المنتقى من منهاج الاعتدال/الفصل الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال
  ► المقدمة الفصل الأول الفصل الثاني ◄  



الفصل الأول

(في نقل المذاهب في هذه المسألة)


قال المؤلف الرافضي: ذهبت الإمامية إلى أن الله عدل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يظلم وأنه رءوف بالعباد يفعل لهم ما هو الأصلح لهم - إلى أن قال - ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة فنصب أولياء معصومين ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم ولئلا يخلي الله العالم من لطفه ورحمته وأنه لما بعث محمدا قام بثقل الرسالة ونص على أن الخليفة من بعده علي ثم من بعد علي ولده الحسن ثم على ولده الحسين ثم على [علي] بن الحسين ثم على محمد ثم على جعفر ثم على [موسى بن جعفر ثم على] علي بن موسى ثم على محمد بن علي الجواد ثم على علي بن محمد الهادي ثم على الحسن بن علي العسكري ثم على الحجة محمد بن الحسن. وأن النبي لم يمت إلا عن وصية بالإمامة. وأهل السنة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأنه تعالى لا يفعل لغرض بل أفعاله كلها لا لغرض من الأغراض ولا لحكمة وأنه يفعل الظلم والعبث وأنه لا يفعل الأصلح لعباده بل [ما] هو الفساد في الحقيقة كفعل المعاصي وأنواع الكفر فجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إليه. وأن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا، قد يعذب النبي ويثيب إبليس وفرعون. وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الخطأ والفسق والكذب. وأن النبي لم ينص على إمامة بل مات عن غير وصية وأن الإمام بعده أبو بكر بمبايعة عمر وبرضا أربعة أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد؛ ثم من بعده عمر بنص أبي بكر؛ ثم عثمان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم؛ ثم علي بمبايعة الخلق له. [ثم اختلفوا] فقال بعضهم إن الإمام بعده حسن وبعضهم قال معاوية. ثم ساقوا الإمامة في بني أمية إلى أن ظهر السفاح.

قلنا: هذا النقل لمذهب أهل السنة والرافضة فيه من التحريف والكذب ما نذكره. فمنه أن إدخال القدر والعدل في هذا الباب باطل من الجانبين إذ كل قول منه قد قال به طوائف من السنة والشيعة؛ فالشيعة منهم طوائف تثبت القدر وتنكر التعديل والتجوير، والذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فيهم طوائف تقول بالتعديل والتجوير؛ فإن المعتزلة أصل هذا، وإن شيوخ الرافضة كالمفيد والموسوى والطوسي والكراجكي إنما أخذوا ذلك من المعتزلة. وإلا فالقدماء من الشيعة لا يوجد في كلامهم شيء من هذا. فذكره القدر في مسائل الإمامة لا مدخل له بوجه. وما نقله عن الإمامية لم يحرره. فإن من تمام قولهم إن الله لم يخلق شيئا من أفعال الحيوان بل تحدث الحوادث بغير قدرته ولا خلقه. ومن قولهم إن الله لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يقدر أن يضل مهتديا ولا يحتاج أحد من البشر إلى أن يهديه الله بل الله قد هداهم [هدى] البيان وأما الاهتداء فقد يهتدي بنفسه لا بمعونة الله له. ومن قولهم إن هدي الله للمؤمنين والكفار سواء ليس على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين بل قد هدى عليا بما هدى أبا جهل بمنزلة الأب الذي يعطي أحد ابنيه دراهم ويعطي الآخر مثلها فأنفقها هذا في الطاعة وهذا في المعصية. ومن أقوالهم إنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. فلا يثبتون لله مشيئة عامة ولا قدرة تامة ولا خلقا متناولا لكل حادث: وهذا نص قول المعتزلة، ولهذا كانت الشيعة في هذا على قولين.

وقوله: "إنه نصب أولياء معصومين لئلا يخلي الله العالم من لطفه"

فهم يقولون إن الأئمة المعصومين مقهورون مظلومون عاجزون ليس لهم سلطان ولا قدرة حتى أنهم يقولون ذلك في علي رضي الله عنه منذ مات النبي إلى أن استخلف وفي الاثني عشر ويقرون أن الله ما مكنهم ولا ملّكهم. وقد قال تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما}

فإن قيل: المراد بنصبهم أنه أوجب عليهم طاعتهم فإذا أطاعوهم هدوهم ولكن الخلق عصوهم؛ فيقال: لم يحصل بمجرد ذلك في العالم لا لطف ولا رحمة بل إنما حصل تكذيب الناس لهم ومعصيتهم إياهم. والمنتظر ما انتفع به من أقر به ولا من جحده. وأما سائر الاثني عشر سوى علي رضي الله عنه فكانت المنفعة بأحدهم كالمنفعة بأمثاله من أئمة الدين والعلم، وأما المنفعة المطلوبة من أولي الأمر فلم تحصل بهم. فتبين أن ما ذكره من اللطف تلبيس وكذب.

وقوله: "إن أهل السنة لم يثبتوا العدل والحكمة إلخ" نقل باطل عنهم من وجهين: أحدهما أن كثيرا من أهل النظر الذين ينكرون النص يثبتون العدل والحكمة كالمعتزلة ومن وافقهم؛ ثم سائر أهل السنة ما فيهم من يقول إنه تعالى ليس بحكيم ولا إنه يفعل قبيحا، فليس في المسلمين من يتكلم بإطلاق هذا إلا حل دمه. ولكن مسألة القدر فيها نزاع في الجملة فقول المعتزلة ذهب إليه متأخرو الإمامية وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين وأهل البيت فتنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته والظلم الذي يجب تنزيهه عنه وفي تعليل أفعاله وأحكامه، فقالت طائفة إن الظلم ممتنع عليه وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين وإن كل ممكن مقدور فليس هو ظلما. وهؤلاء يقولون إنه لو عذب المطيعين ونعّم العصاة لم يكن ظلما. وقالوا: الظلم التصرف فيما ليس له والله له كل شيء. وهذا قول كثير من أهل الكلام المؤمنين بالقدر وقول عدة من الفقهاء. وقالت طائفة: بل الظلم مقدور ممكن والله لا يفعله لعدله وبهذا مدح نفسه إذ يقول: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} والمدح إنما يكون بترك المقدور. وقالوا: وقد قال: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} وقال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} وقال: {وما أنا بظلام للعبيد} وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا على المستحيل. وثبت في الصحيح عن النبي أن الله يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي». فقد حرم الظلم على نفسه كما {كتب على نفسه الرحمة} وفي الصحيح: «إن الله لما قضى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي». وما كتبه على نفسه أو حرمه على نفسه فلا يكون إلا مقدورا له، فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ولا يحرمه على نفسه. وهذا قول أكثر أهل السنة [والمثبتين للقدر] من [أهل] الحديث والتفسير والفقه والكلام والتصوف. وعلى هذا القول فهؤلاء هم القائلون بعدل الله وإحسانه دون من يقول من القدرية إن من فعل كبيرة حبط إيمانه فهذا نوع من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه وهو القائل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فمن اعتقد أن منه على المؤمن بالهداية دون الكافر ظلم فهذا جهل لوجهين: أحدهما أن هذا تفضيل، قال الله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} وكما قالت الأنبياء: {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء} فهو تعالى إلا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضع العقوبة على محسن أبدا. ولهذا قيل: كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل. ولهذا يخبر أنه يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه. وفي الصحيح فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك؛ فالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب كما قال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} وقال: {إن تصبك حسنة تسؤهم} وقال: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}

وأجمع المسلمون على أنه تعالى موصوف بالحكمة. فقالت طائفة معناها راجع إلى العلم بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده. وقال جمهور السنة: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست هي مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما. ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى إرادة محمودة ومذمومة بل الحكمة ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة. وأصحاب القول الأول كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة. وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعاله وأحكامه. وهذه المسألة لا تتعلق بالإمامة أصلا. وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل. فمن أنكر ذلك احتج بحجتين: إحداهما أن ذلك يلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة وتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة وإن عقل الإحداث بلا علة لم يحتج إلى إثبات علة. الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمتكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله. وأوردوا على المعتزلة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا: العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة، وإن كان وجودها أولى فإن كانت عنه منفصلة لزم أن تستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث.

وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة تثبت من التعليل ما لا يعقل وهو فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها إليه سواء.

وأما القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى وذلك أخص من الإرادة. وأما المعتزلة وأكثر الأشعرية فيقولون المحبة والرضاء والإرادة سواء. فجمهور السنة يقولون لا يحب الكفر ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة، وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى الفاعل يكون عديم الحكمة بل لله في مخلوقاته حكم قد تخفى. ويجيبون عن التسلسل بجوابين: أحدهما أن يقال هذا تسلسل الحوادث في المستقبل لا في الحوادث الماضية فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلا في المستقبل وهو جائز عند جماهير الأمة فإن نعيم الجنة و[عذاب] النار دائمان مع تجدد الحوادث فيهما، وإنما أنكر ذلك جهم، زعم أن الجنة والنار تفنيان، وأبو الهذيل العلاف زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويبقون في سكون دائم؛ وذلك أنهم اعتقدوا أن التسلسل في الحوادث ممتنع في الماضي، ففيه أيضا قولان لأهل الإسلام فمنهم من يقول إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فعالا مع قولهم إن كل ما سواه محدث وأنه ليس في العالم شيء قديم مساوٍ لله تعالى كما تقول الفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك وأن المبدع علة تامة موجب بذاته، وهذا ضلال إذ العلة تستلزم معلولها ولا يجوز تأخرها عنه والحوادث مشهورة في العالم فلو كان الصانع موجبا بذاته علة تامة مستلزمة لمعلولها لما حدث شيء من الحوادث في الوجود إذ الحادث يمتنع أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية فلو كان العالم قديما لكان مبدعه علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة، وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم العالم، لكن لا ينفي أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فعالا لما يشاء. وعمدة الفلاسفة في قدم العالم قولهم يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب أصلا. وهذا لا يدل على قدم شيء بعينه إنما يدل على أنه لم يزل فعالا، فإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئا بعد شيء كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة مع القول بأن كل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن. قال هؤلاء: فقد أخبر تعالى بأنه {خالق كل شيء} ولا يكون المخلوق إلا مسبوقا بالعدم فليس شيء من المخلوقات مقارنا لله كما تقوله الفلاسفة إن العالم معلول له وهو موجب له مفيض له وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع لا بالزمان.

إلى أن قال: الوجه الثاني لا بد أن يكون الفاعل موجودا عند وجود المفعول لا يجوز عدمه عند ذلك إذ المعدوم لا يفعل موجودا ونفس إيجابه وفعله واقتضائه وإحداثه لا يكون ثابتا بالفعل إلا عند وجود المفعول فلو قدر أن فعله اقتضاه فوجد بعد عدمه لزم أن يكون فعله وإيجابه عند عدم المفعول الموجب وإذا كان كذلك فالموجب لحدوث الحوادث إذا قدر أنه يفعل الثاني بعد الأول من غير أن تحدث له صفة يكون بها فاعلا [للثاني] كان المؤثر التام معدوما عند وجود الأثر، وهذا محال. والواحد من الناس إذا قطع مسافة وكان قطعه للجزء الثاني مشروطا بالأول فإنه إذا قطع الأول حصل له [أمور تقوم به من قدرة وإرادة وغيرهما تقوم بذاته بها] يصير حاصلا في الجزء الثاني لا [أنه] لمجرد عدم الأول صار قاطعا للثاني فإذا شبهوا فعله للحوادث بهذا لزمهم أن تتجدد لله أحوال تقوم به عند إحداث الحوادث وإلا إذا كان هو لم يتجدد له حال وإنما وجد عدم الأول فحاله قبل وبعد سواء فاختصاص أحد الوقتين بالإحداث لا بد له من مخصص ونفس صدور الحوادث لا بد له من فاعل والتقدير أنه على حال واحدة من الأزل إلى الأبد فيمتنع مع هذا التقدير اختصاص وقت دون وقت بشيء منها. وابن سينا وغيره من القائلين بقدم العالم بهذا احتجوا على المعتزلة فقالوا إذا كان في الأزل لا يفعل وهو الآن على حاله فهو الآن لا يفعل وقد فرض فاعلا، هذا خلف وإنما لزم ذلك من تقدير ذات معطلة عن الفعل، فيقال لهم: ذا بعينه حجة عليكم في إثبات ذات بسيطة لا يقوم بها فعل ولا وصف مع صدور الحوادث عنها وإن كانت بوسائط لازمة لها فالوسط اللازم لها قديم بقدمها وقد قالوا إنه يمتنع صدور الحوادث عن قديم هو على حال واحدة كما كان.

الوجه الثالث أنهم قالوا إن الواجب فياض دائم الفيض وإنما يتخصص بعض الأوقات بالحدوث لما يتجدد من حدوث الاستعداد والقبول وحدوث الاستعداد والقبول هو سبب حدوث الحركات: فهذا باطل إذ هذا إنما يتصور إذا كان الفعال الدائم الفيض ليس هو المحدث لاستعداد القبول كما تدعونه في العقل الفعال فتقولون إنه دائم الفيض ولكن يحدث استعداد القوابل بسبب حدوث الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وتلك ليست صادرة عن العقل الفعال. وأما في المبدع الأول فهو المبدع لكل ما سواه فعنه يصدر الاستعداد والقبول.

إلى أن قال: وإذا كان هو سبحانه [الفاعل] لذلك كله امتنع أن يكون علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لأن ذلك يوجب أن يكون معلوله كله أزليا وكل ما سواه معول له فيلزم أن يكون ما سواه أزليا. وهذه مكابرة للحس وفساد هذا معلوم بالضرورة. وإنما عظمت حجتهم على أهل الكلام المذموم الذين اعتقدوا أن الرب تعالى كان في الأزل يمتنع منه الفعل والكلام بقدرته ومشيئته وكان حقيقة قولهم إنه لم يكن قادرا في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته لكون ذلك ممتنعا لنفسه والممتنع لا يدخل تحت المقدور وأنه صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم والشيعة والكرامية. وأما الكلام فلا يدخل تحت القدرة والمشيئة بل هو شيء واحد لازم لذاته، وهو قول ابن كلاب والأشعري. وقال طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث ويعزى ذلك إلى السالمية وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة إنه حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان لا تتعلق بمشيئته وقدرته. وليس هذا قول جمهور أئمة الحنابلة، ولكنه قول طائفة منهم ومن المالكية والشافعية. وقالوا: دل الدليل على أن دوام الحوادث ممتنع وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ وأنكروا حوادث لا أول لها وقالوا وجب أن يكون كل ما تقارنه الحوادث محدثا فيمتنع أن يكون الباري لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته بل امتنع أن يكون لم يزل قادرا على ذلك لأن القدرة في الممتنع ممتنعة. قالوا وبهذا يعلم حدوث الجسم لأنه لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وما فرقوا بين ما لا يخلو عن نوع الحوادث وبين ما لا يخلو عن عين الحوادث.

فيقال لهم الفلاسفة وغيرهم: فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم فكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه وذلك لأن الحادث لا بد أن يكون ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام والإمكان ليس له وقت محدود فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيجب أن الفعل لم يزل ممكنا جائزا فيلزم أنه لم يزل الرب تعالى قادرا عليه فيلزم جواز حوادث لا أول لها ولا نهاية. وقالت القدرية والمعتزلة نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له لكن نقول الحوادث يشترط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية لها، وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فالحوادث يشترط كونها مسبوقة بالعدو لا أول لها بخلاف جنس الحوادث.

إلى أن قال: هل لإمكان الحوادث انتهاء أم لا فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في [النهاية فكذلك الأول يستلزم الجمع بين النقيضين في] البداية.

إلى أن قال: والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

إلى أن قال: والمقصود هنا أن الفلاسفة إن جوزوا حوادث بلا سبب حادث بطلت عمدتهم في قدم العالم وإن منعوا ذلك امتنع خلو العالم عن الحوادث وهم [لا] يسلمون أنه لم يخل من الحوادث. وإذا كان كل موجود معين من مرادات الخالق مقارنا للحوادث مستلزما لها امتنع إرادته دون إرادة لوازمه التي لا ينفك عنها والله رب كل شيء وخالقه فيمتنع أن يكون بعض ذلك بإرادته وبعضه بإرادة غيره بل الجميع بإرادته. وحينئذ فالإرادة الأزلية إما أن لا تكون مستلزمة لمقارنة المراد وإما أن تكون كذلك. فإن كان الأول لزم أن يكون المراد ولوازمه قديمة أزلية والحوادث لازمة لكل مصنوع فوجب أن تكون مرادة له وأن تكون أزلية إذ التقدير أن المراد مقارن للإرادة فيلزم أن تكون جميع الحوادث المتعاقبة قديمة أزلية وهذا ممتنع لذاته. وإن قيل إن الإرادة القديمة ليست مستلزمة لمقارنة مرادها لها لم يجب أن يكون المراد قديما أزليا ولا يجوز أن يكون حادثا لأن حدوثه بعد أن لم يكن يفتقر إلى سبب حادث كما تقدم. وإن كان أن يقال إن الحوادث تحدث بالإرادة القديمة من غير تجدد أمر من الأمور كما يقوله كثير من الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كان هذا مبطلا لحجة هؤلاء الفلاسفة على قدم العالم. فإن أصل حجتهم أن الحوادث لا تحدث إلا بسبب حادث فإذا جوزوا حدوثها عن القادر المختار بلا حادث أو جوزوا حدوثها بالإرادة القديمة بطلت عمدتهم وهم لا يجوزون ذلك. وأصل هذا الدليل أنه لو كان شيء من العالم قديما للزم أن يكون صدر عن مؤثر تام سواء سمى علة تامة أو موجبا بالذات أو قيل إنه قادر مختار واختياره أزلي مقارن لمراده. وسر ذلك أن ما كان كذلك لزم أن يقارنه أثره المسمى معلولا أو مرادا أو موجبا بالذات أو مبدعا أو غير ذلك من الأسماء لكن مقارنة ذلك له في الأزل تقتضي أن لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولو لم يكن كذلك لم يكن للحوادث فاعل بل كانت حادثة بنفسها لا سيما قول من يقول إن العالم صدر عن ذات بسيطة لا تقوم بها صفة ولا فعل كابن سينا وغيره.

إلى أن قال شيخنا: وإنما القصد هنا التنبيه على أصل مسألة التعليل. فإن هذا المبتدع أخذ يشنع على أهل السنة بمسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها وينقلها على الوجه الفاسد، وما ينقله عن أهل السنة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم، وما صدق فيه فقولهم فيه خير من قوله؛ فإن غالب شناعته هنا على الأشعرية وهم خير من المعتزلة والرافضة. ويقولون لهم لما كان هذا الدليل عمدتكم استطال عليكم الدهرية والفلاسفة وابن سينا، وهذا الدليل مناف في الحقيقة لحدوث العالم لا مستلزم له فإذا كان هذا الحادث لا بد له من سبب حادث وكان هذا الدليل مستلزما لحدوث بلا سبب لزم أن لا يكون الله أحدث شيئا. وإذا جوزنا ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح انسد طريق إثبات الصانع الذي سلكتموه.

ويقولون أيضا للمعتزلة: أنتم مع هذا عللتم أفعال الله بعلل حادثة فيقال لكم هل توجبون للحوادث سببا حادثا أم لا فإن قلتم نعم لزم تسلسل الحوادث وبطل ما ذكرتموه، وإن لم توجبوا ذلك قيل لكم وكذلك ليس لها غاية حادثة بعدها إذ الفاعل المحدث لا بد لفعله من سبب ولا بد له من غاية، فإن قلتم لا سبب لإحداثه قيل لكم ولا غاية مطلوبة له بالفعل، فإن قلتم لا يعقل فاعل لا يريد حكمة إلا وهو عابث، قيل لكم ولا يعقل فاعل يحدث شيئا بغير سبب حادث أصلا بل ذا أشد امتناعا في العقل من ذاك. فقول من يقول إنه يفعل لمحض المشيئة بلا علة خير من قولكم في حكمته فإن هذا سلم من التسلسل وسلم من كونه يفعل لحكمة منفصلة عنه والمعتزلة تسلم له امتناع التسلسل. وأما من قال بالتعليل من أهل السنة والحديث فقد سلم من هذا وهذا.

وأما قولك: "جوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب" فما قال مسلم قط إن الله يفعل قبيحا أو يخل بواجب ولكنكم معشر النفاة للقدر توجبون على الله من جنس ما يجب على العباد وتحرمون عليه ما يحرم عليهم فتقيسونه على خلقه فأنتم مشبهة للأفعال. فأما المثبتون للقدر من السنة والشيعة فمتفقون على أن الله تعالى لا يقاس بنا في أفعاله كما لا يقاس بنا في ذاته وصفاته، فليس ما وجب علينا أو حرم علينا يجب أو يحرم عليه ولا ما قبح منا قبح منه. واتفقوا على أنه إذا وعد بشيء كان وقوعه واجبا بحكم وعده لقوله تعالى: {إن الله لا يخلف الميعاد} وكذا لا يعذب أنبياءه ولا أولياءه بل يدخلهم جنته كما أخبر. لكن تنازعوا في مسألتين:

إحداهما أن العباد هل يعلمون بعقولهم حسن بعض الأفعال ويعلمون أن الله متصف بفعله ويعلمون قبح بعض الأفعال ويعلمون أن الله منزه عنه، على قولين أحدهما أن العقل لا يعلم به حسن ولا قبح، أما في حق الله فلأن القبيح منه ممتنع لذاته، وأما في حق العباد فلأن الحسن والقبح لا يثبت إلا بالشرع؛ قاله الأشعرية وكثير من الفقهاء وهم لا ينازعون في الحسن والقبح إذا فسر بمعنى الملائم والمنافي أنه قد يعلم بالعقل. وكذا لا ينازع كثير منهم في أنه إذا عني به كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص أنه يعلم بالعقل. الثاني أن العقل قد يعلم به حسن كثير من الأفعال وقبحها في حق الله تعالى وحق عباده، وهذا مع أنه قول المعتزلة فهو قول الكرامية وجمهور الحنفية وقول أبي بكر الأبهري المالكي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب [الكلواذي] من الحنابلة. وذكر أبو الخطاب أنه قول أكثر أهل العلم وهو وقول أبي نصر السجزي وسعد الزنجاني من المحدثين. وقد تنازع الأئمة في الأعيان قبل ورود السمع، فقالت الحنفية وكثير من الشافعية والحنابلة إنها على الإباحة مثل ابن سريج وابن إسحاق المروذي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب، وقالت طائفة كأبي علي بن أبي هريرة وابن حامد والقاضي أبي يعلى إنها على الحظر. مع أن خلقا يقولون إن القولين لا يصحان إلا على أن العقل يحسن ويقبح، فمن قال إنه لا يعرف بالعقل حكم امتنع أن يصفها قبل الشرع بشيء كما قاله الأشعري وأبو الحسن الجزري وأبو بكر الصيرفي وابن عقيل.

وأما المسألة الثانية: تنازعوا هل يوصف الله بأنه أوجب على نفسه وحرم عليها أو لا معنى للوجوب إلا إخباره بوقوعه ولا معنى للتحريم إلا إخباره بعدم وقوعه. فقالت طائفة بالقول الثاني وهو قول من يطلق أن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء. وقالت طائفة بل هو أوجب على نفسه وحرم كقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} وفي الحديث: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. أما أننا نوجب عليه أو نحرم عليه فلا. فمن قال لا يجب عليه ولا يحرم امتنع عنده أن يكون فاعلا لقبيح أو مخلا بواجب، ومن قال هو أوجب على نفسه أو حرم عليها بإخباره إيانا فاتفقوا على أنه لا يخل بما التزمه.

ولكنك سلكت مسلك أمثالك تحكي الشيء بطريق الإلزام وتقوّل [أهل] السنة ما لم يقولوه فاستنبطت من قولهم "لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء" ما ادعيت عليهم، أي يفعل ما هو قبيح عندك.

وأيضا فأهل السنة يقولون بإثبات القدر ويصرحون بأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الهدي تفضل منه. وأنتم تقولون إنه يجب عليه أن يفعل بكل عبد ما تظنونه واجبا عليه ويحرم عليه ضد ذلك، فأوجبتم عليه أشياء وحرمتهم عليه أشياء وهو لم يوجبها على نفسه ولا عُلم وجوبها عليه بشرع ولا عقل. ثم تحكون عن من لم يوجبها أنه يقول إن الله يخل بالواجب، وهذا تلبيس.

وأما قولك: "ذهبوا إلى أنه لا يفعل لغرض ولا لحكمة البتة". فيقال أما تعليل أفعاله وأحكامه بالحكم ففيه قولان لأهل السنة، والغالب على العلماء عند الكلام في الفقه التعليل. وأما في الأصول فمنهم من يصرح بالتعليل. وأما الغرض فالمعتزلة تصرح به وهم من القائلين بإمامة الشيخين. وأما الفقهاء ونحوهم فهذا اللفظ يشعر عندهم بنوع من النقص فلا يطلقونه، فإن كثيرا من الناس إذا قيل لهم فلان له غرض أو فعل لغرض أرادوا أنه يفعل بهوى أو مراد مذموم والله منزه عن ذلك. وأما قولك يفعل الظلم والعبث فما قال بها مسلم تعالى الله عن ذلك. بل يقولون خلق أفعال عباده إذ قال: {هو خالق كل شيء} التي هي ظلم من فاعلها لا هي ظلم من خالقها، كما أنه إذا خلق عبادتهم وحجهم وصومهم لم يكن هو حاجا ولا صائما ولا عابدا وكذا إذا خلق جوعهم لم يسم جائعا، فالله تعالى إذا خلق في محل صفة أو فعلا لم يتصف هو بتلك الصفة ولا بذلك الفعل؛ ولو كان كذلك لاتصف بكل ما خلقه من الأعراض.

وهنا زلّت المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا ليس لله كلام إلا ما خلقه في غيره وليس له فعل إلا ما كان منفصلا عنه، فلا يقوم به عندهم لا قول ولا فعل، بل جعلوا كلامه الذي كلم به ملائكته ورسله وأنزله على أنبيائه هو ما خلقه في غيره. فقيل لهم: الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، فإذا خلق حركة في محل كان هو المتحرك لا خالق الحركة، وكذلك إذا خلق لونا أو ريحا أو علما أو قدرة في محل كان هو المتلون والمتروح والقادر والعالم لا خالق ذلك، فكذلك إذا خلق كلاما في محل كان المحل هو المتكلم بذلك الكلام.

واحتجت المعتزلة بالأفعال فقالوا كما أنه عادل محسن بعدل وإحسان يقوم بخلقه فكذلك الكلام. فكان هذا حجة على من سلّم الأفعال لهم كالأشعرية فإنه ليس عندهم فعل يقوم به بل يقول: الخلق هو المخلوق لا غيره، وهو قول طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، لكن الجمهور يقولون: الخلق غير المخلوق، وهو مذهب الحنفية وهذا ذكره عن أهل السنة. ولما قال الأشعري هذا لزمه أن يقول: إن أفعال العباد فعل الله إذ كان فعله عنده مفعوله فجعل أفعال العباد فعلا لله ولم يقل هي فعلهم إلا على المجاز بل يقول هي كسبهم، وفسر الكسب بأنه ما حصل في محل القدرة المحدثة مقرونا بها. وأكثر الناس زيّفوا هذا وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري. وقال جمهور السنة: أفعال العباد فعل لهم حقيقة؛ وهو قول آخر للأشعري.

وقولك: إنهم يقولون إنه لا يفعل الأصلح لعباده بل ما هو الفساد كفعل المعاصي والكفر وأن ذلك مسند إليه تعالى الله عن ذلك؛ قلنا: إن هذا قول بعض السنة كما أنه قول لطائفة من الشيعة. وجمهور أئمة السنة لا يقولون ما ذكرت بل يقولون إنه تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، فهو خالق العباد وحركاتهم وعباداتهم وإراداتهم. والقدرية ينفون عن ملكه خيار ما في ملكه وهو طاعة ملائكته وأنبيائه وأوليائه فيقولون لم يخلقها ولا يقدر أن يستعمل العبد فيها ولا يلهمه إياها ولا يقدر أن يهدي أحدا. وإبراهيم عليه السلام يقول: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} وقال: {رب اجعلني مقيم الصلاة}

وأما كونه لا يفعل ما هو الأصلح لهم فذهبت طائفة ممن أثبتت القدر إلى ذلك وقالوا خلقه وأمره متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وأرسل الرسل للمصلحة العامة وإن كان في ذلك ضرر على بعض الناس ففيه حِكم. وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث والتصوف والكرامية، ويقولون وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر كالذنوب فلا بد في ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقه الله.

وهذا الذي أوردته ليس من كيس شيوخك الرافضة بل هو من المعتزلة ردوا به على الأشعرية الذين بالغوا في مسائل القدر حتى نُسبوا إلى الجبر وأنكروا الطبائع والقوى التي في الحيوان وأن يكون للمخلوقات حكمة وعلة. ولهذا قيل إنهم أنكروا أن يكون الله يفعل ما يفعل لجلب منفعة لعباده أو دفع مضرة. وهم لا يقولون إنه لا يفعل مصلحة بل يقولون إن ذلك ليس بواجب عليه، ويقولون إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بل لمحض الإرادة.

وقولك: "إنهم يقولون إن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا بل قد يعذب النبي ويرحم إبليس"؛ فهو فرية على أهل السنة، وما فيهم من يقول إنه يعذب نبيا ولا أنه يثيب إبليس، بل قالوا يجوز أن يعفو عن المذنب وأن يخرج أهل الكبائر من النار فلا يخلد فيها من أهل التوحيد أحدا. وأما الاستحقاق فهم يقولون إن العبد لا يستحق بنفسه على الله شيئا، ويقولون إنه لا بد أن يثيب المطيعين كما وعد فإن الله لا يخلف وعده. وأما إيجاب ذلك على نفسه وإمكان معرفة ذلك بالعقل فهذا فيه نزاع. لكن لو قُدر أنه عذب من يشاء لم يكن لأحد منعه كما قال تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} وهو تعالى لو ناقش من ناقشه من خلقه لعذبه كما قال : «من نوقش الحساب عُذب». وقال: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته». والتحقيق أنه إذا قُدر أن الله عذب أحدا فلا يعذبه إلا بحق لأنه يتعالى عن الظلم.

وقولك: "إنهم يقولون إن الأنبياء غير معصومين"؛ فباطل، بل اتفقوا على عصمتهم فيما يبلغونه وهو مقصود الرسالة. وقد يقع منهم الذنب ولا يقرون عليه، ولا يقرون على خطأ ولا فسق أصلا، فهم منزهون عن كل ما يقدح في نبوتهم. وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها. وقد كان داود بعد التوبة أفضل منه قبلها. وإن العبد ليفعل السيئة فيدخل بها الجنة. ولكن الرافضة أشبهت النصارى فإن الله أمر بطاعة الرسل فيما أمروا وتصديقهم فيما أخبروا ونهى الخلق عن الغلو والإشراك، فبدلت النصارى وغلوا في المسيح حتى أشركوا به وبدلوا دينه فعصوه فصاروا عصاة بمعصيته وخارجين عن الدين بالغوا فيه. والرافضة غلت في الرسل والأئمة حتى اتخذوهم أربابا وكذبوا النص فيما أخبروا به من توبة الأنبياء واستغفارهم؛ فتراهم يعطلون المساجد من الجمعة والجماعة ويعظمون المشاهد المتخذة على القبور فيعكفون عليها ويحجون إليها، حتى منهم من يجعل الحج إليها أعظم من حج البيت. وقد قال : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يُحذِّر ما فعلوا. وقال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» رواه ابن حبان في صحيحه. وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه مالك في الموطأ. وقد صنف شيخكم المفيد كتابا سماه حج المشاهد جعل قبور المخلوقين تحج كما يحج البيت.

وقولك: إن أهل السنة يقولون إن النبي لم ينص على إمامة أحد وإنه مات عن غير وصية؛ فهذا ليس قول جميعهم بل ذهب من أهل السنة جماعة أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص، وذكر في ذلك أبو يعلى روايتين عن أحمد إحداهما أنها ثبتت بالاختيار، والثانية أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة. وبه قال الحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وبعض الخوارج. قال ابن حامد: الدليل على إثبات خلافة الصديق بالنص ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة إلى النبي فأمرها أن ترجع إليه فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر». وذكر أحاديث وقال: وذلك نص على إمامته. قال: وحديث حذيفة: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر». وروى علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله يوما: «أيكم رأى رؤيا؟» فقلت: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان. فقال النبي : «خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء» رواه أحمد في مسنده. قال: وأخرج أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله : «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر» قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله قلنا: أما الصالح فرسول الله وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه. قال: ومن ذلك حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على رسول الله اليوم الذي بدأ به وجعه فقال: «ادعي لي أباك واخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا» ثم قال: «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» وهذا في الصحيحين. وعن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل برسول الله قال: «ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه» ثم قال: «معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر». ثم أورد أحاديث تقديمه في الصلاة وأحاديث أخرى لا تصح.

قال ابن حزم: اختلفوا في الإمامة. فقالت طائفة إن النبي لم يستخلف. وقالت طائفة لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة. وقال بعضهم لا ولكن كان أثبتهم فضلا فقدموه. وقالت طائفة بل نص الرسول على استخلاف أبي بكر بعده نصا جليا؛ وبه نقول لبراهين أحدها إطباق الناس كلهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أولئك هم الصادقون} فقد اتفق المشهود لهم بالصدق على تسميته خليفة رسول الله ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي استخلفه المرء لا الذي يخلفه بدون استخلاف لا يجوز غير هذا البتة في اللغة، يقال: استخلف فلان فلانا فهو خليفته ومستخلفه. فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف. ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لأن أبا بكر لم يستحق هذا الاسم على الإطلاق في حياة النبي فتبين أنها غير خلافة الصلاة. الثاني أن كل من استخلفه الرسول كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على اليمن أو البحرين وغير ذلك لم يستحق أحد منهم هذا الإطلاق، فصح يقينا أنها الخلافة بعده على الأمة ومن المحال أن يجمعوا على ذلك وهو لم يستخلفه نصا. وأيضا فإن الرواية صحت أن امرأة قالت: يا رسول الله إن رجعت فلم أجدك كأنها تعني الموت، قال: فأتي أبا بكر. قال ابن حزم: وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر. وثبت أن رسول الله قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه: «لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمنٍ ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر». فهذا نص على استخلاف أبي بكر على الأمة بعده. قلت: بل هو نص على عدم استخلافه إياه وإنما يدل على أنه رضي بأن يكون الخليفة من بعده وعلم أن الأمة تجتمع عليه من بعده فسكت عن النص الجلي واكتفى بما يَجمع الله عليه أمته. قال: وحجة من قال لم يستخلفه قول عمر إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -يعني رسول الله - وبما روي عن عائشة رضي الله عنها إذا سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف قالت: أبو بكر. قال ابن حزم: لا يعارض قول عمر وعائشة إجماع الصحابة والحديثين المسندين، وقد خفي على عمر وعائشة ذلك وأرادا استخلافا بعهد مكتوب.

إلى أن قال شيخنا ابن تيمية: ولا حجة للشيعة في القول بالنص. فالرواندية تقول بالنص على العباس كما قالت الإمامية بالنص على علي رضي الله عنه. قال القاضي أبو يعلى: ذهب جماعة من الرواندية إلى أن النبي نص على العباس بعينه وأعلن ذلك وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت وعاندت، ومنهم من قال بالنص على العباس وولده إلى أن تقوم الساعة. وروى ابن بطة بإسناده عن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يحلف بالله أن رسول الله استخلف أبا بكر. وعمدة القائلين بالنص الجلي على أبي بكر تسمية الصحابة له خليفة رسول الله ، قالوا: إنما يقال ذلك لمن استخلفه غيره. واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول وليس كذلك، بل يقال لمن استخلفه غيره خليفة فلان ولمن خلف غيره أيضا. قال رسول الله : «من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا». هذا صحيح، وصح قوله : «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل». وقال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} وقال: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} وقال: {إني جاعل في الأرض خليفة} وقال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي خليفة عمن قبلك لا أنه خليفة عن الله كما يقوله بعض الاتحادية وأنه من الله كإنسان العين من العين وأنه الجامع لأسماء الله الحسنى وذكروا قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} وأنه مثل الله - تعالى الله عن المثلية فإن الله لا يخلفه غيره، فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه وهو سبحانه يخلف عبده إذا غاب عن أهله. ويروى أن أبا بكر قيل له: يا خليفة الله، قال: بل أنا خليفة رسول الله وحسبي ذلك.

ومما احتج به من قال إن خلافة أبي بكر بنص خفي قول النبي الثابت عنه: «رأيت كأني على قليب أنزع منها فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى صدر الناس بعطن» وقوله : «مروا أبا بكر يصلي بالناس». فصلى بالناس مدة مرضه حتى أنه كشف ستر الباب يوم مات وهم يصلون خلف أبي بكر فسُرّ بذلك. وقال : «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر». وفي سنن أبي داود من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي قال ذات يوم: «من رأى منكم؟» رؤيا فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، الحديث ورواه أيضا من حديث حماد بن سلمة عن ابن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه نحوه وفيه فقال: «خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء». ورواه أبو داود من حديث الزهري عن عمرو بن أبان عن جابر أنه كان يحدث أن رسول الله قال: «أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط -يعني علق- برسول الله ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر» قال فلما قمنا من عند رسول الله قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه. وأخرج من حديث حماد بن سلعة عن الأشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها حتى تضلع ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت فانتضح عليه منه شيء. وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله : «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء أو الملك» قلت لسفينة: إن هؤلاء -يعني بني مروان- يزعمون أن عليا لم يكن بخليفة. فقال: كذبت أستاهُ بني الزرقاء.

فلا ريب أن قول هؤلاء من أهل السنة أوجه من قول من يقول إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص، فإن هؤلاء ليس معهم حجة إلا مجرد الكذب المعلوم بالضرورة أنه باطل -علم ذلك من عرف أحوال الإسلام وأيام الرسول - أو معهم استدلال بألفاظ لا تدل كحديث استنابة علي على المدينة نوبة تبوك.

والتحقيق أن النبي لم يستخلف وإنما دل المسلمين وأرشدهم إلى أبي بكر بعدة أمور ورضي به وعزم أن يكتب له بالخلافة عهدا ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه. فلو كان اليقين مما يشتبه على الأمة لبيّنه بيانا قاطعا للعذر كما قال: يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر. على أن اتفاق الأمة مع رضا رسول الله أبلغ من العهد.

وأما قولك: "يقولون إن الإمام بعده أبو بكر بمبايعة عمر برضى أربعة"؛ قلنا: بل بمبايعة الكل ورضاهم على رغم أنفك. ولا يرد علينا شذوذ سعد وحده. فهذه بيعة علي امتنع منها خلق من الصحابة والتابعين ممن لا يحصيهم إلا الله تعالى، أفذلك قادح في إمامته؟ ومذهب أهل السنة أن الإمامة تنعقد عندهم بموافقة أهل الشوكة الذين يحصل بهم مقصود الإمامة وهو القدرة والتمكين. ولهذا يقولون من صار له قدرة وسلطان يفعل به مقصود الولاية فهو من أولى الأمر المأمور بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله. فالإمامة ملك وسلطان برة كانت أو فاجرة، والملك لا يصير ملكا بموافقة ثلاثة ولا أربعة. ولهذا لما بويع علي وصار معه شوكة صار إماما. قال أحمد بن حنبل في رسالة عبدوس العطار: ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا. وقال أحمد وقد سئل عن قول النبي : من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية، تدري ما الإمام هو الذي يجمع عليه المسلمون كلهم. فالصديق مستحق الإمامة لإجماعهم عليه وإمامته مما رضي الله بها ورسوله ثم أنه صار إماما بمبايعة أهل القدرة. وكذلك عمر صار إماما لما بايعوه وأطاعوه. ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر في عمر لم يصر إماما سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز. فالحل والحرمة متعلق بالأفعال وأما نفس الولاية والسلطنة فعبارة عن القدرة الحاصلة. فقد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين وقد تحصل على غير ذلك كسلطان الظالمين. ولو قدر أن أبا بكر بايعه عمر وطائفة وامتنع سائر الصحابة من بيعته لم يصر إماما بذلك وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الناس. ولهذا لم يضر تخلف سعد لأنه لم يقدح في مقصود الولاية. وأما كون عمر بادر إلى بيعته فلا بد في كل بيعة من سابق ولو قدر أن آحاد الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك فيها إذ الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية. وأما عهده إلى عمر فتم بمبايعة المسلمين له بعد موت أبي بكر فصار إماما.

وقولك: "ثم عثمان فاختاره بعضهم"؛ قلنا: بل اجتمعوا على بيعته وما تخلف عنها أحد. قال أحمد بن حنبل في رواية حمدان بن علي: ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم. وصدق أحمد فلو قُدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي وطلحة والزبير وأهل الشوكة لم يصر إماما. وقد جعل عمر الأمر شورى بين ستة ثم إنه خرج منهم ثلاثة باختيارهم طلحة والزبير وسعد، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، فاتفق هؤلاء باختيار منهم على أن عبد الرحمن لا يتولى ويولي أحد الرجلين، فأقام عبد الرحمن ثلاثا يحلف إنه لم يغتمض فيها بنوم يشاور السابقين الأولين والأنصار فيشيرون عليه بعثمان ثم بايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها.

وقولك: "ثم علي بمايعة الخلق له" فتخصيص بلا مخصص، فكذلك جرى للثلاثة قبله وأعظم وأبلغ. فإن عليا بويع عقيب قتل عثمان والقلوب مضطربة مختلفة، وأحضر طلحة إحضارا حتى قيل إنهم جاءوا به مكرها واضطهدوه للبيعة. وأهل الفتنة لهم بالمدينة شوكة ومنعة وكثير من الصحابة لم يبايع كابن عمر وغيره، فكيف تقول في علي بمبايعة الخلق له ولا تقول مثل ذلك فيمن قبله؟ ثم إن عليا اضطرب عليه الذين بايعوه ونابذه طائفة منهم وامتنع أهل الشام وغيرها من بيعته حتى ينصف من قتلة عثمان حتى قالت طائفة بصحة إمامة علي ومعاوية معا. وقالت طائفة لم يكن للناس إذ ذاك إمام عام بل كان زمان فتنة، وهو قول طائفة من أهل الحديث البصريين. وقالت طائفة ثالثة بل علي هو الإمام وهو مصيب في قتال من قاتله كطلحة والزبير [وهم] مصيبون بناء على أن كل مجتهد مصيب كقول أبي الهذيل والجبائي وابنه وابن الباقلاني وأحد قولي الأشعري، وهؤلاء يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا أيضا. وطائفة رابعة تجعل عليا إماما وأنه المصيب وأن من قاتله مجتهد مخطئ، وهذا قول خلق من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية. وطائفة خامسة تقول علي الخليفة وهو أقرب إلى الحق من معاوية وكان ترك القتال منهما أولى لقول النبي : ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم. ولقوله في الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين». فأثنى عليه بالإصلاح فلو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه. قالوا: وقتال أهل البغي لم يأمر الله به ابتداء ولم يأمر بقتال كل باغ؛ قال تعالى: {وإن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا} فأمر أولا بالإصلاح فإن بغت إحداهما قوتلت حتى ترجع إلى أمر الله، ولهذا لم يصح للطائفتين بالقتال مصلحة؛ وما أمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة على المفسدة. ولهذا قال ابن سيرين: قال حذيفة: ما أحد تدركه الفتنة إلا وأنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تضره الفتنة». وقال شعبة عن أشعث بن سليم عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلت على حذيفة فقال: إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة شيئا. فخرجنا فإذا قال فسطاط مضروب فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت. فابن مسلمة اعتزل القتال جملة فما ضرته الفتنة كما أخبر النبي . ولذلك اعتزل الفريقين سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر وأبو بكرة وعمران بن حصين وأكثر من بقي من السابقين. وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب. وهذا قول جمهور أهل السنة والحديث ومالك وسفيان الثوري وأحمد وغيرهم. ووراء هذه المقالات مقالة الخوارج التي تكفر عثمان وعليا وذويهما؛ ومقال الروافض التي تكفر جمهور السابقين الأولين أو تفسقهم ويكفرون كل من قاتل عليا؛ ومقالة النواصب والأموية التي تفسق عليا وذويه ويقولون هو ظالم معتد؛ وطائفة من المعتزلة تفسق إحدى الطائفتين من أهل وقعة الجمل لا بعينها. فكيف تكون مبايعة الخلق له أعظم من مبايعتهم لمن قبله؟

ثم أنت تزعم أن إمامته منعقدة بالنص والآن تقول انعقدت بمبايعة الخلق له!

وقولك: "ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الإمام بعده الحسن وبعضهم قال معاوية" فيقال أهل السنة لم يتنازعوا في هذا بل يعلمون أن الحسن بايعه أهل العراق مكان أبيه ثم إن الحسن سلمها طوعا إلى معاوية.

وقولك: "ثم ساقوا الإمامة في بني أمية" فيقال ما قال أهل السنة إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون تولى هؤلاء وكان لهم سلطان وقدرة فانتظم لهم الأمر وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج والجمع والأعياد وأمن السبل. ولكن لا طاعة لهم في معصية الله بل يعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان. ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة وأن الإمام الظلوم خير من عدمه. ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قيل: البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ قال: تأمن بها السبل وتقام بها الحدود ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء. ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية. فكل من تولى كان أنفع من معدومكم المنتظر الذي انطوت معه السنون والأعمار وأنتم في الأماني الكاذبة والانتظار. وآباؤه سوى علي فما كان لهم سلطان ولا تمكين ولا منعة بل كانوا عاجزين عن الإمامة لا لهم حل ولا عقد رضي الله عنهم ولا حصل بهم مقصود الإمامة. وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من خرج عن السلطان شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية». ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي : «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس مني». وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي : «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». وقال : «لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف». وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: «على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».


المنتقى من منهاج الاعتدال
المقدمة | الفصل الأول: في نقل المذاهب في الإمامة | الفصل الثاني: في المذهب الواجب الاتباع | الفصل الثالث: في إمامة علي | الفصل الرابع: في إمامة باقي الاثني عشر | الفصل الخامس: في الرد على إبطاله خلافة أبي بكر وعمر وعثمان | الفصل السادس: في الحجج على إمامة أبي بكر | فهرس