاة بالليل في رمضان جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة فلا تجمعوا في رمضان ليلا ولا تصلوا الضحى. وخرج عمر ليلا فرأى المصابيح في المساجد فقال: ما هذا؟ فقيل: إنهم اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة ونعمت البدعة هي".

فيقال: ما رؤي في الطوائف أجرأ من هذه الطائفة على الكذب حتى على نبيها بوقاحة مفرطة مع فرط الجهل. فأين إسناد هذا وأين صحته؟ وأنى له صحة وهو للكذب الإكسير الذي يعمل منه الكذب. لم يروه عالم. وأدنى العلماء يعلمون أنه موضوع. ولا له إسناد. فقد ثبت أن الناس كانوا يصلون جماعة بالليل في رمضان على عهد نبيهم، وثبت أنه صلى بالمسلمين ليلتين أو ثلاثا فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا. متفق عليه من حديث عائشة. وخرج البخاري من حديث عبد الرحمن بن عبد [القاري] قال: خرجت مع عمر ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته رهط، فقال عمر: إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون. يريد بذلك آخر الليل. وهذا الاجتماع لم يكن فسماه بدعة؛ وما هو بالبدعة الشرعية التي هي ضلالة إذ هي ما فُعل بلا دليل شرعي، ولو كان قيام رمضان جماعة قبيحا لأبطله أمير المؤمنين علي وهو بالكوفة. بل روي عنه أنه قال: نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا. وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا دعا القراء في رمضان فأمر منهم رجلا يصلي بالناس عشرين ركعة، قال: وكان علي يوتر بهم. وعن عرفجة الثقفي قال: كان علي بن أبي طالب يأمر بقيام رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما فكنت أنا إمام النساء. رواهما البيهقي في سننه. وأما الضحى فرغب فيها الرسول كما صح عنه في أحاديث.

قال: "وفعل عثمان أمورا لا تجوز حتى أنكر عليه المسلمون كافة واجتمعوا على قتله".

قلنا: وهذا من جهلك وافترائك، فإن الناس بايعوا عثمان وما اختلف في بيعته اثنان ولا تخلف عنها أحد كما تخلف شطر الناس عن بيعة غيره. فمن الذي اجتمع على قتل عثمان؟ هل هم إلا طائفة من أولي الشر والظلم. ولا دخل في قتله أحد من السابقين. بل الذين قاتلوا عليا وأنكروا عليه أضعاف أولئك، وكفره ألوف من عسكره وخرجوا عليه. وقتل في الآخر كما قتل ابن عمته عثمان. قاتل الله من قتلهما.


المنتقى من منهاج الاعتدال
المقدمة | الفصل الأول: في نقل المذاهب في الإمامة | الفصل الثاني: في المذهب الواجب الاتباع | الفصل الثالث: في إمامة علي | الفصل الرابع: في إمامة باقي الاثني عشر | الفصل الخامس: في الرد على إبطاله خلافة أبي بكر وعمر وعثمان | الفصل السادس: في الحجج على إمامة أبي بكر | فهرس