محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الثانية والسبعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الحدود

2239 - مسألة : من قال لأخر : أنت ابن فلان ونسبه إلى عمه , أو خاله , أو زوج أمه , أو أجنبي

قال أبو محمد : قال قوم : في كل هذا الحد وهو خطأ , ولكن الحكم في هذا : أن ما كان من ذلك على سبيل الحق والخير , فهو فعل حسن وقول حسن ,

وأما ما كان من ذلك مشاتمة , أو أذى , أو تعريضا , ففيه التعزير فقط , ولا حد في ذلك ,

برهان ما ذكرنا : قول الله تعالى حاكيا عن ولد يعقوب عليه السلام إذ قالوا {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} فجعلوا عمه إسماعيل عليه السلام أبا له , ولم ينكر الله تعالى ذلك , ولا يعقوب عليه السلام وهو نبي الله تعالى.

وقال تعالى {ملة أبيكم إبراهيم} وقد علمنا يقينا أن في المسلمين خلائق ليس لأبراهيم عليه السلام في ولادتهم نسب.

وأما زوج الأم فإن أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي قال : حدثنا ابن مفرج ، حدثنا محمد بن أيوب الصموت ، حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا طلحة صنع طعاما للنبي فأرسل أنس بن مالك فجاء حتى دخل المسجد ورسول الله في أصحابه فقال دعانا أبوك فقال : نعم , قال : قوموا قال أنس : فأتيت أبا طلحة , فذكر الحديث.

حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه قال : كانت أم عمير بنت سعد عند الجلاس بن سويد فقال الجلاس بن سويد في غزوة تبوك : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من الحمير , فسمعها عمير فقال : والله إني لاخشى إن لم أرفعها إلى النبي أن ينزل القرآن فيه , وأن أخلط بخطبته , ولنعم الأب هو لي , فأخبر النبي فدعا النبي عليه السلام الجلاس فعرفه فتحالفا فجاء الوحي إلى النبي فسكتوا فلم يتحرك أحد كذلك كانوا يفعلون لا يتحركون إذا نزل الوحي فرفع عن النبي فقال : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر إلى قوله فإن يتوبوا يك خيرا لهم فقال الجلاس : استتب لي ربي يا رسول الله , فإني أتوب إلى الله , وأشهد له بصدق , قال عروة : فما زال عمير منها بعلياء حتى مات

قال أبو محمد : فهذا رسول الله يقول : " عن الربيب أب , وينسب إلى الرجل ابن امرأته " فيقول له : أبوك وهذا أنس , وعمير بن سعد من أهل اللغة والديانة يقولان بذلك

قال أبو محمد : وهذا قول أبي حنيفة , وأبي سليمان وأصحابنا وبه نأخذ.


2240 - مسألة : فيمن قال لأخر : يا لوطي , أو يا مخنث

قال علي : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو هلال عن قتادة أن رجلا قال لأبي الأسود الدؤلي : يا لوطي قال يرحم الله لوطا. وبه إلى أبي هلال عن عكرمة في رجل قال لأخر : يا لوطي قال عكرمة : ليس عليه حد. وعن الزهري , وقتادة أنهما قالا جميعا في رجل قال لرجل : يا لوطي أنه لا يحد .

وبه يقول أبو حنيفة , وأبو سليمان , وأصحابنا. وقال آخرون : لا حد في ذلك إلا أن يبين :

كما روينا بالسند المذكور إلى عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج قال : قلت لعطاء في رجل قال لأخر : يا لوطي قال : لا حد عليه حتى يقول : إنك لتصنع بفلان , وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ، أنه قال في رجل قال لأخر : يا لوطي قال : نيته يسأل عما أراد بذلك.

وقالت طائفة : عليه الحد

كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا سعيد بن حسان عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أن رجلا قال لرجل : يا لوطي فرفع إلى عمر بن عبد العزيز , فجعل عمر يقول : يا لوطي , يا محمدي فكأنه لم ير عليه الحد , وضربه بضعة عشر سوطا , ثم أرسل إليه من الغد فأكمل له الحد. وبه إلى وكيع ، حدثنا أبو هلال عن الحسن البصري في الرجل يقول للرجل : يا لوطي قال : عليه الحد. وبه إلى وكيع عن الحسن بن صالح بن حي عن منصور عن إبراهيم النخعي في فعل قوم لوط قال : يجلد من فعله ومن رمى به وبه إلى وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر الشعبي في الرجل يقول للرجل : يا لوطي قال : يجلد

قال أبو محمد : قول إبراهيم النخعي , والشعبي : يجلد , ليس فيه بيان أنهما أرادا الحد , وقد يمكن أن يريدا جلد تعزير. وبإيجاب الحد على من رمى به يقول مالك , والشافعي. وهو الخارج على قول أبي يوسف , ومحمد بن الحسن

قال أبو محمد : فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك فوجدنا هذه المسألة يعني من رمى آخر : بأنه ينكح الرجال , أو بأنه ينكحه الرجال إنما هي معلقة بالواجب في قوم لوط , فإن كان زنى فالواجب في الرمي به حد القذف بالزنى , وإن كان ليس زنى فلا يجب في الرمي به حد القذف بالزنا وسنستقصي الكلام في هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب مفرد له إثر كلامنا في حد السرقة , وحد الخمر ، ولا حول ، ولا قوة إلا بالله وهو ليس عندنا زنا فلا حد في الرمي به.

وأما أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن فهو عندهما زنا أو مقيس على الزنا فالحد عندهما في القذف به.

وأما مالك , والأشهر من أقوال الشافعي فهو عندهم خارج من حكم الزنا ; لأنهما يريان فيه الرجم أحصن أو لم يحصن فإذ هو عندهم ليس زنا , وإنما حكمه المحاربة أو الردة ; لأنه لا يراعى فيه إحصان من غيره , فكان الواجب على قولهما أن لا يكون فيه حد الزنا وهو مما تناقضوا فيه أفحش تناقض , فلم يتبعوا فيه نصا ، ولا قياسا.

فإن قالوا : إن الرمي بذلك حرم

قلنا : نعم , وإثم , ولكن ليس كل حرام , وإثم : تجب فيه الحدود , فالغصب حرام ، ولا حد فيه , وأكل الخنزير حرام ، ولا حد فيه , والرمي بالكفر حرام ، ولا حد فيه.

وأما من قال لأخر : يا مخنث فإن القاضي حمام بن أحمد قال : حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن أبي سفيان قال : قال رسول الله  : من قال لرجل من الأنصار : يا يهودي , فاضربوه عشرين , ومن قال لرجل : يا مخنث فاضربوه عشرين

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا ليس بشيء , وذلك ; لأنه مرسل , والمرسل لا تقوم به حجة. ثم هو أيضا من رواية إبراهيم بن أبي يحيى وهو في غاية السقوط. ولو كان هذا صحيحا عن رسول الله لاوجبناه حدا , ولكنه لا يصح , فلا يجب القول به , ولا حد في شيء مما ذكروا وإنما هو التعزير فقط للأذى ; لأنه منكر , وتغيير المنكر واجب , لأمر رسول الله وبالله تعالى التوفيق


2241 - مسألة : من رمى إنسانا ببهيمة

قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري ، أنه قال : من رمى إنسانا ببهيمة , فعليه الحد. وبه إلى ابن وهب ، حدثنا ابن سمعان عن الزهري قال : من رمي بذلك يعني ببهيمة جلد ثمانين.

حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : من قذف رجلا ببهيمة جلد حد الفرية.

وقالت طائفة : لا حد في ذلك

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر الجعفي قال : سألت الشعبي عن رجل قذف ببهيمة أو وجد عليها قال : ليس عليه حد.

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ربيعة ، أنه قال فيمن يقذف ببهيمة قال : قد قذف بقول كبير , والقائل أهل للنكال الشديد , ورأي السلطان فيه.

وأما الحنفيون , والمالكيون , والشافعيون , وأصحابنا الظاهريون , فلا يرون في ذلك حدا أصلا وهذا تناقض من الحنفيين , والمالكيين , والشافعيين في ذلك , إذ يرون الحد على من قذف بفعل قوم لوط , ولا يرون الحد على من قذف ببهيمة وكل ذلك مختلف فيه كما أوردنا. وكل ذلك لا نص في إيجاب الحد في الرمي به وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد رحمه الله : وهم لا يجدون عن أحد من الصحابة إيجاب حد على من رمى إنسانا بفعل قوم لوط , ونحن نوجدهم عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، إيجاب حد حيث لا يوجبونه , كما نذكر إن شاء الله تعالى ;


2242 - مسألة : فيمن فضل على أبي بكر الصديق , أو افترى على القرآن كما ،

حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري ، حدثنا عبد الله بن الحسين بن عقال ، حدثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ، حدثنا محمد بن أحمد بن الجهم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا محمد بن بشار بندار ، حدثنا محمد بن جعفر غندر ، حدثنا شعبة عن حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى : أن الجارود بن العلاء العبدي قال : أبو بكر خير من عمر فقال رجل من ولد حاجب بن عطارد : عمر خير من أبي بكر : فبلغ عمر , فضرب بالدرة الحاجبي حتى شغر برجله وقال : قلت : عمر خير من أبي بكر , إن أبا بكر صاحب رسول الله وكان أخير الناس في كذا وكذا من قال غير ذلك وجب عليه حد المفتري

قال أبو محمد رحمه الله : هكذا في كتاب العذري : من ولد حاجب بن عطارد وهو خطأ والصواب : من ولد عطارد بن حاجب بن زرارة

قال علي : إنما أخبر عمر في هذا الخبر : أن أبا بكر أخير الناس في كذا وكذا أشياء ذكرها لا على العموم , وقد يكون المرء خيرا في شيء ما من آخر خير منه في أشياء , فقد عذب بلال في الله تعالى بما لم يعذب أبو بكر , وجالد على ما لم يجالد أبو بكر , وأبو بكر خير منه على العموم وفي أشياء غير هذا كثيرة. وبالسند المذكور إلى ابن الجهم ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا الهيثم , والحكم , قالا جميعا : حدثنا شهاب بن خراش عن الحجاج بن دينار عن أبي معشر عن إبراهيم قال : سمعت علقمة ضرب بيده على منبر الكوفة , قال : سمعت عليا عليه السلام يقول : بلغني أن قوما يفضلونني على أبي بكر , وعمر من قال شيئا من هذا فهو مفتر , عليه ما على المفتري. وبه إلى ابن الجهم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا محمد بن طلحة عن أبي عبيدة بن حجل أن علي بن أبي طالب قال : لا أوتى برجل فضلني على أبي بكر , وعمر , إلا جلدته حد المفتري.

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي , قال : استشارهم عمر في الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف : من افترى على القرآن أرى أن يجلد ثمانين.

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن جحادة بن دثار أن ناسا من أصحاب رسول الله شربوا الخمر بالشام ، وأن يزيد بن أبي سفيان كتب فيهم إلى عمر فذكر الحديث وفيه : أنهم احتجوا على عمر بقول الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا} فشاور فيهم الناس , فقال لعلي : ماذا ترى فقال : أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن به , فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم , فإنهم قد أحلوا ما حرم الله تعالى , وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين , فقد افتروا على الله الكذب , وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض

قال أبو محمد رحمه الله : هم يعظمون يعني الحنفيين , والمالكيين قول الصاحب وحكمه إذا وافق تقليدهم وأهواءهم , وهم هاهنا قد خالفوا الصحابة ، رضي الله عنهم ، فلا يرون على من فضل عمر على أبي بكر حد الفرية , ولا على من فضل عليا عليهما حد الفرية , ولا يرون على من افترى على الله تعالى وعلى القرآن , حد الفرية , لكن يرون القتل إن بدل الدين , أو لا شيء إن كان متأولا. هذا , وهم يحتجون بقول علي , وعبد الرحمن , في هذين الخبرين في إثبات ثمانين في حد الخمر , نعم , وفي إثبات القياس وقد خالفوهما في إيجاب حد الفرية على من افترى على الله كذبا. فلئن كان قول علي , وعبد الرحمن , حجة في إيجاب حد الخمر , وفي القياس , فإنه حجة في إيجاب حد الفرية على من افترى على الله تعالى كذبا وعلى القرآن. ولئن كان قولهما ليس بحجة في إيجاب حد الفرية على من افترى على الله تعالى , وعلى القرآن , فما قولهما حجة في إيجاب القياس , ولا في إيجاب ثمانين في الخمر ، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق. وهذا يليح لمن أنصف نفسه أنه ليس كل فرية يجب فيها الحد , فإذ ذلك كذلك فلا حد إلا في الفرية بالزنا , لصحة النص , والإجماع على ذلك. وبالله تعالى التوفيق.


2243 - مسألة : عفو المقذوف عن القاذف

قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ربيعة ، أنه قال في رجل قال للإمام : افترى علي فلان , أو رمى أمي فيقول الإمام : أفعلت فيقول : نعم , قد فعلت , فيقول الآخر : قد أعفيته فينبغي للإمام أن يقول للمفترى عليه : أنت أبصر ، ولا يكشفه لعله يكشف غطاء لا يحل كشفه , فإن عاد يلتمس ذلك الحد كان ذلك له. وبه إلى ابن وهب ني مالك بن أنس أن زريق بن الحكم حدثه. قال : افترى رجل يقال له مصباح على ابنه , فقال له : يا زاني , فرفع ذلك إلي فأمرت بجلده , فقال : والله لئن جلدته لاقرن على نفسي بالزنا فلما قال ذلك لي أشكل علي فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أذكر ذلك له , فكتب عمر إلي : أن أجز عفوه في نفسه قال زريق : فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز في الرجل يفتري عليه أبواه , أيجوز عفوه عنهما فكتب عمر إلي : خذ له بكتاب الله تعالى , إلا أن يريد سترا

حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية أخبرني زريق بن حكيم أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في رجل قذف ابنه : أن اجلده , إلا أن يعفو ابنه عنه. قال ابن زريق : فظننت أنها للأب خاصة , فكتبت إلى عمر أراجعه : للناس عامة أم للأب خاصة فكتب إلي : بل للناس عامة. وقال آخرون : لا عفو في ذلك لأحد ,

كما روينا بالسند المذكور إلى عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب قال : لا عفو في الحدود عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام , فإن إقامتها من السنة. وبه إلى عبد الرزاق عن معمر , وابن جريج كلاهما عن الزهري , قال : إذا بلغت الحدود السلطان فلا يحل لأحد أن يعفو عنها قال ابن جريج , ومعمر يعني الفرية وقد روي هذا القول عن الحسن البصري .

وبه يقول أبو سليمان , وأصحابنا.

وهو قول الأوزاعي , والحسن بن حي.

وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا يجوز العفو عن الحد في القذف.

وروي عن أبي يوسف في أحد قوليه وعن الشافعي , وأصحابه , وأحمد بن حنبل , وأصحابه : أن العفو في ذلك جائز قبل بلوغ الأمر إلى الإمام , وبعد بلوغه إليه.

وقال مالك فيمن قذف آخر فثبت ذلك عند الإمام فأراد المقذوف أن يعفو عن القاذف قال : لا يجوز له العفو , إلا أن يريد سترا على نفسه خوف أن يثبت عليه ما رمي به , فيجوز عفوه حينئذ. قال مالك : فإن أراد المقذوف أن يؤخر إقامة الحد على القاذف له أو لأبويه كان ذلك له , ويأخذه به متى أحب , قال : فإن عفا عنه ثم أراد أخذه لم يكن له أخذه به

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك : فوجدنا هذا الأختلاف مرجعه إلى أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون الحد في القذف من حقوق الله تعالى , كالحد في الزنا , والحد في الخمر , والحد في السرقة , والحد في المحاربة

وأما أن يكون من حقوق الناس , كالقصاص في الأعضاء , والجنايات على الأموال. فإن كان الحد في القذف من حقوق الله تعالى كسائر الحدود , فلا يجوز لأحد عفو فيه ; لأنه لا حق له فيه , ولا فرق بين من سرق مال إنسان , أو زنى بأمته وافترى عليه , أو بامرأة أكرهها , وسرق مالا من مالها , وافترى عليها , فلم يختلفوا في أنه ليس للرجل أن يعفو عن الزنا بأمته فيسقط عنه حد الزنا بذلك , ولا لهما أن يعفوا عمن سرق مالهما , أو قطع عليهما الطريق , فيسقط عنه حد السرقة بذلك , وحد المحاربة. والمفرق بين القذف وبين ما ذكرنا : متحكم في الدين بلا دليل. وإن كان الحد في القذف من حقوق الناس : فعفو الناس عن حقوقهم جائز :

فنظرنا في قول مالك , فوجدناه ظاهر التناقض ; لأنه إن كان حد القذف عنده من حقوق الله تعالى فلا يجوز عفو المقذوف أراد سترا أو لم يرد : لأن الله تعالى لم يجعل له إسقاط حد من حدود الله تعالى. وإن كان من حقوق الناس فالعفو جائز لكل أحد في حقه أراد سترا أو لم يرد ويقال لمن نصر هذا القول الظاهر الخطأ : ما الفرق بين هذا وبين من عفا عن الزاني بأمته وهو يريد تسترا على نفسه خوف أن يقيم الواطئ لها بينة بأنها له غصبها منه الذي هي بيده الآن وبين من عفا عن سارق متاعه وهو يريد سترا على نفسه خوف أن يقيم الذي سرقه منه بينة عدل أن الذي كان بيده سرقه منه , وأنه مال من مال هذا الذي سرقه آخر , فهل بين شيء من هذا كله فرق هذا ما لا يعرف أصلا , فسقط هذا القول جملة , لتناقضه , ولتعريه من الأدلة , ولأنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا عن أحد من التابعين. ثم نظرنا في قول أبي حنيفة : فوجدناه قد تناقض ; لأنه جعله من حقوق الله تعالى , ولم يجز العفو عنه أصلا , فأصاب في ذلك ثم تناقض مناقضة ظاهرة فقال : لا حد على القاذف إلا أن يطالبه المقذوف , فجعله بهذا القول من حقوق المقذوف , وأسقطه بأن لم يطلبه وهذا تخليط ظاهر

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا لا حجة لهم فيه وقد ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا محمد بن أبي عدي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت : لما نزل عذري قام النبي على المنبر فأمر بالمرأة والرجلين فضربوا حدهم

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا رسول الله أقام حد القذف ولم يشاور عائشة أمنا ، رضي الله عنها ، أن تعفو أم لا فلو كان لها في ذلك حق لما عطله عليه السلام وهو أرحم الناس , وأكثرهم حضا على العفو فيما يجوز فيه العفو

فصح أن الحد من حقوق الله تعالى , لا مدخل للمقذوف فيه أصلا ، ولا عفو له عنه.

وأما من طريق الإجماع , فإن الأمة مجمعة على تسمية الجلد المأمور به في القذف حدا , ولم يأت نص , ولا إجماع بأن لأنسان حكما في إسقاط حد من حدود الله تعالى فصح أنه لا مدخل للعفو فيه.

وأما من طريق النظر , فلو كان من حقوق الناس لكان العفو المذكور في ذلك لا يجوز ألبتة إلا من المقذوف فيما قذف به , لا فيما قذف به غيره من أبيه , وأمه ; لأنه لا خلاف في أنه لا يجوز عفو أحد عن حق غيره وهم يجيزون عفو المرء عن قاذف أبيه الميت , وأمه الميتة وهذا فاسد , وتناقض من القول , والقوم أهل قياس. قد اتفقوا على أنه لا عفو للمسروق منه من قطع يد سارقه , ولا للمقطوع عليه في الطريق في العفو عن القاطع عليه للمحارب له , ولا للمزني بامرأته , وأمته , عن الزاني بهما فأي فرق بين القذف وحد السرقة , ولا للمقطوع عليه الطريق في العفو عن القاطع.

وأما ما جاء عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، فإن عمر جلد أبا بكرة , ونافعا , وشبل بن معبد , إذ رآهم قذفة ولم يشاور في ذلك المغيرة ، ولا رأى له حقا في عفو أو غيره. فبطل قول من رأى العفو في ذلك جملة وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الحدود
كتاب الحدود (مسألة 2167 - 2169) | كتاب الحدود (مسألة 2170 - 2171) | كتاب الحدود (مسألة 2172 - 2173) | كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) | كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) | كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) | كتاب الحدود (مسألة 2181 - 2182) | كتاب الحدود (مسألة 2183 - 2186) | كتاب الحدود (مسألة 2187 - 2188) | كتاب الحدود (مسألة 2189 - 2192) | كتاب الحدود (مسألة 2193 - 2194) | كتاب الحدود (مسألة 2195 - 2196) | كتاب الحدود (مسألة 2197 - 2198) | كتاب الحدود (مسألة 2199) | كتاب الحدود (مسألة 2200 - 2202) | كتاب الحدود (مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 1 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 2 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 3 مسألة 2203) | كتاب الحدود (مسألة 2204 - 2207) | كتاب الحدود (مسألة 2208 - 2209) | كتاب الحدود (مسألة 2210 - 2212) | كتاب الحدود (مسألة 2213 - 2216) | كتاب الحدود (مسألة 2217 - 2220) | كتاب الحدود (مسألة 2221 - 2223) | كتاب الحدود (مسألة 2224 - 2228) | كتاب الحدود (مسألة 2229 - 2231) | كتاب الحدود (مسألة 2232 - 2235) | كتاب الحدود (مسألة 2236 - 2238) | كتاب الحدود (مسألة 2239 - 2243) | كتاب الحدود (مسألة 2244 - 2246) | كتاب الحدود (مسألة 2247 - 2255)