الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب القصاص
ووجوبه بنص الكتاب العزيز كتب عليكم القصاص في القتلى . ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وبمواتر السنة كحديث لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث منها النفس بالنفس وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود ، وفي مسلم وغيره من حديث عائشة وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي (ﷺ) قال : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي ، وإما أن يقتل وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، أو يأخذ العقل ، أو يعفو . فإن أراد رابعة فخذوا على يده وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمي وفيه مقال ، وفيه أيضاً محمد بن إسحق وقد عنعن . وقد أخرج البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر الآية . فمن عفي له من أخيه شيء قال : فالعفو أن يقبل في العمد الدية . والاتباع بالمعروف أن يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان . ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فيما كتب على من كان قبلكم ولا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب القصاص عند وجود المقتضي وانتفاء المانع .
يجب على المكلف المختار وقد تقدم وجهه العامد لما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث عائشة بلفظ لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال : زان محصن فيرجم ، ورجل يقتل مسلماً متعمداً ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ من قتل متعمداً أسلم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا الحديث . وهو معلوم بالأدلة والإجماع من أهل الإسلام أن القصاص لا يجب إلا مع العمد ، ولا بد أن يكون عدواناً . لأن من قتل عمداً مقتولاً يستحق القتل شرعاً لم يجب القصاص عليه . قلت : عند الشافعي القتل على ثلاثة أنواع : عمد محض ، وهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالباً ، سواء كان بمحدد أو مثقل فيجب فيه القصاص عند وجود المكافىء ، أو الدية مغلظة في مال الجاني حالة . والثاني شبه العمد ، وهو أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالباً ، بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات فلا يجب فيه القصاص ويجب به الدية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين ، فإن كان المضروب صغيراً أو مريضاً يموت منه غالباً ، أو كان قوياً غير أن الضارب والى عليه بالضرب حتى مات يجب القود . والثالث الخطأ المحض ، وهو أن لا يقصد ضربه وإنما قصد غيره فأصابه ، أو حفر بئراً فتردى فيه إنسان ، أو نصب شبكة حيث لا يجوز فتعلق بها رجل ومات فلا قود عليه وتجب الدية مخففة على العاقلة في ثلاث سنين . ثم القتل ينقسم باعتبار المقتولين إلى أقسام ولكل قسم حكم يخصه إما في القود ، وإما في الدية ، وإما فيهما جميعاً . قتل الحر وقتل العبد وقتل الذكر وقتل الأنثى وقت المسلم وقتل الكفار وقتل الجنين ولا اعتبار لكون المقتول شريفاً أو وضيعاً ، جميلاً أو دميماً ، صغيراً أو كبيراً ، غنياً ، أو فقيراً ، وإذا وجب القود على إنسان فترك له شئ من الدم بأن عفا أحد الورثة ، صار موجبه الدية للآخرين وسيأتي تفصيلها . وأما إنكار القصاص في دار الحرب مطلقاً فلا وجه له من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع . فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها ، فما أوجبه الله تعالى على المسلمين من القصاص ثبت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلاً ، ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش إلا مجرد الخيار المبني على الهباء ، فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض يجب الحكم له به على خصمه ، وهو مفوض إلى اختياره . وغاية ما ثبت في هذا ما وقع منه (ﷺ) من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية ، وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين . فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام ، ولا يرفع شيئاً من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الأرش .
إن اختار ذلك الورثة وإلا فلهم طلب الدية لما تقدم من قوله (ﷺ) من قتل له قتيل فهو بخير النظرين .
وتقتل المرأة بالرجل والعكس والعبد بالحر والكافر بالمسلم لما أخرجه مالك والشافعي من حديث عمرو بن حزم أن النبي (ﷺ) كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن الذكر يقتل بالأنثى ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلاً . ورواه النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولاً مطولاً من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده . وفي هذا الحديث كلام طويل وقد صححه ابن حبان والحاكم والبيهقي . وقال ابن عبد البر : هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد ، لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول . وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمر بن حزم هذا ، فإن أصحاب رسول الله (ﷺ) والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم . وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز ، وأما عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب ومما استدل به على ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين . فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها ، فجيء به فاعترف . فأمر النبي (ﷺ) فرض رأسه بين حجرين وقد استوفى الماتن ذلك البحث في شرح المنتقى ، وإلى ذلك ذهب الجمهور . واختلفوا هل تستوفي ورثة الرجل من ورثة المرأة نصف الدية أم لا . وقد حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل بالمرأة إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء ، ورواه البخاري عن أهل العلم . هذا في قتل الرجل بالمرأة ، وأما قتل المرأة بالرجل فالأمر واضح . وهكذا قتل العبد بالحر ، والكافر بالمسلم ، والفرع بالأصل ، وليس في ذلك خلاف . وأما العكس من هذه الصور الثلاث فقد قيل : أنه يقتل الحر بالعبد وهو محكي عن الحنفية وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري . هذا إذا كان العبد مملوكاً لغير القاتل ، وأما إذا كان مملوكاً له ، فقد حكى في البحر الإجماع على أنه يقتل السيد بعبده إلا عن النخعي . وهكذا حكى الخلاف عن النخعي وبعض التابعين الترمذي . واستدل المثبتون بما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله (ﷺ) قال : من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه وفي إسناده ضعف لأنه من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف مشهور . واستدل المانعون بقوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد وفي الاستدلال بالآية أشكال كالأشكال في استدلال من استدل بقوله تعالى : النفس بالنفس واستدلوا أيضاً بما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً قتل عبده متعمداً فجلده النبي (ﷺ) ، ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين ، ولم يقد به ، وأمره أن يعتق رقبة وفي إسناده إسمعيل بن عياش ، ولكنه رواه عن الأوزاعي وهو شامي. وإسمعيل قوي في الشاميين ، وفي إسناده أيضاً محمد بن عبد العزيز الشامي وهو ضعيف . وأخرج البيهقي وابن عدي من حديث عمر قال : قال رسول الله (ﷺ) : لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر الحديث كما قال البخاري . وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً لا يقتل حر بعبد وفي إسناده جويبر وغيره من المتروكين . وأخرج البيهقي عن علي قال : من السنة لا يقتل حر بعبد وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك . وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث عمرو بن شعيب وفي الباب أحاديث تشهد لهذه وتقويها .
لا العكس أي لا يقتل مؤمن بكافر لحديث علي أن النبي (ﷺ) قال : ألا لا يقتل مؤمن بكافر وأخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه . وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه . وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر . وأخرج البخاري وغيره عن علي أنه قال له أبو جحيفة : هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في القرآن فقال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة قال : المؤمنون تتكافأ دماؤهم وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقتل المسلم بالكافر الحربي . وأما بالذمي فذهب إلى ذلك الجمهور . وبه قال أبو حنيفة . ولم يأت من ذهب إلى قتل المسلم بالذمي بما يصلح للإستدلال به . قال مالك : الأمر عندنا أن لا يقتل مسلم بكافر إلا أن يقتله قتل غيلة فيقتل به . قلت : وعليه الشافعي إلا أنه أسقط هذا الاستثناء لأن الأحاديث الصحيحة في هذا الباب مثل حديث علي وعبد الله بن عمر ساكتة عنه .
والفرع بالأصل لا العكس أي لا يقتل الأصل بالفرع لحديث لا يقتل الوالد بالولد أخرجه الترمذي من حديث عمر وفي إسناده الحجاج بن أرطاة ، ولكن له طريق أخرى عند أحمد والبيهقي والدارقطني ورجال إسناده ثقات . وأخرج نحوه الترمذي أيضاً من حديث سراقة وفي إسنادها ضعف ، وأخرج أيضاً من حديث ابن عباس . وقد أجمع أهل العلم على ذلك لم يخالف فيه إلا البتي ورواية عن مالك .
ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان لقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص وهي وإن كانت حكاية عن بني إسرائيل ، فقد قرر ذلك النبي (ﷺ) كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن الربيع كسرت ثنية جارية فأمر رسول الله (ﷺ) بالقصاص وأما تقييد ذلك بالإمكان فلكون بعض الجروح قد يتعذر الإقتصاص فيها ، كعدم إمكان الاقتصار على مثل ما في المجني عليه ، وخطاب الشرع محمول على الإمكان من دون مجاوزة للمقدار الكائن في الجني عليه ، فإذا كان لا يمكن بمجاوزة للمقدار ، أو بمخاطرة وإضرار ، فالأدلة الدالة عليى تحريم دم المسلم وتحرم الإضرار به بما هو خارج عن القصاص مخصصة لدليل الاقتصاص . قلت : إن كل طرف له مفصل معلوم ، فقطعه ظالم من مفصله من إنسان اقتص منه ، كالأصبع يقطعها من أصلها ، أو اليد يقطعها من الكوع ، أو من المرفق ، أو الرجل يقطعها من المفصل يقتص منه . وكذلك لو قلع سنه ، أو قطع أنفه أو أذنه أو فقأ عينه ، أو جب ذكره ، أو قطع أنثييه يقتص منه . وكذلك لو شجه موضحه في رأسه ، أو وجهه يقتص منه . ولو جرح رأسه دون الموضحة ، أو جرح موضعاً آخر من بدنه ، أو هشم العظم فلا قود فيه لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه . وكذلك لو قطع يده من نصف الساعد فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع ، وله أن يقتص من الكوع ويأخذ حكومة لنصف الساعد وعلى هذا أكثر أهل العلم في الجملة وفي التفاصيل لهم اختلاف .
ويسقط بإبراء أحد الورثة ويلزن نصيب الآخرين من الدية لما تقدم من كونه أمر القصاص والدية إلى الورثة وأنهم بخير النظرين ، فإذا أبرؤا من القصاص سقط ، وإن ابرأ أحدهم سقط . لأنه لا تبعض ، ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية . وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عائشة أن رسول الله (ﷺ) قال : وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول ، وينحجزوا أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كانت امرأة وقوله : الأول فالأول أي الأقرب فالأقرب هكذا فسر الحديث أبو داود وفي إسناده حصن بن عبد الرحمن ، ويقال ابن محصن أبو حذيفة الدمشقي . قال أبو حاتم الرازي : لا أعلم من روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم أحد نسبه . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (ﷺ) قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهو يقتلون قاتلها وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد فقوله : وهم يقتلون قاتلها يفيد أن ذلك حق لهم يسقط بإسقاطهم أو إسقاط بعضهم ، وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه .
فإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه دليله ما قدمنا من أن ذلك حق لجميع الورثة ولا اختيار للصبي قبل بلوغه .
ويهدر ما سببه من المجني عليه لحديث عمران بن حصين في الصحيحين وغيرهما أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصموا إلى النبي (ﷺ) فقال يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك وفيهما أيضاً من حديث يعلى بن أمية وإلى ذلك ذهب الجمهور .
وإذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك لحديث ابن عمر عند الدارقطني عن النبي (ﷺ) قال : إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك وهو من طريق الثوري عن اسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر ورواه معمر وغيره عن اسمعيل قال الدارقطني والإرسال أكثر . وأخرجه أيضاً البيهقي ورجح المرسل وقال أنه موصول غير محفوظ . قال ابن حجر ورجاله ثقات . وصححه ابن القطان . وأخرج الشافعي عن علي أنه قضى في رجل قتل رجلاً متعمداً وأمسكه آخر قال : يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت وقد ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية ، ويؤيده قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
وبالجملة : فقتل القاتل مندرج تحت الأدلة المثبتة للقصاص ، وأما حبس الممسك فذلك نوع من التعزير استحقه بسبب إمساكه للمقتول . وقد روي عن النخعي ومالك والليث أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل لأنهما شريكان . وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة وقال عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً . قال مالك : الأمر عندنا أنه يقتل في العمد الرجال الأحرار بالرجل الحر الواحد ، والنساء بالمرأة كذلك ، والعبيد بالعبد كذلك أيضاً . في المسوى : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم . قالوا : إذا اجتمع جماعة على قتل واحد يقتلون به قصاصاً ا هـ .
أقول : إذا اشترك جماعة من الرجال ، أو الرجال والنساء في قتل رجل عمداً بغير حق قتلوا به كلهم وهذا هو الحق . لأن الأدلة القرآنية والحديثية لم تفرق بين كون القاتل واحد اًأو جماعة . والحكمة التي تشرع القصاص لأجلها وهي حقن الدماء وحفظ النفوس مقتضية لذلك . ولم يأت من قال بعدم جواز قتل الجماعة بالواحد بحجة شرعية بل غاية ما استدلوا به على المنع تدقيقات ساقطة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير كما فعله الجلال في ضوء النهار والمقبلى . وقد نقض الماتن ذلك في أبحاث أجاب بها على بعض علماء العصر واستوفى جميع الحجج . وقوله : قتلوه غيلة أي حيلة . يقال : اغتالني فلان إذا احتال حيلة يتلف بها ماله. ويقال الغيلة هي أن يخدعه حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه ثم يقتله . تمالأ عليه أهل صنعاء أي تعاونوا عليه واجتمعوا إليه . قال في الهدى : وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حداً فلا يسقط العفو ولا نعتبر فيه المكافأة ، وهذا مذهب أهل المدينة وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأفتى به ا هـ . وقال قبل هذا ما لفظه ، وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرتهم ، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم يعني العرنيين لم يباشر القتل بنفسه ولا سأل النبي (ﷺ) عن ذلك اهـ .
وفي قتل الخطأ الدية والكفارة لنص الكتاب العزيز على ما في النظم القرآني من القيود والتفاصيل ، وقد وقع الإجماع على وجوب الدية والكفارة في الجملة ، وإن وقع الخلاف في بعض الصور كوجوب الكفارة من مال الصغير إذا قتل لأن عمده خطأ ، والخلاف في وجوب الكفارة من ماله معروف ، فمن لم يوجبها جعل ايجابها من باب التكليف فقال : لا تجب إلا على مكلف ، ومن أوجبها جعله من خطاب الوضع ، وهكذا المجنون . والكفارة هي ما ذكر الله سبحانه من تحرير الرقبة وما بعده من الإطعام والصوم. وأما الدية فسيأتي بيانها وبيان الخطأ المحض ، والخطأ الذي هو شبه العمد .
وهو ما ليس بعمد أو من صبي أو مجنون قال مالك في الموطأ : الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا قود بين الصبيان ، وأن عمدهم خطأ ما لم تجب عليهم الحدود ويبلغوا الحلم وأن قتل الصبي لا يكون إلا خطأ . قلت : وعلى هذا أكثر أهل العلم .
وهي على العاقلة وهم العصبة لحديث أبي هريرة في الصحيحين قال : قضى رسول الله (ﷺ) في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة ثم أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله (ﷺ) بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها وفي لفظ لهما وقضى بدية المرأة على عاقلتها وفي مسلم وغيره من حديث جابر قال : كتب رسول الله (ﷺ) على كل بطن عقولة وأخرج أبو داود وابن ماجه أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الآخرى ولك واحدة منها زوج وولد فجعل رسول الله (ﷺ) دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها . قال : فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال : رسول الله (ﷺ) ميراثها لزوجها وولدها وصححه النووي وفي إسناده مجالد وهو ضعيف . وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب قريباً وفيه أن النبي (ﷺ) قضى أن تعقل عن المرأة عصبتها الحديث . وقد أجمع العلماء على ثبوت العقل ، وإنما اختلفوا في التفاصيل وفي مقدار ما يلزم كل واحد من العاقلة .
أقول : الأدلة قد وردت بما يستفاد منه أن القبيلة تعقل عن الجاني منها ، وأن البطن يعقل عن الجاني منه ، والقرابة يعقلون عن القريب الجاني ، ولا منافاة بين هذه الأحاديث بل يجمع بينها بأن القرابة إذا قدروا على تسليم ما لزم فهم أخص من غيرهم ، وإن احتاج اللازم إلى زيادة عليهم ولم يقدروا على الوفاء لزم البطن ثم القبيلة ، وبمجموع ما ورد في العقل يرد على من قال أنه غير ثابت في الشريعة مستدلاً بمثل قوله تعالى : لا تزر وازرة وزر أخرى وبمثل قوله (ﷺ) : لا يجني جان إلا على نفسه لأن أدلة العقل أخص مطلقاً فالعمل بها واجب والظاهر أن العقل لازم في كل جنايات الخطأ من غير فرق بين الموضحة وما دونها وما فوقها