محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة السبعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الحدود

2232 - مسألة : قذف العبيد والإماء

قال أبو محمد : اختلف الناس فيمن قذف عبدا أو أمة بالزنا : فقالت طائفة : لا حد عليه كما روي عن النخعي , والشعبي أنهما قالا جميعا : لا يضرب قاذف أم ولد. وعن حماد بن أبي سليمان قال : إذا قال رجل لرجل أمه أم ولد أو نصرانية : لست لأبيك لم يضرب , لأن النفي وقع على الأم. وعن ابن سيرين قال : أراد عبيد الله بن زياد أن يضرب قاذف أم ولد , فلم يتابعه على ذلك أحد. وقد روي عن عطاء , والحسن , والزهري : لا حد على قاذف أم ولد

قال علي : وممن لم ير الحد على قاذف العبد والأمة : أبو حنيفة , ومالك , والأوزاعي , وسفيان الثوري , وعثمان البتي , والحسن بن حي , والشافعي , وأصحابهم.

وقالت طائفة بإيجاب الحد في ذلك ، حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر قال : إن أميرا من الأمراء سأل ابن عمر عن رجل قذف أم ولد لرجل فقال ابن عمر : يضرب الحد صاغرا. وعن الحسن البصري قال : الزوج يلاعن الأمة , وإن قذفها وهي أمة جلد , لأنها امرأته

قال أبو محمد : وبهذا يقول أصحابنا , وهذا الإسناد ، عن ابن عمر من أصح إسناد يوجد في الحديث فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لنعلم الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى ولطفه :

فنظرنا في قول من لم ير الحد على قاذف الأمة والعبد , فلم نجد لهم شيئا يمكن أن يتعلقوا به , إلا

ما روينا من طريق البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن الفضيل بن غزوان ، عن ابن أبي نعم عن أبي هريرة قال " سمعت أبا القاسم يقول : من قذف مملوكه وهو بريء مما قال , جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال.

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله ، هو ابن المبارك عن الفضيل بن غزوان عن أبي نعم : أنه حدثه ، أنه قال : قال أبو القاسم  : من قذف مملوكه بريئا مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة , إلا أن يكون كما قال. وعن الحسن ، عن ابن عمر قال : من قذف مملوكه كان لله تعالى في ظهره حد يوم القيامة , إن شاء آخذه , وإن شاء عفا عنه

قال أبو محمد : ولعلهم يدعون الإجماع , أو يقولون : لا حرمة للعبد ، ولا للأمة , فكثيرا ما يأتون بمثل هذا. فإن ادعوا الإجماع أكذبهم

ما روينا ، عن ابن عمر بأصح طريق , وما نعلم قولهم عن أحد من الصحابة أصلا , إلا رواية لا نقف الآن على موضعها من أصولنا. عن أبي بردة أنه كانت له ابنة من حرة , وابنة من أم ولد , فكانت ابنة الحرة تقذف ابنة أم الولد , فأعتق أمها , وقال لأبنة الحرة : اقذفيها الآن إن قدرت وعن نفر من التابعين قد ذكرناهم خالفوهم في أكثر أقوالهم :

فأما الرواية عن أبي بردة فلا متعلق لهم بها , لأنه ليس فيها أنه لا حد فيها على قاذفها , ولعل حاكم وقته كان لا يرى الحد على قاذف أم الولد فبطل تعلقهم بهذا.

وأما قولهم " لا حرمة للعبد ، ولا للأمة " فكلام سخيف , والمؤمن له حرمة عظيمة , ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى , قال الله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} الآية إلى قوله {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} . والناس كلهم في الولادة أولاد آدم وامرأته , ثم تفاضل الناس بأخلاقهم وأديانهم , لا بأعراقهم , ولا بأبدانهم. وقد قال رسول الله  : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فسوى عليه السلام بين حرمة العرض من الحر والعبد نصا , ولا سيما الحنفيون الموجبون القود على الحر للعبد , وعلى الحرة للأمة , فقد أثبتوا حرمتهما سواء

قال علي : أقوال لهم في هذه المسائل , قد اختلف فيها , فمن قال لأمرأته : زنيت في كفرك أو قال : زنيت وأنت أمة :

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس أنه سأل ابن شهاب عن رجل قذف امرأته فقال لها : زنيت وأنت أمة أو نصرانية فقال ابن شهاب : إن لم يأت على ذلك بالبينة جلد الحد ثمانين. وبه يقول أبو حنيفة , وسفيان , ومالك , والأوزاعي , وأصحابهم.

وقال الشافعي , وأصحابه : لا حد عليه. قال أبو حنيفة , وأصحابه , وسفيان , والشافعي , وأصحابه : فيمن قال : زنيت وأنت صغيرة , أو قال : زنيت وأنت مكرهة أن لا حد.

وقال مالك : عليه الحد أيضا في قوله : زنيت وأنت مكرهة

قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة , وأصحابه فظاهر التناقض , لأنهم يقولون : لا حد على قاذف الأمة , والكافرة , والصغيرة ثم فرقوا هاهنا فحدوا من قال : زنيت وأنت أمة , ولم يحدوا من قال : زنيت وأنت صغيرة.

فإن قالوا : إنما قذفها وهي حرة مسلمة قيل :

وكذلك إنما قذفها وهي بالغ.

فإن قالوا : إن المكرهة ليست زانية ,

وكذلك الصغيرة قيل لهم : فالآن يوجب عليه الحد إذا صح كذبه بيقين.


2233 - مسألة : فيمن قذف صغيرا أو مجنونا , أو مكرها , أو مجبوبا , أو رتقاء , أو قرناء , أو بكرا , أو عنينا

قال أبو محمد : أنا عبد الله بن ربيع ، أخبرنا ابن مفرج أنا قاسم بن أصبغ ، أخبرنا ابن وضاح أنا سحنون ، أخبرنا ابن وهب أخبرني يزيد بن عياض الليثي ، عن ابن هشام ، أنه قال في صبية افتري عليها أو افترت قال : إذا قاربت الحيض أو مسها الرجل جلد قاذفها الحد.

وقال مالك : إذا بلغ مثلها أن يوطأ : جلد قاذفها الحد ,

وكذلك يجلد قاذف المجنون

وقال أبو حنيفة , والشافعي , وأصحابهما , والحسن بن حي : لا حد على قاذف صغير , ولا مجنون

قال علي : قال الله تعالى {والذين يرمون المحصنات} الآية. وقد

قلنا : إن " الإحصان " في لغة العرب : هو المنع , وبه سمي الحصن حصنا , يقال : درع حصينة وقد أحصن فلان ماله : إذا أحرزه ومنع منه. قال تعالى {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة} . والصغار : محصنون بمنع الله تعالى لهم من الزنى , وبمنع أهليهم ,

وكذلك المجانين

وكذلك المجبوب , والرتقاء , والقرناء , والعنين وقد يكون كل هؤلاء محصنين بالعفة.

وأما البكر والمكره فمحصنان بالعفة , فإذا كل هؤلاء يدخلون في جملة " المحصنات " بمنع الفروج من الزنى , فعلى قاذفهم الحد , ولا سيما القائلون : إن الحرية إحصان , وكل حرة محصنة , فإن الصغيرة الحرة , والمجنونة , والرتقاء , وسائر من ذكرناهم محصنون , وإسقاط الحد عن قاذفهم خطأ محض لا إشكال فيه. فما علمنا لهم حجة أكثر من أن قالوا : إن من قذف من ذكرنا فقد تيقنا كذبه .

فقلنا لهم : صدقتم , والآن حقا وجب الحد على القاذف , إذ قد صح كذبه وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد : وهذا مكان عظمت فيه غفلة من أغفله , لأن القذف لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة لا رابع لها , إما أن يكون صادقا , وقد صح صدقه فلا خلاف في أنه لا حد عليه أو يكون ممكنا صدقه , وممكنا كذبه فهذا عليه الحد بلا خلاف لأمكان كذبه فقط ولو صح صدقه لما حد أو يكون كاذبا قد صح كذبه , فالآن حقا طابت النفس على وجوب الحد عليه بيقين , إذ المشكوك في صدقه أو كذبه لا بد له من أحدهما ضرورة , فلو كان صادقا لما صح عليه حد أصلا فصح يقينا , إذ قد سقط الحد عن الصادق أنه باق على الكذب , إذ ليس إلا صادقا أو كاذبا , وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين.


2234 - مسألة : كافر قذف مسلما أو كافرا

قال أبو محمد : قد ذكرنا وجوب الحد على من قذف كافرا فإذا قذف الكافر مسلما , قد ذكرنا فيما سلف من كتابنا هذا وجوب الحكم على الكفار بحكم الإسلام , لقول الله تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} . وبقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}

وقد ذكرنا وجوب قتل من سب مسلما من الكفار لنقضهم العهد وفسخهم الذمة , لقول الله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} . فافترض الله تعالى إصغارهم , فإذا خرجوا عن الصغار فلا ذمة لهم , وإذا لم تكن لهم ذمة فقتلهم وسبيهم , وأموالهم : حلال , وإذا سبوا مسلما فقد خرجوا عن الصغار , وأصغروا المسلم , فقد برئت الذمة ممن فعل ذلك منهم , ولا ذمة له :

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسحاق بن خالد , قال : سألت الشعبي عن يهودية افترت على مسلم قال : تضرب الحد. وبه إلى وكيع حدثنا سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن قال : شهدت الشعبي ضرب نصرانيا قذف مسلما , فجلده ثمانين

قال أبو محمد : أما الحد فواجب بلا شك , لأنه حكم الله تعالى على كل قاذف , والقتل واجب كما ذكرنا لنقض الذمة سواء كان رجلا أو امرأة لا بد من قتلهما , إلا أن يسلما فيتركا عن القتل لا عن الحد.

فإن قال قائل : هلا أوقفتم المرأة ولم تقتلوها , لنهي رسول الله عن قتل النساء ولأنها إذا نقضت ذمتها بسب المسلم فقد عادت حربية , وإذا عادت حربية فلا ذمة لها فليس عليها إلا الأسترقاق

قلنا وبالله تعالى التوفيق : إن حكم الحربي قبل التذمم غير حكمه بعد نقضهم الذمة , لأن حكمهم قبل التذمم المقاتلة , فإذا قدرنا عليهم :

فأما المن

وأما الفداء .

وأما القتل .

وأما الإبقاء على الذمة هذا في الرجال .

وكذلك في النساء حاش القتل .

وأما بعد نقض الذمة فليس إلا القتل , أو الإسلام فقط , لقول الله تعالى {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} فافترض الله تعالى قتالهم بعد نكث أيمانهم من بعد عهدهم حتى ينتهوا ، ولا يجوز أن يخص الأنتهاء هاهنا عن بعض ما هم عليه دون جميع ما هم عليه , إذ لا دليل يوجب ذلك , ونحن على يقين أننا إذا انتهوا عن الكفر فقد حرمت دماؤهم , ولا نص معنا ، ولا إجماع على أنهم إن انتهوا عن بعض ما هم عليه دون بعض عادوا إلى حكم الأستبقاء.

وقد تقصينا هذا في " كتاب الجهاد " في مواضع من ديواننا وحكم المرأة في ذلك حكمها إذا أتت بعد الذمة بشيء يبيح الدم من زنى بعد إحصان , وقتل نفس , أو غير ذلك.

وأما إذا قذف الكافر كافرا فليس إلا الحد فقط , على عموم أمر الله تعالى فيمن قذف محصنة بنص القرآن

قال أبو محمد رحمه الله : والعجب ممن يرى أنه لا حد على كافر إذا زنى بمسلمة , ولا على كافرة إذا زنى بها مسلم , ولا يرى الحد على كافر في شرب الخمر ثم يرى الحد على الكافر إذا قذف مسلما أو مسلمة , فليت شعري ما الذي فرق بين أحكام هذه الحدود عندهم

فإن قالوا : إن الحد في القذف حق للمسلم

قلنا لهم : وقولوا أيضا : إن حد الكافر إذا زنى بمسلمة حق لأبي تلك المسلمة , ولزوجها , وأمها ، ولا فرق والعجب أيضا ممن قطع يد الكافر إذا سرق من كافر , ثم لا يحده له إذا قذفه , وهذه عجائب لا نظير لها خالفوا فيها نصوص القرآن , وتركوا القياس الذي إليه يدعون , وبه يحتجون , إذ فرقوا بين هذه الأحكام , ولم يقيسوا بعضها على بعض بغير دليل في كل ذلك وبالله تعالى التوفيق.


2235 - مسألة : فيمن قال لأمرأة : لم يجدك زوجك عذراء

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا حد في ذلك وليس قذفا.

وكذلك لو قال رجل لأمرأة تزوجها , فلا يلاعن بهذا.

وقالت طائفة : هو قذف , ويحد , ويلاعن الزوج

قال أبو محمد رحمه الله : احتج من رآه قذفا بما ، حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي قال : حدثنا ابن مفرج ، حدثنا محمد بن أيوب ،

حدثنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار ، حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق قال : وذكر طلحة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : تزوج رجل من الأنصار امرأة من بني العجلان فبات عندها ليلة فلما أصبح لم يجدها عذراء فرفع شأنها إلى النبي فدعا الجارية , فقالت : بل كنت عذراء , فأمر بهما فتلاعنا , وأعطاها المهر قال البزار : لا نعلمه روي إلا من هذا الطريق

قال علي : وهذا ليس بشيء لوجهين : أحدهما أن ابن إسحاق لم يصح سماعه لذلك من طلحة , فهو منقطع.

والثاني أن طلحة هذا لم ينسبه وهو والله أعلم طلحة بن عمرو المكي , فهو الذي يروي عن أصحاب ابن عباس , وهو مشهور بالكذب , وإلا فهو على كل حال مجهول فسقط التعلق بهذا الخبر

قال أبو محمد رحمه الله : وذهاب العذرة يكون بغير الزنى , أو بغير وطء كوقعة , أو غير ذلك , فلما لم يكن ذهاب العذرة زنى لم يكن الرمي به رميا , ولا قذفا , فإذ ليس رميا ، ولا قذفا فلا حد فيه , ولا لعان , لأن الله تعالى إنما جعل الحد واللعان بالزنى , لا بما سواه وبالله تعالى التوفيق هو قول أصحابنا وغيرهم وبهذا نقول .

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الحدود
كتاب الحدود (مسألة 2167 - 2169) | كتاب الحدود (مسألة 2170 - 2171) | كتاب الحدود (مسألة 2172 - 2173) | كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) | كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) | كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) | كتاب الحدود (مسألة 2181 - 2182) | كتاب الحدود (مسألة 2183 - 2186) | كتاب الحدود (مسألة 2187 - 2188) | كتاب الحدود (مسألة 2189 - 2192) | كتاب الحدود (مسألة 2193 - 2194) | كتاب الحدود (مسألة 2195 - 2196) | كتاب الحدود (مسألة 2197 - 2198) | كتاب الحدود (مسألة 2199) | كتاب الحدود (مسألة 2200 - 2202) | كتاب الحدود (مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 1 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 2 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 3 مسألة 2203) | كتاب الحدود (مسألة 2204 - 2207) | كتاب الحدود (مسألة 2208 - 2209) | كتاب الحدود (مسألة 2210 - 2212) | كتاب الحدود (مسألة 2213 - 2216) | كتاب الحدود (مسألة 2217 - 2220) | كتاب الحدود (مسألة 2221 - 2223) | كتاب الحدود (مسألة 2224 - 2228) | كتاب الحدود (مسألة 2229 - 2231) | كتاب الحدود (مسألة 2232 - 2235) | كتاب الحدود (مسألة 2236 - 2238) | كتاب الحدود (مسألة 2239 - 2243) | كتاب الحدود (مسألة 2244 - 2246) | كتاب الحدود (مسألة 2247 - 2255)