مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/ما يحصل لصاحب المحبة والذكر والتأله
ما يحصل لصاحب المحبة والذكر والتأله
فصاحب المحبة والذكر والتأله، يحصل له من حضور الرب في قلبه وأُنسه به ما لا يحصل لمن ليس مثله.
وكذلك الإيمان بالرسول، قد يكون أحد الشخصين أعلم بصفاته والآخر أكثر محبة له، وكذلك الأشخاص المشهورون قد يكون الرجل أعلم بما رأى، والآخر أكثر محبة له، و«الأرواح جنود مُجَنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وتعارفها تناسبها، وتشابهها فيما تعلمه وتحبه وتكرهه.
وكثير من هؤلاء العباد الذي يشهد قلبه الصورة المثالية ويفنى فيما شهده، يظن أنه رأى الله بعينه؛ لأنه لما استولى على قلبه سلطان الشهود لم يبق له عقل يميز به، والمشاهد للأمور هو القلب، لكن تارة شاهدها بواسطة الحس الظاهر، وتارة بنفسه، فلا يبقى أيضا يميز بين الشهودين، فإن غاب عن الفرق بين الشهودين ظن أنه رآه بعينه، وإن غاب عن الفرق بين الشاهد والمشهود ظن أنه هو، كما يحكي عن أبي يزيد أنه قال: ليس في الجُبَّة إلا الله، وكما قال الآخر: غبت بك عني؛ فظننتُ أنك أنِّي، وكان المحبوب قد ألقى نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه.
وهذا كله، من قوة شهود القلب وضعف العقل، بمنزلة ما يراه النائم؛ فإنه لغيبة عقله بالنوم يظن أن ما يراه هو بعينه الظاهرة، وما يسمعه يسمعه بإذنه الظاهرة، وما يتكلم به يتكلم به بلسانه بالحس الظاهر، وعينه مغمضة، ولسانه ساكت. وقد يقوى تصوره الخيالي في النوم حتى يتصل بالحس الظاهر؛ فيبقى النائم يقرأ بلسانه ويتكلم بلسانه تبعًا لخياله، ومع هذا فعقله غائب لا يشعر بذلك، كما يحصل مثل ذلك للسكران والمجنون وغيرهما.
ولهذا جاءت الشريعة بأن القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمي عليه، ولم يختلفوا إلا فيمن زال عقله بسبب مُحَرَّم.
وهذا يبين أن كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك، ثم من لم تقم عليه الحجة بماجاءت به الأخبار لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته إلا من كان منافقًا يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول فهذا ليس بمؤمن، وكل من أظهرالإسلام ولم يكن منافقًا فهو مؤمن، له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم.
ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه ﷺ، لم تدخل أمته الجنة؛ فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة، بل يدخلونها وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم، وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعرف الله به وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه لم يحمل ما لا يطيق، وإن كان يحصل له بذلك فتنة لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة.
فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها، كالقرآن والحديث المشهور، وهم مختلفون في معنى ذلك، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
هامش