العقد الفريد/الجزء الثاني/30
قال: أبا محمد هل تَنْعت الخِراءة قال: نعم تُبعد المَشي في الأرض الصَّحْصح حتى تتَوارى من القَوم ولا تَسْتقبل القِبْلة ولا تَستدبرها ولا تَسْتنج بِالقُمامة والرِّمّة - يريد الرّوْث والعَظْم - ولا تَبُلْ في الماء الرّاكد. بينما مُعاوية بن أبي سُفيان جالسٌ في أصحابه إذ قيل له: الحسنُ بالباب فقال معاوية: إنْ دخل أَفْسد علينا ما نحن فيه فقال له مروان بن الحَكَم: ائذن لي فإني أسأله ما ليس عنده فيه جَواب قال مُعاوية: لا تَفعل فإنهم قَوْم قد. ألْهِموا الكلامَ وأذن له. فلما دَخل وجَلس قال له مَرْوان: أَسرْع الشيبُ إلى شاربك يا حسن ويُقال إن ذلك من الخُرْق فقال الحسن: ليس كما بلغك ولكنَّا - معشر بني هاشمٍ - أفواهُنا عَذْبةٌ شِفَاهُها فنساؤنا يُقْبِلن علينا بأنفاسهنّ وقًبَلِهِن وأنتم معشرَ بني أمية فيكم بَخَر شديد فنساؤكم يَصرفن أفواههنّ وأنفاسهن عنكم إلى أصْداغكم فإنما يَشِيب منكم موضعُ العِذَار من أجل ذلك. قال مَروان: إن فيكم يا بني هاشم خَصْلَةَ سَوء قال: وما هي قال: الغُلْمة قال: أجل نُزعت الغُلْمة مِن نسائنا ووُضعت في رجالنا ونُزِعت الغُلْمة من رجالكم ووُضعت في نِسَائكم فما قام لأموية إلاّ هاشميّ. فَغضِب مُعاوية وقال: قد كنتُ أَخبرتكم فأبيتم حتى سَمِعتم ما أَظلم عليكم بَيْتَكم وأفسد عليكم مَجْلِسكم. فَخَرج الحسنُ وهو يقول: ومارستُ هذا الدَهرَ خمسين حِجَّةً وحَمْساً أزَجِّي قائلا بعد قائل فلا أنا في الدُّنيا بلغتُ جَسِيمها ولا في الذي أهْوَى كدحتُ بطائل وقد شَرَعت دوني المَنايا أكُفَّها وأيقنتُ أنّي رَهْنَ مَوْتٍ مُعاجل قال الحسن بن عليّ لحبيب بن مَسْلمة الفِهْري: ربّ مَسير لك في غَير طاعة الله قال: أمّا مَسيري إلى أبيك فلا قال: بلى ولكنّك أطعتَ مُعاوية عن دُنيا قليلة فلئن كان قام بك في دُنياك لقد قَعد بك في آخرًتك ولو كنتَ إذ فعلتَ شرّاً قُلتَ خيراً كنتَ كما قال الله عزّ وجل: خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخرً سَيِّئاً ولكنّك كما قال الله: " بَلْ رانَ على قلُوبهم ما كانوا يَكْسِبُون ". قَدِم عبدُ الله بن جعفر على عبد الملك بن مَروان فقال له يحيى بنُ الحَكَم: ما فعلت خَبِيثة فقال: سُبحان الله! ُ يسمِّيها رسولُ الله ﷺ طَيْبة وتُسمِّيها خُبيثة! لقد اختلفتما في الدُّنيا وستَخْتلفان في الآخرًة قال يحيى: لأن أموت بالشام أحبُّ إليّ مِن أن أموت بها قال: اخترت جِوار النَصارَى على جِوِار رسول الله ﷺ قال يحيى: ما تَقول في عليّ وعُثمان قال: أقول ما قاله مَن هو خيْرٌ منّي فيمن هو شَرٌّ منهما: إنّ تُعذَبهم فإنّهم عِبادُك وإنْ تَغْفِرْ لهم فإِنّك أنْتَ العزيزُ الحَكِيم. مجاوبة بين معاوية وأصحابه قال مُعاوية يوماً وعنده الضَّحاك بن قَيس وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص: ما أعجبُ الأشياء قال الضحّاك بن قَيس: إكْداء العاقل وإجْداء الجاهل. وقالت سعيدُ بن العاص: أعجبُ الأشياء ما لم يُرَ مثلهُ. وقالت عمرو بن العاص: أعجب الأشياء غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقِّ على حقِّه. فقال معاوية: أعجب مِن هذا أن تعْطِي مَن لاحقَّ له ما ليس له بحق من غير غَلبة. حضر قوم من قُريش مجلسَ مُعاويةَ فيهم عمرو بن العاص وعبدُ الله بن صفْوان ابن أمية وعبدُ الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال عمرو: أحمد الله يا مَعْشرَ قُريش إذ جعل أمرَكم إلى من يُغْضي على القَذَى ويتصامُ عن العَوْراء ويجرّ ذيلَه على الخَدائع. قال عبدُ الله: لو لم يكن كذلك لَمَشينا إليه الضَرَاء ودَببنا إليه الخَمر وَرَجونا أن يقوم بأمرنا من لا يُطْعمك مالَ مصر. قال معاوية: يا معشرِ قريش حتى متى لا تُنْصفون من أنفسكم قال عبدُ الرحمن بن الحارث: إن عمراَ أفسدك علينا وأَفسدنا عليك ولو أغضبتك هذه. قال: إن عمراً لي ناصح قال عبدُ الرحمن: فأطْعمنا مثلَ ما أطعمته وخُذْنا بمثل نَصِيحته إنا رأيناك يا مُعاوية تَضْرب عوامَّ قُريش بأياديك في خَواصها كأنّك ترى أن بكرامها قُوّتك دون لئامها وإنك واللهّ لتُفْرغ في إناء فَعْم من إناء ضخم وكأَنك بالحرب قد حَلَّ عِقالَها عليك مَن لا ينْظُرك قال مُعاوية: يا بن أخي ما أحوج أهلَك إليك فلا تَفْجعهم بنفسك ثم أنشد: أغَرّ رجالاً من قُريش تَتايَعوا على سَفه منّي الحَيا والتَّكرُّمُ وقال مُعاوية لابن الزًّبير: تُنازعني هذا الأمرَ كأَنك أحقُّ به منّي! قال: لمَ لا أكون أحقَّ به منك يا مُعاوية وقد اتبع أبي رسول اللهّ ﷺ على الإيمان واتبع الَناسً أباك على الكُفر قال له مُعاوية: غَلِطت يا بن الزُّبير بعث الله ابنَ عمّي نبيّا فدعا أباك فأجابه فما أنت إلا تابع لي ضالًّا كنتُ أو مَهديًّا. العُتبيّ قال: دعا مُعاويةُ مَروان بن الحكم فقال له: أشِر عليّ في الحُسين قال: تخرجه معك إلى الشام فَتَقطعه عن أهل العراق وتَقْطعهم عنه قال: أردتَ واللهّ أن تستريح منه وتَبْتليني به فإن صبرتُ عليه صبرتُ على ما أكره وإن أسأتُ إليه كُنتُ قد قطعتُ رحمه. فأقامه وبعث إلى سعيد ابن العاص فقال له: يا أبا عثمان أَشِرْ عليّ في الحُسين قال: إنك واللهّ ما تخاف الحسين إلا على مَن بعدك وإنك لتُخلِّف له قِرْنا إنْ صارعه لَيَصْرعنّه هانْ سابقه لَيَسبقنّه فَذَرِ الحُسين منبتَ النّخلة يشربْ من الماء ويَصْعد في الهواء ولا يَبْلغ إلى السماء قال: فما غَيّبك عنّي يوم صِفّين قال: تَحملتُ الحُرم وكُفيتَ الحَزْم وكنتُ قريباً لو دعوتَنا لأجبناك ولو أمرت لأطعناك قال معاوية: يأهل الشام هؤلاء قومي وهذا مجاوبة بين بني أمية قال: لما أخرج أهلُ المدينة عمرو بن سعيد الأشدق وكان واليهم بعد الوليد بن عُتبة هو الذي أمر أهل المدينة بإخراجي فأرْسِلْ إليه وتوثَّقه. فأرْسل إليه مُعاوية فلما دَخل عليه قال له عمرو: أوليد أنت أمرتَ بإخراجي قال: لا ورَحِمك أبا أمية ولا أمرتُ أهلَ الكوفة بإخراج أبيك بل كيف أطاعني أهلُ المدينة فيك إلا أن تكون عَصيتَ اللهّ فيهم إنك لتَحُلَّ عُرَى مُلك شَديدةً عُقْدتها وتُمْري أخلاف فِيقة سريعة دِرّتها وما جَعل اللهّ صالحاً مُصْلِحا كفاسد مًفْسِد. جلس يوماً عبدُ الملك بن مَروان وعند رأسه خالدُ بن عبد الله بن خالد بن أسيد وعند رجليه أُمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأدخلت عليه الأموالُ التي جاءت من قبل الحجّاج حتى وًضعت بين يديه فقال: هذا واللهّ التَّوفير وهذه الأمانة! لا ما فعل هذا وأشار إلى خالد استعملتُه على العراق فاستعمل كلّ مُلِطّ فاسق فأدّوا إليه العَشرة واحداً وأدّى إليَّ من العَشرة واحداً وأدى إلي من العشرة واحداً واستعملتُ هذا على خُراسان وأشار إلى أمية فأهدى إلى بِرْذونين حَطِمَينْ فإن استعملتكم ضَيّعتم وإن عزلتُكم قلتم استخفَّ بنا وقَطع أرْحامنا. فقال خالدُ بن عبد الله: استَعْملتَني على العرِاق وأهله رجلاًن: سماع مُطيع مُناصح وعدوّ مُبْغض مُكاشح فإنّا دَارَيْناه ضغْنه وسَللنا حِقْده وكَثّرنا لك المَودّة في صُدور رَعيتك وإنّ هذا جَنى الأموالَ وزَرع لك البَغْضاءَ في قُلوب الرِّجال فيُوشك أنْ تَنْبُت البغضاء فلا أموالَ ولا رجالَ. فلما خَرج ابنُ الأشعث قال عبدُ الملك: هذا والله ما قال خالد. قدم محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص الشامَ فأتى عَمَّته آمنة بنت سَعيد بن العاص وكانتْ عند خالد بن يزيدَ بن مُعاوية فدَخل عليه خالد فراه فقال له: ما يَقْدَم علينا أحدٌ من أهل الحجاز إلا اختار المُقام عندنا على المدينة. فَظَن محمدٌ أنه يُعرِّض به فقال: وما يمنعهم وقد قَدِم من المدينة قومٌ على النَّواضح فَنَكحوا أمَّك وسَلَبوك مُلْكك وفَرَّغوك لطَلب الحديث وقِرَاءة الكتب ومُعالجة ما لا تَقْدر عليه يعني الكيميا وكان يَعْملها. لما عَزَل عُثمانُ عمرو بنَ العاص عن مِصْر وولاّها عبدَ اللهّ بن سَرْح دخل عليه عمرو وعليه جُبة فقال له: ما حَشْوُ جُبَّتك يا عمرو قال: أنا قال: قد علمتُ أنك فيها ثم قال: أشَعرت يا عمرو أن اللِّقاح درَت بعدك ألبانُها بمصر قال: لأنكم أعْجفتم أوْلادها. وقع بين ابن لعُمَر بن عبد العزيز وابن لسُليمان بن عبد الملك كلام فَجَعل ابنُ عمر يذكر فضلِ أبيه قال له ابنُ سليمان: إنْ شئت فأقْلِل وإنْ شِئْت فأكْثِر ما كان أبوك إلا حسنةَ من حسنات أبي. لأنّ سُليمان هو وَلَّى عُمَر بن عبد العزيز. ذَكَرُوا أنّ العبّاس بن الوليد وجماعةً من بني مَرْوان كانوا عند هِشام فذكروا الوليدَ بن يزيد فَحمَّقوه وعابُوه وكان هِشام يُبغضه ودخِل الوليدُ فقال له العبّاس بن الوليد: كيف حُبُّك للرُّوميات فإِن أباك كان مَشْغوفاَ بهن قال: إني لأحبهن وكيف لا يُحْبَبن وهُن يَلِدْن مِثْلَك قال: اسكُت فلستَ بالفَحل يَأتي عَسْبُه بمثْلي قال له هِشام: يا وليد ما شرابك قال: شرابك يا أميرَ المؤمنين وقام فَخَرج. فقال هشام: هذا الذي تَزْعمون أنَه أحمق. وقُرِّب إلى الوليد بن يزيد فَرسُه فَجَمع جَرَامِيزه وَوَثَب على سَرْجِه ثم التفت إلى ولدٍ لهشام بن عبد الملك فقال: يُحْسِنُ أبوك أن يَصنع مثلَ هذا قال: لأبي مائةُ عبد يَصْنعون مثلَ هذا فقال الناسُ: لم يُنْصِفه في الجواب. خَطَب عبد الملك بن مَرَوان بنتَ عبد الرحمن بن الحارث بن هِشام فقالت: والله لا تُزَوَجني أبا الذُّباب. فتزوّجها يحيى بن الحكم. فقال عبدُ الملك ليحيى: أما واللهّ لقد تَزَوَّجْت أسْود أفوه قال يحيى: أما إنَّها أبَّت منّي ما كرهتْ منك. كان عبدُ الملك رديءَ الفَم يَدْمى فَيقع عليه الذُباب فسُمّي أبا الذُباب. الجواب القاطع نَظَر ثابتُ بن عبد الله بن الزبير إلى أهْل الشام فقال: إنّي لأبغِض هذه الوُجوه قال له سَعِيد بنُ عثمان: تُبغضهم لأنّهم قَتلوا أباك قال: صدقتَ ولكنّ الأنصار والمهاجرين قَتلوا أباك. وقال الحجّاج لرجل من الخوارج: واللهّ إنك مِن قومٍ أبغِضهم قال له: أدخل الله أشَدّنا بُغْضاً لصاحبه الجنَة. وقال ابنُ الباهليّ لعمرو بن مَعْد يكرب: إنّ مُهْرَكَ لمُقْرِف قال: هَجين عَرَفَ هَجيناً مثلَه. وقال الحجّاج لامرأة من الخوارج: والله لأعُدَّنَّكم عدًّا ولاحْصُدَنّكم حَصْداً قالت له: الله يَزْرع وأنت تَحْصُد فأين قُدْرة المَخْلوق من الخالق وأنيَ الحجّاج بامرأة من الخَوارج فقال لأصحابه: ما تَقُولون فيها قالوا: عاجِلْها القَتْلَ أيَها الأمير قالت الخارجية: لقد كان وزراءُ صاحبِك خَيْرًا من وُزرائكَ يا حجّاج قال لها: ومَن صاحبي قالت: فِرْعون استشارهم في موسى فقالوا: أرجِه وأخاه. وأُتي زِيَاد برجل من الخوارج فقال له: ما تقول فيَّ وفي أمير المؤمنين قال: أمّا الذيَ تُسَمِّيه أميرَ المؤمنين فهو أميرُ المشركين وأما أنت فما أقول في رَجُل أوَّله لِزنْية وآخره لِدَعْوة فأمَر به فقًتِل وصُلِب. قال الأشعث بن قَيْس لشرُيح القاضي: لَشَدَّ ما ارْتَفَعْت! قال: فهل رأيتَ ذلك ضرًك قال: لا قال: فأراكَ تَعْرِف نِعمة الله عليك وتَجْهلها على غيرك. نازع محمدُ بن الفَضْل بعضَ قَرابته فٍي مِيراث فقال له: يا بن الزِّنْدِيق قال له: إن كان أبي كما تقوله وأنا مثلًه فلا يَحِلّ لك أن تُنازعني في هذا الميراث إِذ كان لا يرث دِينٌ دِيناً. وأتيَ الحجّاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلِّمها وهي لا تَنْظُر إليه فقيل لها: الأميرُ يِكلَمكِ وأنت لا تَنْظُرين إليه! قالت: إني لأسْتَحي أن أنظر إلى من لا ينظُر الله إليه. فأمر بها فقُتِلت. لَقي عثمانُ بن عفان علي بن أبي طالب فَعَاتبه في شيء بلغه عنه فسكت عنه عليّ فقال له عثمان: ما لك لا تقول قال له علي: ليس لك عندي إلا ما تحب وليس جوابُك إلا ما تَكره. وتكلم الناسُ عند مُعاوية في يزيد ابنه إذ أخذ له البيعة وسَكت الأحنفً فقال له: ما لك لا تقول أبا بَحْر قال: أخافُك إن صدقتُ وأخافُ اللهّ إن كذبتُ. قال مُعاوية يوماً: أيها الناس إن الله فَضّل قُريشاً بثلاث فقال لنبيه عليه الصلاةُ والسلام: وانْذِرْ عَشِيرتَك الأقربين فنحن عشيرته وقال: وإنّه لِذِكْرٌ لَك ولِقَوْمك فنحن قومُه وقال: لإيلافِ قُرَيشٍ إيلافهم إلى قوله الذي أطْعَمهم من جُوع أمنهم مِن خَوف ونحن قُريش. فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رِسْلك يا مُعاوية فإن الله يقول: " وكَذّب به قَوْمُك " وأنتم قومُه وقال: " ولما ضُرِب ابنُ مَرْيم مَثَلاً إذا قَوْمًك منه يَصِدُون " وأنتم قومُه وقال الرسولُ عليه الصلاةُ والسلام: يا رَبِّ إنّ قوْمي اتّخذُوا وقال مًعاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهلَ قَومك حين مَلّكوا عليهم امرأة! فقال: أجْهلُ من قَومي قومُك الذين قالوا حين دعاهم رسولُ الله ﷺ اللهَم إنْ كان هَذا هُو الحقّ مِن عِندك فأمْطِر عَلينا حِجَارةً مِن السَّماء أوْ ائتنا بِعَذَاب اليم ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه. مجاوبة الأمراء والرد عليهم قال مُعاوية لجارية بن قُدَامة: ما كان أهْونَك على أهْلِك إذ سَمَّوْك جارية! قال: ما كان أهونَك على أهلك إذ سَمِّوْك مُعاوية! وهي الأنثى من الكلاب قال: لا أمَّ لك! قال: أمِّي وَلَدتْنِي للضيوف التي لَقِيناكَ بها في أيْدِينا قال: إنك لتُهَدِّدني قال: إنك لم تَفْتَتِحْنا قَسْراً ولمِ تَمْلِكنا عَنْوةً ولكنَّك أعْطَيتنا عَهْدًا وَمِيثاقاً وأعطيناك سَمْعاً وطاعةً فإن وَفَّيت لنا وفَّينا لك وإن فَزِعْت إلى غير ذلك فإنّا تَركنا وراءَنا رجالاً شِدَادًا وأَلْسِنَةً حِدَادًا قال له مُعاوية: لا كَثّر الله في النَاس أمثالَك قال جارية: قُلْ مَعْرُوفاً ورَاعِنا فإنّ شَرَّ الدًّعاء المُحْتَطب. عَدَد مُعاوية بنُ أبي سُفيان على الأحنف ذُنوباً فقال: يا أميرَ المؤمنين لا تَرُدّ الأمورَ عَلَى أعقابها أمَا والله إنّ القُلوبِ التِي أبغضناك بها لَبَيْن جَوانحنا والسُّيوفَ التيِ قاتلناك بها لعلى عَواتقنا ولئن مَدَدْت فِتْراً من غَدْر لَنُمدَنَ باعاً من خَتْر ولئن شئت لَتَسْتَصْفِينًّ كَدَر قلوبنا بصَفو حِلْمك قال: فإنّي أفعَل. قال مُعاويةُ لعديّ بن حاتم: ما فَعلتْ الطّرَفات يا أبا طَرِيف - يعني أولادَه - قال: قُتلوا قال: ما أنصفك ابنُ أبي طالب إذ قُتل بَنُوك معه وبَقي له بَنُوه قال: لئن كان ذلك لقد قُتل هو وبَقيتُ أنا بعده قال له معاوية: ألم تَزْعم أنه لا يُخْنق في قَتْل عثمان عَنْز قد واللهّ خُنِق فيه التَيس الأكبر. ثم قال معاوية: أمَا إنه قد بقيتْ من دَمه قَطْرة ولا بد أن أتّبعها قال عديّ: لا أبا لك! شِم السيفَ فإنً سَلَّ السيفِ يَسُل السيفِ. فالتفت مُعاوية إلى حَبيب بن مسلمة فقال: اجعلها في كتابك فإنها حِكْمة. الشَيْبانيّ عن أبي الحُبَاب الكِنْدِيّ عن أبيه: أن معاوية بن أبي سُفْيان بينما هو جالس وعنده وُجوه الناس إذ دَخل رجل من أهل الشام فقام خَطيباً فكان آخرَ كلامه أن لَعن عليًّا فأطرق الناسُ وتكلّم الأحنف فقال: يا أميرَ المؤمنين إنّ هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أنّ رِضَاك في لَعْن المُرْسَلين للَعنهم فاتَّقِ الله ودَعْ عنك عليًّا فقد لَقي ربّه وأفْرِد في قَبْره وخلاَ بعمله وكان والله - ما علمنا - المُبَرِّزَ بسَبْقه الطاهرَ خُلقه المَيْمونَ نقيبتُه العظيمَ مُصيبتُه فقال له مُعاويِة: يا أحنف لقد أغضيتَ العينَ عَلَى القَذَى وقلت بغير ما ترى وايم الله لتَصْعدنَ المِنْبر فلَتَلعنَّه طَوْعَا أو كَرْهًا فقال له الأحْنف: يا أميرَ المؤِمنين إن تُعْفِني فهو خيرٌ لك وإنْ تَجْبُرْني على ذلك فواللهّ لا تَجْري به شَفتاي أبداً قال: قُمْ فاصْعَد المِنْبَر قال الأحنف: أمَا واللهّ مع ذلك لأنْصِفَنَك في القَوْل والفِعْل قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصَفتني قال: أصعدُ المِنبَر فاحمد الله بما هو أهلُه وأصلِّى على نبيّه ﷺ ثم أقوله: أيها الناس إنَّ أميرَ المؤمنين مُعاوية أمَرني أنْ ألعن عليًّا هانَّ عليًّا ومُعاوية اختلفا فاقْتَتلا وأدًى كلُّ واحد منهما أنه بّغِي عليه وعَلَى فئتِه فإذا دعوتُ فأمِّنوا رَحمكم اللهّ ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكَتُك وأنبياؤك وجميعُ خلقك الباغيَ منهما عَلَى صاحبه وألعن الفئةَ الباغية اللهم العنهم لعناً كثيراً أمِّنوا رحمكم اللهّ يا مُعاوية لا أزيد على هذا ولا أنْقُص منه حَرْفاً ولو كان فيه ذَهابُ نفسي. فقال معاوية: إذن نُعْفِيك يا أبا بَحْر. وقال مُعاوية لِعَقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قَطعك ووصلتُك ولا يُرْضِيني منك إلا أن تَلْعنه عَلَى المِنْبر قال: أفْعل. فإصْعد فَصَعِد ثم قال بعد أن حَمِد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أميرَ المُؤمنين مُعاوية أمرنيِ أنْ ألْعن علي بن أبي طالب فالعنوه فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين ثم نزل. فقال له مُعاوية: إنك لم تُبين أبا يزيد مَن لعنتَ بيني وبينه قال: والله لا زدتُ حَرفاً ولا نَقَصت آخر والكلام إلى نية المُتكلَم. الهيثم بن عدي قال: قال مُعاوية لأبي الطُّفيل: كيف وَجْدُك على عليّ قال: وَجدُ ثمانين مُثْكِلا قال: فكيف حُبُّك له قال: حًبّ أم موسى وإلى الله أشْكو التَقْصير. وقال له مرة أخرِى: أبا الطفَيل قال: نعم قال: أنت من قَتلة عُثمان قال: لا ولكنّي ممن حَضره ولم يَنْصُره قال وما مَنعك مِن نَصْره قال: لم يَنْصُره المُهاجرن والأنصار فلم أنصُره قال: لقد كان حَقُّه واجباً وكان عليهم أن يَنْصروه قال: فما منعك مِن نُصْرته يا أمير المؤمنين وأنت ابنُ عمّه قال: أو مَا طلبي بدمه نصره له فَضحك أبو الطفيل وقالَ: مَثَلك ومَثَلُ عثمان كما قال الشاعر: لأعرقنّك بعد المَوْتِ تَنْدُبني وفي حَياتي ما زَوَّدْتني زادَا العُتْبي قال: صَعِد معاويةُ المِنْبر فَوَجد مِن نفسه رِقة فقال بعد أن حَمِد الله وأثنى عليه: أيها الناسُ: إنَ عُمَر ولأني أمراً مِن أمره فوالله ما غَشَشْتُه ولا خُنْتُه ثم ولّاني الأمر مَن بعده ولم يجعل بيني وبينه أحداً فأحسنتُ والله وأسأتُ وأصبتُ وأخطأت فمن كان يَجْهلني فإني أعرفه بنفسي. فقام إليه سَلمة بن الخطل العَرجي فقال: أنصفتَ يا مُعاوية وما كُنتَ مُنْصفاً. قال: فَغضب مُعاوية وقال: ما أنتَ وذاك يا أحْدب! والله لكأنّي انظر إلى بيتك بمهيعة وبطُنْب تَيْس وبطُنْب بهْمة. بفنائه أعنِز عَشرْ يُحْتلبن في مثل قَوّارة حافر العِيْر تَهْفو الرحُ منه بجانب كأنه جناح نسْر. قال: رأيت والله ذاك في شَرّ زماننا إلينا والله إن حَشْوه يومئذ لحسب غير دَنِس فهل رأيتني يا معاوية أكلتُ مالاً حراماً أو قتلتُ امرأ مًسلماً قال: وأين كنتُ أراك وأنت لا تَدِبّ إلا في خَمرَ وأي مُسلم يَعْجِز عنك فَتَقْتله أم في مال تَقوى عليه فَتأكله اجلس لا جلستَ قال: بل اذهب حتى لا تَراني قال: إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها فمضى. ثم قال مُعاوية: رُدّوه عليّ فقال الناس: يعاقبه فقال له أستغفر الله منك يا أحدب واللهّ لقد بَرَرْتَ في قَرابتك وأسلمتَ فَحَسُن إِسلامُك وإنّ أباك لسيد قومه ولا أبرح أقول بما تُحب فاقْعُد. الأوزاعيّ قال: دخل خُريم النَّاعم على مُعاوية فَنَظر إلى ساقَيْه فقال: أيّ ساقين لو إنّهما على جارية! قال: في مثل عَجِيزتك يا أميرَ المُؤمنين: قال معاوية: واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم. دخل عَطاء المُضْحك على عبد الملك بن مَرْوان فقال له: أما وجدتْ لك أمُك اسماً إلا عطاء قال: لقد استكثرتً من ذلك ما استكثرتَه يا أميرَ المؤمنين ألا سَمَتني باسم المُباركة صلوات الله عليها مَرْيم. قال مُعاوية لصُحار بن العبّاس العبديَ: يا أزرق قال: البازي أزْرق قال: يا أحمر قال: الذّهب أحمر قال: ما هذه البلاغة فيكم عبدَ القَيس قال: شيء يَخْتلج في صدُورنا فَتَقْذِفه ألسنتُنا كما يقذف البحر الزَبد قال: فما البلاغة عندكم قال: أن نقول فلا نُخْطِىء ونُجيب فلا نُبْطىء. وقال عبدُ الله بن عامر بن كُريز لعبد الله بن حازم: يا بن عَجْلَى قال: ذاك اسمُها قال: يا بن السَّوداء قال: ذاك لونها قال: يا بن الأمة قال: كل أنثى أمة فاقصد بذَرْعك لا يَرْجع سَهمُك عليك إن الإماء قد وَلَدتك. دخل عبيدُ الله بن زياد بن ظَبْيان على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: ما هذا الذي يقول الناس قال: وما يقولون قال: يقولون إنك لا تُشبه أباك قال: والله لأنا أشبهُ به من الماء بالماء والغُراب ولكن أدُلك على مَن لم يُشبه أباه قال: مَن هو قال: من لم تُنْضِجه الأرحام ولم يُولد لتمام ولم يُشْبِه الأخوال والأعمام قاد: ومَن هو قال: ابنُ عمي سُويد بن مَنجوف وإنما أرادَ عبدَ الملك بن مروان وذلك أنه وُلد لستة أشهر. دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فلم يَجد موضعاً يَقْعد فيه فَعلم أن ذلك فُعِل به على عَمْد فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله! قال: أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله قال زيد إنه لا يَكْبُر أحدٌ فوق أن يوصىَ بتقوى الله ولا يَصْغر دون أن يوصى بتقوى الله. قال له هشام: بلغني أنك تُحدِّث نفسَك بالخِلافة ولا تَصْلُح لها لأنك ابن أمة قال زيد: أما قولك إِني أحدث نفسي بالخلافة فلا يَعلم الغَيْب إلا الله وأمّا قولُك إني ابن أمة فهذا إسماعيلُ بن إبراهيم خليل الرحمن ابنُ أمة من صُلّبه خيرُ البشر محمد ﷺ وإسحاق ابن حُرّة أخرج من صلْبه القِردةُ والخَنازير وعَبدة الطاغوت. قال له: قم قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره فلما خرج من عنده قال: ما أحب أحدٌ قط الحياة إلا ذلَ. قال له حاجبه: لا يَسمعِ هذا الكلام منك أحد.