بهرام جور
ملك بهرام ثلاث و ستين عاما
[عدل]قال صاحب الكتاب: فجلس بهرام للناس سبعة أيام متوالية يعدهم الخير من نفسه، و يأمرهم بتقوى اللّه و طاعته. و لما كان اليوم الثامن استحضر الكاتب و أمره أن يكتب الى كل واحد من ملوك الأقاليم، و أصحاب الأطراف كتابا يخبر فيه بأن بهرام قعد مقعد أبيه من تخت السلطنة، و أن الناس قد دخلوا له فى ربقة الطاعة، و أن الخلائق قد استظلوا بظلال معدلته و استمسكوا بحبل خدمته. فكتب الكتب و نفذت على أيدى الرسل اليهم.
توديع بهرام للمنذر و النعمان و هبة باقي الخراج للإيرانيين
[عدل]و اجتمعت أكابر الفرس الذين تحالفوا و تعاهدوا على مخالفة بهرام فدخلوا على المنذر بن النعمان و سألوه مخاطبة الملك فى حقهم حتى يتجاوز عما بدر منهم من سوء الأدب، و يغفر لهم تلك الزالة. فدخل المنذر على بهرام و كلمه فى حقهم، و لم يزل به حتى عفا عنهم. ثم جلس من الغد و أذن لهم فى الدخول عليه فأقعد كل واحد منهم فى مرتبته من خدمة السرير، و ثم مدّ السماط. و لما طعموا جلس للشراب. و بقى كذلك ثلاثة أيام. ثم ذكر للحاضرين حسن صنيع المنذر و ولده النعمان، و شكرهما على رءوس الأشهاد، و قام الحاضرون فأثنوا على المنذر و شكروه و دعوا له. ثم أمر بإحضار جملة وافرة من نفائس الجواهر و الخيل و الأسلحة و الذهب و الفضة و الملابس و المفارش و الجوارى و الغلمان فأمر بتسليم ذلك كله الى المنذر و النعمان. و خلع على جميع أمراء العرب الذين كانوا فى خدمتهما، و خص كل واحد منهم بعطية سنية. ثم صرفهم الى بلادهم شاكرين غانمين. ثم خلع على خسرو و أعطاه عطايا كثيرة و تحفا نفيسة، و جمله ملك حجابه و سالار بابه.
و قلد أخاه نرسى بن يزدجرد قيادة الجيوش و تدبيرهم، و جعله بهلوان العساكر. ثم أمر للجند بأرزاقهم حتى صلحت أحوالهم. ثم استحضر الكاتب و الدستور و أمرهما بالكشف عن البقايا الواجبة على رعايا ايران، و إحصائها و عرضها لديه. ففعلوا فكان المجموع ثلاثة و تسعين ألف ألف دينار. فأمر بإسقاطهما كلها عنهم، و أحرق الجرائد الناطقة ببقائها عليهم. فاستفاضت هذه المكرمة الجليلة، و استبشر بها جميع أهل المملكة فدخلوا بيوت النار و نثروا المسك عليها، و سألوا اللّه تعالى ثبات ملكه و دوام دولته. ثم أمر بتفريق ثقاته فى أقطار الممالك حتى يسترجعوا الذين تفرّقوا فى أيام أبيه من عسفه و جوره الى أوطانهم. فعادوا آمنين وادعين.
ثم إنه لما استتب أمره، و استقام ملكه، و شمل البر و البحر حكمه تفرّغ للصيد و الطرد و اللهو و الطرب فيوما فى الميدان للعب بالكرة و الصولجان، و يوما فى البستان بين الراح و الريحان، و مرة خلف غزلان الإنس، و آونة خلف غزلان الوحش.
قصة بهرام و لنبك السقاء
[عدل]فاتفق أنه خرج ذات يوم الى الصيد فعبر عليه شيخ بيده عصا فذكر له أنه هاهنا يهودى ذو ثروة واسعة و أموال جمة، و هو مع ذلك لئيم جاهل، و عن حلية المروءة عاطل. و قيل: هاهنا رجل آخر سقاء فقير يطعم الأضياف و لا يخشى الإسراف.
فسأل عنه الملك فقيل: إن من عادته أن يدور بقرب الماء على الأبواء الى نصف النهار. ثم يطلب الضيف و يحمله الى بيته و ينفق عليه كسب يومه و لا يترك شيئا الى غده. فأمر الملك بأن ينادى فى السوق أن من اشترى ماء من لنبك السقاء لم يلق خيرا. و لما تورست الشمس ركب متنكرا و جاء الى بيت السقاء و قرع الباب و قال: أنا من مماليك السلطان و قد تخلفت عنه و أمسيت، و أريد أن أبيت الليلة فى هذا البيت حتى اذا أصبحت لحقت به.
و قال: فرحب به السقاء و قال: انزل متع اللّه بك الملك، و يا طوبى لو كان معك عشرة آخرون فكنت أحملهم على رأسى و عينى. فنزل الملك، و أخذ السقاء بعنان فرسه، و نفض عنه الغبار و حط سرجه و مسح ظهره.
ثم عدوا و سعى فى إصلاح طعام له فقدّمه بين يديه. فلما رأى بهرام ذلك ضحك ثم اشتغل بالأكل. و لما فرغ جاء بالشراب فكان الملك يشرب و يقضى العجب من سعة صدره مع ضيق يده. ثم نام و لما أصبح جاء السقاء و اعتذر اليه و سأله أن يقيم عنده ذلك اليوم ليقوم بحق ضيافته. فأجابه الى ذلك فأخذ قربته و أداته، و دار بالماء ساعة فلم يشتر أحد منه. فغمه ذلك فخلع قميصه و اتّزر ، بمئزر كان يلبسه تحت القربة، فباعه و اشترى لحما و كشكا و أصحلهما له ثم قدّمه اليه فطعم. فأحضره الشراب و أخذ يسقيه حتى ثمل و نام. و لما أصبح جاءه و سأله أن يقيم عنده اليوم الثالث أيضا، و قال: إن أقمت عندى اليوم فقد أحسنت إلىّ و أنعمت علىّ . فأجابه بهرام الى ذلك فأخذ قربته و سائر أداته، و رهنها على ما احتاج اليه، و دخل البيت فرحان مسرورا. و وضع اللحم و قال لبهرام:
عاونى على إصلاح الطعام. فأخذ بهرام يقطع اللحم. و لما استوى طبيخهم أكلا و اشتغلا بالشرب حتى نام بهرام. و لما أصبح أتاه السقاء و اعتذر اليه و قال: إن كنت تصبر عن الملك فأقم عندى أسبوعا أو أسبوعين فى هذا المنزل الرث و ان كان لا يليق بك. فشكره بهرام و أثنى عليه و قال: سأحدث بحديثك حيث ينفعك. فأسرج فرسه و ركب مغلّسا ، و صار الى متصيده و أقام فى معسكره.
قصة بهرام و براهام اليهودي
[عدل]و لما أمسى ركب و جاء الى بيت اليهودى و قد جنّ الليل، فقرع بابه و قال: إنى تأخرت عن السلطان، و قد هجم الليل، و قد أضللت الطريق. فإن آويتموني الليلة لم أحملكم كلفة، و تقلدت لكم منه. فجاء الغلام و أخبر اليهودى بالطارق الذى طرق و بقوله. فصاح عليه و قال له: قل ليس عندنا موضع. فبلغه الغلام ذلك.
فقال بهرام: لا بدّ من ذلك. فأخبر اليهودى فقال: قل له إن موضعنا موضع ضيق، و صاحبه يهودى فقير جائع لا يقعد إلا على الأرض، و هذ الموضع لا يصلح لمثلك. فذكر له الغلام ذلك فقال بهرام: إنى أبيت خلف الباب و لا أكلفكم شيئا، و اذا أصبحت خرجت.
فأتاه اليهودى بنفسه و قال: أيها الفارس! قد صدعتنى الليلة. و كأن الدنيا ضاقت عليك حتى جئت الى بيتى. فعاهدنى الآن على أنك اذا دخلت البيت لا تطلب منى شيئا و لا تحملنى مؤونة، و إن كسر فرسك بحافره شيئا من الآجر أعطيتنى عوضه، و أنك تكنس غدا ز بله و ترميه الى خارج. فحلف له بهرام على ذلك. ففتح الباب و أدخل فرسه فحط عنه سرجه و وضعه تحت رأسه، و فرش لبده تحته و نام عليه. و بقى الفرس بلجامه صافنا خلف الباب. و أغلق اليهودى الباب، و قعد فى مجلس له، و أحضر طعامه و أخذ يأكل وحده و لا يدعو ضيفه.
فقال له: أيها الفارس! احفظ عنى هذا الكلام: إنه قيل كل من كان له شيء يأكل، و من لم يكن له شيء ينظر.
فقال بهرام: قد بلغنى ذلك سماعا، و رأيته الليلة عيانا. ثم لما فرغ من الطعام جاء بالشراب و أخذ يشرب. فلما تمكن منه السكر قال:
أيها الفارس التعبان! اسمع هذا المثل الآخر. قد قيل من كان يملك شيئا فليأكل، و من لم يكن له شيء فليبت جائعا نائعا مثلك. قال: فلما طلع الفجر أسرج بهرام فرسه ليركب فجاءه اليهودى و قال:
أيها الفارس! أما تفى بقولك؟ ألم تشترط أنك تكنس زبل الدابة؟ فلم تخالف؟ فقال بهرام:
اطلب لى أجيرا يفعل ذلك، و أعطيه أجرته. فلم يفعل فأخرج بهرام منديل حرير كان معه فحمل فيه الزبل و رماه الى خارج. و ركب و عاد الى إيوانه.
تقسيم بهرام أموال براهام اليهودي و هبتها إلى لنبك السقاء
[عدل]و لما أصبح استحضر السقاء و اليهودى و نفذ الى بيت اليهودى بعض ثقاته، و أمره بأن يحمل اليه كل ما فى بيته على الجمال و البغال. فرأى بيته مملوءا من الجواهر و الرغائب من الذهب و الفضة و الثياب و الحلى و الحُلل . فاستعظم ذلك و استكثره، و جاء بألف جمل فأوقرها من بيته بأمواله و ذخائره، و عاد الى حضرة الملك. فأمر الملك بتسليم مائة حمل منها الى السقاء، و أعطى اليهودى أربعة دراهم و قال: يكفيك هذا رأس مال. ثم فرق الباقى على الفقراء و المحتاجين. و أصبح اليهودى من أخسر الخاسرين. ( ا)
قصة بهرام و كبروي و تحريم بهرام الخمر
[عدل]ذكر صاحب الكتاب أن بهرام كان ذات يوم جالسا بين ندمائه و جلاسه فدخل عليه بعض أكابر أهل القرى بأحمال من الفواكه. فأكرمه بهرام و أجلسه بين أصحابه. فرأى قدحا فيه خمسة أمناء من الشراب فأخذه و قال: أشرب سبعة أقداح من هذه و لا أسكر، و أرجع صاحيا الى ضيعتى. ففعل ذلك غير مكترث بكثرته. ثم استأذن الملك و خرج منصرفا الى ضيعته، و سار فى طريقه فغلى الشراب فى صدره فلم يطق الركوب. فعدل من الطريق الى ظل شجرة فنام و غمره النوم و السكر. فنزلت عليه غربان سود من الجبل فاقتلعن عينيه. و أتاه أصحابه فوجدوه ميتا مفقوء العينين، و فرسه مربوطا بين يديه. فأنهوا خبره الى الملك فعظم ذلك عليه فحرم الخمر. عند ذلك و قال:
لا يشربها وضيع و لا شريف.
قصة الإسكاف الشاب مع الأسد و تحليل بهرام الخمر
[عدل]و صار الملك اذا جلس فى مجلس الأنس يحضر عنده كتب الملوك و تواريخهم و سيرهم فيشتغل بذلك عوضا عن الشرب. فمضت سنة على ذلك فاتفق أن تزوّج ابن إسكاف بامرأة ذات مال و جمال. فلما كانت ليلة الزفاف أخرجت أمه قطعة شراب كانت قد خبأتها. و قالت لابنها: اشرب من هذه سبعة جامات فلعلك تفض الليلة الختم، و لا تقرف بين عشيرتك. فشرب الإِسكاف منها سبعة أو ثمانية فاشتدّت عروقه و أعصابه. و لما أسبل عليه حجابه تفتح دون مراده بابه. فخرج الى باب داره و هو سكران فرأى أسدا قد قطع السلاسل و أفلت فوثب على ظهره، و علاه و استمسك بأذنيه. فجاء السباع و باحدى يديه السلسلة و بيده الأخرى الحبل يريد إمساكه فرأى الإسكاف على ظهره كراكب حمار. فانصرف و دخل على الملك و أعلمه بذلك. فقضى بهرام منه العجب فقال لبعض موابذته. كأن هذا الاسكاف ينتسب الى أصل كريم. ففتش عن نسبه و أخبرنى به. ففتش عنه فاذا به قد ورث صناعته أبا عن جد، و كل آبائه أساكفة. فلما طال فى بابه الحديث حضرت العجوز و أعملت الملك بما جرى. فضحك و حلل الخمر. و أذن أن يشرب منها مقدار ما يتقوّى به شاربه حتى يصير بحيث يقاوم السباع، و لا يسرف حتى يصير شاربها عرضة للغربان و أشباهها. فارتفعت أصوات البشائر بتحليل الراح و الترخص فى إدارة الأقداح و جلب السرور و الأفراح.
عثور بهرام على كنز جمشيد
[عدل]قال صاحب الكتاب: و خرج بهرام ذات يوم الى متصديه و معه جماعة من موابذته و وزرائه و خواص حضرته. فاعترض الموكب فلاح و بيده مسحاة، و سأل عن الملك فسأله موبذ عن حال.
فقال: لست أتكلم حتى أرى وجه الملك. فأتوا به الملك فقال: إن معى سرا أريد أن أبوح به اليك. فثنى بهرام عنانه، و عدل عن الطريق و خلا بالفلاح. فقال له: أيها الملك! إنى كنت أسقى زرعا فى هذه الأرض فامتلأ القراح ماء فاذا بثقبة فى وسط الأرض ينزل فيها الماء و يسمع منه صوت يشبه صورت الصنج. و كأن المكان فيه كنز. فمضى معه الملك الى ذلك المكان، و ضربت له خيمة هناك فنزل. و أحضر الفعلة فأمرهم بحفر ذلك المكان فانتهوا الى أزج مبنى بالآخر و النورة.
فظهر له باب ففُتح و دخل فيه موبذ مع شخص آخر فرأيا بيتا واسعا و اذا بجاموسين مصوغين من الذهب الأحمر مربوطين على معلف كبير من الذهب مملوء من الزبرجد و الياقوت مخلوطا بعضه بالبعض، و قد ركبت فى عيون الجاموسين يواقيت تنقد كالحجر، و الجاموسان مجوّفان مملوءة أجوافهما باللآلئ الشاهية، و حواليهما تماثيل كثرة قد صيغت على صور السباع و اليعافير و التداريج و الطواويس مرصعة بالجواهر و اليواقيت.
فخرج الموبذ و هو ممتلئ فرحا و سرورا فقال لبهرام: أيها الملك! قد أعطيت كنزا من الجواهر لم ير و لم يسمع بمثله. فقال له بهرام: من كنز كنزا فلا بد أن يكتب عليه اسمه. ففتش فلعلك تجد اسم صاحب هذا الكنز مكتوبا فى شيء. فدخل الموبذ فرأى ختم جمشيذ عليهما. فخرج و أعلم بهرام بذلك.
فقال للموبذ: أيها العالم العاقل! مالى أفرح بكنز كنزه جمشيذ من قبل؟ لا كان مال لم يعن يجمع السيف و العدل. و. أمره أن يفرق جميعه على الفقراء و المحتاجين و المدينين و الغارمين، بعد أن يسلم عشرة الى الفلاح الذى دل عليه.
و قال: لا حاجة لعسكرنا الى تفرقة هذا المال عليهم. فان الجواهر ليمكن تحصيلها و ابتياعها من الأرامل و عجزة الرجال. و ينبغى أن يكنز الملوك ذكرا جميلا، و يدخروا أجرا جزيلا. ثم رجع و فتح أبواب كنوزه و دفائنه التى أخذها من الأعداء بسيفه، و جمعها بعدله، ففرّقها على عساكره حتى أغناهم أجمعين. و قال: معاذ اللّه أن أكنز دفائن الماضين، و أفرح بما خلق للفناء أو أفتخر إلا باكتساب المجد و السناء.
فدعا له الحاضرون و قرّظوه و شكروه و حمدوه.
مصارعة بهرام للثعبان و مقتل الثعبان و قصته مع امرأة الثعبان
[عدل]ذكر صاحب الكتاب أيضا أن بهرام خرج يوما الى الصيد فانفرد من أصحابه فرأى ثعبانا عظيما كأنه سبع ضار. فى رأسه شعر طويل بطول قدّه ، و له ثديان كثدى النساء. فوتر قوسه و رماه بنشابة أصابت رأسه فسقط. فنزل عليه و شق بالخنجر صدره فاذا برجل شاب فى جوفه قد ابتلعه. فرق له قلب بهرام حتى بكى.
فأظلمت عينه من بخار سمه. فركب كما هو، و مضى حتى انتهى الى ضيعة. فرأى امرأة على باب دار و بيدها جرّة تريد الماء فغطت وجهها من بهرام. فقال لها بهرام: هل عندكم من مبيت؟ فقال المرأة: الدار دارك فانزل. فدخل بفرسه بهرام. فدعت المرأة بزوجها و قالت له: اربط فرسه و امسح ظهره و قدّم له تبنا. و دخلت مجلسا له و كنسته و فرشت حصيرا و وضعت مخدّة . فدخل بهرام و تمدّد مستريحا مما عاناه من مقاتلة الثعبان و قتله و ما خاصر دماغه من روائح سمه.
فقدّمت المرأة اليه طبقا من خلاف عليه خل و بقل و لبن و خبز فتناول منها لقيمات و نام.
فخلت المرأة بزوجها و سارته و قالت: أيها القبيح الوسخ! إن هذا الفارس أمير كبير فاذبح له حملا.
فامتنع و تعلل بالفقر و العجز. فلم تزل به حتى أجاب و ذبح له حملا كان فى بيته فطبخته و قدّمته اليه
العشى فأكل بهرام و غسل يده. و كان منكسر البدن من أثر التعب اليه فقدّمت اليه يقطينة فيها شراب مع قليل من الغبيراء برسم النقل. فأخذ بهرام يشرب ثم قال للمرأة: حدثينى حتى أشرب على حديثك.
ثم قال لها: كيف حالكم مع هذا السلطان؟
فقالت: إنه لا جور علينا من الملك و لا حيف سوى أنه يأخذ من كل جان يجنب خمسة دراهم. و ليس منه تحمل علينا إلا من هذه الجهة فاستقل الملك ذلك المقدار و أضمر الزيادة عليه.
و ذكر غير صاحب الكتاب أنه رأى بستانا كبيرا عند دارها فسألها عن خراجها و مقدار ما عليها كل سنة. فقالت: للسلطان كل سنة على هذا البستان و على أمثاله خمسة دراهم. أو كما قال.
فاستقل بهرام المقدار المذكور فى نفسه، و نسب عماله الى التقصير فى حقه، و نوى الكشف من عنده و أن يزيد فى مقداره. فنام على هذه النية الظالمة. و لما أصبح أرادت المرأة أن تصلح له لبنية فقامت الى بقرة كانت لها لتحلبها فمسحت ضرعها فلم تدرّ و وجدت ضرعها خاليا من اللبن. فقالت لزوجها: إن قلب السلطان قد غير، و كأنه قد نوى سوءا و أضمر ظلما.
فقال لها الزوج: ما هذا التطير؟ فقالت: أما تعلم أن الملك إذا صار ظالما جفت الألبان فى الضروع، و لم يأرج المسك فى النوافج، و شاع الزنا و الربا فى الخلق، و صارت القلوب قاسية كالحجر الصلد، و عاثت الذئاب و ضربت بالإنس، و تخوّف ذو و العقول من ذوى الغواية و الجهل.
و لولا حدث حدث لما تغير لبن هذه البقرة الحلوبة. فلما سمع بهرام ذلك من المرأة ندم على ما أضمر و استغاث فى سره الى اللّه تعالى و تاب عما عزم عليه. ثم عادت المرأة الى البقرة تسمى اللّه تعالى، و مسحت ضرعها فدرت بلبن غزير. ففرجت المرأة و قالت: إنك يا مستغاث الخلق! قد قلبت الظالم عادلا حتى عاد لى ضرع هذه البقرة حافلا.
فحلبت و أصلحت لبنية و قدّمتها الى ضيفها فطعم متعجبا من الحالة التى شاهدها. ثم قال للمرأة: خذى هذه السوط و علقيها على قضيب من الشجرة التى على باب الدار. ففعلت فاذا بعسكر بهرام مقبلين. فلما رأوا السوط نزلوا و قبلوا الأرض و اجتمعوا على باب الفلاح. فعلمت المرأة و صاحبها أنه الملك و عاد الى إيوانه، و قبلا الأرض بين يديه، و اعتذرا اليه برثاثة حالهما و ضيق أيديهما. فقبل عذرهما و أحسن اليهما، و وهب لهما تلك الضيعة، و أوصاهما بإطعام الأضياف. و ركب منشرح الصدر مسرورا. و السلام.
حكاية أخرى لبهرام مع برزين الجوهرى
[عدل]زواج بهرام من بنات برزين الثلاثة بعد خروجه للصيد
[عدل]قال صاحب الكتاب: ثم بعد ثلاثة أيام نشط للصيد، و اجتمع على بابه ثلاثمائة فارس من أكابر الفرس ليخرجوا فى خدمته، و مع كل واحد منهم ثلاثون غلاما. فخرج بهرام فى ثلاثمائة غلام فى عدد الصيد. و أسبابه.
و أخرج عشرة نُجب برحال مرصعة باللؤلؤ، و رُكُب من الذهب، و هى مجللة بالديباج و الحرير، و عشرة بغال من المراكب الخاصة، و سبعة أفيال على ظهورها تخوت فيروزجية، مع كل فيل ثلاثون فارسا بمناطق الذهب، و مائة بغل عليها المغانى و المسمعات. خرجت البازدارية بمائة و ستين من البزاة، و مائتين من الصقور و الشواهين يتلوها جارح أسود يسمى طُغرى ، و هو أكرم الجوارح على الملك. و كان سَبَجىّ الجسم ذهبىّ المخلب و المنسر. كان الخاقان ملك الصين أهداه إلى بهرام مع جملة من الهدايا و التحف و سائر ما يجلب من الأرض الصين. و وراء هؤلاء الفهادون بمائة و ستين فهذا بسلاسل الذهب و الأطواق المرصعة بالجوهر. فلما صاروا إلى متصيدهم صادفوا طيرا كثيرا فابتهج الملك لذلك و تهلل وجهه. و أرسل طغرى و فى الهواء فرمى عدّة من الطيور. ثم رأى طغرى كركيا فقصده و طلبه و أبعد حتى غاب عن عين الملك. فتبعه بعض البازداريّة ، و تبعه الملك أيضا فى عدّة من خواصه على حس صوت الجرس الذى كان فى رجله. و بقى العسكر فى المتصيد.
فعرض للملك باغ فيه قيصر فدخله فرأى فيه مماليك و جوارى و إذا بشيخ قاعد عند حوض ماء و عنده ثلاث بنات كالأقمار الطلع، على رءوسهنّ تيجان من الفيروزج، و على يد كل واحدة منهنّ جام من البلور مملوء بسلاف كذوب البلخش. فوثب الدهقان، و كان يسمى برزين، فجاء و قبل الأرض بين يدى الملك، و دعا له و سأله أن يشرفه و ينزل عنده. فقال الملك: إن طغرى قد غاب عنا، و قد ضقت ذرعا لذلك. فقال: إنى قد رأيت الساعة طائرا أسود كالقار أصفر المخلب و المنقار قد وقع على هذه الشجرة.
و سيؤخذ بسعادة الملك. فأمر بهرام غلاما فصعد الشجرة فنادى و بشر الملك بأنه وجده قد نشب و تعلق ببعض أغصان الشجرة فسرّ بهرام. و لما جيء به قام برزين فهنأه بسروره و سأله أن يقيم فى ضيافته و يشرب عنده بقية يومه. فأجابه بهرام إلى ذلك فأصلح له مجلسا شاهيا، و قال لبناته الثلاث: إن ضيفنا الليلة أكرم الأضياف. و أمرهنّ أن يحضرن عنده و يطيب قلبه. و كانت الواحدة منهن مغنية طيبة الصوت، و الأخرى رقاصة، و الثالثة جنكية. فحضرن عنده و أخذن فى أشغالهنّ و أخذ هو يشرب حتى امتلأ. طربا.
ثم سأل برزين عنهنّ فقال: إنهنّ بناتى و إماؤك.
فاستظرفهنّ الملك و استملحهنّ فأشار برزين على المغنية بأن تغنى بما فيه مدح بهرام و صفته. فغنت بما يقرب معناه من قول بعض الشعراء فى المأمون: ترى ظاهر المأمون أحسن ظاهر و أحسن منه ما أسر و أضمرا يناجى له نفسا تريع بهمة إلى كل معروف، و قلبا مطهرا و يخشع إجلالا له كل ناظر و يأبى لخوف اللّه أن يتكبرا طويل نجاد السيف مضطمر الحشا طواه طراد الخيل حتى تحسرا رِفَل إذا ما السلم رفّل ذيله و إن شمرت يوما له الحرب شمرا
فلما سمع بهرام ذلك شرب على صوته جاما كبيرا كان على كفه ثم أقبل على برزين و قال: أيها الرجل الجواد! إنك لا تجد ختنا مثلى فزوّجهن منى. فقال برزين: من يتجاسر على أن يخطر بباله ما ذكره الملك؟ و أنا أصغر خدمك، و إنهن تراب قدمك، و قد و هبتهن لك على رسم جيومَرت و أوشهَنج . فأمر فجاءوا بمهود أربعة من الذهب، فقعدت العرائس الثلاث فى ثلاثة منها و حملن إلى دار الملك. و أقام هو يشرب حتى اجتمعت أصحابه على باب برزين فقعد فى المهد الرابع و هو سكران و عاد الى إيوانه.
قال الفردوسى مخاطبا للسلطان أبى القاسم محمود رحمه اللّه : لا شيء أحسن فى السر و الإعلان من سلوك طريق العدل و الإحسان. و ما من ملك كان للرعية بفضله غامرا، و لبلاده بعدله عامرا إلا و قد بقى حيا اسمه و إن أضمره رمسه. فكن عادلا أيها الملك المطاع! و لا تحمل الرعية ما لا يستطاع.
ألا ترى بهرام كيف بقى على تعاقب الأيام ذكره فى جميع الأقطار متداولا بين الصغار و الكبار؟ على أنه لم يكن من دينه على منهج قويم و صراط مستقيم. و ما ذاك إلا لكونه باسطا لظلال المعدلة على البرية، و ناظرا بعين التعطف الى الرعية. لا جرم أنه طوى أيام عمره و أنفاس حياته فى النعيم و الترف، و عاش ما عاش تحت تاج الجلال و فوق تخت الشرف.
== فى وصف خروجه الى متصيده فى صحراء جز و قتل بهرام الأسود الضارية ==
قال صاحب الكتاب: و أمر بهرام ذات يوم بأن يخرج تخته الى بستانه. فأخرجوا تخت الفيروزجى، و نصبوه له تحت أشجار الورد، و أحضروا له الشراب و المغانى، و حضر الندماء و الخواص. فقال للموبذ: إن الأيام لا تطيب إلا بالناس، و الشَّمول لا يشمل سروره إلا بشمائل الجلاس، و حسبنا بوحدة القبر وحدة. و نحن لو صعدنا الى السماء شرفا و عزا لم يكن لنا بد من الهبوط بعد الصعود. و قد بلغت الآن من السنّ ثمانيا و ثلاثين. و اذا بلغ عمر الشاب الأربعين دخل قبله هم الممات، و بدل شمل سروره بالشتات. فلننتهز فرصة الأطراب و نهتبل غرة الشباب، و لا يخلو جامنا من الشراب فأقام بهرام على ذلك الى أن دخل وقت المهرجان، و رقت أرواج الراح فى أشباح الدنان، و اصفرت و جنات التفاح فى عذب، الأغصان، و نهد الرمان خيرىّ الجلباب، و صار منها الغصون كالكواكب الأتراب، و بدا وجه السفرجل فى الخمار الخمل، و عاد الماء فى لون اللازورد و صفاء السجنجل، و اكتنز لحم اليعفور و عبلت أجسام الفور. فاختار عشرة آلاف فارس و صار بهم الى صحراء جزء و آجامها و غياضها. و كانت مأوى السباع و الوحوش. فلما نزل فيها قال: نستريح الليلة و نركب غدا و نفتح بصيد السباع. فاذا أخلينا الأجمة منها اشتغلنا بصيد حمر الوحش. فلما أصبح صار بعسكره الى أجمة من الطرفاء هناك.
فلما توغلها خرج اليه سبع عظيم فقال لأصحابه: إنى لا أرميه بالنشاب، و إنما أقتله بالسيف حتى لا أنسب الى الجبن. فلبس قباء مبلولا من الصوف، و ركل فرسه نحوه. فلما قرب منه انتصب السبع و همّ أن ينشب براثنه فى نحر فرسه. فتلقاه بسيفه و قدّه من رأسه الى منتهى ذنبه بنصفين. فخرجت لبوة، تزئر، و ثارت نحو بهرام فتلقاها و أبان بخنجره رأسها من جسدها. فقال له بعض من معه: أيها الملك! إن هذا الفصل فصل الخريف، و وقت تتمر آساد الغريف.
و إن هذه الأغيال مملوءة بضوارى الليوث مع الأشبال. و طول هذه الأجمة ثلاثة فراسخ، و لا تقدر أن تفنى سباعها و لو أقمت عليها سنة كاملة. فلا تتعبن نفسك. و لم تخرج إلا على عزيمة صيد الوحوش. فما بالك تجهد نفسك فى صيد الأسود؟ فقال: أى قدر لضواري السباع عند رجال الحروب؟ ثم إنه انصرف و نزل فى سرادقه و غسل عنه ما ترشش عليه من دم السبع. فوضع سالار الخوان موائد الذهب من أوّل السرادق الى آخره. و حضر الأمراء و الأكابر و طعموا ثم اشتغل بالشرب. و لما علم أهل مدينة جز و برقُويه بنزول الملك فى تلك الصحراء خرج أهل الأسواق منهم ببضائعهم و أمتعتهم، و أقاموا فى تلك الصحراء أسواقا عظيمة تشتمل على طرائف كأسواق بلاد الصين فى المواسم.
براعة بهرام في صيد حمر الوحش
[عدل]و لما كان الغد ركب بهرام فى عسكره لصيد حمر الوحش فقال: من أراد أن يرمى يعفورا فلا يرمينه إلا فى كفله، و لينفذ سمه، حتى يخرج نصله من صدره. فقال له بهلوان عسكره: أيها الملك! من يقدر على هذه الرمية سواك؟ فقال: إن تلك قوّة الهية. و مَن بهرام لولا حول اللّه و قوّته ؟ ثم إنه أثار فرسه راكضا خلف يعفور، و رماه فى كفله بنشابة خرجت من صدره فركب ذلك اليعفور ردعه.
فاجتمع عليه الفرسان يقضون العجب من تلك الرمية. فقال: إن اللّه هو الذى خنى بهذه القوّة .و من لم يكن معه عناية من الحق فلا أهون منه بين الخلق. ثم ركض خلف يعفور آخر فوسطه بالسيف. و تراكضت الفرسان خلف اليعافير حتى رموا منها ملء ذلك الفضاء حتى كأنهم أخلوا تلك الأرض منها. فأمر الملك بتفريقها على الحاضرين من السوقية و التجار من أهل المدينتين. ثم تلك الأرض منها. فأمر الملك بتفريقها على الحاضرين من السوقية و التجار من أهل المدينتين. ثم إن أكابر جز، و برقويه جاءوا حضرة بهرام بهدايا من الخز و الديباج و غيرهما فقلبها الملك منهم، و أمر بإسقاط الخراج عن المدينتين. ثم كشف عن أحوال الرعية بها و عن أهل البيوتات و المتسترين منهم بملابس القنوع ففرّق عليهم أموال وافرة حتى أغناهم أجمعين.
ثم إنه ارتحل من ذلك المتصيد، و سار نحو بغداد، و أقام مقدار أسبوعين بين سنائه و جواريه بها على جملة السرور و النشاط. ثم سار منها الى اصطخرا دار الملك و مطلع التاج و مستقر التخت فدخل حجر نسائه بها و تفقدهن. فمن صادف منهن غير معتصبة بالتاج قاعدة على التخت العاج أمر بذلك لها و إنفاق الخزائن عليها. و قال للقائم بأمرهن: إنا قد جعلنا خراج الروم و الخزر برسم حُجَر اصطخر.
فان لم يكفهن ذلك فاستدع أحمال الدنانير من إصبهان و الرى.
قال: و بقى بهرام كذلك مدّة من الزمان لا يشتغل إلا باللهو و الطرب و الصيد و الطرد. و إنما سمى بهرامجور لملازمته صيد حمر الوحوش. و اسم حمار الوحش فى لسان الفرس كور.
فقيل له بهرام كور من أجل ذلك. و عربته العرب فقالوا بهرامجور.
ذكر قصة قيصر الروم و خاقان الصين مع بهرام
[عدل]خاقان الصين يشن الغارة على إيران و طلب الإيرانيين الصلح قال صاحب الكتاب: ثم تواترت الأخبار و استفاضت فى بلاد الروم و الهند و ممالك الترك و الصين بإقبال بهرام بكليته على اللعب و اللهو، و اشتغاله بذلك عن الخلق، و إهماله لأمر الجيش، و أنه لا يهمه ترتيب الجند فليس على بابه بهلوان و لا طليعة و لا ديدبان. فجمع الخاقان عند ذلك عسكرا عظيما، و أقبل طامعا فى ممالك إيران، و حشد قيصر أيضا و أقبل من الجانب الآخر في جنوده قاصدا للتوغل فى بلاد إيران أيضا. فلما تناهى الخبر بذلك إلى أرض إيران اجتمع الأكابر و الأمراء و الأعيان و القوّاد ، و دخلوا على بهرام و عنفوه و عيروه، و أخبره بامتداد الأطماع الى ممالكه. فقال لهم بهرام: إن اللّه ناصرى. و أنا بحول اللّه و قوّته و نصرته حافظ لايران و ذائد عنها كل مكروه.
و سأصرف شرهم عن هذ الإقليم بالمال و الجيش و السعادة و السيف. و استمر فى ظاهر الأمر على لهوه و لعبه كما كان. فأيس من ملكه الإيرانيون و كادوا يتلفون من الجزع و الأسف عليه.
و هو فى السر يهيئ أمر عسكره، و يستعد بحيث لا يطلع عليه أحد. فجاء الخبر بهرام بدخول الخاقان الى ممالك ايران. فاستحضر بهوالنه كُستهم ، و هو قائد جيشه و دستور ملكه و متولى حله و عقده، و فاوضه فى أمر الخاقان فيما أقدم عليه. و استدعى وجوه قوّاده و أعيان أمرائه، و انتخب من خُلّص عساكره و المذكورين منهم ستة آلاف فارس، و سلم التاج و التخت الى أخيه نرسى بن يزدجرد، و كان صاحب دين و روعة و معدلة، و رأفة، و ركب فيهم و أخذ فى طريق آذربيجان فحست الناس أنه قد هرب، حيث لم يستصحب من العسكر إلا ذلك المقدار اليسير.
قال: و لما سار بهرام وصل رسول قيصر ملك الروم فأنزله نرسى فى موضع يليق به. ثم إن الايرانيين اجتمعوا على موبذ الموبذان، و أخذوا يسفهون رأى بهرام فيما كان عليه من قبل من التغافل و الانكباب على اللهو و اللعب، و التساهل فى أمر العدوّ حتى صاروا عرضة للتلف. و قالوا: بعد أن هرب بهرام فالرأى أن نكاتب الخاقان و نلتزم له الخراج حتى تسلم البلاد و العباد. فمنعهم نرسى من ذلك فخالفوه و كتبوا إلى الخاقان كتاب ذوى عجز و ضراعة، و سألوه ألا يتوغل فى بلادهم و ديارهم حتى يلتزموا له الخراج و يحملوا اليه الإتاوة.
و أرسلوا اليه الكتاب على يد موبذ يسمى هُماى . فلما وصل إلى الخاقان كاد أن يطير من الفرح و السرور، و قال لأمراء الترك: من قدر أن يملك بلاد إيران بغير قتال سواى؟ فقد ملكتها. و ذلك بالرأى و العقل و التؤدة و الفرق. فخلع على الموبذ، و أجاب عن الكتاب، و قال: إنا قد اجتزينا منكم بأداء الخراج، و أنا صائر إلى مرو مقيم فيها إلى أن يصل ما التزمتم به من الخراج. فانصرف الرسول و نزل الخاقان فى عساكره على ظاهر مرو، و أقام بها مستريحا من التعب و مستروجا إلى اللهو و اللعب و منتظرا وصول خراج إيران اليه.
هجوم بهرام بجيشه على خاقان الصين و انتصاره عليهم
[عدل]و أما بهرام فانه كان متيقظا فى أمره. و كان قد فرّق الجواسيس و العيون حتى يخبروه بحال الخاقان. فلما علم بنزوله على مرو أمر أصحابه الذين كانوا معه فلبسوا السلاح، و جنب كل واحد منهم فرسين. فسار بهم من آذربيجان سالكا طريق أردَبيل إلى آمُل و منها الى جُرجان و منها الى مدينة نسا، و بين يديه دليل خرّيت يسلك به شعاب الجبال و مخارمها و عوادل الطرق و مجاهلها. فطار على هذه الصفة بقوادهم الرِكض حتى قرب من مرو. فأتاه فارس من جواسيسه و أخبره بأن الخاقان ركب للصيد الى كُشميهن و هو فى خِفّ من أصحابه بلا عدّة و لا سلاح. فامتلأ بهرام سرورا بما سمع، و نزل و استراح فى يومه ذلك و أراح. ثم ركب فى عسكره و سار تحت ظل الليل قاصدا قصد الخاقان حتى هجم عليه و على أصحابه فى ذلك المتصيد فلم يحسوا إلا بأصوات البوقات، و اصطفاق الأعلام و الرايات، و صليل الأسياف فى الجماجم و الهامات فأسر الخاقان رجل يقال له خزوران و عملت السيوف فى الخاقانية حتى تلاطمت أمواج الدماء فى ذلك الفضاء، و أى القتل و الأسر عليهم أجمعين. فعطف بهرام عنانه الى مرو فدخلها و أخلاها عن الترك فقتل بعضهم و أسر بعضهم، و هرب الباقون فاتبع أثرهم حتى سار ثلاثين فرسخا. ثم عاد و نزل فى مخيم الخاقان، و أمر بجمع الغنائم ففرّقها على عسكره.
رسم بهرام الحدود بين إيران و توران
[عدل]ثم لما استراح و استراح أصحابه ركب و سار بهم فى يوم و ليلة الى آمُل الشط. و لما أصبح من الغد عبر الماء و توغل فى أطراف ممالك توران يقتلهم و يأسرهم حتى اجتمع أمراء الترك و من بقى من قوّادهم و أعيانهم، و استأمنوا اليه و التزموا له الخراج. فتعطف عليهم و عفا عنهم و أجابهم الى ما التمسوا. و أقام أسبوعين ثم انصرف وراءه حتى وصل الى فرَبر فبنى هناك ميلا و جعله واسطة بين ممالك الترك و الفرس، و جعل جيحون أيضا فيصلا بين المملكتين.
و كان فيهم رجل يسمى شمرا فقلده ممالك توران. فسار اليها و لبس تاجها و تسنم تختها.
رسالة بعثها بهرام إلى أخيه نرسي و الإيرانيين
[عدل]قال: و لما فرغ من ذلك كتب الى أخيه نرسى بن يزدجرد كتاب الفتح يذكر فيه ما يسره اللّه له و يقول فى كتاب بعد حمد اللّه و الثناء عليه: من لم يشاهد وقعة الخاقان فليسمعها ممن شهدها.
إنه كان من جموعه و عساكره فى سواد سدّ ما بين الأفقين بالعجاج الأكدر حتى كأن السماء طليت بالقار من النقع المثار. و كان مصيره الى الآخرة و مصير ذلك الجيش اللهام الى الأسر و السكر. فها هو مربوط على قتب عار، و أنا قادم به عليكم على أثر هذا الكتاب. و نفذ الكتاب على أيدى النجابين. فلما وصل الى أخيه نرسى كاد يطير فرحا و سرورا. فجاءه موبذ الموبذان فى جميع أكابر الفرس فأظهروا السرور و الاستبشار بما أتاهم من ذلك الخبر المبهج و هم خجلون مما بدر منهم من مكاتبة الخاقان. فسألوا نرسى أن يكاتب بهرام و فى حقهم و يسأله أن يعفو عنهم. و ندبوا لذلك موبذا يسمى بُرزمِهر . فلما وصل الكتاب اليه شفع أخاه، و عفا عنهم و قبل معاذيرهم. ثم أتته أكابر ممالك توران بما التزموا له من الخراج كل سنة
رجوع بهرام إلى إيران
[عدل]فانصرف عند ذلك متوجها نحو اصطخر و بين يديه ألف و مائة و ستون قنطارا من الدراهم و الدنانير فى جلود البقر على ظهور الفيلة. و لما حصل فى دار ملكه أمر ببسط النطوع و إفراغ تلك و الأموال عليها. و أمر بصرفها فى عمارة القناطر و الربطُ و الخانات و إنفاقها على الفقراء الذين معاشهم من كد أيديهم، و على الأرامل و الأيتام، و على المشايخ الطاعنين فى الأسنان الذين عجزوا عن المكاسب، و على أهل البيوتات، و على عابرى السبيل. ثم أمر بتفريق المغانم على الجنود و العساكر.
ثم أمر بإحضار تاج الخاقان فقلعوا جواهره و رصعوا بها حيطان بيت النهار و لما فرغ من ذلك كله سار نحو طيسفون فتلقاه أخوه و موبذ الموبذان و سائر من كان بها من الموابذة و الأمراء و الأكابر. فلما أشرق عليهم تاجه ترجلوا له و وضعوا وجوههم له على الأرض. ثم دخل إيوانه و جلس على تخت من الذهب و على فيه دعوة لأكابر الممالك و أمراء البلاد الذين كانوا فى حضرته فخلع عليهم أجمعين.
وصية بهرام إلى عماله و القائمين بأمور الدولة
[عدل]و لما كان اليوم الثالث جلس بهم فى مجلس الأنس و أحضر الكاتب و أمره أن يكتب الى أطراف البلاد و جميع أقاليم المملكة باسقاط الخراج عن أهلها سبع سنين شكرا لما منّ اللّه به عليه حين أظفره، مع ضعفة و قلة عدد، بعدوّ مثل الخاقان فى قوّته و شوكته و كثرة عدده و عدُده . فلما بلغتهم كتبه قامت فيهم مواسم الفرح و الطرب، و خرجوا الى الصحراء بالنساء و الرجال و الصغار و الكبار، و رفعوا أصواتهم بالدعاء لبهرام و الثناء عليه. ثم اشتغلوا بالشرب و اللهو حتى صار لا يقدر على قضيب من الخلاف بدينار، و لا على طاقة نرجس بدرهم. فعمّ الأمن و الأمان و طابت القلوب حتى عادت المشايخ كالشبان. إرسال بهرام أخيه نرسي إلى خراسان و دعوة بهرام رسول قيصر الروم للحضور عنده ثم إنه ولى أخاه نرسى بلاد خراسان، و عقد له عليها فسار اليها بعد أسبوعين.
ثم قال لموبذ الموبذان: قد طال عندنا مقام رسول صاحب الروم، و سأله عنه و عن حاله و مرتبته فى العلم و العقل. فقال الموبذ: إنه رجل طاعن فى السنّ ذو رأى و حياء و منطق حسن و صوت لين. و كيف يكون من أستاذه أفلاطون الحكيم؟
فقال بهرام: إن قيصر ملك كبير أصيل ينتمى الى سلم الذى توّجه أفريذون. و ما أساء الأدب كما فعل الخاقان. فينبغى أن نحضره غدا، و نحسن اليه و نردّه الى صاحبه على جملة التوقير و الاحترام.
أسئلة و أجوبة بين رسول قيصر الروم و الموبدين الإيرانيين
[عدل]ثم لما طلعت الشمس من اليوم الثانى استحضر الرسول فدخل على الملك واضعا إحدى يديه على الأخرى فجلس عند التخت جائيا على ركبتيه. فأكرمه بهرام و سأله و قرّبه من مجلسه و أقعده على تخت الفيروزج. فقال له: قد طال مقامك هاهنا، و لا شك أنك مللت هذه الديار، و قد شغلنا عنك محاربة الخاقان. و قد ذكرناك الآن، و علمنا بتأخرك، و نحن الآن مجيبون عن رسالتك و صارفون لك. فأثنى عليه الرسول و دعا له و قال: لا خلا منك المكان و الزمان، و دام لك الملك و السلطان. و قال: و أنا و إن كنت رسول قيصر فانى خادم لعبيد الملك.
و إنما أرسلنى قيصر لأبلغ الملك سلامه و أسأل علماء حضرته عن سبعة أشياء فأرجع بجوابها اليه. فاستحضر الملك موبذ الموبذان و سائر الحكماء و العلماء فأدى الرسول رسالة قيصر ثم سأل الموبذ و قال: أخبرنى ما الداخل و ما الخارج؟ و ما العالى و ما السافل؟ و ما الشيء الذى ما له نهاية؟ و ما الجوهر الذى هو فى ذاته واحد و له أسماء متعدّدة ؟ و ما الشيء السهل الذى يستصعبه الخلق؟ فقال الموبذ: الداخل هو الهواء و الخارج هو الفلك، و العالى هو الجنة، و السافل هو النار، و الشيء الذى لا نهاية له هو علم اللّه تعالى، و الجوهر المتحد ذو الأسماء المتعدّدة هو العقل فانه يعبر عنه بالحلم و الوفاء و النطق و السعادة و حفظ الأسرار و التؤدة و السكون و ليس فى الوجود جوهر أنفس منه. فانه مثل الرأس و سائر المحاسن كالبدن. و هو الذى يتغلغل إلى ضمائر الأسرار التى لا تدركها الأبصار. و السهل المستصعب هو علم النجوم.
فإن صاحبه يعلم أسرار الفلك، و يسهل عليه معرفة طول الفلك و عرضه و مسافة ما بين السماء و الأرض. فهذا جواب ما سألت عندى، و اللّه أعلم بما وراء ذلك. فقبل الرسول عند ذلك الأرض بين يدى الملك و قال: لا تطلب فوق ما أعطيت من الجلالة و السيادة. و كما أنك ملك الملوك و السلاطين فوزيرك ملك العلماء و الحكماء فى جميع الأقاليم.
فهو السيد و جميع الفلاسفة كالعبيد له. فسر الملك و استبشر. ثم أمر للرسول بعشر. دواب و ثياب و خيل و أحسن اليه و بالغ فى إكرامه. فقال الرسول و عاد إلى منزله.
توديع بهرام لرسول قيصر الروم و السماح له بالانصراف و العودة إلى وطنه
[عدل]و لما كان اليوم الثانى حضر مجلس بهرام و حضر الموبذ و أخذوا بأطراف الحديث. فقال الموبذ، أخبرنى أيها الحكيم! عن أضر شيء تُمرى عليه الجفون، و عن أنفع شيء تَقر به العيون. فقال الرسول: أما الأوّل فهو العلم، و أما الثانى فهو الجهل. فقال الموبذ: أنعمنّ الفكرَ فيه و أجب بالصواب، و لا تظنن أن المسك يصاد على التراب. فقال الرسول: هذا هو الذى عندى من الجواب. فان كان عندى غيره فهات.
فقال: اعلم أن كل من هو أقل أذى فموته أكثر ضيرا، و من هو أكثر شرا فموته أوفر خيرا. فهذا يضر و ذاك ينفع. و العقل يفرق بين الحالتين و يجمع. فارتضى الرسول ذلك و دعا للملك و أثنى عليه و على الوزير بمحضر منه، و قام و عاد إلى منزله. و لما أصبح الملك من اليوم الثالث قعد فى مكانه و أمر بإحضار الرسول فخلع عليه و أعطاء جملة من النفائس و الرغائب، و أذن له فى الإنصراف.
نصائح و مواعظ بهرام لعماله و إيصائهم بالعدل بين الرعية
[عدل]ثم نظر فى أمر العسكر فأمر الوزير ففرّق الممالك على الإصبَهبذية ، و عين لكل إقليم بهلوانا، و لكل مدينة واليا، بعد أن فرق عليهم خزائن الأموال و الأسلحة و أمرهم بالعدل و الإنصاف و نفى أهل الجور و الإعتساف.
و قال: إن متقلدون لأمور الرعية، و من الملوك ينشأ الزيغ و الفساد و العدل و السداد. و إن كان أبونا من قبل بسط فيكم يد الظلم، و عدل عن طريق العلم و عبودية الحق فلا تعجبوا من ذلك، و انظروا ماذا صنع جمّ و كاوُس من قبله. و ما أزاغه إلا الشيطان كما أزاغهما. فعلينا الآن أن ندعو و نستغفر له. و أنا منذ قعدت فى مكانه من الملك أسأل اللّه تعالى أن يقوّينى على مداراة الرعية و معاملتهم بالحسنى و المعدلة حتى إذا واراني التراب، و أضمرتني الصفائح لم يتشبث بذيلي مظلوم، و لم يشمت بي متظلم مهموم. و أما أنتم فعليكم أن تدّرعوا بملابس السداد، و أن تطهروا قلوبكم عن الفساد.
ثم قال: و تعالوا حتى نجهد فى الحسنى و الطهارة، و لا نقترف فى هذه الدنيا الغدارة ما يورث الندامة و يعقب الخسارة. ثم إنى أقسم أوّلا بالواهب الخلاق، و ثانيا بالتاج و التخت و مكارم الأخلاق أنه إن ظلم أحد من عمالى أحدا من رعيتى، و لو فى كف من تراب، أحرقته بالنار أو صلبته عرضة للأبصار و عبرة للنظار، و أنه إن سرق فى الليل مسح من فقير عوّضته ثوبا من حرير، و لو ذهبت شاة من قطيع عوّضت صاحبها فرسا بلا من و لا أذى. و أطنب فى تذكيرهم و نصحهم حتى قال: و لا تذبحوا ذكور الثيران. التى تصلح للحراثة و لا إناثها ذوات الألبان الغزيرة. و لا تشاورا غير أهل العلم، و لا تكسروا قلوب الأيتام. و تباعدوا عن وساوس الشيطان، و تجنبوا اللهو و المرح عند محاربة العدوّ .
و من كان منكم مرتديا بفضفاض الشباب فليسحب ذلاذل الأطراب، و لا يمدّن ذو المشيب يدا الى الخنا و القبيح. فقبيح بمن جلله الشيب منادمة الشباب على الشراب.
ثم إنى بريء من التخت و التاج إن طالبت أحدا من الرعية بالخراج. و إن يكن أبى أوسعكم جورا و ظلما فها أنا موسعكم إحسانا و عدلا. فطيبوا قلوبكم عليه فلعل اللّه يهب له ذنوبه و يخرجه من ناره الى جنته. قال: فأثنى عند ذلك عليه السامعون، و دعا له الأمراء الحاضرون، و سألوا اللّه ثبات ملكه و دوام دولته.
ثم قام الوزير و قال: أيها الملك! إن العالم قد خلا ممن ينازع فى الملك، و قد دخل الملوك تحت الطاعة سوى شنكل ملك الهند فإنه يعيث فى بلاد الهند الى حدود الصين. و اذا كنت ملك الأرض فلأى معنى يطلب هو خراج الصين؟ فلينظر الملك فى هذا الأمر و ليلتمس وجه التدبير فيه. فسكت ثم قال للوزير: إنى سأدبر هذا الأمر فى السر، و أكفى ما يهم منه إن شاء اللّه تعالى. ذكر قصة شنكُل ملك الهند و مع بهرامجور و ما انتهى اليه أمرهما
رسالة بهرام إلى شنكل ملك الهند
[عدل]قال صاحب الكتاب: ثم إن بهرام استحضر الكاتب و الوزير و خلا بهما، و كتب الى شنكل كتابا مشحونا بالعلوم و الحكم. فافتتح الكتاب بحمد اللّه و الثناء عليه و قال: الحمد اللّه الذى هو رب ما كان و لم يكن، الموصوف بالأحدية فى القدم، الذى خلق من كل شيء زوجين، الذى أجل مواهبه للخلق و أجلاها و أظهرها عليهم و أبهاها العقل المنوّه بذكر من اتصف به من الصغار و الكبار فى جميع الجهات و الأقطار، و أوّل أماراته الدالة عليه أن يكون المتصف به عن التورّط فى مصارع الشر متحرزا، و بين ما له و عليه بنظره مميزا. و هو تاج على رءوس الملوك، و كالزينة على معاطف السلاطين.
ثم إنك يا ملك الهند! غير عارف بقدرك، متجاوز لطورك. و اذا كنت أنا سلطان الزمان و المتولى للخير و الشر فى جميع البلدان فتصدّ بك لادعاء الملك يعرّضك للبوار و الهلك. و قد كان أبوك و جدّك خادمين مستعبدين لنا، و لم يكن أحد من أسلافنا يرضى بإبطاء خراج الهند و تأخيره عن وقته المعين. و أراك قد اغتررت بشدّة ظهرك فصرت تبارى البحر الزاخر بنهرك. فاعتبر بيوم الخاقان و ما حل منا به.
و ما أراك إلا صاليا بجمره. و الآن فقد نفذت اليك رسولا ذا أدب و عقل و كلام فصل. فوطن نفسك على أداء الخراج، و لا تعص أطراف الزجاج. أو تشمر للكفاح و إشراع الأسنة و الرماح.
و السلام. فطوى الكاتب الكتاب، و كتب على عنوانه: من بهرام ملك العالم الى شنكل قائد جيوش الهند من أرض قنوج الى حدّ السند.
ذهاب بهرام و معه الرسالة إلى شنكل ملك الهند و تسليمها إليه
[عدل]و ختمه و تجهز للصيد مظهرا أنه خارج الى بعض متصيداته كاتما سره إلا عن جماعة من ثقاته. و توجه نحو الهند، و سار قاصدا قصد تلك البلاد الى أن وصل الى البحر فعبره و وصل الى باب شنكل فأعجبه ما رأى على بابه من الروعة و المهابة و الفيلة و الأسلحة. فأخبر صاحب الباب أنه رسول الملك بهرام الى تلك الحضرة. فأنهى حاله الى شنلك فرفعت الحجب دونه فى الحال. فدخل فرأى دارا عتبتها من البلور، و حيطانها من الذهب و الفضة، مرصعة بالجواهر.
و رأى دون التخت أخا الملك على رأسه قلنسوة مرصعة بالجوهر، و عنده الوزير، و على رأسها المماليك و الخدم. ثم رأى شنكل قاعدا على تخت من الذهب قوائمه من البلور. فدنا و قبل الأرض و مثل قائما زمانا طويلا. ثم قال بلسان ذلق فى مضار البيان منطلق: إنى رسول ملك العالم بهرام الى ملك الهند. و معى منه اليه كتاب محرر على الحرير بالخط الفهلوى. فلما سمع باسم بهرام أمر فنصبوا له كرسيا من الذهب و أجلسوه عليه و أمر صاحب بابه بإدخال أصحابه. قال: فلما استوى على الكرسى شرع فى وصف بهرام و تفخيم شأنه و تعظيم أمره.
إجابة شنكل ملك الهند على رسالة بهرام
[عدل]فطلب شنكل منه كتابه فأعطاه إياه. فلما قرئ عليه تنمر و استشاط و قال: أيها الرجل الفصيح! إن صاحبك يدل علينا بملكه فيسومنا أداء الخراج اليه. و من يستطيع أن يطلب الخراج من الهند؟ إن الملوك كاللقالق و أنا بينهم كالعقاب. و هم كالتراب و أنا و البحر ذو العباب. إن لى تحت الأرض من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوء بالفيلة، و لى من الجنود ما لا يستقل بهرام ظهر الأرض حتى إنهم يزيدون على ألف ألف. و معى بحار اللآلئ و جبال الجواهر. و حوالىّ و فى خدمتى سبعون ملكا هم أرباب المناطق و أصحاب الأطواق.
و إن الأكابر من حدّ قنّوج الى حدّ إيران الى أرض الصين و سقلاب كلهم عبدة بابى، و أسراء أمرى و نهي. و وراء ستورى ابنة بغبور ملك الصين، ولى منها ولد يشق قلب الأسد فى العرين. و لو قتل أحد من الملوك أحد من الرسل لأبنت الساعة رأسك من جسدك، و نقعت غلة الأرض من دمك. فقال الرسول: أيها الملك! خفض غليك.
إن سلطانى أمرنى أن أقول لك: إن كنت عاقلا فلا تعدل عن طريق السداد، و اختر مائة فارس من آساد فرسانك و أعيان قوّادك . فان استطاعوا مقاومة فارس واحد من رجالى فما لي معك كلام و لا بينى و بينك خصام. و إن كان غير ذلك فلا تلو رأسك عن الطاعة، و التزام الخراج لمن هو أعلى منك جلالة و نباهة. مصارعة بهرام الأبطال و الشجعان في قصر شنكل ملك الهند و إظهار بطولاته و فنونه.
فقال له شنكُل : انزل و استرح ساعة: فأنزلوه فى إيوان يليق بمثله. فلما انتصف النهار و جلس شنكل للطعام استحضر الرسول فجاء و جلس الرسل من السماط. فلما طعموا جلسوا مجلس الشراب. فلما درأت الكؤوس و طابت النفوس أمر شنكل مصارعين قويين أن يتصارعان بين يديه. فأخذا يتصارعان لا يغلب أحدهما الآخر. فلما رأى ذلك بهرام و قد دار فى رأسه السكر قام و خدم و استأذن الملك فى مصارعتهما. فضحك و أذن له فوثب و تجرّد و شدّ عليه الأزرار فأنشب براثنه فى أحد المتصارعين و رفعه فى الهواء ثم ضرب به الأرض حتى تكسر فقار ظهره.
فتعجب شنكل من ذلك و سمى اللّه تعالى بلسانه. ثم دخل الليل و انصرفوا. و لما كان الغد ركب الى الميدان فحضر من الرسول و أخذوا فى المراماة فتناول بهرام قوسه و رمى البرجاس فرماه برمية واحدة الى الأرض.
ارتياب شنكل ملك الهند في أمر بهرام و منعه عن العودة إلى إيران
[عدل]قال: فلما رأى شنكل تلك القوّة و البسالة و الشدّة استراب به فقال له: ما أراك إلا أخا بهرام. فان معك روعة الملوك و قوّة الأسود. فقال: يا ملك الهند! إنى رجل أجنبى، من أرض ايران فكيف يحل لك أن تنسبنى الى من لا يجمع بينى و بينه نسب؟ فأذن لى فى الانصراف حتى لا أتعرّض لسخط الملك بهرام. فقال له شنكل: لا تعجل فإن لنا بعد معك كلاما. ثم إنه خلا بوزيره و قال له: إن لم يكن هذا الرجل من أقارب بهرام و ليس إلا فارسا من فرسانه فاحتل عليه و اخدعه عن معاودة تلك البلاد، و عده منا بكل جميل فلعلك تصرفه عن الانصراف. فانا نجعله سالار جنودنا و بهلوان جيوشنا فنبلغ به كل مأمول، و ندرك به كل مطلوب. فاجتمع به الوزير و فاوضه فيما أشار به عليه الملك، و أخذ يفتل منه فى الذروة و الغارب، و يعارض عقله بالنفث فى عقد سحره. فقال له بهرام: إنه عز المرام. و معاذ اللّه أن أصرف وجهى عن ملك ايران طامعا فى مال و طامحا الى منال، و ان كان حالى بسبب الفقر بحال. و غير هذا هو السائغ فى ديننا و الموافق لرسمنا و آييننا. فإن كل من يزوى وجهه عن خدمة مالكه فهو عادل عن مناهج دينه و مسالكه. و أيضا فإنه لا يخفى عليك أن بهرام إن بلغه ذلك عنى اغتاظ و قصده هذه الممالك فخرّبها و لم يبق منها أصرا.
فالأولى و بكم أن أنصرف جواب اليه. فبلِّغ هذا الجواب الى شنكل و حصّل لى إذنا فى الانصراف فانصرف الدستور، و سرد جواب بهرام على صاحبه. فعظم ذلك و عليه و قال: سأدبر أمرا يعقل ظل هذا الرجل الشجاع و يخنى عليه.
قتال بهرام للكركدن و الذئب و مقتل الكركدن و الذئب
[عدل]و قال: و كان فى بعض غياض قنوج كركدن عظيم كاد يسدّ بطوله و عظمه على الرياح طريق الهبوب، هائل يفرّ منه الأسد فى الخيس، و يطخشاه النسر الطائر فى الجوّ .
و كانت الهنود من هذا الحيوان فى تعب و عناء عظيم. فقال لبهرام: إنى أريد أن تكفى أهل هذه البلاد شر هذا الحيوان. و اذا فعلت ذلك فقد أسديت الينا يدا لا تنسى أبدا. فقال بهرام: دلونى عليه فانى اذا رأيته كفيتكم شره بحول اللّه و قوّته . فعين له شنكل من يدله على الكركدن. فركب بهرام فيمن كان معه من أصحابه، و تقدّمهم حتى انتهوا الى تلك الغيضة. فلما رأى الايرانيون ذلك الحيوان العظيم أشاروا على بهرام بألا يعرّض نفسه للهلاك، و ينصرف عنه و يتمسك عند شنكل ببعض المعاذير.
فلم يقبل و وتر قوسه و بادر اليه و رشقه بالسهام حتى أضعفه و استل خنجره و قطع رأسه مستعينا باللّه وحده. فأمر بأن يحمل رأسه على العجل الى ميدان شنكل. فانصرف و قد طنت أرجاء المدينة بما تيسر على يد بهرام من قتل ذلك الشيطان الصائل و الثعبان الهائل. فدخل على شنكل فأثنى عليه الملوك و الأمراء. و شنكل مسرور من وجه مهموم من آخر.
قتال بهرام للثعبان و مقتل الثعبان
[عدل]فخلا بأصحابه و قال: قد أخذتنى الفكرة بسبب هذا الرسول. فإنه اذا عاد الى بلاد ايران لم نسلم من عاديته و معرته. و لو أقام عندنا لاتخذناه لنا ظهيرا و نصيرا، و جعلناه بهلوانا كبيرا. و قد أفكرت البارحة فى أمره فرأيت أن آمره بقتل الثعبان الفلانى- و كان فى تلك الناحية ثعبان كان يأوى تارة الى البحر و آونة الى البر، أعظم ما يكون من الثعابين.
و بلغ من ضراوته أنه كان يلتهم الزندبيل- قال و اذا تصدّى لمقاتلة هذا الثعبان أهلكه لا محالة، و بلغت الغرض فيه من غير أن أذم بقتل رسول عند الملوك. ثم استحضر بهرام و قال معه فى حديث الرجولية و الشجاعة و البسالة. ثم قال: إن اللّه تعالى إنما جاء بك الى هذه الديار لتخلص أهلها من الشر. و قد بقى أمر آخر أعظم من الأوّل .
و اذا كفيتنا ذلك فلك أن تثنى عنانك، و ترجع إلى بلادك مشكورا عالى الاسم. فقال: إنى ممتثل لأمرك غير خارج عن حكمت. فذكر له حال ذلك الثعبان و ما يعانيه الناس من أذيته. و سأله أن يقصده فيكفيهم شره، و ينفى عن أرض الهند معرته و ضره. فتقبل ذلك و سأل أن ينفذ معه من يدله على مكانه. فركب فى فرسانه الثلاثين الذين صحبوه من إيران، و الدليل يقدمهم حتى انتهوا الى الساحل. فرأى ذلك الثعبان و عظمه، و شاهد تغيظه و تنمره، و رأى حدقتيه تستعران استعار الجحيم.
فضج الايرانيون عند ذلك و قالوا: أيها الملك! لا تلق بيدك إلى التهلكه، و أبق على الملك و المملكة. فلم يقبل و تشمر كأسد أصبح للبديه نافضا، و قال اللّه خير حافظا. و وتر قوسه، و انتخب عدّة سهام مستقية النصال باللبن و السم، و أقبل على الثعبان فرشقه بتلك السهام حتى خاط ما بين فكيه. ثم رمى رأسه بأربعة أسهم أخر فغرّقها فيه الى أفواقها. فأفرغ الثعبان بحرا من الدم و السم على ساحل ذلك الخضم.
و لما رآه قد أثخنه بالجراح استل السيف و بادره و ضربه حتى أبان رأسه. فأمر فحمل على العجل الى ميدان الملك
زواج بهرام من ابنة ملك الهند
[عدل]فانتشرت البشائر و التهانى فى الهنود لمقتله، و أطلقوا ألسنتهم بالدعاء و الثناء للرسول و مرسله. و شنكل يتهلل تارة مظهر السرور، و يستهل آونه مضمرا للهموم. فاستشار وزيره و أصحاب رأيه فى اغتياله حتى يسلم من شره و ضره فلم يستصوبوا رأيه، و منعوه من ذلك، و أشاروا عليه بأن يزيد فى الإحسان اليه و الإفضال عليه مجازاة له على حسن صنيعه و جميل فعله. فبات تلك الليلة ساهرا يفكر فى أمره.
فلما أصبح و حضره برزويَه أى بهرام، و كان قد تسمى عندهم بهذا الاسم،) خلا به فى مجلس لم يحضره وزير و لا دستور، و أخذ يلاطفه و يخادعه و يسأله أن يقيم عنده على أنه يخيره بين بناته و يزوّجه منهن من أراد و يملكه البلاد، فلم يزل به حتى أجاب، و قال فى نفسه: لا عار فى مصاهرة ملك الهند. و لعلى أنجو بهذه الحبالة من هذه البلاد و أعاود بلاد الفرس سالما. فقد وقعت معه وقوع الأسد الأغلب بحيلة الثعلب.
قال: فزين شنكل بناته الثلاث و أمر فأقعدت كل واحدة منهن فى زينتها و حلَيها و حُللها فى إيوان. فدخل بهرام عليهن و اختار منهن واحدة كالروضة الناضرة تسمى سبينوذ. فزوّجه شنكُل إياها بعد أن أعطاها كنزا وافر الوفر مملوء بالمال الدثر.
ثم أحضر أصحاب بهرام( الذين كانوا فى خدمته من ايران، و فرق عليهم أموالا كثيرة و جواهر نفيسة) ثم أمر فزين إيوانه المرصع بالجواهر، و دعا أكابر قنّوج من عمل دعوة عظيمة، و أقام أسبوعا على جملة السرور و المراح
هروب بهرام من الهند إلى إيران مع ابنة شنكل ملك الهند
[عدل]تمازج بهرام و صاحبته تمازج صفو الماء و الراح، و تغلغل حب كل منهما فى قلب صاحبه لا سيما ابنة الملك فانها اتخذت وجه بهرام مرآة تطالعها سرا و جهارا، و تبكى من فرط شغفها ليلا و نهارا.
قال: فاتفق أنهما اجتمعا ذات يوم فى بعض مجالسهما فتجاذبا أطراف الحديث فقال لها بهرام:
إنى أعلم أنك لى محبة ناصحة. و إنى مفض اليك بسر فكونى له كاتمة إنى عازم على مفارقة بلاد الهند، و أريد أن توافقينى على ذلك لأحملك الى تلك الممالك. فان أمرى هنالك أعلى و أرفع، و ملكى ثَم أفسح و أوسع. و ستصيرين سيدة النساء حتى يصير أبوك من خدمك، و يقبل مواطئ قدمك.
فقالت له: أيها السيد الهمام! امض لما رأيت فانى لا أخالفك. و خير النساء من كان زوجها عنها راضيا، و حكمه فيها ماضيا. و أنا برية من حبك إن خرجت عن أمرك. فأشار عليها بهرام عند ذلك بالاحتيال فى الفرار. فقالت: سأدبر ذلك إن ساعدتنى السعادة. اعلم أنه جرت العادة بهرام بخروج الهنود الى متعبد لهم لزيارة أصنام فيه. و هو على عشرين فرسخا من هذه المدينة. فاذا صار الملك الى ذلك المتعبد فانتهز الفرصة إن عزمت. و قد بقى الى خروج الملك اليه خمسة أيام. قال: ففرح بهرام بذلك. و لما أصبح من غده ركب على عزم الصيد فجاء الى الساحل فرؤى جماعة من تجار فارس فحلفهم و أفضى اليهم بسره، واطأهم على أن يخرج و يركب بأصحابه سفنهم و مراكبهم، و وعدهم و مناهم. ثم عاد الى إيوانه مستعيذا باللّه تعالى منه. فلما دنا عيد الهنود و استعد الملك للخروج تمارض بهرام فصارت زوجته الى أبيها و قالت: إنه مريض و هو يعتذر اليك عن تأخره عن خدمتك.
فقبل عذره و قال: اذا كان به عارض فالأولى أن يلازم بيته و لا يتعب نفسه. و ركب شنكُل خارجا الى ذلك الهيكل. فلما جن الليل قال بهرام لصاحبته: هذا أوان النجاء فاعزمى. فركب فى أصحابه و ركبت هى معه. و توجهوا نحو الساحل طردا حتى اذا صاروا اليه صادفوا التجار نياما فأيقظوهم ثم وثبوا الى السفن و الزواريق فركبوا و تم لهم العبور الى ذلك الجانب.
خروج شنكل بحثا عن بهرام و عثوره عليه مع ابنته و معرفته حقيقة بهرام
[عدل]قال: فانتهى الخبر بذلك إلى شنكُل فانصرف فى سرعة الريح و ركب آثار القوم حتى انتهى الى الساحل فركب بمن صحبه البحر، و عبر الى البر فصادف بهرام مع ابنته فى أصحابه فصاح عليها من بعيد و شتمها و عيرها بانخدامها لزوجها.
فقال بهرام: مالك تركض خلفى و قد جربتني؟ أما تعلم أن مائة ألف من الهنود عندى أقل من فارس فرد؟ فانى إذا كنت فى ثلاثين فارسا من آساد فارس يكون جميع الهنود لنا فرائس. فعلم شنكل أنه لا يطيق مقاومته فدخل معه من باب آخر، و جعل يعاتبه و يعيره و يقول:
إنى آثرتك بولدى و قرة عينى على جميع الأجانب و الأقارب، و جعلتك مثل سمعى و بصرى فعاملتنى بالجفاء و لم أعالمك إلا بالوفاء. و لكن ماذا أقول لك و هذه التى هى ولدى، و كنت أحسبها عاقلتى قد خرجت علىّ فارسا شجاعا حتى كأنها قد صارت شهريارا مطاعا؟ غير أن الفارسى لا يقول بالوفاء. فقال بهرام: مالك تعيرنى و هل عار فى أن يراجع الإنسان وطنه، و يعاود أهله و سكنه؟ ثم قال: و ألا إنى شاهنَشاه إيران. و لست ترى منى بعد هذا إلا الجميل و الاحسان. و لأتخذنك ولدا، و لا أكلفك خراجا أبدا. و أصير ابنتك سيدة النساء فى تلك الأقطار و المخصوصة فيها بالشرف و الفخار. فقضى شنكل العجب من تلك الحال، و رمى عن رأسه الشارة الهندية، و خرج من بين أصحابه و ركض إلى بهرام و فنزل و اعتنقه و اعتذر إليه. فأفضى بهرام اليه بسره و أخبره بما قد جرى ذكره فى مجلسه، و أنه السبب الذى حمله على مشاهدة أمره بنفسه. ثم إنه أمر باحضار الشراب، و اجتمعا معا على الشرب ثم تعاهد على المصادقة و المصافة و المظاهرة و الموالاة. ثم ودع كل واحد منهما صاحبه و أخذ فى طريقة.
استقبال الإيرانيين لبهرام بعد عودته إلى إيران
[عدل]ثم إنه انتهى الخبر إلى ايران بإقبال بهرام فنثروا على المبشرين النثارات و عقدوا القباب و الآذينات فجمع يزدجرد بن بهرام العسكر، و خرج مع عمه نرسى و موبذ الموبذان فاستقبلوه. فعاد بهرام الى إيوانه و مستقر عزه و سلطانه، و أقام ينهى و يأمر و يعطى و يمنع.
قيام شنكل ملك الهند و سبعة من ملوك الهند بزيارة إلى إيران
[عدل]ثم إن شنكل قدم عليه بعد مدّة من الزمان لزيارة ابنته فى ملوك الهند و هيآتهم الرائعة فاستقبله بهرام و تلقاه الى النهروان، و دخل به الى إيوانه على جملة الإعظام و الإكرام. فمدّوا سماطا ممتد الى غلوة سهم. فلما طعموا تحوّلوا الى مجلس الشراب فتعجب شنكل من حسن مجلسه و رونق ملكه و بهائه. ثم إنه استأذن فى الدخول على ابنته فتقدّمه الخدم فدخل عليها فصادفها فى إيوانها قاعدة على تخت العاج معتصبة بالتاج فسر بها و بسعادتها بزوجها. ثم عاد الى مجلس بهرام و اندفع معه فى الشراب. و لما ثم قام الى موضع هيئ له لنومه. و لما أصبح و ركب بهرام معه و خرج به الى الصيد. عودة شنكل بعد زيارته لإيران إلى الهند ثم لما عاد دخل على ابنته و كتب لبهرام عهدا على ممالك الهند، و فوّض اليه فيه ملكها من بعده، و جعله وارث كنوزها و قائد جنودها. ثم أقام فى ضيافة بهرام شهرين فعزم على معاودة بلاده.
فقدّم اليه بهرام من الذهب و الفضة و الجوهر و سائر النفائس و الذخائر و الخيل و الأسلحة ما خرج عن حدّ الحصر. و أكرم كل من صحبه من الملوك على تفاوت طبقاتهم و اختلاف مراتبهم بأنواع من المبارّ و الصلات. فارتحل شنكل، و شيعه بهرام ثلاث مراحل ثم ودعه و انصرف بعد أن أمر بإعداد العلوفات و النفقات لجنوده و لمن معه فى سائر طريقه الى حدّ الهند.
عفو بهرام رعيته عن دفع الضرائب و الخراج إلى الدولة
[عدل]قال صاحب الكتاب: ثم إن بهرام أخذته الفكرة فى عاقبة أمره و انتهاء عمره. و كان قد أخبره المنجمون أنه يملك ثلاث عشرينات من السنين، و فى عشر السبعين يكون انتهاء أمره و انقراض عمره. فقال حين أخبر بذلك: أخذ فى اللهو و للعب عشرين سنة، و فى العشرين الثانى أشتغل بعمارة العلم و إسداء النعم و الإحسان الى الرعية. و فى العشرين الثالثة أقوم بين يدى ربى و اشتغل بعبادته و أسأله هدايتى. فأمر عند انتهائه الى هذا المنتهى أن يحصى الموجود فى خزائنه من الأموال و الجواهر و الثياب و سائر الأمتعة و الأقمشة. فاشتغل كتاب الخزائن. و حفظتها و القوام بها بوزنها و إحصائها يفرغون وسعهم و طاقتهم حتى فرغوا من ذلك فى مدة مديدة. فأعلموا الوزير فحضر عند الملك و قال:
إن خزائنك تحتوى على نفقتك و نفقة عساكرك و جنودك و حاشيتك و خدمك و سائر ما يحتاج اليه من الصلات و الخلع و سائر ما تهديه الى الملوك من الهدايا و التحف و غير ذلك مدة ثلاث و عشرين سنة.
فقال بهرام: إنا قد نظرنا فوجدنا الدنيا لا تعدو أياما ثلاثة و هى اليوم و أمسه و غده. فأمس قد مضى، و الغد لم يأت بعد، و ليس فى اليد سوى اليوم. فينبغي أن ننتهز الفرصة فيه. و الأولى بنا أن نخفف عن الرعية. فأسقط خراج الدنيا و أمرهم بألا يطالب فى جميع ممالكه أحد بكلفة و لا مؤونة ففرق الموابذة و الثقات فى جميع أقطارها، و أمرهم ألا يخلو أحد يمس أحدا بسوء، و أنهم إن حدث حادث أنهوه إليه. قال: فمضت على ذلك مدّة و ارتقعت الكلف من الناس فاستغنوا فطغوا فأخذوا فى سفك الدماء. فأعلموا الملك بذلك فأمر حينئذ بوضع ديوان الخراج ستة أشهر فى كل سنة و بأن تقام حدود اللّه تعالى على من سفك دما أو جنى جناية و خرج فى كل إقليم ثقة من ثقاته. فمضت على ذلك مدّة أخرى من الزمان. ثم إنه كتب إلى أصحاب أخباره و ثقاته على بلاده و رعيته و قال: أخبرونى هل يجرى فى الممالك شيء يضر بالملك؟ فكتبوا إليه و قالوا: أيها الملك قد بطل الحرث و الزرع، و فسدت الأراضى بسبب ذلك. فكتب إلى كل واحد منهم كتابا يأمره فيه بإلزام الرعية الحرث و الزرع، و من لم يكن له بالحراثة و الزراعة يدان فيلعاون من حاصل الديوان و أموال السلطان حتى تنتظم أحوالهم و تصلح أمورهم، و إن أصاب أرضا جائحة سماوية فليعوّض أربابها ما كان يرجى منها حصوله لهم، من حاصل الخزانة. فانتظمت أمور الممالك، و اتسقت و درّت أخلاف الخيرات و تحفلت. و مضت على ذلك مدّة أخرى من الزمان. وصول وجبات كبيرة من اللورية( الغجر البدو) بدعوة بهرام من الهند إلى إيران
ثم كتب إليهم الملك و قال: أخبرونى عن أحوال الرعية حتى إذا وقفنا على خلل فى أمورهم تلافيناه و تداركناه. فكتبوا و قالوا: قد انتظمت أمور العالم، و استوسقت أحوال الرعية، و عمت العمارة جميع البلاد، و شمل الأمن و الراحة جميع العباد سوى أن أهل الثروة إذا حضروا مجالس الأنس و الطرب يلبسون أكاليل الورد و الريحان، و يشربون على أصوات القيان و أغاريد المسمعات الحسان. و من عداهم من المقلين يشربون بلا غناء. و هم من ذلك فى تعب و عناء. فضحك بهرام من ذلك فكتب إلى شنكُل ملك الهند رسالة أن ينتخب من الهنود ألفى نفس من الذكور و الإناث، و من المخصوصين بحسن الصوت و جودة الصنعة فى الغناء، و ينفذهم إليه. فامتثل شنكل أمره و نفذهم إليه. فلما حصلوا عند بهرام أمر بأن يعطى كل واحد منهم بقرة و حمارا، و فرّق عليهم ألف حمل من القمح برسم البذر، و فرّقهم فى القرى و الضياع ليزرعوا و يحرثوا و يغنّوا فقراءها بغير أجرة و لا كلفة، فلما حصل البذر فى أيديهم أكلوه، و ذبحوا البقر، و حملوا رحالهم على الحُمُر و تفرّقوا فى البلاد، و اشتغلوا بالتلصص و الانتهاب و التخطف، و تناسلوا. و هم إلى الآن موجودون فى أقطار الأرض ذات الطول و العرض. و هم جيل يسمون اللورية، و هم الزط و العشرية و لهم انتشار فى كل صوب.
انتهاء أيام بهرام و انقضاء دولته و وصيته لابنه يزدجرد بعده بالحكم
[عدل]قال: ثم إن بهرام بقى على ذلك على تخت الملك و سرير السلطنة ينهى و يأمر إلى أن مضت له ثلاث و ستون سنة. فجاءه الخازن و أعلمه بخلوا الخزائن و عدم وجود النفقات. فبات تلك الليلة متفكرا. و لما أصبح جلس على تخته و حضرته الملوك و الأمراء و القوّاد فاستدعى ولده يزدِجرد ، و عهد إليه و أعطاه التاج و التخت، و اعتزل و عزم على التخلى للطاعة و العبادة. و لما أمسى من ليلته و نام فى فراشه قضى نحبه و مضى لسبيله ساترا وجهه بطرف لحافه و لم يعلم بموته أحد. فلما أصبحوا و استبطئوا قيامه جاءه ولده يزدجرد فألقى عنه حاشية لحافه فصادفه. ميتا. و كذا كانت الأيام و كذا تكون. فلا يكن منك اليها سكون و لا ركون. إن الحجارة و الحديد ليفزعان من الموت. و ينزعجان لهذا الصوت. فعليك بالعدل و الاحسان و إفاضة الأمن و الأمان إن أردت السلامة من عذاب القيامة.
فهرست قصص الشاهنامة |
فاتحة الكتاب • كيومرث • هوشنغ • طهمورث • جمشيد • ضحاك • أفريدون • منوشهر • زال • سفيدج • نوذر • زو بن طهماسب • غرشاسب • كيقباد • هفتخوان رستم • وقعة هاماوران • وقعة برواز • سهراب • سياوش • كيخسرو • طواف الممالك • عهد بحيرة هسروه • وقعة فرود بن سياوش • كاموس الكشاني • بولاطوند • أخوان ديو • بيجن • يازدهرخ • كهار الكهانی • جوذرر و بيران • الإصبهبذين • فرشيذ و لهاك • إنهزام أفراسياب • يأس كيخسروي • قسمة الممالك على الأكابر • لهراسب • زرادشت • كشتسب • زرير • هفتخوان اسفنديار • رستم و اسفنديار • شغاد • بهمن بن اسفنديار • هماي جهرزاد • داراب • دارا بن داراب • اسكندر • مدينة البراهمة • مبدأ أمر أردشير • اشكانيون • هفتواد • جلوس أردشير على العرش • سابور بن اردشير • هرمزد • بهرام • بهرام بهراميان • نرسي بن بهرام • هرمز بن نرسي • سابور ذوالأكتاف • بهرام بن سابور • أردشير المحسن • سابور الثالث • يزدجرد بن سابور • بهرام جور • يزدجرد بن بهرام جور • هرمز بن يزدجرد • فيروز • بلاش • قباذ • خروج مزدك • نوشزاد بن أنوشيروان • المرأة النصرانية • حرب رام برزين • رؤيا أنوشروان • بزرجمهر الحکيم • مأدبة أنوشيروان • مهبود وزير • سورستان • كو و طلخند • الراي ملك الهند • برزويه الطبيب • قتال الروم • هرمزد بن كسري • بهرام جوبين • كسري برويز • شيرين و خسرو • شيرين و فرهاد • طاق الديس • إيوان المدائن • شيرويه • أردشير بن شيرويه • فرائين • بوراندخت • ازرمدخت • فرخزاد • يزدجرد الثالث • |