الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الوقف
قال في الحجة البالغة : وهو من التبرعات كان أهل الجاهلية لا يعرفونه فاستنبطه النبي (ﷺ) لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى وتجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شئ حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى أصله على ملك الواقف انتهى .
من حبس ملكه في سبيل الله صار محبساً قد ذهب إلى مشروعية الوقف ولزومه جمهور العلماء . قال الترمذي : لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين . وجاء عن شريح أنه أنكره . وقال أبو حنيفة : لا يلزم وخالفه جميع أصحابه إلا زفر . وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال : لو بلغ أبا حنيفة يعني الدليل لقال به . وقال القرطبي : راد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه .ومما يدل على صحته ولزومه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي (ﷺ) قال : إذا مات الإنسان إنقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن عمر أصاب أرضاً بخيبر فقال : يارسول الله أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول وأخرج النسائي و الترمذي وحسنه و البخاري تعليقاً من حديث عثمان أن النبي (ﷺ) قدم المدينة وليس بها ماء يتسعذب غير بئر رومة فقال : من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي وفي الصحيحين أن النبي (ﷺ) قال : أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله .
وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة لقوله (ﷺ) لعمر في الحديث السابق إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فإطلاق الصدقة يشعر بأن للواقف أن يتصدق بها كيف شاء فيما فيه قربة . وقد فعل عمر ذلك فتصدق بها على الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل كما تقدم .
والحاصل : أن الوقف الذي جاءت به الشريعة ورغب فيه رسول الله (ﷺ) وفعله أصحابه هو الذي يتقرب به إلى الله عز وجل حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها ، فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجراً لفاعله كائناً ما كان فمن وقف مثلاً على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحاً لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة أن في كل كبد رطبة أجراً ومثل هذا لو وقف على من يخرج القذارة من المسجد أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طريقهم كان ذلك وقفاً صحيحاً لورود الأدلة الدالة على ثبوت الأجر لفاعل ذلك . فقس على هذا غيره مما هو مساوله في ثبوت الأجر لفاعله وما هو أكد منه في استحقاق الثواب .
وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف لما تقدم في وقف عمر الذي قرره النبي (ﷺ) .
وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين لما تقدم في حديث عثمان من قوله (ﷺ) : فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين .
ومن وقف شيئاً مضارة لوارثه كان وقفه باطلاً لأن ذلك مما لم يأذن به الله سبحانه بل لم يأذن إلا بما كان صدقة جارية ينتفع بها صاحبها لا بما كان إثماً جارياً وعقاباً مستمراً . وقد نهى الله تعالى عن الضرار في كتابه العزيز عموماً وخصوصاً ونهى عنه النبي (ﷺ) عموماً كحديث لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وقد تقدم ، وخصوصاً كما في ضرار الجار وضرار الوصية ونحوهما .
والحاصل : أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عز وجل فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال . وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون أناثهم وما أشبه ذلك ، فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل والمعاندة لما شرعه لعباده ، وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة . وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته ، فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عز وجل ، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء . وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف بل هو إلى الله عز وجل . وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادراً بحسب إختلاف الأشخاص . فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك . ومن هذا النادر أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصاً والقربة متحققة والأعمال بالنيات . ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم أولى وأحق .
ومن وضع مالاً في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد جاز صرفه في أصل الحاجات ومصالح المسلمين ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجده (ﷺ) لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره قالت : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله فهذا يدل على جواز إنفاق ما في الكعبة إذا زال المانع وهو حداثة عهد الناس بالكفر وقد زال ذلك واستقر أمر الإسلام وثبت قدمه في أيام الصحابة فضلاً عن زمان من بعدهم وإذا كان هذا هو الحكم في الأموال التي في الكعبة فالأموال التي في غيرها من المساجد أولى بذلك بفحوى الخطاب فمن وقف على مسجده (ﷺ) أو على الكعبة أو على سائر المساجد شيئاً يبقى فيها لا ينتفع به أحد فهو ليس بمتقرب ولا واقف ولا متصدق بل كانز يدخل تحت قوله تعالى : الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله الآية . ولا يعارض هذا ما روى أحمد بن حنبل و البخاري عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبه في هذا المسجد فقال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا فقال : لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت : ما أنت بفاعل قال : لم قلت لم يفعله صاحباك فقال : هما المرآن يقتدى بهما لأن هذا من عمر ومن شيبة بن عثمان بن طلحة اقتداء بما وقع من النبي (ﷺ) وأبي بكر ، وقد أبان حديث عائشة السبب الذي لأجله ترك (ﷺ) ذلك . أقول : وفي حاشية الشفاء : وأما أموال المساجد فإن كانت كالأموال التي يقفها الواقفون عليها ليحصل من غلاتها ما يحتاج إليه من عمارة ونحوها وما يقوم بمن يحييها بالصلاة والتلاوة وتدريس العلوم فلا شك أن هذا من أعظم القرب ، ولا يحل لمسلم أن يأخذ منه شيئاً وأن كان ذلك من الأمور التي لمجرد الزخرفة التي هي من علامات القيامة ن أو للمباهاة والمكاثرة ، فهو من اضاعة المال بل من وضعه في معاصي الله فيكون أخذه وصرفه في مصالح المسلمين من باب القيام بواجبين : أحدهما النهي عن المنكر . والثاني توقي إضاعة المال المنهي عنها بالدليل الصحيح . وأما وضع الحلى في الكعبة والدراهم والدنانير والجواهر النفيسة فلا أستبعد أن يكون فاعله من الكانزين الذي قال الله عز وجل فيهم : يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ولا أرى على من أخذها ليصرفها في مصالح المؤمنين أو يدفع بها مفاسدهم بأساً ولم يرد ما يدل على المنع انتهى . وقد أوضح الماتن الكلام فيها في شرح المنتقى فليراجع .
والوقف على القبول لرفع سمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة باطل لأن رفعها قد ورد النهي عنه كما في حديث علي أنه أمره (ﷺ) أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه ، ولا تمثالاً إلا طمسه وهو في مسلم وغيره . وكذلك تزيينها ، وأشد من ذلك ما يجلب الفتنة على زائرها كوضع الستور الفائقة ، والأحجار النفيسة ، ونحو ذلك ، فإن هذا مما يوجب أن يعظم صاحب ذلك القبر في صدر زائره من العوام فيعتقد فيه مالا يجوز . وهكذا إذا وقف للنحر عند القبور ونحوه مما فيه مخالفة لما جاء عن الشارع . أما إذا وقف على إطعام من يفد إلى ذلك القبر أو نحو ذلك ، فهذا هو وقف على الوافد لا على القبر . وما صنع الواقف بوقفه على القبر إلا ما يعرضه للإثم فقد يكون ذلك سبباً للإعتقادات الفاسدة .
وبالجملة : فالوقف على القبور مفسدة عظيمة ومنكر كبير إلا أن يقف على القبر مثلاً لإصلاح ما انهدم من عمارته التي لا إشراف فيها ولا رفع ولا تزيين ، فقد يكون لهذا وجه صحة وأن كان غير القبر أحوج إلى ذلك كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه الحي أولى بالجديد من الأكفان أو كما قال