البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة ثلاث وستين وسبعمائة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة ثلاث وستين وسبعمائة


استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما والاهما من الممالك الإسلامية السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر أمير حاج بن الملك المنصور قلاوون، وهو شاب دون العشرين، ومدبر الممالك بين يديه الأمير يلبغا، ونائب الديار المصرية طشتمر، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها. والوزير سيف الدين قزوينه، وهو مريض مدنف ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين المارداني، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك الخطيب، ووكيل بيت المال، والمحتسب علاء الدين الأنصاري، عاد إليها في السنة المنفصلة، وحاجب الحجاب قماري، والذي يليه السليماني وآخر من مصر أيضا. وكاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب الحلبي، وناظر الجامع القاضي تقي الدين بن مراجل وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي أنه جدد في أول هذه السنة قاضي حنفي بمدينة صفد المحروسة مع الشافعي، فصار في كل من حماة وطرابلس وصفد قاضيان شافعي وحنفي.

وفي ثاني المحرم قدم نائب السلطنة بعد غيبة نحو من خمسة عشر يوما، وقد أوطأ بلاد فرير بالرعب، وأخذ من مقدميهم طائفة فأودعهم الحبس، وكان قد اشتهر أنه قصد العشيرات المواسين ببلاد عجلون، فسألته عن ذلك حين سلمت عليه فأخبرني أنه لم يتعد ناحية فرير، وأن العشيرات قد اصطلحوا واتفقوا، وأن التجريدة عندهم هناك.

قال: وقد كبس الأعراب من حرم الترك فهزمهم الترك وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم ظهر للعرب كمين فلجأ الترك إلى وادي صرح فحصروهم هنالك، ثم ولت الأعراب فرارا ولم يقتل من الترك أحد، وإنما جرح منهم أمير واحد فقط، وقتل من الأعراب فوق الخمسين نفسا.

وقدم الحجاج يوم الأحد الثاني والعشرين من المحرم، ودخل المحمل السلطاني ليلة الاثنين بعد العشاء، ولم يحتفل لدخوله كما جرت به العادة، وذلك لشدة ما نال الركب في الرجعة من بريز إلى هنا من البرد الشديد، بحيث إنه قد قيل إنه مات منهم بسبب ذلك نحو المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن أخبروا برخص كثير وآمن، وبموت نفسة أخي عجلان صاحب مكة، وقد استبشر بموته أهل تلك البلاد لبغية على أخيه عجلان العادل فيهم انتهى والله أعلم.

منام غريب جدا لابن كثير مع النووي في ابن حزم

ورأيت - يعني المصنف - في ليلة الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لم لا أدخلت في شرحك المهذب شيئا من مصنفات ابن حزم؟

فقال ما معناه: إنه لا يحبه.

فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه، أما هو في الفروع فظاهري جامد يابس، وفي الأصول تول مائع قرمطة القرامطة وهرس الهرائسة، ورفعت بها صوتي حتى سُمعت وأنا نائم، ثم أشرت له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أردأ شكلا منه، لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي.

فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها.

قال: انظر هل ترى فيها شجرا مثمرا أو شيئا ينتفع به.

فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر.

فهذا حاصل ما رأيته، ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرت للشيخ محي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكت لا يتكلم.

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر خلع على القاضي عماد الدين بن الشيرجي بعود الحسبة إليه بسبب ضعف علاء الدين الأنصاري عن القيام بها لشغله بالمرض المدنف، وهنأه الناس على العادة.

وفي يوم السادس والعشرين من صفر توفي الشيخ علاء الدين الأنصاري المذكور بالمدرسة الأمينية، وصلّي عليه الظهر بالجامع الأموي، ودفن بمقابر باب الصغير خلف محراب جامع جراح، في تربة هنالك، وقد جاوز الأربعين سنة، ودرّس في الأمينية وفي الحسبة مرتين وترك أولادا صغارا وأموالا جزيلة سامحه الله ورحمه، ووليّ المدرسة بعده قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي بمرسوم كريم شريف.

وفي العشر الأخير من صفر بلغنا وفاة قاضي قضاة المالكية الأخنائي بمصر وتولية أخيه برهان الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي الشافعي أبوه قاضيا مكان أخيه، وقد كان على الحسبة بمصر مشكور السيرة فيها، وأضيف إليه نظر الخزانة كما كان أخوه.

وفي صبيحة يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول كان ابتداء حضور قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين بن الحسن بن عبد الكافي السبكي الشافعي تدريس الأمينية عوضا عن الشيخ علاء الدين المحتسب، بحكم وفاته رحمه الله كما ذكرنا.

وحضر عنده خلق من العلماء والأمراء والفقهاء والعامة، وكان درسا حافلا، أخذ في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] الآية وما بعدها. فاستنبط أشياء حسنة، وذكر ضربا من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة، أخذ، ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج ولا تكلف فأجاد وأفاد، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم حتى قال بعض الأكابر: إنه لم يسمع درسا مثله.

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين منه توفي الصدر برهان الدين بن لؤلؤ الحوضي، في داره بالقصاعين ولم يمرض إلا يوما واحدا، وصلّي عليه من الغد بجامع دمشق بعد صلاة الظهر، وخرجوا به من باب النصر، فخرج نائب السلطنة الأمير علي فصلّى عليه إماما خارج باب النصر. ثم ذهبوا به فدفنوه بمقابرهم بباب الصغير، فدفن عند أبيه رحمه الله، كان رحمه الله فيه مروءة وقيام مع الناس، وله وجاهة عند الدولة وقبول عند نواب السلطنة وغيرهم، ويحب العلماء وأهل الخير، ويواظب على سماع مواعيد الحديث والخير، وكان له مال وثروة ومعروف، قارب الثمانين رحمه الله.

وجاء البريد من الديار المصرية فأخبر بموت الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش المصري بها، وكان واعظا باهرا، وفصيحا ماهرا، ونحويا شاعرا، له يد طولى في فنون متعددة، وقدرة على نسج الكلام، ودخول على الدولة وتحصيل الأموال، وهو من أبناء الأربعين رحمه الله.

وأخبر البريد بولاية قاضي القضاة شرف الدين المالكي البغدادي، الذي كان قاضيا بالشام للمالكية، ثم عزل بنظر الخزانة بمصر، فإنه رتب له معلوم وافر يكفيه ويفضل عنه، ففرح بذلك من يحبه.

وفي يوم الأحد السابع عشر من ربيع الآخر توفي الرئيس أمين الدين محمد بن الصدر جمال الدين أحمد بن الرئيس شرف الدين محمد بن القلانسي، أحد من بقي من رؤساء البلد وكبرائها. وقد كان باشر مباشرات كبار كأبيه وعمه علاء الدين، ولكن فاق هذا على أسلافه فإنه باشر وكالة المال مدة، وولي قضاء العساكر أيضا، ثم ولي كتابة السر مع مشيخة الشيوخ وتدريس الناصرية والشامية الجوانية، وكان قد درّس في العصرونية من قبل سنة ست وثلاثين.

ثم لما قدم السلطان في السنة الماضية عزل عن مناصبه الكبار، وصودر بمبلغ كثير يقارب مائتي ألف، فباع كثيرا من أملاكه وما بقي بيده من وظائفه شيء، وبقي خاملا مدة إلى يومه هذا، فتوفي بغتة، وكان قد تشوش قليلا لم يشعر به أحد، وصلّي عليه العصر بجامع دمشق، وخرجوا به من باب الناطفانيين إلى تربتهم التي بسفح قاسيون رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الاثنين ثامن عشره، خلع على القاضي جمال الدين بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي. وجعل مع أبيه شريكا في القضاء ولقب في التوقيع الوارد صحبة البريد من جهة السلطان قاضي القضاة فلبس الخلعة بدار السعادة وجاء ومعه قاضي القضاة تاج الدين السبكي إلى النورية فقعد في المسجد ووضعت الربعة فقرئت وقرئ القرآن ولم يكن درسا، وجاءت الناس للتهنئة بما حصل من الولاية له مع أبيه.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الجامع فتح الدين بن الشيخ زين الدين الفارقي، إمام دار الحديث الأشرفية، وخازن الأثر بها، ومؤذن في الجامع.

وقد أتت عليه تسعون سنة في خير وصيانة وتلاوة وصلاة كثيرة وانجماع عن الناس، صلّي عليه صبيحة يومئذ، وخرج به من باب النصر إلى نحو الصالحية رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الاثنين عاشر جمادى الأولى ورد البريد وهو قرابغا دوادار نائب الشام الصغير ومعه تقليد بقضاء قضاة الحنفية للشيخ جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، بمقتضى نزول أبيه له عن ذلك، ولبس الخلعة بدار السعادة وأجلس تحت المالكي. ثم جاؤوا إلى المقصورة من الجامع وقرئ تقليده هنالك، قرأه شمس الدين بن السبكي نائب الحسبة، واستناب اثنين من أصحابهم وهما شمس الدين بن منصور، وبدر الدين بن الخراش، ثم جاء معه إلى النورية فدرّس بها ولم يحضره والده بشيء من ذلك انتهى والله أعلم.

موت الخليفة المعتضد بالله

كان ذلك في العشر الأوسط من جمادى الأولى بالقاهرة، وصلّي عليه يوم الخميس، أخبرني بذلك قاضي القضاة تاج الدين الشافعي، عن كتاب أخيه الشيخ بهاء الدين رحمهما الله.

خلافة المتوكل على الله

ثم بويع بعده ولده المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر أبي الفتح بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد رحم لله أسلافه.

وفي جمادى الأولى توجه الرسول من الديار المصرية ومعه صناجق خليفية وسلطانية وتقاليد وخلع وتحف لصاحبي الموصل وسنجار من جهة صاحب مصر ليخطب له فيهما.

وولي قاضي القضاة تاج الدين الشافعي السبكي الحاكم بدمشق لقاضيهما من جهته تقليدين، حسب ما أخبرني بذلك، وأرسلا مع ما أرسل به السلطان إلى البلدين، وهذا أمر غريب لم يقع مثله فيما تقدم فيما أعلم والله أعلم.

وفي جمادى الآخرة خرج نائب السلطنة إلى مرج الفسولة ومعه حجبته ونقباء النقباء، وكاتب السر وذووه، ومن عزمهم الإقامة مدة، فقدم من الديار المصرية أمير على البريد فأسرعوا الأوبة فدخلوا في صبيحة الأحد الحادي والعشرين منه، وأصبح نائب السلطنة فحضر الموكب على العادة وخلع على الأمير سيف الدين يلبغا الصالحي.

وجاء النص من الديار المصرية بخلعة دوادار عوضا عن سيف الدين كحلن، وخلع في هذا اليوم على الصدر شمس الدين بن مرقي بتوقيع الدست، وجهات أخر، قدم بها من الديار المصرية، فانتشر الخبر في هذا اليوم بإجلاس قاضي القضاة شمس الدين الكفري الحنفي، فوق قاضي القضاة المالكية، لكن لم يحضر في هذا اليوم، وذلك بعد ما قد أمر بإجلاس المالكي فوقه.

وفي ثاني رجب توفي القاضي الإمام العالم شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، نائب مشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي، وزوج ابنته، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث، وكان بارعا فاضلا متفننا في علوم كثيرة، ولا سيما علم الفروع.

كان غاية في نقل مذهب الإمام أحمد، وجمع مصنفات كثيرة منها كتاب (المقنع) نحوا من ثلاثين مجلدا كما أخبرني بذلك عنه قاضي القضاة جمال الدين، وعلق على محفوظة أحكام الشيخ مجد الدين بن تيمية مجلدين، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات رحمه الله.

توفي عن نحو خمسين سنة، وصلّي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري، ودفن بمقبرة الشيخ الموفق، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلهم، وخلق من الأعيان رحمه الله وأكرم مثواه.

وفي صبيحة يوم السبت رابع رجب ضرب نائب السلطنة جماعة من أهل قبر عاتكة أساءوا الأدب على النائب ومماليكه، بسبب جامع للخطبة جدد بناحيتهم، فأراد بعض الفقراء أن يأخذ ذلك الجامع ويجعله زاوية للرقاصين، فحكم القاضي الحنبلي بجعله جامعا قد نصب فيه منبر.

وقد قدم شيخ الفقراء على يديه مرسوم شريف بتسليمه إليه، فأنفت أنفس أهله تلك الناحية من عوده زاوية بعد ما كان جامعا، وأعظموا ذلك، فتكلم بعضهم بكلام سيئ، فاستحضر نائب السلطنة طائفة منهم وضربهم بالمقارع بين يديه.

ونودي عليهم في البلد، فأراد بعض العامة إنكارا لذلك، وحدد ميعاد حديث يقرأ بعد المغرب تحت قبة النسر على الكرسي الذي يقرأ عليه المصحف، رتبه أحد أولاد القاضي عماد الدين بن الشيرازي.

وحدث فيه الشيخ عماد الدين بن السراج، واجتمع عنده خلق كثير وجم غفير، وقرأ في السيرة النبوية من خطي، وذلك في العشر الأول من هذا الشهر.

أعجوبة من العجائب

وحضر شاب عجمي من بلاد تبريز وخراسان يزعم أنه يحفظ (البخاري) و(مسلما) و(جامع المسانيد) و(الكشاف) للزمخشري وغير ذلك من محاضيرها، في فنون أخر.

فلما كان يوم الأربعاء سلخ شهر رجب قرأ في الجامع الأموي بالحائط الشمالي منه، عند باب الكلاسة من أول (صحيح البخاري) إلى أثناء كتاب العلم منه، من حفظه وأنا أقابل عليه من نسخة بيدي، فأدى جيدا، غير أنه يصحف بعضا الكلمات لعجم فيه، وربما لحن أيضا في بعض الأحيان.

واجتمع خلق كثير من العامة والخاصة وجماعة من المحدثين، فأعجب ذلك جماعة كثيرين، وقال آخرون منهم إن سرد بقية الكتاب على هذا المنوال لعظيم جدا.

فاجتمعنا في اليوم الثاني وهو مستهل شعبان في المكان المذكور، وحضر قاضي القضاة الشافعي وجماعة من الفضلاء، واجتمع العامة محدقين فقرأ على العادة غير أنه لم يطول كأول يوم، وسقط عليه بعض الأحاديث، وصحف ولحن في بعض الألفاظ.

ثم جاء القاضيان الحنفي والمالكي فقرأ بحضرتهما أيضا بعض الشيء، هذا والعامة محتفون به متعجبون من أمره، ومنهم من يتقرب بتقبيل يديه، وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة، وقال: أنا ما خرجت من بلادي إلا إلى القصد إليك، وأن تجيزني، وذكرك في بلادنا مشهور، ثم رجع إلى مصر ليلة الجمعة وقد كارمه القضاة والأعيان بشيء من الدراهم يقارب الألف.

عزل الأمير علي عن نيابة دمشق

في يوم الأحد حادي عشر شعبان ورد البريد من الديار المصرية وعلى يديه مرسوم شريف بعزل الأمير علي عن نيابة دمشق، فأحضر الأمراء إلى دار السعادة وقرئ المرسوم الشريف عليهم بحضوره، وخلع عليه خلعة وردت مع البريد، ورسم له بقرية دومة وأخرى في بلاد طرابلس على سبيل الراتب، وأن يكون في أي البلاد شاء من دمشق أو القدس أو الحجاز.

فانتقل من يومه من دار السعادة وبباقي أصحابه ومماليكه، واستقر نزوله في دار الخليلي بالقصاعين التي جددها وزاد فيها دويداره يلبغا، وهي دار هائلة، وراح الناس للتأسف عليه والحزن له انتهى.

طلب قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي الشافعي إلى الديار المصرية

ورد البريد بطلبه من آخر نهار الأحد بعد العصر الحادي عشر من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة، فأرسل إليه حاجب الحجاب قماري وهو نائب الغيبة أن يسافر من يومه، فاستنظرهم إلى الغد فأمهل.

وقد ورد الخبر بولاية أخيه الشيخ بهاء الدين بن السبكي بقضاء الشام عوضا عن أخيه تاج الدين، وأرسل يستنيب ابن أختهما قاضي القضاة تاج الدين في التأهب والسير.

وجاء الناس إليه ليودعوه ويستوحشون له، وركب من بستانه بعد العصر يوم الاثنين ثاني عشر شعبان، متوجها على البريد إلى الديار المصرية، وبين يديه قضاة القضاة والأعيان، حتى قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي، حتى ردهم قريبا من الجسورة ومنهم من جاوزها والله المسؤول في حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة، انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

أعجوبة أخرى غريبة

لما كان يوم الثلاثاء العشرين من شعبان دعيت إلى بستان الشيخ العلامة كمال الدين بن الشريشي شيخ الشافعية وحضر جماعة الأعيان منهم الشيخ العلامة شمس الدين بن الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة صلاح الدين الصفدي، وكيل بيت المال. والشيخ الإمام العلامة شمس الدين الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي من ذرية الشيخ أبي إسحق الفيروزابادي، من أئمة اللغويين، والخطيب الإمام العلامة صدر الدين بن العز الحنفي أحد البلغاء الفضلاء، والشيخ الإمام العلامة نور الدين علي بن الصارم أحد القراء المحدثين البلغاء.

وأحضروا نيفا وأربعين مجلدا من كتاب (المنتهى) في اللغة للتميمي البرمكي، وقف الناصرية وحضر ولد الشيخ كمال الدين بن الشريشي، وهو العلامة بدر الدين محمد، واجتمعنا كلنا عليه، وأخذ كل منا مجلدا بيده من تلك المجلدات، ثم أخذنا نسأله عن بيوت الشعر المستشهد عليها بها، فينشر كلا منها ويتكلم عليه بكلام مبين مفيد، فجزم الحاضرون والسامعون أنه يحفظ جميع شواهد اللغة ولا يشذ عنه منها إلا القليل الشاذ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الأعراب.

دخول نائب السلطنة سيف الدين تشتمر

وذلك في أوائل رمضان يوم السبت ضحى والحجبة بين يديه والجيش بكماله، فتقدم إلى سوق الخيل فأركب فيه ثم جاء ونزل عند باب السر، وقبّل العتبة ثم مشى إلى دار السعادة والناس بين يديه.

وكان أول شيء حكم فيه أن أمر بصلب الذي كان قتل بالأمس والي الصالحية، وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة، ثم هرب فتبعه الناس فقتل منهم آخر وجرح آخرين ثم تكاثروا عليه فمسك، ولما صلب طافوا به على جمل إلى الصالحية فمات هناك بعد أيام، وقاسى أمرا شديدا من العقوبات، وقد ظهر بعد ذلك على أنه قتل خلقا كثيرا من الناس قبحه الله.

قدوم قاضي القضاة بهاء الدين أحمد بن تقي الدين عوضا عن أخيه قاضي القضاة تاج الدين بن عبد الوهاب

قدم يوم الثلاثاء قبل العصر فبدأ بملك الأمراء فسلم عليه، ثم مشى إلى دار الحديث فصلّى هناك ثم مشى إلى المدرسة الركنية فنزل بها عن ابن أخيه قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، قاضي العساكر، وذهب الناس للسلام عليه وهو يكره من يلقبه بقاضي القضاة، وعليه تواضع وتقشف، ويظهر عليه تأسف على مفارقة بلده ووطنه وولده وأهله، والله المسؤول المأمول أن يحسن العاقبة.

وخرج المحمل السلطاني يوم الخميس ثامن عشر شوال، وأمير الحاج الملك صلاح الدين بن الملك الكامل بن السعيد العادل الكبير، وقاضيه الشيخ بهاء الدين بن سبع مدرّس الأمينية ببعلبك وفي هذا الشهر وقع الحكم بما يخص المجاهدين من وقف المدرسة التقوية إليهم، وأذن القضاة الأربعة إليهم بحضرة ملك الأمراء في ذلك.

وفي ليلة الأحد ثالث شهر ذي القعدة توفي القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب كاتب السر، وشيخ الشيوخ ومدرّس الناصرية الجوانية والشامية الجوانية بدمشق، ومدرّس الأسدية بحلب.

وقد باشر كتابة السر بحلب أيضا، وقضاء العساكر وأفتى بزمان ولاية الشيخ كمال الدين الزملكاني قضاء حلب، أذن له هنالك في حدود سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ومولده سنة سبع وسبعمائة، وقد قرأ (التنبيه) و(مختصر ابن الحاجب) في الأصول، وفي العربية، وكان عنده نباهة وممارسة للعلم، وفيه جودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه، وليس يتوسم منه سوء. وفيه ديانة وعفة حلف لي في وقت بالأيمان المغلظة أنه لم يمكن قط منه فاحشة اللواط ولا خطر له ذلك، ولم يزن ولم يشرب مسكرا ولا أكل حشيشة، فرحمه الله وأكرم مثواه.

صلّي عليه بعد الظهر يومئذ وخرج بالجنازة من باب النصر فخرج نائب السلطنة من دار السعادة فحضر الصلاة عليه هنالك، ودفن بمقبرة لهم بالصوفية وتأسفوا عيه وترحموا، وتزاحم جماعة من الفقهاء بطلب مدارسه انتهى.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767