البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة


استهلت هذه السنة وسلطان البلاد الشامية والديار المصرية والحرمين الشريفين وما يلحق بذلك من الأقاليم والبلدان، الملك الناصر حسن بن السلطان، الملك محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا الملقب بحارس الطير، وهو عوضا عن الأمير سيف الدين يلبغا أروش الذي راح إلى بلاد الحجاز، ومعه جماعة من الأمراء بقصد الحج الشريف، فعزله السلطان في غيبته وأمسك على شيخون واعتقله، وأخذ منجك الوزير، وهو أستاذ دار ومقدم ألف، مصطفى أمواله، واعتاض عنه وولى مكانه في الوزارة القاضي علم الدين بن زينور، واسترجع إلى وظيفة الدويدارية الأمير سيف الدين طسبغا الناصري، وكان أميرا بالشام، مقيما منذ عزل إلى أن أعيد في أواخر السنة كما تقدم.

وأما كاتب السر بمصر وقضاتها فهم المذكورون في التي قبلها.

واستهلت هذه السنة ونائب صفد قد حصن القلعة وأعد فيها عدتها وما ينبغي لها من الأطعمات والذخائر والعدد والرجال، وقد نابذ المملكة وحارب، وقد قصدته العساكر من كل جانب من الديار المصرية ودمشق وطرابلس وغيرها، والأخبار قد ضمنت عن يلبغا ومن معه ببلاد الحجاز ما يكون من أمره، ونائب دمشق في احتراز وخوف من أن يأتي إلى بلاد الشام فيدهمها بمن معه، والقلوب وجلة من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها ورد الخبر أن صاحب اليمن حج في هذه السنة فوقع بينه وبين صاحب مكة عجلان بسبب أنه أراد أن يولي عليها أخاه بعيثة، فاشتكى عجلان ذلك إلى أمراء المصريين وكبيرهم إذ ذاك الأمير سيف الدين بزلار ومعهم طائفة كثيرة، وقد أمسكوا أخاهم يلبغا وقيدوه، فقوي رأسه عليهم واستخف بهم، فصبروا حتى قضى الحج وفرغ الناس من المناسك.

فلما كان يوم النفر الأول يوم الخميس تواقفوا هم وهو فقتل من الفريقين خلقُ كثير، والأكثر من اليمنيين، وكانت الوقعة قريبة من وادي محسر، وبقي الحجيج خائفين أن تكون الدائرة على الأتراك فتنهب الأعراب أموالهم وربما قتلوهم، ففرج الله ونصر الأتراك على أهل اليمن ولجأ الملك المجاهد إلى جبل، فلم يعصمه من الأتراك بل أسروه ذليلا حقيرا، وأخذوه مقيدا أسيرا وجاءت عوام الناس إلى اليمنيين فنهبوا شيئا كثيرا، ولم يتركوا لهم جليلا ولا حقيرا، ولا قليلا ولا كثيرا.

واحتاط الأمراء على حواصل الملك وأمواله وأمتعته وأثقاله، وساروا بخيله وجماله، وأدلوا على صنديد من رحله ورجاله، واستحضروا معهم طفيلا الذي كان حاصر المدينة النبوية في العام الماضي وقيدوه أيضا، وجعلوا الغل في عنقه، واستاقوه كما يستاق الأسير في وثاقه مصحوبا بهمه وحتفه، وانشمروا عن تلك البلاد إلى ديارهم راجعين، وقد فعلوا فعلة تذكر بعدهم إلى حين.

ودخل الركب الشامي إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من المحرم، على العادة المستمرة، والقاعدة المستقرة.

وفي هذا اليوم قدمت البريدية من تلقاء مدينة صفد مخبرة بأن الأمير شهاب الدين أحمد بن مشد الشرنجاتاه، الذي كان قد تمرد بها وطغى وبغى حتى استحوز عليها وقطع سببها وقتل الفرسان والرجالة، وملأها أطعمة وأسلحة، ومماليكه ورجاله، فعندما تحقق مسك يلبغا أروش خضعت تلك النفوس، وخمدت ناره وسكن شراره وحار بثاره، ووضح قراره، وأناب إلى التوبة والإقلاع، ورغب إلى السلامة والخلاص، وخشع ولات حين مناص.

وأرسل سيفه إلى السلطان، ثم توجه بنفسه على البريد إلى حضرة الملك الناصر، والله المسؤول أن يحسن عليه وأن يقبل بقلبه إليه.

وفي يوم الأحد خامس صفر قدم من الديار المصرية الأمير سيف الدين أرغون الكاملي معادا إلى نيابة حلب، وفي صحبته الأمير سيف الدين طشبغا الدوادار بالديار المصرية، وهو زوج ابنة نائب الشام، فتلقاه نائب الشام وأعيان الأمراء، ونزل طشبغا الدوادار عند زوجته بدار منجى في محلة مسجد القصب التي كانت تعرف: بدار حنين بن حندر، وقد جددت في السنة الماضية، وتوجها في الليلة الثانية من قدومها إلى حلب.

وفي يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول اجتمع القضاة الثلاثة وطلبوا الحنبلي ليتكلموا معه فيما يتعلق بدار المعتمد التي بجوار مدرسة الشيخ أبي عمر، التي حكم بنقض وقفها وهدم بابها وإضافتها إلى دار القرآن المذكورة، وجاء مرسوم السلطان يوفق ذلك، وكان القاضي الشافعي قد أراد منعه من ذلك، فلما جاء مرسوم السلطان اجتمعوا لذلك، فلم يحضر القاضي الحنبلي، قال: حتى يجيء نائب السلطنة.

ولما كان يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول حضر القاضي حسين - ولد قاضي القضاة تقي الدين السبكي - عن أبيه مشيخة دار الحديث الأشرفية وقرئ عليه شيء كان قد خرجه له بعض المحدثين، وشاع في البلد أنه نزل له عنها، وتكلموا في ذلك كلاما كثيرا، وانتشر القول في ذلك، وذكر بعضهم أنه نزل له عن الغزالية والعادلية، واستخلفه في ذلك، فالله أعلم.

وفي سحر ليلة الخميس خامس شهر جمادى الآخرة وقع حريق عظيم بالجوانيين في السوق الكبير، واحترقت دكاكين الفواخرة والمناجليين، وفرجة الغرابيل، وإلى درب القلى، ثم إلى قريب درب العميد، وصارت تلك الناحية دكا بلقعا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وجاء نائب السلطنة بعد الأذان إلى هناك ورسم بطفي النار، وجاء المتولي والقاضي الشافعي والحجاب، وشرع الناس في طفي النار، ولو تركوها لأحرقت شيئا كثيرا، ولم يفقد فيما بلغنا أحد من الناس، ولكن هلك للناس شيءٌ كثير من المتاع والأثاث والأملاك وغير ذلك، واحترق للجامع من الرباع في هذا الحريق ما يساوي مائة ألف درهم. انتهى. والله أعلم.

كائنة غريبة جدا

وفي يوم الأحد خامس عشر جمادى الأولى استسلم للقاضي الحنبلي جماعة من اليهود كان قد صدر منهم نوع استهزاء بالإسلام وأهله، فإنهم حملوا رجلا منهم صفة ميت على نعش ويهللون كتهليل المسلمين أمام الميت ويقرأون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] .

فسمع بهم من بِحارتهم من المسلمين، فأخذوهم إلى ولي الأمر نائب السلطنة فدفعهم إلى الحنبلي فاقتضى الحال استسلامهم فأسلم يومئذ منهم ثلاثة، وتبع أحدهم ثلاثة أطفال، وأسلم في اليوم الثاني ثمانية آخرون فأخذهم المسلمون وطافوا بهم في الأسواق يهللون ويكبرون، وأعطاهم أهل الأسواق شيئا كثيرا وراحوا بهم إلى الجامع فصلوا ثم أخذوهم إلى دار السعادة فاستطلقوا لهم شيئا، ورجعوا وهم في ضجيج وتهليل وتقديس، وكان يوما مشهودا ولله الحمد والمنة. انتهى. والله أعلم.

مملكة السلطان الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي

في العشر الأوسط من شهر رجب الفرد وردت البريدية من الديار المصرية بعزل السلطان الملك الناصر حسن بن الناصر بن قلاوون لاختلاف الأمراء عليه، واجتماعهم على أخيه الملك الصالح، وأمه صالحة بنت ملك الأمراء تنكز الذي كان نائب الشام مدة طويلة، وهو ابن أربع عشرة سنة، وجاءت الأمراء للحلف، فدقت البشائر، وزين البلد على العادة.

وقيل: إن الملك الناصر حسن خنق ورجعت الأمراء الذين كانوا بإسكندرية مثل: شيخون ومنجك وغيرهما، أرسلوا إلى يلبغا فجيء به من الكرك، وكان مسجونا بها من مرجعه من الحج، فلما عاد إلى الديار المصرية شفع في صاحب اليمن الملك المجاهد الذي كان مسجونا في الكرك فأخرج وعاد إلى الديار الحجازية.

وأما الأمراء الذين كانوا من ناحية السلطان حين مسك معارضة أمير أخوروميكلي بغا الفخري وغيرهما، فاحتيط عليهم وأرسلوا إلى الإسكندرية، وخطب للملك الصالح بجامع دمشق يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب وحضر نائب السلطنة والأمراء والقضاة للدعاء له بالمقصورة على العادة.

وفي أثناء العشر الأخير من رجب: عزل نائب السلطنة سيف الدين أيتمش عن دمشق مطلوبا إلى الديار المصرية فسار إليها يوم الخميس.

وفي يوم الاثنين حادي عشر شعبان: قدم الأمير سيف الدين أرغون الكاملي الذي كان نائبا على الديار الحلبية من هناك، فدخل دمشق في هذا اليوم في أبهة عظيمة، وخرج الأمراء والمقدمون وأرباب الوظائف لتلقيه إلى أثناء الطريق، منهم من وصل إلى حلب وحماة وحمص.

وجرى في هذا اليوم عجائب لم تر من دهور، واستبشر الناس به لصرامته وشهامته وحدته، وما كان من لين الذي قبله ورخاوته، فنزل دار السعادة على العادة.

وفي يوم السبت: وقف في موكب هائل قيل إنه لم ير مثله من مدة طويلة، ولما سير إلى ناحية باب الفرج اشتكى إليه ثلاث نسوة على أمير كبير يقال له: الطرخاين، فأمر بإنزاله عن فرسه فأنزل وأوقف معهن في الحكومة.

واستمر بطلان الوقيد في الجامع الأموي في هذا العام أيضا كالذي قبله، حسب مرسوم السلطان الناصر حسن رحمه الله، ففرح أهل الخير بذلك فرحا شديدا، وهذا شيء لم يعهد مثله من نحو ثلاثمائة سنة، ولله الحمد والمنة.

ونودي في البلد في هذا اليوم والذي بعده عن النائب: من وجد جنديا سكرانا فلينزله عن فرسه وليأخذ ثيابه، ومن أحضره من الجند إلى دار السعادة فله خبزه، ففرح الناس بذلك واحتجر على الخمارين والعصارين، ورخصت الأعتاب، وجادت الأخباز واللحم بعد أن كان بلغ كل رطل أربعة ونصفا، فصار بدرهمين ونصف وأقل وأصلحت المعايش من هيبة النائب، وصار له صيت حسن، وذكر جميل في الناس بالعدل وجودة القصد وصحة الفهم وقوة العدل والإدراك.

وفي يوم الاثنين ثامن عشر شعبان: وصل الأمير أحمد بن شاد الشريخاناه الذي كان قد عصى في صفد، وكان من أمره ما كان، فاعتقل بالإسكندرية ثم أخرج في هذه الدولة وأعطي نيابة حماة، فدخل دمشق في هذا اليوم سائرا إلى حماة، فركب مع النائب مع الموكب، وسير عن يمينه، ونزل في خدمته إلى دار السعادة ورحل بين يديه.

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين منه: دخل الأمير سيف الدين يلبغا الذي كان نائبا بالديار المصرية، ثم مسك بالحجاز وأودع الكرك، ثم أخرج في هذه الدولة وأعطى نيابة حلب، فتلقاه نائب السلطنة وأنزل دار السعادة حين أضافه.

ونزل وطاقه بوطأة برزة وضربت له خيمة بالميدان الأخضر.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767