جمشيد
ذكر جَمشيذ و نوبة ملكه و ما جرى فى عهده
[عدل]ملك جمشيد سبعمائة عاما
[عدل]هو جمشيذ بن طهمورث: و شيذ فى لغتهم هى الشمس و انما سمى بذلك لأنه كان موصوفا بالجمال الرائق، و الحسن الكامل.
قال: فلما مات طهمورث جلس ابنه جمشيذ على سرير أبيه، و عقد على رأسه تاج السلطنة، و شدّ على خصره منطقة الملك، و نفذ أمره فى جميع الخافقين، و أذعن لطاعته جميع الثقلين. و كان متوفرا على عمارة العالم و تفقد أحوال الرعية بإفاضة العدل و الإحسان. يبسط لهم ظلال الرحمة، و يرفرف عليهم بجناح الرأفة.
فأوّل شيء اشتغل به فى نوبة ملكه إعداد آلات الحرب. فانه هو الذى أعدّ السيوف الفواصل، و الرماح العواسل، و ألان الحديد، و نسج الدروع الفضفاضة، و الجواشن الرائعة، و التجافيف السابغة، الى غير ذلك من أنواع الأسلحة.
فلم يزل على ذلك حتى بلغ قصارى أمنيته، و نهاية أمله فى تحصيل تلك العدد، و الاستظهار بها لليوم و الغد. ثم ألهمه اللّه اتخاذ الملابس فاستعمل ثياب الكتان و الإبريسم و علم الناس كيف يغزل الغزل و ينسج فبقى على ذلك مدة حتى انتشر جميع تلك الصناعات فى أقطار الأرض، و توفر الناس على المكاسب و الاشتغال بأمور المعاش.
ثم أمر الجن بنحت الأحجار، و تخمير الأطيان، و ضرب اللبن الكبار. و كان كل حين يستحدث بناء و يستجد مدينة و يؤثر أثرا حتى طالت على ذلك المدة. ثم تتبع المعادن فاستخرج منها بدقائق فطنته الذهب و الفضة و الياقوت و الفيروزج و سائر الأعلاق النفيسة من أصناف الجواهر، فرصع بها المناطق، و وشح منها الأسورة و العصائب، و اقتنى منها الذخائر، و كنز الكنوز و ملأ الخزائن.
ثم أخرج أنواع الطيب من مستودعاتها كالمسك و الكافور و العنبر. ثم صعد أنوار الورد و الأزاهير حتى حصل منها أمواها تتنفس عن روائح تفغم الخياشيم، و تنعش الأرواح و النفوس.
و أظهر علوم الصناعة الطبية و تصرف فى أفانينها، و تقلب فى أساليبها، و وقف على أسرارها الغامضة، و دقائقها الخفية. و تعرف خواص الأدوية فشاعت هذه الصناعة بين الناس من ذلك الزمان. ثم تفكر فى اتخاذ المراكب و إجرائها على وجه الماء طائرة بأجنحة الهواء.
فعمل السفن و أطلقها فى مضامير البحار كرواكض الخيول، و هواجم السيول. فلم يزل يتنقل من إقليم الى إقليم، و من صوب الى صوب، حتى جاس جميع أطراف البر و البحر. ثم عمل تختا مرصعا بألوان الجواهر، و رتب له حملة من الجن. فكان يجلس عليه و يرفعونه فى الهواء و يحملونه الى حيثما أراد من الممالك.
و كان ذلك أوّل يوم من السنة وقت حلول الشمس فى برج الحمل فسمى ذلك اليوم بالنوروز. فجلس فى مجلس الأنس للطرب يحيّا بريحان السرور، و تدار عليهم أقداح الراح فى رياض الحبور. فبقى النوروز سنة مشهورة عند الفرس يعظمون شعارها، و يتبعون آثارها.
نعم فاستكمل جمشيذ جميع أسباب السلطنة، و أطاعه جميع الخلائق، و بقى على ذلك ثلاثمائة سنة لا يمس جانبه محذور، و لا يطرق بابه مكروه، و لا يغشى ألم و ساده، و لا يعترى و جمع فؤاده، قد وطأت الدنيا له أكنافها، و أردت عليه أخلافها. فنسى المنون، و ظن الظنون، و باض الشيطان فى رأسه و فرخ، و لوى جيده عن طاعة ملّاك الرقاب، متعرّضا بغمط نعمه لقاصمة العقاب.
فأنكر عليه العلماء و الحكماء و ارتجت بذلك الأرض و السماء. فأدركته غيرة القهارية فأطارت واقعه، و هاجت وادعه، و أقلفته بعد السكون، و أذعرته غب الركون. و هلک علی ید الضحاك؛ ولله الآخرة و له الأولی.