محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الرابعة والأربعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الحدود

2170 - مسألة : هل الحدود كفارة لمن أقيمت عليه أم لا

قال أبو محمد رحمه الله : كل من أصاب ذنبا فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك تاب أو لم يتب حاش المحاربة , فإن إثمها باق عليه وإن أقيم عليه حدها , ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله تعالى فقط.

برهان ذلك : ما رويناه من طريق مسلم ، حدثنا يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن إبراهيم , ، ومحمد بن عبد الله بن نمير , كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله في مجلس , فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له , ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه , وإن شاء عذبه. وبه إلى مسلم حدثني إسماعيل بن سالم أنا هشيم أنا خالد هو الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث هو الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال : أخذ علينا رسول الله كما أخذ على النساء : أن لا نشرك بالله شيئا , ولا نسرق , ولا نزني , ولا نقتل أولادنا , ولا يغتاب بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو عقابه , ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

وأما تخصيصنا المحاربة من جميع الحدود , فلقول الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} إلى قوله تعالى {عذاب عظيم} فنص الله تعالى نصا لا يحتمل تأويلا , على أنهم مع إقامة هذا الحد عليهم , وأنه لهم خزي في الدنيا , ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب عظيم.

قال أبو محمد رحمه الله : فوجب استعمال النصوص كلها كما جاءت , وأن لا يترك شيء منها لشيء آخر وليس بعضها أولى بالطاعة من بعض , وكلها حق من عند الله تعالى ، ولا يجوز النسخ في شيء من ذلك : أما حديث عبادة فإنه فضيلة لنا أن تكفر عنا الذنوب بالحد , والفضائل لا تنسخ , لأنها ليست أوامر , ولا نواهي , وإنما النسخ في الأوامر والنواهي سواء وردت بلفظة الأمر والنهي أو بلفظ الخبر , ومعناه الأمر والنهي.

وأما الخبر المحقق فلا يدخل النسخ فيه , ولو دخل لكان كذبا وهذا لا يجوز أن يظن بشيء من أخبار الله تعالى ورسوله .

وأما الآية في المحاربة فإن وجوب العذاب في الآخرة مع الخزي في الدنيا بإقامة الحد عليهم : خبر مجرد من الله تعالى , لا مدخل فيه للأمر والنهي فأمن دخول النسخ في شيء من ذلك والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد رحمه الله : فإن تعلق متعلق بما ،

حدثنا أحمد بن عمر العذري ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، حدثنا إبراهيم بن دحيم ، حدثنا عبد بن حميد الكشي ثنا عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : ما أدري أتبع كان نبيا أم لا وما أدري ذو القرنين أنبيا كان أم لا وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا . وبما ثناه أحمد بن عمر العذري ، حدثنا محمد بن أبي سعيد بن سختويه الإسفراييني في داره بمكة ثنا عبد العزيز بن جعفر بن سعد أنا أحمد بن زنجويه بن موسى ، حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا سيف بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال : بايعنا رسول الله على ما بايعت النساء , فمن مات منا ولم يأت بشيء منهن : ضمن له الجنة , ومن مات منا وأتى بشيء فأقيم عليه الحد : فحسابه على الله تعالى

قال أبو محمد رحمه الله : أما حديث أبي هريرة فصحيح السند , وما نعلم له في وقتنا هذا علة , إلا أن الذي لا نشك فيه أن رسول الله لا يختلف قوله , ولا يقول إلا الحق , وقد قال بأصح سند مما أوردنا آنفا من طريق عبادة : أن من أصاب من الزنى , والسرقة , والقتل , والغصب : شيئا , فأقيم عليه الحد , فهو كفارة له فمن المحال أن يشك رسول الله في شيء قد قطع به , وبشر أمته به , وهو وحي من الله تعالى أوحى إليه به. والقول عندنا فيه : أن أبا هريرة لم يقل أنه سمع من رسول الله هذا الكلام , وقد سمعه أبو هريرة من أحد المهاجرين , ممن سمعه ذلك الصاحب من رسول الله في أول البعث , قبل أن يسمع عبادة رسول الله يقول إن الحدود كفارة فهذا صحيح بأنه عليه السلام لا يعلم إلا ما علمه الله تعالى , ثم أعلمه بعد ذلك ما لم يكن يعلمه حينئذ , وأخبر به الأنصار , إذ بايعوه قبل الهجرة , والحدود حينئذ لم تكن نزلت بعد , لا حين بيعة عبادة ، ولا قبل ذلك , وإنما نزلت بالمدينة بعد الهجرة , لكن الله تعالى أعلم رسوله عليه السلام أنه سيكون لهذه الذنوب حدود , وعقوبات وإن كان لم يعلمه بها لكنه أخبره أنها كفارات لأهلها هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره إن صح حديث أبي هريرة ولم تكن فيه علة.

وأما حديث جابر فساقط لأنه من رواية داود بن رشيد وهو ضعيف. ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في حديث أبي هريرة الذي تكلمنا فيه آنفا , والأمر كان حينئذ في حديث جابر أبين , لأن إسلام جرير متأخر جدا بعد الفتح , لم يدرك قط بيعة النساء التي كانت قبل القتال , لأن إسلام جرير كان بعد نزول " المائدة " فصار حديث عبادة قاضيا على كل ذلك , ومخبرا عن الله تعالى ما ليس في سائر الأخبار : من أن الحدود كفارة لأهلها , حاش ما خصه الله تعالى منها


2171 - مسألة : هل تسقط الحدود بالتوبة أم لا

قال أبو محمد رحمه الله : قال قوم : إن الحدود كلها تسقط بالتوبة وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي , قالها بالعراق ورجع عنها بمصر

واحتج أهل هذه المقالة : بما ناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن يزيد بن نعيم عن أبيه : أن ماعز بن مالك أتى النبي فقال : أقم علي كتاب الله فأعرض عنه أربع مرات , ثم أمر رسول الله برجمه , فلما مسته الحجارة خرج يشتد , وخرج عبد الله بن أنس من نادي قومه بوظيف حمار , فضربه فصرعه , فأتى النبي فحدثه بأمره فقال ألا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك.

حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة عن أسباط بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه : أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد عن كره نفسها , فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها , ثم مر عليها قوم ذوو عدد , فاستغاثت بهم , فأدركوا الذي استغاثت به , وسبقهم الآخر , فأتوا به النبي فأخبرته : أنه وقع عليها , وأخبره القوم : أنهم أدركوه يشتد , فقال : إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني , قالت : كذب , هو الذي وقع علي , فقال النبي اذهبوا به فارجموه فقام رجل من الناس فقال : لا ترجموه وارجموني أنا الذي فعلت بها الفعل , فاعترف , فاجتمع ثلاثة عند رسول الله الذي وقع عليها , والذي أغاثها , والمرأة , فقال أما أنت فقد غفر الله لك , وقال للذي أغاثها قولا حسنا فقال له عمر : أرجم الذي اعترف بالزنى قال رسول الله لا , إنه قد تاب إلى الله تعالى زاد ابن عمر في روايته لو تابها أهل مدينة يثرب لقبل منهم. حدثنا أبو عمر أحمد بن قاسم ، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية عن ليث بن أبي سليم عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي مليح بن أسامة الهذلي عن واثلة بن الأسقع قال شهدت رسول الله ذات يوم وأتاه رجل فقال : يا رسول الله , إني أصبت حدا من حدود الله تعالى , فأعرض عنه , ثم أتاه الثانية فأعرض عنه ثم قالها الثالثة فأعرض عنه , ثم أقيمت الصلاة , فلما قضى الصلاة أتى الرابعة , فقال : أصبت حدا من حدود الله فأقم في حد الله قال : ألم تحسن الطهور أو الوضوء ثم شهدت الصلاة معنا آنفا اذهب فهي كفارتك.

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار ، حدثنا شداد بن عبد الله عن الباهلي قال كنت مع رسول الله في المسجد فقال له رجل : إني أصبت حدا فأقم علي وأقيمت الصلاة فصلى رسول الله في المسجد ثم خرج ومعه الرجل وتبعته , فقال : يا رسول الله أقم علي حدي فإني أصبته , فقال : أليس حين خرجت من منزلك توضأت فأحسنت الوضوء وشهدت معنا الصلاة قال : نعم , قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك.

قال أبو محمد رحمه الله : وقد روينا هذا الخبر وفيه " إني زنيت " كما ثنا المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي ، حدثنا محمد بن أحمد الصواف ، حدثنا أحمد بن هارون بن روح البرذنجي ، حدثنا محمد بن عبد الملك الواسطي ، حدثنا عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن رجلا أتى النبي فقال : يا رسول الله , إني زنيت فأقم علي الحد , ثم أقيمت الصلاة , فصلى مع النبي فقال له النبي قد كفر عنك بصلاتك.

قال أبو محمد رحمه الله وقالوا : قد قال الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} الآية إلى قوله : {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} قالوا : فصح النص من القرآن وصح الإجماع بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم , فوجب أن تكون جميع الحدود من : الزنى , والسرقة , والقذف , وشرب الخمر كذلك , لأنها كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها.

قال أبو محمد رحمه الله : هذا كل ما يمكن أن يحتج به أهل هذه المقالة , وذهب آخرون إلى أن التوبة لا تسقط الحدود. واحتجوا : بما ناه حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا بكر ، هو ابن حماد ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، هو ابن سعيد القطان عن هشام الدستوائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب أن عمران بن الحصين حدثه أن امرأة من جهينة أتت النبي حبلى من الزنا فقالت : إني أصبت حدا فأقمه علي , فدعا وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل فأمرها رسول الله فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها , فقال عمر : تصلي عليها وقد زنت فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , هل وجدت شيئا هو أفضل من أن جادت بنفسها .

ومن طريق مسلم ، حدثنا محمد بن المثنى حدثني عبد الأعلى ، حدثنا داود بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من أسلم يقال له : ماعز بن مالك أتى رسول الله فقال : إني أصبت فاحشة فأقمه علي فرده النبي مرارا ثم سأل قومه فقالوا : ما نعلم به بأسا فذكر باقي الحديث وفيه فأمرنا رسول الله أن نرجمه , فكان الناس فيه فرقتين : قائل يقول : هلك , لقد أحاطت به خطيئته , وقائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز , إنه جاء إلى رسول الله فوضع يده في يده فقال : اقتلني بالحجارة , قال : فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا لماعز بن مالك فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك فقال رسول الله  : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم.

ومن طريق مسلم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك أتى رسول الله فقال : يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني , فرده فذكر الحديث وفيه فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله , إني قد زنيت فطهرني , وأنه ردها , فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى , قال أما الآن فاذهبي وذكر باقي الخبر فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته , وقد أكل الطعام , فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد , فسبها , فسمع نبي الله سبه إياها , فقال : مهلا يا خالد , فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له , ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت. قالوا : فهذا ماعز قد صحت توبته قبل الرجم بإخبار رسول الله بذلك , وبأنها مقبولة وهذه الغامدية , والجهينية رضي الله عنهما قد تابتا أتم توبة وأصحها , مقبولة من الله تعالى بإخبار النبي عليه السلام ولم تسقط هذه التوبة عنهم الحد. قالوا :

وكذلك أيضا حد رسول الله الذين قذفوا عائشة ، رضي الله عنها ،

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا في ذلك كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى ومنه :

فنظرنا في الحديث الذي احتج به من رأى الحدود ساقطة بالتوبة.

فنظرنا في ذلك , فوجدناه مرسلا , فسقط التعلق به. ثم نظرنا في حديث علقمة بن وائل , فوجدناه لا يصح , لأنه من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين , شهد بذلك شعبة , وغيره , فسقط. ثم نظرنا في حديث واثلة بن الأسقع , فوجدنا الأول من طريق فيها ليث بن أبي سليم , وليس بالقوي.

وأما حديث الباهلي , فوجدناه من طريق عكرمة بن عمار , وهو ضعيف جدا.

فإن قيل : وقد رويتموه بأن فيه زينب

قلنا : نعم , وفيه من لا يعرف رجاله , ثم أنه لو ثبت دون علة لما كانت فيه حجة , لأن فيه وجوها تمنع من استعماله : أحدها أن ممكنا أن يكون هذا قبل نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم لأيجاب الحد.

فإن قيل : وممكن أيضا أن يكون بعد نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم له ويكون ناسخا لما في حديث ماعز , والغامدية والجهينية

قلنا : إن الواجب إذا تعارضت الأخبار أن يؤخذ بالزائد والزائد : هو الذي جاء بحكم لم يكن واجبا في معهود الأصل , وكان معهود الأصل بلا شك : أن لا حد على أحد تائبا كان أو غير تائب

فجاء النص : بإيجاب الحدود جملة , وكانت هذه النصوص زائدة على معهود الأصل , وجاء حديث ماعز , والغامدية , والجهينية , فكان ما فيها من إيجاب الحد على التائب زائدا على ما في الخبر الذي فيه إسقاط الحد عن التائب هذا لو كان في حديثهم أن الحد سقط عنه بالتوبة , فكيف وليس هذا فيه وإنما فيه إسقاط الحد بصلاته فقط , وهذا ما لا يقولونه بل هم يخالفون لهذا الحكم فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وبتلك الأخبار جملة وبالله تعالى التوفيق.

فإن قالوا : هبكم أن حد الزنى قد وجدتم فيه , وفي حد القذف : إقامة الحد على من تاب , فمن أين لم تسقطوا حد السرقة , وحد الخمر بالتوبة ، ولا نص معكم في إقامتها على التائب منها

قلنا : إن النص قد ورد جملة بإقامة الحدود في السرقة , والخمر , والزنى , والقذف , ولم يستثن الله تعالى تائبا من غير تائب , ولم يصح نص أصلا بإسقاط الحد عن التائب , فإذا الأمر كذلك فلا يحل أن يخص التائب من عموم أمر الله تعالى بإقامة الحدود بالرأي , والقياس دون نص ، ولا إجماع , فهذه عمدتنا في إقامة الحدود على التائب وغير التائب. وإنما حديث ماعز , والغامدية , والجهينية : مؤيد لقولنا في ذلك فقط , ولو لم يأت ما احتجنا إليها مع الأوامر الواردة بإقامة الحدود , لقول النبي  : من بدل دينه فاقتلوه. وقوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام , والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ومع قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . ومع قوله تعالى {فاجلدوهم ثمانين جلدة} . ومع قول رسول الله  : إذا شرب الخمر فاجلدوه الحديث. فلم يخص عليه السلام شيئا من شيء مما أمر بإقامة الحد عليه تائبا من غيره وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وما كان ربك نسيا. ثم نظرنا أيضا في احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب الآخرة وهو العذاب الأكبر فإذا أسقطت العذاب الأكبر فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل , الذي هو الحد في الدنيا فوجدنا هذا كله لازما لكل من ذكرنا , لأنهم أصحاب قياس بزعمهم ولو صح قياس يوما ما من الدهر لكانت هذه المقاييس أصح قياس في العالم. وأين هذا من قياسهم الفاسد : الحديد على الذهب في الربا , وغزل القطن على الذهب والفضة في الربا , وقياسهم فرج الزوجة على يد السارق , وسائر قياساتهم الفاسدة التي لا تعقل.

وأما نحن فلا يلزمنا هذا , لأن القياس كله باطل لا يحل القول بشيء منه في دين الله تعالى والحمد لله رب العالمين. وعذاب الآخرة غير عذاب الدنيا , وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر , إذ لم يوجب ذلك نص قرآن , ولا سنة , ولا إجماع. وكثير من المعاصي ليس فيها في الدنيا حد , كالغصب ومن قال لأخر : يا كافر وكأكل لحم الخنزير , وعقوق الوالدين , وغير ذلك وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب , بل فيها أعظم العقاب في الآخرة.

فصح أن أحكام الدنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة وبالله تعالى التوفيق. وقد احتجوا بقول الله تعالى {والذين يرمون المحصنات} ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله تعالى : {غفور رحيم} فوجدناهم لا حجة لهم في هذه الآية : لأن الله تعالى لم يسقط الحد بالتوبة مطلقة , ولو أراد ذلك لقال ( إلا الذين تابوا ) ولم يقل " من بعد ذلك " فلما قال تعالى {من بعد ذلك} بين لنا تعالى أن هذه التوبة لا تكون إلا من بعد الجلد ثمانين , واستحقاق اسم الفسوق , ورد الشهادة , لا قبل الجلد بنص القرآن , فإنما سقط بالتوبة بعد الجلد ما عدا الجلد , لأن الجلد قد نفذ فلا يسقط بعده بالتوبة إلا الفسق , وحكم قبول الشهادة فقط.

وأيضا : فبعد نزول هذه الآية جلد رسول الله مسطح بن أثاثة , وحسان بن ثابت , وحمنة بنت جحش فبطل التعلق في إسقاط الحد بالتوبة المذكورة في الآية. وصح أنه إنما سقط بها ما عدا الحد وهو الفسق , ورد الشهادة فقط فبطل كل ما شغب هؤلاء القوم به وصح أنه لا يسقط بالتوبة شيء من الحدود , حاشا حد الحرابة الذي ورد النص بسقوطها بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط

وأما بالتوبة الكائنة منهم بعد القدرة عليهم , أو مع القدرة عليهم , فلا يسقط بذلك عنهم حد المحاربة أصلا , لأن النص لم يسقط الحد عنهم إلا بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط , وبقي ما عدا ذلك على إنفاذ ما أمر الله تعالى به فيه وبالله تعالى التوفيق.

قال علي رحمه الله : والدليل عندنا في ذلك أن من أقر بحد ولم يقل ما هو فلا شيء عليه أصلا كما فعل رسول الله فإن قال : علي حد فيه الجلد فقط : لم يقم أيضا جلد , لأنه قد يظن في فعله ذلك أنه حد يوجب جلدا وليس كما يظن فإذ هو ممكن فلا يحل لنا بشرته بإحلاله لنا إياها , لأن تحريم الله تعالى لها قبل إحلاله الفاسد. ولو أن امرأ قال لأخر : اضربني فقد أحللت لك بشرتي لم يحل ضربه أصلا , لأنه ليس له أن يحل من نفسه ما حرم الله تعالى منها , ولا أن يحرم منها ما أحله الله تعالى. ولو قال من صح عليه الجلد في القذف , أو الزنى , أو الخمر : قد حرمت عليكم بشرتي , لكان كلامه هذرا ولغوا.

وكذلك لو أحل لأخر قتل نفسه أو قطع يده أو أحلت المرأة فرجها لأجنبي. أو حرم الرجل فرجه على امرأته , أو حرمت هي فرجها عليه , لكان كل ذلك باطلا , ولا حرام إلا ما حرم الله تعالى أو رسوله عليه السلام , قال الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} فإن قال علي لله تعالى حد يوجب : إما زنا , وأما قذفا , وأما شرب خمر , فهذا لم يحقق ، ولا أقر إقرارا صحيحا وليس عليه إلا حد الخمر , لأنه أقل الحدود الواجبة عليه بيقين.

ولا يحل أن يزداد عليه شيء بالشك , فلا يجوز أن يجلد شيئا حتى يتبين ما هو الحد الذي عليه , ويصفه وصفا تاما.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الحدود
كتاب الحدود (مسألة 2167 - 2169) | كتاب الحدود (مسألة 2170 - 2171) | كتاب الحدود (مسألة 2172 - 2173) | كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) | كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) | كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) | كتاب الحدود (مسألة 2181 - 2182) | كتاب الحدود (مسألة 2183 - 2186) | كتاب الحدود (مسألة 2187 - 2188) | كتاب الحدود (مسألة 2189 - 2192) | كتاب الحدود (مسألة 2193 - 2194) | كتاب الحدود (مسألة 2195 - 2196) | كتاب الحدود (مسألة 2197 - 2198) | كتاب الحدود (مسألة 2199) | كتاب الحدود (مسألة 2200 - 2202) | كتاب الحدود (مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 1 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 2 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 3 مسألة 2203) | كتاب الحدود (مسألة 2204 - 2207) | كتاب الحدود (مسألة 2208 - 2209) | كتاب الحدود (مسألة 2210 - 2212) | كتاب الحدود (مسألة 2213 - 2216) | كتاب الحدود (مسألة 2217 - 2220) | كتاب الحدود (مسألة 2221 - 2223) | كتاب الحدود (مسألة 2224 - 2228) | كتاب الحدود (مسألة 2229 - 2231) | كتاب الحدود (مسألة 2232 - 2235) | كتاب الحدود (مسألة 2236 - 2238) | كتاب الحدود (مسألة 2239 - 2243) | كتاب الحدود (مسألة 2244 - 2246) | كتاب الحدود (مسألة 2247 - 2255)