محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة التاسعة عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الدماء والقصاص والديات

2086 - مسألة: مقتول كان في أوليائه غائب , أو صغير , أو مجنون

اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة : إذا كان للمقتول بنون وفيهم واحد كبير وغيرهم صغار : إن للواحد الكبير أن يقتل , ولا ينتظر بلوغ الصغار. قال : فإن كان فيهم غائب لم يكن للحاضرين أن يقتلوا حتى يقدم الغائب وهو قول الليث بن سعد .

وبه يقول حماد بن أبي سليمان.

وقال مالك مثل ذلك , سواء سواء وزاد أن المقتول إذا كان له ولد صغير , وأخ كبير , أو أخت كبيرة , فللأخ , أو للأخت أن يقتلا قودا , ولا ينتظر بلوغ الصغير , وكذلك للعصبة أيضا وهو قول الأوزاعي. ورأى مالك : للعصبة إذ كان الولد صغيرا أن يصالحوا على الدية , وينفذ حكمهم. وقال ابن أبي ليلى , والحسن بن حي , وأبو يوسف , ومحمد , والشافعي : لا يستقيد الكبير من البنين حتى يبلغ الصغير وروي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز.

قال أبو محمد : والظاهر من قولهم : أن المجنون كالصغير , فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لنعلم الحق فنتبعه :

فنظرنا في قول أبي حنيفة فوجدناه ظاهر التناقض إذ فرق بين الغائب والصغير , ووجدنا حجتهم في هذا : أن الغائب لا يولى عليه , والصغير يولى عليه. قالوا : وكما كان أحد الوليين يزوج إذا كان هنالك صغير من الأولياء , فكذلك يقتل وقالوا : قد قتل الحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي , ولعلي بنون صغار وهم بحضرة الصحابة ، رضي الله عنهم ، دون مخالف يعرف له منهم.

قال علي : أما احتجاجهم بفعل الحسن بن علي فهو لازم للشافعيين , ولمن وافق من الحنفيين : أبا يوسف , ومحمد بن الحسن , لأنهم مثل هذا إذا وافق تقليدهم.

قال أبو محمد : فلئن كان مثل هذا إجماعا فلقد شهد الحنفيون على شيخهم بخلاف الإجماع , فإن كفروهما بهذا , أو بدعوهما فما يحل لهم أخذ ديتهم عن كافر , ، ولا عن مبتدع وإن عذروهما في ذلك فلنا من العذر ما ليعقوب , ومحمد وقد بطل تشنيعهم في الأبد بمثل هذا , وهذا واضح. ولله الحمد.

وقال أبو محمد : فكان من اعتراض الشافعيين أن قالوا : إن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان إماما فنظر في ذلك بحق الإمامة , أو قتله بالمحاربة لا قودا وهذا ليس بشيء , لأن عبد الرحمن بن ملجم لم يحارب , ولا أخاف السبيل. وليس للإمام عند الشافعيين ، ولا للوصي , أن يأخذ القود لصغير حتى يبلغ فبطل تشنيعهم إلا أن هذه القصة عائدة على الحنفيين بمثل ما شغبوا به على الشافعيين سواء سواء , لأنهم والمالكيون لا يختلفون في أن من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك.

ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا رضي الله عنه إلا متأولا مجتهدا مقدرا أنه على صواب. وفي ذلك يقول عمران بن حطان شاعر الصفرية : يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لاذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا أي لا أفكر فيه ثم أحسبه فقد حصل الحنفيون من خلاف الحسن بن علي على مثل ما شغبوا به على الشافعيين , وما ينقلون أبدا من رجوع سهامهم عليهم , ومن الوقوع فيما حفروه. فظهر تناقض الحنفيين , والمالكيين في الفرق بين الغائب والصغير.

وأما قولهم : إن الصغير يولى عليه , والغائب لا يولى عليه , فلا شبهة لهم في هذا , لأن الغائب يوكل له أيضا كما يولى على الصغير.

وأيضا فإن الوصي عندهم لا يقتص للصغير فبطل تمويههم جملة.

قال أبو محمد : والذي نقول به قد قدمنا في الباب الذي قبل هذا أن القول قول من دعا إلى القود فللكبير , وللحاضر العاقل : أن يقتل ، ولا يستأني بلوغ الصغير , ولا إفاقة المجنون , ولا قدوم الغائب فإن عفا الحاضرون البالغون لم يجز ذلك على الصغير , ولا على الغائب , ولا على المجنون , بل هم على حقهم في القود حتى يبلغ الصغير , ويفيق المجنون , فإذا كان ذلك فإن طلب أحدهم القود قضي له به , وإن اتفقوا كلهم على العفو جاز ذلك حينئذ ,.

لما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وبالله تعالى التوفيق.

قال علي : فإن مات الصغير أو الغائب أو المجنون كان حينئذ رجوع الأمر إلى من بقي من الورثة , ولا يلزم من عفا فلم ينفذ عفوه ذلك العفو الذي قد بطل , بل له الرجوع فيه , لأنه لا حكم له في نص , ولا إجماع , وإنما العفو اللازم عفو صح بإمضائه نص , أو إجماع فقط , لقول النبي  : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. ومن عفا دون سائر " الأهل " فقد عمل عملا ليس عليه أمر رسول الله فهو رد.

قال علي : ومن مات من " الأهل " لم يورث عنه الخيار , لأن الخيار للأهل بنص حكم رسول الله فمن كان من الأهل فله الخيار , ومن لم يكن من الأهل فلا خيار له أصلا , إذ لم يوجب ذلك نص , ولا إجماع , والخيار ليس مالا فيورث , وإنما جعل الله الميراث فيما ترك الموروث والخيار ليس مالا موروثا. ولو كان الخيار مالا موروثا لوجب فيه حق أهل الوصية بالثلث فدونه.

قال أبو محمد : فإن كان الوارث صغيرا , أو مجنونا , أو غائبا ، ولا وارث هنالك غيره : فقد وجب القود بلا شك , ولا تجب الدية , ولا المفاداة , إلا برضا الوارث , أو بتراض منه , ومن القاتل. وقد علمنا أن الصغير , والأحمق , لا رضا لهما , والقود حق قد وجب لهما بيقين , فأخذه واجب على كل حال , يأخذه لهما الولي أو السلطان , وهكذا الغائب , ولا فرق بين أخذ حظهم في القود , وأخذ حظهم في الأموال والعفو جائز والإبراء للغائب في كلا الأمرين جوازا واحدا , إذ كل ذلك حق له تركه ,

وكذلك القول في الصغير , والمجنون سواء سواء , وليس هذا قياسا ومعاذ الله من ذلك لكنه حكم واحد في حقين وجبا وجوبا واحدا , ووجب لمن يجوز أمره العفو عنهما سواء سواء , وليس أحدهما أصلا

والثاني فرعا , بل هما أصلان معا , ولا أحدهما منصوصا عليه والآخر غير منصوص عليه , بل كلاهما منصوص عليه , لوجوب الأنتصاف من القود ومن المال وبالله التوفيق.


2087 - مسألة: عفو الأب عن جرح ابنه الصغير , أو استقادته له أو في المجنون كذلك

روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي قال : إذا وهب الشجة الصغيرة التي تصيب ابنه جازت عليه.

قال علي : تفريق الشعبي رحمه الله بين الشجة الصغيرة والكبيرة لا معنى له , وقد قال الله تعالى : {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} , وحق الصغير والمجنون قد وجب , فلا يجوز أن يسقطه له غيره , لأنه كسب عليه , وهذا ما لا إشكال فيه. وقد أجمعوا على أن للأب والولي أن يطلبا , وأن يقتصا كل حق للصغير والمجنون , في مالهما , وأنه ليس للأب , ولا للولي , في ذلك عفو , ولا إبراء فهلا قاسوا أمر القصاص لهما على أمر المال ولكنهم لا القياس يحسنون ، ولا النص يتبعون

قال أبو محمد : والقول في ذلك أن الله تعالى قال : {والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} وقال تعالى : {والحرمات قصاص} وقال تعالى : {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. فصح بهذه النصوص أن القود قد وجب ، ولا بد , وأن العفو لا يصح إلا برضا المجني عليه , والصبي والمجنون لا رضا لهما , ولا عفو , ولا أمر نافذ بصدقة فسقط هذا الوجه , وبقي الذي وجب بيقين من القود , فيستقيد له أبوه , أو وليه , أو وصيه ، ولا بد , فإن أغفل ذلك حتى بلغ الصبي , وعقل المجنون , كان له القود الذي قد وجب أخذه له بعد , وحدث له جواز العفو إن شاء , وليس للأب , ولا للولي أخذ الدية , ولا أن يفادي في شيء من الجروح , لأن كل هذا داخل على وجوب القود والعفو لا يكون إلا برضا المجني عليه أو بتراض من الجاني والمجني عليه.


2088 - مسألة: هل يجوز عفو المجني عليه جناية يموت منها خطأ أو عمدا عن ديته وغيرها عن دمه أم لا

روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن أشعث بن سوار عن أبي بكر بن حفص قال : كان بين قوم من بني عدي وبين حي من الأحياء قتال , ورمي بالحجارة , وضرب بالنعال , فأصيب غلام من آل عمر , فأتى على نفسه , فلما كان قبل خروج نفسه قال : إني قد عفوت رجاء الثواب والإصلاح بين قومي , فأجازه ابن عمر. وبه إلى أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال : إذا عفا الرجل عن قاتله في العمد قبل أن يموت فهو جائز. وعن ابن طاووس قلت لأبي : يقتل عمدا أو خطأ فيعفو عن دمه قال : نعم. وعن الشعبي قال : إذا قتل الرجل فعفا عن دمه فليس للورثة أن يقتلوا. وعن ابن جريج قلت لعطاء : إن وهب الذي يقتل خطأ ديته لمن قتله , فإنما له منها ثلثها , إنما هو مال يوصي به.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قال : كتب عمر بن عبد العزيز أن لا يتصدق الرجل بديته فإن قتل خطأ فالثلث من ذلك جائز إذا لم يكن له مال غيره.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن فيمن يضرب بالسيف عمدا ثم يعفو عنه قبل أن يموت قال : هو جائز , وليس في الثلث. وقال هشام عن الحسن : إذا كان خطأ فهو في الثلث.

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج عن أبي عبيد الله ، عن ابن عباس في رجل قطعت يده فصالح عليها , ثم انتقضت به فمات قال : الصلح مردود : ويؤخذ بالدية.

قال أبو محمد : وأما المتأخرون فإن أبا حنيفة , وزفر قالا : إذا عفا عن الجراحة العمد , أو الشجة , وعما يحدث منها فهو جائز , ولا شيء على القاتل , فإن عفا عن الجراحة , أو القطع , أو الشجة , ثم مات فعليه الدية. قال أبو يوسف , ومحمد : لا شيء على القاتل في كل ذلك قالوا : فإن عفا عن ديته في الخطأ فذلك في الثلث.

وقال مالك : من صالح من جراحة , أو من قطع ثم مات : بطل الصلح ووجب القود فإن عفا عن ديته في الخطأ فذلك في ثلثه. وقال سفيان الثوري : إذا عفا عن الجراحة ثم مات فلا قود , لكن يغرم الجاني الدية بعد أن يسقط منها أرش الجراحة.

وقال الشافعي : إذا عفا عن الجراحة وعما يحدث منها من عقل , أو قود ثم مات فلا قود ثم اختلف قوله في الدية , فمرة قال كقول سفيان الثوري الذي ذكرنا قبله ومرة قال : يؤخذ بجميع الدية.

وقال الشافعي في أحد قوليه .

وبه يقول أبو ثور , وأحمد , وإسحاق : لا عفو له في العمد.

قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا ونظرنا في ذلك ; لنعلم الحق فنتبعه , فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} , وقال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} ,

وقال تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية. وذكروا ما حدثنا حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن عروة بن مسعود الثقفي دعا قومه إلى الله ورسوله فرماه رجل منهم بسهم فمات فعفا عنه فرفع ذلك إلى رسول الله فأجاز عفوه , وقال : هو كصاحب ياسين. حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا عمران بن ظبيان عن عدي بن ثابت قال : قال رجل من أصحاب رسول الله  : سمعت النبي يقول : من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق به.

قال علي : وقالوا : هذا حكم ابن عمر بحضرة الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا يعرف له منهم مخالف وقالوا : هذا هو المجني عليه فهو أولى بنفس. فهذا كل ما أوردوه في ذلك

فنظرنا في الذي احتجوا به , فوجدناه لا حجة لهم في شيء منه أصلا. أما قول الله تعالى : {فمن تصدق به فهو كفارة له} فإنما قال تعالى ذلك عقب قوله تعالى {والعين بالعين} إلى قوله تعالى {فهو كفارة له} , وهذا كله كلام مبتدأ بعد تمام قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} فإنما جاء نص الله تعالى على الصدقة بالجروح بالأعضاء وهكذا نقول : إن للمجني عليه أن يتصدق بما أصيب به من ذلك , فيبطل القود جملة في ذلك , وليس في هذه الآية حكم الصدقة بالدم في النفس , لأن النفس بالنفس , إنما هو في التوراة بنص الآية. وليس ذلك خطابا لنا , وإنما خوطبنا بما بعده إذا قرئ كل ذلك بالرفع خاصة , فإذا قرئ بالنصب فليس خطابا لنا , وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى فبطل تعلقهم بهذه الآية.

وأما قوله تعالى : {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}

وقوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية , فهي بنصها بيان جلي بأنها إنما هي فيما دون النفس , لأن المخاطب فيها بأن يعاقب بمثل ما عوقب به , هو الذي عوقب نفسه هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحل صرفها عنه بالدعوى , وهكذا نقول. وليس فيها جواز العفو عن النفس أصلا , وإنما فيها جواز الصبر عن أن يعاقب بمثل ما عوقب به فقط.

وأما قوله تعالى : {وجزاء سيئة سيئة مثلها إلى قوله فأجره على الله} فهو عموم يدخل فيه العفو عن النفس وما دونها وعفو الولي أيضا داخل فيها فإن وجدنا منها دليلا يخص منها ما ذكروه وجب المصير إليه , وإلا فقد صح قولهم.

وأما حديث عروة بن مسعود رضي الله عنه فإنما قام بدعوة قومه إلى الإسلام وهم كفار حربيون قد حاربهم النبي ورجع عنهم وهم أطغى ما كانوا فتوجه إليهم عروة داعيا إلى الإسلام كما في نص الحديث المذكور فرموه فقتلوه ،

ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا قود على قاتله إذا أسلم ، ولا دية , فأي معنى للعفو هاهنا وهكذا شبهه النبي بصاحب ياسين فبطل أن يكون لهم متعلق به أصلا وإنما هي تمويهات يرسلونها لا يفكرون في المخرج منها يوم الموقف بين يدي الله تعالى.

وأما حديث عدي بن ثابت فعهدنا بإسماعيل يرد المسند الصحيح عن عدي بن ثابت إذا خالف رأيه فيمن سمع الأذان فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر , ويوهن روايته بأنه منكر الحديث , ومن أيقن أنه مسئول عن كلامه , لا سيما في الدين ويفكر في قوله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} لم يجترئ على مثل هذا , وأقرب من هذه الفضيحة العاجلة عند من طالع أقوالهم والحمد لله على ما من به من الإذعان للحق وترك العصبية للأقوال التي لا تغني عنا من الله شيئا , لا هي , ولا القائل بها. ثم نرجع إلى الحديث المذكور فنقول وبالله تعالى التوفيق : إن فيه عللا تمنع من الأحتجاج به : أحدها : أنه من رواية عمران بن ظبيان وليس معروف العدالة قال أحمد : فيه نظر.

والثاني : أنه منقطع لأن عدي بن ثابت لم يذكر سماعه إياه من الصاحب. والثالث : أننا لا ندري ذلك الصاحب أصحت صحبته أم لا والرابع : أنه لو صح لكان عموما كما

قلنا في قوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} , فإن وجد دليل يخص من هذا العموم له وإلا فواجب حملهما على عمومهما وبالله تعالى التوفيق.

وأما قولهم أنه قول ابن عمر بحضرة الصحابة ، رضي الله عنهم ، فلا حجة لهم في هذا , لوجوه :

أولها : أننا قد ذكرنا ما خالفوا فيه جمهور الصحابة الذين لا يعرف له منهم مخالف إذا لم يوافق آراءهم , أقرب ذلك حكم عمر بن الخطاب , وابن عباس ، رضي الله عنهم ، في اليد الشلاء تقطع , والسن السوداء تكسر , بثلث دية. فقول الصاحب إذا وافق أهواءهم كان عندهم حجة لا يحل خلافها وإذا خالف أهواءهم وتقليدهم لم يكن عندهم حجة وحل خلافه وهذا حكم لا طريق للتقوى ، ولا للحياء إلى قائله. وثانيها : أنه عن أشعث بن سوار , وهو ضعيف. وثالثها : أنه منقطع أيضا لأنه عن أبي بكر بن حفص ولم يدرك ابن عمر. ورابعها : أن الأمر لم يكن كذلك وهي قصة مشهورة له وإنما كان بين أولاد الجهم بن حذيفة العدوي شر ومقاتلة فتعصبت بيوتات بني عدي بينهم فأتى الغلام المذكور ليلا والضرب قد وقع بينهم في الظلام وهذا الغلام هو زيد بن عمر بن الخطاب وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، فأصابه حجر لا يدرى من رماه وقد قيل ظنا : إن خالد بن أسلم أخا زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب هو الذي ضربه وهو لا يعرف من هو في الظلمة وكان ابن عمر أخوه يقول له عند الموت : اتق الله يا زيد فإنك لا تعرف من أصابك , فإنك كنت في ظلمة واختلاط فهكذا كانت قصته.

وأما قولهم : إنه هو المجني عليه فهو أولى بنفسه : فتمويه ضعيف لأن الجناية عليه التي هو أولى بها إنما هي ما كان حاكما فيها بعد حلولها به , وهذا حق , وإنما ذلك فيما عاش بعدها , فاختار ما له أن يختار ,

وأما بعد موته فهو غير موجود عندنا بعد الموت , ولا خيار له في جناية لم تحدث بعد.

قال أبو محمد : فلما لم يبق لهم متعلق إلا قوله تعالى في قتل الخطأ {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ومن تصدق بدم نظرنا في ذلك. فوجدنا قوله تعالى في قتل الخطأ {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} إلى قوله تعالى {ودية مسلمة إلى أهله} ووجدناه تعالى يقول في قتل العمد {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} إلى قوله تعالى {إنه كان منصورا} ، ولا قتل إلا عمد أو خطأ.

فصح أن الدية في الخطأ فرض أن تسلم إلى أهله , فإذ ذلك كذلك فحرام على المقتول أن يبطل تسليمها إلا من أمر الله تعالى بتسليمها إليهم , وحرام على كل أحد أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله فهذا بيان لا إشكال فيه. وصح بنص كلام الله تعالى وحكمه الذي لا يرد أن الله تعالى جعل لولي المقتول سلطانا , وجعل إليه القود , وحرم عليه أن يسرف , فمن الباطل المتيقن أن يجوز للمقتول حكم في إبطال السلطان الذي جعله الله تعالى لوليه , ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول في خلاف أمر الله تعالى ; وهذا هو الحيف والإثم من الوصية.

وكذلك جعل الله تعالى على لسان رسوله لأهل المقتول الخيار في القود , أو الدية , أو المفاداة , فنشهد بشهادة الله تعالى على لسان رسوله أنه لا يحل للمقتول أن يبطل خيارا جعله الله ورسوله عليه الصلاة والسلام لأهله بعد موته , وأنه لا يحل لأحد إنفاذ حكم المقتول في ذلك , وأن هذا خطأ متيقن عند الله تعالى. فكان بيقين عفو المقتول عن دية جعلها الله تعالى لأهله بعده لا له , قال الله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} , فكان عفو المقتول عن دية أوجب الله تعالى تسليمها إلى أهله , وعن دم , أو مال , خير الله تعالى فيهما أهله بعده : كسبا على أهله وهذا باطل بنص القرآن.

وكذلك قال رسول الله  : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام والدية إنما هي , بنص القرآن , وكلام رسول الله لأهل المقتول , فحرام على المقتول التصرف في , شيء من ذلك , لأنها مال أهله.

قال أبو محمد : ولم يأت قط نص من الله تعالى , ولا من رسوله على أن للمقتول سلطانا في القود في نفسه , ولا أن له خيارا في دية , أو قود , ولا أن له دية واجبة. فبطل أن يكون له في شيء من ذلك حق , أو رأي , أو نظر , أو أمر. فإذ ذلك كذلك بلا شك فقوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} إنما هو فيما جني عليه فيما دون النفس , وفيما عفا عنه من جعل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام العفو إليه وهم الأهل بعد موت المقتول وهكذا يكون القول في الخبر المذكور لو صح.

وبرهان آخر أن الدية عوض من القود بلا شك في العمد وعوض من النفس في الخطأ بيقين ,

ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن المقتول ما دام حيا فليس له حق في القود , فإذ لا حق له في ذلك , فلا عفو له , ولا أمر فيما لا حق له فيه.

وكذلك من لم تذهب نفسه بعد , لأن الدية في الخطأ عوض منها , فلم يجب بعد شيء , فلا حق له فيما لم يجب بعد , وبيقين يدري كل ذي عقل أن القود لا يجب , ولا الدية , إلا بعد الموت , وهو إذا لم يمت فلم يجب له بعد على القاتل لا قود , ولا دية , ولا على العاقلة. وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا حق لأحد في شيء لم يجب بعد , فإذا وجب كل ذلك بموته فالحكم حينئذ للأهل لا له.

قال أبو محمد : فبطل أن يكون للمقتول خطأ , أو عمدا : عفو , أو حكم , أو وصية في القود , أو في الدية , فإذ ذلك كذلك فإنما هي مال للأهل حدث لهم بعد موته , ولم يرثوه قط عنه , إذ لم يجب له قط شيء منه في حياته , فمن الباطل أن يقضى دينه من مال الورثة الذي لم يملكه هو قط في حياته , وأن ينفذ فيه وصيته , وهو وإن كان إنما وجب لهم من أجل موته , فهو كمال مولى له مات إثر موته , فوجب للورثة من أجل الميت , ولم يجب للميت وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : فلو عفا الورثة أو أحدهم عن نصيبه من دية الخطأ قبل موت المقتول , أو عفوا كلهم عن القود قبل موت المقتول , فهو كله باطل , وذلك لأنه لم يجب لهم بعد شيء من ذلك , وإنما يجب لهم بموته , فإذ ذلك كذلك فعفوهم لا شيء , ولا يلزمهم , والدية واجبة لهم , أو العافي بعد موت المقتول ,

وكذلك القود واجب لهم أيضا وهذا قول أبي حنيفة , وأصحابه , وما نراه إلا قول المالكيين , والشافعيين أيضا , فمن عجائب الدنيا أن يسقطوا عفو الورثة قبل أن يجب لهم القود أو الدية وهم أهل ذلك ومستحقوه بلا خلاف ثم يجيزون عفو المقتول في شيء لم يجب له قط في حياته وهي الدية والقود ، ولا يجب له أيضا بعد وفاته فهذا مقدار نظرهم. وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وأما من جني عليه جرح , أو قطع , أو كسر , فعفا عنه فقط , أو عنه وعما يحدث عنه , فعفوه عما يحدث منه باطل كما قدمنا لأنه لم يجب له بعد.

وأما عفوه عما جني عليه فهو جائز , وهو له لازم , وذلك لأنه قد وجب له القود في الكسر , أو المفاداة في الجراحة , فإن عفا فإنما عفا عن حقه الذي وجب له بعد , فإن مات من ذلك أو حدث عنه بطلان عضو آخر , فله القود في العضو الآخر , لأنه الآن وجب له ولأوليائه القتل بالسيف خاصة لا بمثل ما جنى على مقتولهم لأن تلك الجنايات كان له القود فيها فعفا عنها فسقطت وبقي قتل النفس فقط , ولا عفو له فيه , فهو للورثة , فلهم قتله , وإذ لهم قتله , وبطل أن يقتص منه بمثل ما جنى عليه , فلا خلاف في أن الجناية لم يقد منها , فإنما القتل بالسيف فقط. وهكذا لو استقاد المجني عليه مما جنى عليه الجاني ثم مات المجني عليه , فإن الجاني يقتل بالسيف فقط , لأنه قد استقيد منه في الجناية فلا يعتدى عليه بأخرى.

قال علي : ولو أن جانيا جنى على إنسان جناية قد يعاش منها , أو لا سبيل إلى العيش منها , فقام ولي هذا المجني عليه فقتل الجاني قبل موت المجني عليه , فلأولياء الجاني المقتول قتل قاتل وليهم , ثم إن مات الجاني عليه فلا شيء في ذلك , لأن كل جناية لم يمت صاحبها حتى مات الجاني فلا شيء فيها , لأن القود قد بطل بموته , وقد صار المال في حياة المجني عليه لغير الجاني , وهم الورثة , فهو مال من مالهم , ولا حق له عندهم , ولا مال للجاني أصلا , فجنايته باطل , قال تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} , وبالله تعالى التوفيق.


2089 - مسألة: والولي يعفو أو يأخذ الدية ثم يقتل

قال علي : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : يقتل كما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا يونس قال : سألت ابن شهاب عن رجل قتل رجلا ثم صالح , فأدى الدية ثم قتله قال : نرى أن يقاد به صاغرا , ولوليه أن يعفو عنه إن شاء.

حدثنا حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن القاسم بن الفضل عن هارون عن عكرمة في رجل قتل بعد أخذ الدية , قال : يقتل , أما سمعت قوله تعالى {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.

وقالت طائفة : لا يقتل كما روينا بالسند المذكور إلى أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن فيمن قتل بعد أخذ الدية , قال : تؤخذ منه الدية ، ولا يقتل.

قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى ومنه

فنظرنا في ذلك : فوجدنا رسول الله قد قال : من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا العقل

وأما أن يقتلوا أو كلاما هذا معناه.

فصح أن رسول الله لم يجعل للأهل إلا أحد الأمرين : إما الدية ,

وأما القود ولم يجعل الأمرين معا , فإذا قتل فلا دية له , وإذا أخذ الدية فلا قتل له هذا نص حكمه عليه الصلاة والسلام. فوجدنا أهل المقتول لما عفوا وأخذوا الدية حلت لهم , وصارت حقهم , وبطل ما كان لهم من القود , ليس لهم جميع الأمرين بالنص , فإذا بطل حقهم في القود بذلك حرم القود وحلت الدية. ولولا أن القود حرم لما حلت الدية , فإذا حرم القود فقد قتلوا نفسا محرمة حرمها الله تعالى , وإذ قتلوا نفسا محرمة فالقود واجب في ذلك , بقول رسول الله  : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه , أو زنى بعد إحصانه , أو قتل نفسا بغير نفس.

فإن قيل : هذا قتل نفسا بنفس قيل له : لا تحل النفس بالنفس إلا حيث أحلها الله تعالى على لسان نبيه وإنما أحلها الله تعالى إذا اختاروا ذلك دون الدية ,

وأما إذا اختاروا الدية فقد حرم الله تعالى عليهم تلك النفس , إذ لم يجعل لهم إلا أحد الأمرين.

ومن ادعى في ذلك شيئا صح تحليله أنه حرم فهو مبطل , إلا أن يأتي في دعواه ذلك بنص , أو إجماع , وقد صح بيقين كون الدية لهم حلالا , ومالا من مالهم إذا أخذوها , وصح تحريم القود عليهم بذلك بلا خلاف , إذ لا يقول أحد في الأرض , إنهم يجمعون الأمرين معا الدية والقود. فإذ لا شك فيما ذكرنا فمن ادعى أن الدم الذي قد صح تحريمه عليهم عاد حلالا لهم , وأن الدية التي أخذوا فحلت لهم قد حرمت عليهم , لم يصدق إلا بقرآن أو سنة , ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الدماء والقصاص والديات
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2022 - 2024) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2025) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2025 - 2026) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2028) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2028) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2029 - 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 3 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2031 - 2037) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2038 - 2050) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2051 - 2059) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2060 - 2074) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2075 - 2078) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2079 - 2085) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2086 - 2089) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2090 - 2093) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2094 - 2096) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2097 - 2100) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2101 - 2103) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2104 - 2112) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2113 - 2115) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2116 - 2118) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2119 - 2125) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2126 - 2131) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2132 - 2134) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2135 - 2143)