محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الحادية والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الدماء والقصاص والديات

2094 - مسألة: وإذا اقتتل اثنان , فقتل أحدهما الآخر

فقد قال قوم : على الحي نصف الدية , لأنه مات المقتول من فعله وفعل غيره وهذا ليس بشيء , لأن المقتول وإن كان عاصيا لله تعالى , وفي النار , لقول رسول الله  : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فإنه ليس كل عاص يحل دمه ، ولا يغرم دية , لكن القاتل الحي هو قاتل الآخر بلا شك , فإذ هو قاتله بيقين عليه ما على القاتل : ل

ما روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : سئل ابن شهاب عن أول من جعل على المصطدمين نصف عقله فقال ابن شهاب : نرى أن العقل تاما على الباقي منهما , وتلك السنة فيما أدركنا.

قال أبو محمد : فإن جنى المقتول على قاتله جناية مات منها بعد موت المقتول فالقود واجب تعجيله على الحي , إذ كانا ظالمين معا , أو كان الحي منهما ظالما والمقتول مظلوما فيستقاد من الحي في نفسه , وفي الجراح التي جرح المقتول بها أو تؤخذ الدية منه , أو من ماله مات أو عاش ، ولا شيء في مال المقتول لا دية ، ولا غيرها إلا إن كان قطع له أصبعا , أو أصابع , أو يدا , أو رجلا , فالدية في ذلك في مال الميت.

برهان ذلك : أن ما وجب في حياة الجاني من دية فهي واجبة بعد , فلا يسقطها موته , إذ ما صح بيقين فلا يسقط بالدعوى

وأما ما لم يجب في حياته بعد , فبيقين ندري أن ماله قد صار بموته لورثته , أو للغرماء بلا شك. فإذ صار لهم , فهو مال من مالهم , والدية لا تجب إلا بموت المقتول , فإذا وجبت بموته ، ولا مال للجاني فمن الباطل البحت المقطوع به : أن تؤخذ دية من مال من لم يقتله , ولا جنى عليه

وكذلك دية القاتل الذي قد مات قبل وجوب الدية عليه , والأحكام لا تلحق الموتى , وإنما تلحق الأحياء وبالله تعالى التوفيق فهذا حكم الظالمين.

وأما إن كان القاتل الحي مظلوما والمقتول ظالما , فقد مضى إلى لعنة الله تعالى ، ولا شيء على القاتل الجارح لا قود , ولا دية لما سنذكره في " كتاب أهل البغي ".

قال أبو محمد : وأما المصطدمان : راجلين , أو على دابتين , أو السفينتين يصطدمان , فروي عن الشعبي : في السفينتين يصطدمان لا ضمان في شيء من ذلك.

وقال الشافعي : لا يجوز فيه إلا أحد قولين : إما أنه يضمن مدبر السفينة نصف ما أصابت سفينته لغيره , أو أنه لا يضمن ألبتة , إلا أن يكون قادرا على صرفها بنفسه , أو بمن يطيعه فلا يفعل فيضمن , والقول قوله مع يمينه : أنه ما قدر على صرفها , وضمان الأموال إذا ضمن في ذمته , وضمان النفوس على عاقلته.

قال أبو محمد : وقال بعض أصحابنا : إذا اصطدمت السفينتان بغير قصد من ركابهما , لكن بغلبة , أو غفلة فلا ضمان في ذلك أصلا. فإن حملا سفينتهما على التصادم فهلكتا : ضمن كل واحد نصف قيمة السفينة الأخرى , لأنها هلكت من فعلها , ومن فعل ركابها.

وأما الفارسان يصطدمان فإن أبا حنيفة , ومالكا , والأوزاعي , والحسن بن حي , قالوا : إن ماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر كاملة. وقال عثمان البتي وزفر , والشافعي : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه. وقال بعض أصحابنا بمثل قول الشافعي في ذلك

وكذلك أوجبوا إن هلكت الديتان أو إحداهما فنصف قيمتها أيضا. كذلك لو رموا بالمنجنيق فعاد الحجر على أحدهم فمات , فإن الدية على عواقلهم , وتسقط منها حصة المقتول , لأنه مات من فعله وفعل غيره. قالوا : فلو صدم أحدهما الآخر فقط , فمات المصدوم فديته على عاقلة الصادم إن كان خطأ , وفي مال القاتل إن قتلت في العمد.

قال أبو محمد : والقول في ذلك وبالله تعالى التوفيق أن السفينتين إذا اصطدمتا بغلبة ريح أو غفلة , فلا شيء في ذلك , لأنه لم يكن من الركبان في ذلك عمل أصلا ولم يكسبوا على أنفسهم شيئا , وأموالهم وأموال عواقلهم محرمة , إلا بنص أو إجماع. فإن كانوا تصادموا وحملوا وكل أهل سفينة غير عارفة بمكان الأخرى لكن في ظلمة لم يروا شيئا فهذه جناية , والأموال مضمونة , لأنهم تولوا إفسادها ,

وقال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} , وأما الأنفس فعلى عواقلهم كلهم , لأنه قتل خطأ , وإن كانوا تعمدوا فالأموال مضمونة كما ذكرنا وعلى من سلم منهم القود أو الدية كاملة , والقول في الفارسين , أو الرجلين يصطدمان كذلك ,

وكذلك أيضا الرماة بالمنجنيق تقسم الدية عليه وعليهم , وتؤدي عاقلته وعاقلتهم ديته سواء.

برهان ذلك : أنه في الخطأ قاتل نفسه مع من قتلها

وقد ذكرنا قبل : أن في قاتل نفسه الدية بنص قول الله تعالى في قاتل الخطأ , فعم تعالى كل مقتول , ولم يخص خطأ وما كان ربك نسيا.

قال أبو محمد : ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول : أما قولهم في المصطدمين إن الميت مات منهما من فعل نفسه , ومن فعل غيره فهو خطأ , والفعل إنما هو مباشرة الفاعل وما يفعله فيه وهو لم يباشره بصدمة غيره في نفسه شيئا. ولا يختلفون فيمن دفع ظالما إلى ظالم آخر ليقاتله فقتل أحدهما الآخر : أن على القاتل منهما القود , أو الدية كلها إن فات القود ببعض العوارض وهو قد تسبب في موت نفسه بابتداء القتال , كما تسبب في موت نفسه في الصدم , ولا فرق وهذا تناقض منهم.

قال أبو محمد : وكذلك القول في المتصارعين , والمتلاعبين , ولا فرق وما أباح الله تعالى في اللعب شيئا حظره في الجد.

وأما من سقط من علو على إنسان فماتا جميعا , أو مات الواقع , أو الموقوع عليه , فإن الواقع هو المباشر لأتلاف الموقوع عليه بلا شك , وبالمشاهدة , لأن الوقعة قتلت الموقوع عليه , ولم يعمل الموقوع عليه شيئا : فدية الموقوع عليه إن هلك على عاقلة الواقع إن لم يتعمد الوقوع عليه لأنه قاتل خطأ , فإن تعمد , فالقود واقع عليه إن سلم , أو الدية

وكذلك الدية في ماله إن مات الموقوع عليه قبله. فإن ماتا معا , أو مات الواقع قبل , فلا شيء في ذلك , لما ذكرنا من أن الدية إنما تجب بموت المقتول المجني عليه لا قبل ذلك. فإذا مات في حياة قاتلة فقد وجبت الدية أو القود في مال القاتل. وإذا مات مع قاتله أو بعد قاتله , فلم يجب له بعد شيء لا قود ، ولا دية في حياة القاتل , فإذا مات فالقاتل غير موجود , والمال قد صار للورثة , وهذا لا حق له عندهم وليس هكذا قتل الخطأ , لأن الدية لا تجب في مال الجاني , وإنما تجب على عاقلته , فسواء مات القاتل قبل المقتول , أو معه , أو بعده : لا يسقط بذلك وجوب الدية إما على العاقلة إن علمت ,

وأما في كل مال المسلمين , كما جاء في سهم الغارمين وبالله تعالى التوفيق. ولا شيء لوارث الواقع إن مات في جميع هذه الوجوه لا دية ، ولا غيرها لأنه لم يجن أحد عليه شيئا , وسواء وقع على سكين بيد المدفوع عليه , أو على رمح , أو غير ذلك , لا شيء في ذلك أصلا , لأنه إن عمد فهو قاتل نفسه عمدا , ولا شيء في ذلك بلا خلاف وإن كان لم يعمد فلم يباشر في نفسه جناية , وإنما هو قتيل حجر أو حديدة أو نحو ذلك , وما كان هكذا فلا شيء في ذلك كله وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وأما المتماقلون في الماء فإن عرف أيهم غطسه في الماء حتى مات , فإن كان عمدا فالقود , وإن كان غير قاصد لكن غطس أحدهم , فلما جاء ليخرج لقي ساقي آخر فمنعتاه الخروج غير قاصد لذلك : فالدية على عاقلته وعليه الكفارة , لأنه باشر ذلك فيه غير قاصد فهو قتل خطأ , فإن كان غطسه تغطيسة لا يمات ألبتة من مثلها فوافق منيته , فهذا لا شيء فيه , لأنه لم يقتله لا عمدا ، ولا خطأ بل مات بأجله حتف أنفه. فإن جهل من عمل ذلك به , فمن ادعى عليه أحلف وبرئ , وإن لم تقم عليه بينة ، ولا قسامة هاهنا , لأنه ليس مما حكم فيه رسول الله بالقسامة.

قال أبو محمد : والذي نقول به إن حكم القسامة واجب هاهنا , لأنه هو الذي حكم فيه رسول الله بالقسامة , لأن كلتا الحالتين قتيل وجد , ولم يقل عليه الصلاة والسلام إني حكمت بالقسامة من أجل الدار , ولا من غير أجل الدار , فلا يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام ما لم يقل , لكن نحكم في نوع تلك الحال مثل حكمه فيها وبالله تعالى التوفيق.

وكذلك من قتل في اختلاط قتال , أو ليلا , أو أين قتل. وبالله تعالى التوفيق. ولو أن قوما حفروا في حائط بحق أو بباطل أو في معدن , أو بئر فتردى عليهم الحائط , أو الجرف فماتوا , أو مات بعضهم فإن كانوا عامدين قاصدين إلى هدمه على أنفسهم : فهو قتل عمد , والقود على من عاش , أو دية كاملة , لجميع من مات لكل واحد منهم دية , لأن كل واحد منهم قاتل نفس , وهذا حكم قاتل النفس عمدا. وإن كانوا لم يقصدوا إلا العمل لا هدمه على أنفسهم , فهم قتلة خطأ على عواقلهم كلهم دية دية لكل من مات فقط فإن لم يكن لهم عواقل فمن سهم الغارمين , أو من كل مال لجميع المسلمين. ولو أن قوما وقفوا على جرف فانهار بأحدهم فتعلق بمن يقربه , وتعلق ذلك بآخر فسقطوا فماتوا , فالمتعلق بصاحبه قاتل خطأ , فالدية على عاقلة المتعلق فكأن زيدا تعلق بخالد , وتعلق خالد بمحمد , فعلى عاقلة زيد دية خالد , وعلى عاقلة خالد دية محمد فقط ,

وكذلك أبدا , لأن المتعلق بإنسان إلى مهلكة قاتل خطأ , إلا أن يتعمد بلا شبهة فهو قاتل عمد , ليس فيه إلا لو خلص المتردي القود , أو الدية , أو المفاداة. فلو تعلقوا هكذا فوقعوا على أسد , أو ثعبان فقتلهم فإن كان خطأ فلا شيء في ذلك , لأنه ليس قاتل خطأ , وإنما قتلت البهيمة وإن كان عمدا فعليه القود إن خلص ويرمى إلى مثل البهيمة حتى تقتله , كما فعل هو بأخيه لقول الله تعالى {والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}

قال أبو محمد : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس قال : استأجر رجل أربعة رجال ليحفروا له بئرا فحفروها فانخسفت بهم البئر فمات أحدهم فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب فضمن الثلاثة ثلاثة أرباع الدية وطرح عنه ربع الدية.

قال علي : أما الأثر في وضع علي الدية في قصة الحفارين فهي ثابتة عنه , وهي موافقة لقول الشافعي , وأصحابنا وهم يشنعون على من خالف الصاحب إذا وافق آراءهم وهم قد خالفوا هاهنا الرواية الثابتة عن علي ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ، رضي الله عنهم ، وهذا يوضح عظيم تناقضهم. وبالله تعالى التوفيق.

وأما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله والحفارون كلهم باشر هدم ما انهار على الذي هلك منهم , فعلى عواقلهم كلهم عواقل الأحياء والأموات.

وكذلك لو ماتوا كلهم دية دية لكل من مات يعني أن في كل ميت دية واحدة فقط تؤدى إلى عواقل جميعهم وعاقلة الميت في جملتهم وبالله تعالى التوفيق.

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري أنه سئل عن أجراء استؤجروا ليهدموا حائطا فخر عليهم فمات بعضهم : أنه يغرم بعضهم لبعض الدية على من بقي.

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال : جاء أعمى ينشد الناس في زمان عمر يقول : يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا خرا معا كلاهما تكسرا قال وكيع : كانوا يرون أن رجلا صحيحا كان يقود أعمى فوقعا في بئر فخر عليه

فأما قتله ,

وأما جرحه , فضمن الأعمى.

ومن طريق ابن وهب ، حدثنا الليث بن سعد أن عمر بن الخطاب قضى في رجل أعمى قاده رجل فخرا معا في بئر فمات الصحيح ولم يمت الأعمى فقضى عمر على عاقلة الأعمى بالدية , فكان الأعمى يتمثل بأبيات شعر قالها , وهي التي ذكرناها آنفا قبل هذا. وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول في البصير يقود الأعمى فيقع البصير في بئر , ويقع الأعمى على البصير , فيموت البصير فإن دية البصير على عاقلة الأعمى.

قال أبو محمد : الرواية عن عمر لا تصح في أمر الأعمى , لأنه عن علي بن رباح , والليث , وكلاهما لم يدرك عمر أصلا. والقول في هذا عندنا أن من وقع على آخر فلا يخلو من أحد ثلاثة أوجه : إما أن يكون دفعه غيره فمات الواقع أو الموقوع عليه

وأما أن يكون الموقوع عليه هو الذي جر الواقع فوقع عليه , كبصير يقود أعمى وهو يمسكه فوقع البصير , وانجبذ بجبذه الأعمى , أو المريض فوقع عليه فمات الأسفل , أو الأعلى أو يكون وقع من غير فعل أحد , لكن عمد رمي نفسه أو لم يعمد , لكن عثر إذ خر فإن دفعه غيره , فالدافع هو القاتل , فإن كان عمدا فعليه القود , أو الدية , أو المفاداة , في أيهما مات فإن كان خطأ فعلى عاقلته الدية وعليه الكفارة , إذ هو القاتل خطأ والمدفوع حينئذ والحجر سواء فهذا وجه. وإن كان المدفوع عليه هو جبذ الواقع فإن كان عامدا فهو قاتل عمد , فإن مات المجبوذ فعليه القود , أو الدية , أو المفاداة وإن مات هو فهو قاتل نفسه , ولا شيء على المجبوذ , لأنه لم يعمد , ولا أخطأ , فإن كان لم يعمد جبذه ولكن استمسك به فوقع فمات , فعلى عاقلة الجابذ دية المجبوذ إن مات , والكفارة , لأنه قاتل خطأ فإن مات هو فليس على المجبوذ شيء , ولا على عاقلته , لأنه ليس عامدا ، ولا مخطئا , لكن على عاقلة الجابذ دية نفسه , لأنه قاتل نفسه خطأ فهذا وجه ثان. وإن كان وقع من غير فعل أحد , فإن كان عمدا فهو قاتل عمد إن سلم فالقود , أو الدية , أو المفاداة وإن مات فهو قاتل نفسه عمدا , ولا شيء على الموقوع عليه , وإن كان لم يعمد فهو قاتل خطأ إما نفسه

وأما الآخر , فالدية على عاقلته ، ولا بد , وعليه إن سلم هو ومات الآخر : كفارة وبالله تعالى التوفيق والأعمى والبصير في ذلك سواء.


2095 - مسألة: من قال إن صوم الشهرين في كفارة قتل الخطأ عوض من الدية والعتق إن لم يجد

قال علي : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا زكريا عن الشعبي قال : سئل مسروق عمن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} عن الرقبة وحدها , أم عن الدية والرقبة قال : من لم يجد فعن الدية والرقبة. وبه إلى وكيع ، حدثنا إسرائيل عن جبر عن عامر قال : من لم يجد فعن الدية والرقبة.

قال علي : ذهب مسروق , والشعبي هاهنا إلى قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} إن صح معناه فمن لم يجد الدية والرقبة

قال علي : ولولا دليل نذكره إن شاء الله تعالى لكان القول قولهما , وذلك لأنه عموم لا يجوز أن يخص إلا بدليل , لكن لما علمنا أن الدية في قتل الخطأ ليست على القاتل وإنما هي على عاقلته بطل ما قال مسروق , وعامر , لأن الدية لا نبالي وجدها القاتل أو لم يجدها فصح بذلك أن مراد الله تعالى بقوله {فمن لم يجد} إنما هو فيما ينظر فيه إلى وجود المكلف لا فيما لا ينظر فيه إلى وجوده , وليس ذلك إلا في الرقبة التي هي واجبة عليه في صلب ماله , فإن لم يجدها فالصيام , كما أمر الله تعالى.

قال أبو محمد : وأما من لا عاقلة له فالدية واجبة في ذلك على كل مال لجميع المسلمين , لأن الله تعالى افترض في قتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل المقتول. وقد قال تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}.

وقال رسول الله  : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. ووجدنا الناس قد اختلفوا : هل دية الخطأ على القاتل المخطئ أم لا فوجب بقول الله تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أنه لا يلزمه الدية.

وأيضا فإن الله تعالى إذ أوجب الدية في ذلك لم يلزمها القاتل , فلا سبيل إلى إلزامه دية لم يلزمه الله تعالى إياها , ولا رسوله ولا إجماع الأمة ; وقد صح النص , والإجماع على : إلزامه الكفارة بالعتق , أو الصيام , فوقفنا عند النص , والإجماع في ذلك وألزمنا الدية العاقلة بالنص الوارد في ذلك على ما نذكر في أبواب العاقلة إن شاء الله تعالى وألزمناها في كل مال.

2096 - مسألة: من أمر غيره بقتل إنسان فقتله المأمور

قال علي : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : يقتل الآمر وحده.

وقالت طائفة : يقتل المأمور وحده.

وقالت طائفة : يقتلان جميعا.

وقالت طائفة : لا يقتل واحد منهما : فالقول الأول كما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس أن علي بن أبي طالب قال : إذا أمر الرجل عبده أن يقتل رجلا فقتله , فهو كسيفه وسوطه. أما السيد فيقتل

وأما العبد فيستودع في السجن.

ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : رجل أمر عبده فقتل رجلا فقال : على الآمر , سمعت أبا هريرة يقول : يقتل الحر الآمر , ولا يقتل العبد , قال أبو هريرة : أرأيت لو أن رجلا بعث بهدية مع عبده إلى رجل , من أهداها قال ابن جريج : فقلت : فأجيره قال : ذلك مثل عبده قلت : فأمر رجلا حرا أو عبدا لا يملكه , وليسا بأجيرين , قال : على المأمور إذا لم يملكهما إذا أمر حرا فقتل رجلا , فإنه يقتل القاتل وليس على الآمر شيء. والقول الثاني

كما روينا من طريق ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة , وحماد بن أبي سليمان عن الرجل يأمر الرجل فيقتل فقالا جميعا : يقتل القاتل , وليس على الآمر قود. وبه إلى وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن جابر عن عامر الشعبي في الذي يأمر عبده فيقتل رجلا قال : يقتل العبد وللشعبي كلام آخر زائد ويعاقب السيد. والقول الثالث هو قول قتادة : أنهما يقتلان جميعا. والقول الرابع

روينا عن سليمان بن موسى قال : لو أمر رجل عبدا له فقتل رجلا لم يقتل الآمر , ولكن يديه , ويعاقب , ويحبس فإن أمر حرا فإن الحر إن شاء أطاعه , وإن شاء لا , فلا يقتل الآمر.

وأما المتأخرون فإن سفيان الثوري قال : يقتل العبد , ويعاقب السيد الآمر ولو أمر رجل صبيا بقتل إنسان فقتله الصبي , فالدية في مال الصبي , ويرجع بها على الذي أمره ، ولا يقتل الآمر.

وقال أحمد بن حنبل : إن أمر عبده بقتل إنسان قتل الآمر , ويؤدب العبد فإن أمر حرا فقتله قتل المأمور وحده وبه قال إسحاق.

وقال أبو حنيفة , ، ومحمد بن الحسن في عبد محجور عليه أمر عبدا محجورا عليه أن يقتل رجلا فقتله , فسيد القاتل بالخيار إن شاء دفع عبده إلى أولياء المقتول , وإن شاء فداه , فإن أعتق العبد الآمر رجع سيد المأمور عليه , فأخذ منه قيمة عبده الذي أسلم , أو الذي فداه. وقال أبو يوسف : إذا أمر عبد عبدا بإتلاف نفس أو مال , فإنه إذا أعتق الآمر لزمه المال المتلف بأمره , ولم يلزمه الدم المتلف بأمره , كما لو أقر بجناية , أو دين في رقبة ثم أعتق فإن الدين يلزمه ، ولا تلزمه الجناية. وقال زفر , والحسن بن زياد , في عبد أمر صبيا بقتل إنسان فقتله , فعلى عاقلة الصبي الدية , ثم ترجع بها عاقلة الصبي على سيد العبد , فيقال له : ادفع العبد إلى العاقلة أو افده بالدية.

وقال الشافعي : إن أمر حر عبد غيره بقتل إنسان فقتله , أو أمر بذلك صبيا أجنبيا فقتل , فإن كان العبد والصبي يميزان أنه أجنبي , وأن طاعته ليست عليهما : عوقب الآمر ، ولا قود عليه , ولا دية , والقاتل هاهنا هو العبد أو الصبي , قال : فإن كانا لا يميزان ذلك فعلى الآمر القود.

قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب علينا أن ننظر في ذلك :

فنظرنا في قول أبي حنيفة , وأصحابه فوجدنا لا حجة لهم في شيء منه , بل هي أقوال متخاذلة. ثم نظرنا في قول سفيان فوجدناه أيضا خطأ , لأنه فرق بين السيد يأمر عبده بقتل إنسان فينفذ أمره , فجعل العبد هو القاتل , ولم ير السيد الآمر قاتلا.

وأما قول الشافعي , وأحمد , وأبي سليمان , فداخلة في أقوال من ذكرنا قبل من الصحابة والتابعين , فتركنا أن نخصها بالذكر اكتفاء بكلامنا في تلك الأقوال الأربعة وبالله تعالى التوفيق.

وأما قول سليمان بن موسى " لا يقتل الآمر ، ولا المأمور " فخطأ , لأن هاهنا قتل عمد , وقد أوجب الله تعالى فيه القود.

وأما قول الحكم , وحماد , والشعبي , وإبراهيم , وأبي سليمان , فإنهم احتجوا بأن القاتل هو المتولي للقتل المباشر للقتل , فهو الذي عليه القود خاصة.

وأما قول علي , وأبي هريرة رضي الله عنهما فإنهما جعلا الآمر هو القاتل , فهو الذي عليه القود , وجعلوا المأمور آلة له مصرفة هذه حجتهم

قال أبو محمد : وقدموه أصحاب القياس هاهنا بأن هذا القول من علي , وأبي هريرة قياس يعني قول علي : إن المأمور هو كسيف الآمر وسوطه. وقول أبي هريرة " أرأيت لو أرسل معه هدية , من المهدي لها ". وهذا لا متعلق لهم به , ولا هو من القياس , لا في ورد ، ولا في صدر , لأن القياس عند جميع القائلين به إنما هو حكم لمسكوت عنه بحكم منصوص عليه , أو بحكم مختلف فيه بحكم مجمع عليه , وأن يرد الفرع إلى الأصل بنوع من الشبه , وليس هاهنا شيء من هذه الوجوه أصلا فبطل بإقرارهم أن يكون قياسا , إذ بيقين ندري أن المأمور ليس حكمه حكم السيف , والسوط , لأن عليا رأى على المأمور السجن ,

ولا خلاف في أنه لا سجن على السيف , ولا السوط. فصح أنه لم يحكم علي قط للمأمور بالحكم في السيف , والسوط , فبطل الإيهام جملة.

وأما قول أبي هريرة " أرأيت لو أهدى معه هدية , من الذي أهداها " فكذلك أيضا , وما حكم أبي هريرة قط للقاتل المأمور بمثل الحكم في حامل الهدية , بل الحكم فيهما مختلف بلا خلاف , لأن حامل الهدية , ومهديها : يشكران , والآمر , والقاتل : يقتل , ويلامان وهذا لو كان قياسا لكان قياسا للشيء على ضده , ولو كان قياسا لا يوجب اتفاقا في الحكم وهذا هو ترك القياس حقا , وإنما هو تشبيه فقط

قال أبو محمد : ثم نرجع إلى المسألة التي كنا فيها فنقول : إنهم لما اختلفوا كما ذكرنا وجب علينا أن نفعل ما افترض الله تعالى علينا , إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ففعلنا فوجدنا ما روينا من طريق مسلم ، حدثنا أبو الطاهر , وحرملة , قالا جميعا : حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سمع عبد الله بن عباس يقول : قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله إن الله بعث محمدا بالحق , فأنزل عليه الكتاب , وكان مما أنزل الله عليه آية الرجم , قرأناها ووعيناها وعقلناها , فرجم رسول الله ورجمنا بعده.

ومن طريق مسلم أيضا عن أبي هريرة " أنه أتى رجل من المسلمين رسول الله فقال يا رسول الله إني زنيت فذكر الحديث وفيه أن رسول الله قال له : هل أحصنت قال : نعم , فقال رسول الله اذهبوا به فارجموه. وعن إبراهيم النخعي قال أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقا , فقال له عمارة بن عقبة : أتستعمل رجلا من بقايا قتلة عثمان فقال مسروق : حدثنا عبد الله بن مسعود أن رسول الله لما أمر بقتل أبيك قال : من للصبية قال : النار , قال مسروق : فرضيت لك ما جعل لك رسول الله .

ومن طريق مسلم أن رسول الله أمر بقطع يد المرأة التي سرقت فقطعت يدها.

قال علي : ففي هذه الأخبار : أن الآمر يسمى في اللغة التي بها نزل القرآن فاعلا في بعض الأحوال على حسب ما جاءت به اللغة فسمى عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة وهم الحجة في اللغة من أمر برجم آخر فرجم راجما للمرجوم. وسمى أيضا نفسه راجما وسمى رسول الله راجما وهو لم يحضر رجما : كما ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا حمد بن سليمان الرهاوي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إني قد زنيت فذكر الحديث وفيه أن رسول الله قال : انطلقوا به فارجموه , فانطلقوا به , فلما مسته الحجارة أدبر يشتد , فلقيه رجل في يده لحي جمل فضربه فصرعه , فذكر ذلك لرسول الله فراره حين مسته الحجارة فقال : فهلا تركتموه .

قال أبو محمد : وسمى رسول الله نفسه قاطعا يد السارق وإنما تولى القطع غيره ، ولا يختلف اثنان في أن رسول الله قتل عقبة بن أبي معيط , وإنما تولى قتله غيره بأمر رسول الله . وهكذا جاء عن علي رضي الله عنه

كما روينا عن الشعبي أن عليا جلد شراحة يوم الخميس , ورجمها يوم الجمعة , وقال : جلدتك بكتاب الله , ورجمتك بسنة رسول الله .

قال علي : فإذ من أمر بالقتل وكان متولي القتل مطيعا للآمر منفذا لأمره , ولولا أمره إياه لم يقتله يسمى في اللغة والشريعة قاتلا وقاطعا صح أنهما جميعا قاتلان , وقاطعان , وجالدان , فإذ ذلك كذلك فعليهما جميعا ما على القاتل , والقاطع , والجالد , من القود , وسواء في ذلك المكره , والآمر , والمنطاع وهذا

برهان ضروري لا محيد عنه.

قال أبو محمد : فسواء أمر عبده , أو عبد غيره , أو صبيا , أو بالغا , أو مجنونا إذا كان متولي القتل , أو الجناية بالقطع , أو الكسر , أو الضرب أو أخذ المال : إنما فعل ذلك بأمر الآمر ولولا أمره لم يفعله فالآمر , والمباشر : فاعلان لكل ذلك جميعا.

وأما إذا أمره ففعل ذلك باختياره طاعة للآمر : فالمباشر وحده : القاتل , والقاطع والكاسر , والفاقئ , والجاني : فعليه القود وحده , ولا شيء على الآمر , لأنه لا خلاف في أنه لا يقع عليه هاهنا اسم قاتل , ولا قاطع , ولا جالد , ولا كاسر ، ولا فاقئ وإنما الأحكام للأسماء فقط. أما الصبي , والمجنون : فلا شيء عليهما , والآمر هو القاتل , القاطع , الجالد , الكاسر , الفاقئ : فالقود عليه وحده.

وأما من أمر عبدا له , أو لغيره , أو حرا , وكانوا جهالا لا يدرون تحريم ما أمرهم به : فالآمر وحده هو القاتل الجاني في كل ذلك وعليه القود , ولا شيء على الجاهل , قال الله تعالى {لأنذركم به ومن بلغ}.

قال أبو محمد : ولا فرق بين أمره عبده , وبين أمره غيره ، ولا فرق بين أمر السلطان وبين أمر غير السلطان , لأن الله تعالى إنما افترض طاعة السلطان وطاعات السادات فيما هو طاعة لله تعالى , وحرم طاعة المخلوقين في معصية الخالق , كما قال رسول الله  : إنما الطاعة في الطاعة , فإذا أمر أحدكم بمعصية فلا سمع ، ولا طاعة. وقد أوردناه بإسناده في غير ما موضع.

قال علي : ومن أمر آخر بقتل نفسه فقتل نفسه بأمره فإن كان فعل ذلك مطيعا للأمر ولولا ذلك لم يقتل نفسه فالآمر قاتل وعليه القود كما

قلنا في قتل غيره ، ولا فرق فلو أمره فقال : اقتلني , فقتله مؤتمرا لأمره فهو أيضا قاتل , وعليه القود وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الدماء والقصاص والديات
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2022 - 2024) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2025) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2025 - 2026) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2028) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2028) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2029 - 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 3 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2031 - 2037) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2038 - 2050) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2051 - 2059) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2060 - 2074) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2075 - 2078) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2079 - 2085) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2086 - 2089) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2090 - 2093) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2094 - 2096) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2097 - 2100) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2101 - 2103) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2104 - 2112) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2113 - 2115) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2116 - 2118) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2119 - 2125) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2126 - 2131) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2132 - 2134) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2135 - 2143)