انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/اختلاق كلام على الإمام أحمد يناقض المنقول المتواتر عنه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


اختلاق كلام على الإمام أحمد يناقض المنقول المتواتر عنه

[عدل]

ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول: إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك.

والذين ذكروا عن أحمد في تأويل النزول ونحوه من الأفعال لهم قولان:

منهم من يتأول ذلك بالقصد، كما تأول بعضهم قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} 1 بالقصد، وهذا هو الذي ذكره ابن الزاغوني.

ومنهم من يتأول ذلك بمجيء أمره ونزول أمره، وهو المذكور في رواية حنبل.

وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وغيره ممن يوافق أبا الحسن الأشعري على أن الفعل هو المفعول؛ وأنه لا يقوم بذاته فعل اختياري. يقولون: معنى النزول والاستواء وغير ذلك: أفعال يفعلها الرب في المخلوقات. وهذا هو المنصوص عن أبي الحسن الأشعري وغيره، قالوا: الاستواء فعل فعله في العرش كان به مستويًا، وهذا قول أبي الحسن بن الزاغوني.

وهؤلاء يدعون أنهم وافقوا السلف، وليس الأمر كذلك، كما قد بسط في موضعه.

وكذلك ذكرت هذه رواية عن مالك، رويت من طريق كاتبه حبيب بنأبي حبيب، لكن هذا كذاب باتفاق أهل العلم بالنقل، لا يقبل أحد منهم نقله عن مالك، ورويت من طريق أخرى ذكرها ابن عبد البر، وفي إسنادها من لا نعرفه.

واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في النزول والإتيان، والمجيء وغير ذلك: هل يقال: إنه بحركة وانتقال؟ أم يقال بغير حركة وانتقال؟ أم يمسك عن الإثبات والنفي؟ على ثلاثة أقوال، ذكرها القاضي أبو يعلى في كتاب اختلاف الروايتين والوجهين:

فالأول: قول أبي عبد الله بن حامد وغيره.

والثاني: قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته.

والثالث: قول أبي عبد الله بن بطة وغيره.

ثم هؤلاء فيهم من يقف عن إثبات اللفظ مع الموافقة على المعنى، وهو قول كثير منهم، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد الرحمن وغيره.

ومنهم من يمسك عن إثبات المعنى مع اللفظ، وهم في المعنى منهم من يتصوره مجملًا، ومنهم من يتصوره مفصلًا؛ إما مع الإصابة، وإما مع الخطأ.

والذين أثبتوا هذه رواية عن أحمد هم، وغيرهم ممن ينتسب إلى السنة والحديث لهم في تأويل ذلك قولان:

أحدهما: أن المراد به إثبات أمره ومجيء أمره.

والثاني: أن المراد بذلك عمده وقصده. وهكذا تأول هؤلاء قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} 1 قالوا: قصد وعمد.

وهذا تأويل طائفة من أهل العربية، منهم أبو محمد عبد الله بن قتيبة، ذكر في كتاب مختلف الحديث له، الذي رد فيه على أهل الكلام، الذين يطعنون في الحديث، فقال: قالوا: حديث في التشبيه يكذبه القرآن والإجماع. قالوا: رويتم أن رسول الله قال: «ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ أو مستغفر فأغفر له؟»، و«ينزل عشية عرفة إلى أهل عرفة». و«ينزل ليلة النصف من شعبان». وهذا خلاف لقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3.

فقد أجمع الناس أنه يكون بكل مكان، ولا يشغله شأن عن شأن.

ونحن نقول في قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 أنه معهم بالعلم بما هم عليه، كما تقول لرجل وجهته إلى بلد شاسع، ووكلته بأمر من أمرك: احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك، فإني معك؛ يريد: أنه لا يخفي عليّ تقصيرك أو جدك بالإشراف عليك، والبحث عن أمورك، فإذا جاز هذا في المخلوق والذي لا يعلم الغيب، فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز.

وكذلك هو بكل مكان يراك، لا يخفي عليه شيء مما في الأماكن، هو فيها بالعلم بها والإحاطة، فكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول، مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 أي: استقر، قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 5 أي: استقررت، ومع قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 6.

وكيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرتفع إليه عمل هو عنده؟ وكيف تعرج الملائكة والروح يوم القيامة؟ وتعرج بمعنى: تصعد، يقال: عرج إلى السماء: إذا صعد، والله ذو المعارج، والمعارج: الدرج. فما هذه الدرج؟ فإلى من تؤدي الملائكة الأعمال إذا كان بالمحل الأعلى مثله بالمحل الأدنى؟

ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما رُكِبَتْ عليه خلقتهم، من معرفة الخالق، لعلموا أن الله هو العلي وهو الأعلى، وبالمكان الرفيع، وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه، والأيدي ترتفع بالدعاء إليه. ومن العلو يرجى الفرج، ويتوقع النصر والرزق.

وهناك الكرسي والعرش، والحجب والملائكة. يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} 7. وقال في الشهداء: {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 8 قيل لهم: شهداء؛ لأنهم يشهدون ملكوت الله، واحدهم شهيد، كما يقال: علىم وعلماء، وكفيل وكفلاء.

وقال عز وجل: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} 9 أي: لاتخذنا ذلك عندنا لا عندكم؛ لأن زوجة الرجل وولده يكونان عنده بحضرته لا عند غيره.

والأمم كلها عجمها وعربها تقول: إن الله عز وجل في السماء، ما تركت على فطرتها، ولم تنقل عن ذلك بالتعليم.

وفي الحديث: أن رجلًا أتى إلى النبي بأمَةٍ أعجمية للعتق، فقال لها رسول الله : «أين الله؟» قالت: في السماء. قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله، فقال: «هي مؤمنة» وأمره بعتقها.

وقال أمية بن أبي الصَّلْت:

مجدوا الله فهو للمجد أهل ** ربنا في السماء أمسى كبيرًا

بالبناء الأعلى الذي سبق النا ** س وسوى فوق السماء سريرا

شَرْجَعًا ما يناله بصر العي ** ن ترى دونه الملائك صُورًا

وصُورًا جمع أصْوَر، وهو المائل العنق، وهكذا قيل في حملة العرش صور، وكل من حمل شيئا ثقيلًا على كاهله أو على منكبه، لم يجد بدًا من أن يميل عنقه.

وفي الإنجيل: أن المسيح عليه السلام قال: «لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله. وقال للحواريين: إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم الذي في السماء يغفر لكم كلكم، انظروا إلى طير السماء، فإنهن لا يزرعن، ولا يحصدن، ولا يجمعن في الأهواء، وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقهم، أفلستم أفضل منهن؟» ومثل هذا من الشواهد كثير يطول به الكتاب.

قال ابن قتيبة: وأما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3، فليس في ذلك ما يدل على الحلول بهما، وإنما أراد أنه إله السماء ومن فيها وإله الأرض ومن فيها. ومثل هذا من الكلام قولك: هو بخراسان أمير، وبمصر أمير، فالإمارة تجتمع له فيهما، وهو حال بأحدهما أو بغيرهما. هذا واضح لا يخفي.

فإن قال لنا: كيف النزول منه جل وعز؟ قلنا: لا نحكم على النزول منه بشيء، ولكنا نبين كيف النزول منا، وما تحتمله اللغة من هذا اللفظ، والله أعلم بما أراد.

والنزول منا يكون بمعنيين:

أحدهما: الانتقال من مكان إلى مكان، كنزولك من الجبل إلى الحضيض، ومن السطح إلى الدار.

والمعنى الآخر: إقبالك إلى الشيء بالإرادة والنية. كذلك الهبوط والارتفاع والبلوغ والمصير، وأشباه هذا من الكلام.

ومثال ذلك: إن سألك سائل عن محل قوم من الأعراب وهو لا يريد المصير إليهم فتقول له: إذا صرت إلى جبل كذا فانزل منه وخذ يمينًا، وإذا صرت إلى وادي كذا فاهبط فيه ثم خذ شمالًا، وإذا سرت إلى أرض كذا فَاعْلُ هضبة هناك حتى تشرف عليهم، وأنت لا تريد في شيء مما تقوله افعله ببدنك، إنما تريد افعله بنيتك وقصدك.

وقد يقول القائل: بلغت إلى الأحزاب تشتمهم، وصرت إلى الخلفاء تطعن عليهم، وجئت إلى العلم تزهد فيه، ونزلت عن معالي الأخلاق إلى الدناءة، ليس يراد في شيء من هذا انتقال الجسم، وإنما يراد به القصد إلى الشيء بالإرادة والعزم والنية، وكذلك قوله: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} 10 لا يراد به أنه معهم بالحلول؛ ولكن بالنصر والتوفيق والحياطة.

وكذلك قوله عز وجل: «من تَقَرَّب مني شبرًا تَقَرَّبت منه ذِراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَةً».

قال: وثنا عن عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب بن مُنَبِّه؛ أن موسى عليه السلام لما نودي من الشجرة {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} 11 أسرع الإجابة، وتابع التلبية، وما كان ذلك إلا استئناسًا منه بالصوت، وسكونًا إليه.

وقال: إني أسمع صوتك، وأحس حسك، ولا أدري مكانك، فأين أنت؟ قال: «أنا فوقك، وأمامك وخلفك، ومحيط بك وأقرب إليك من نفسك» يريد: إني أعلم بك منك؛ لأنك إذا نظرت إلى ما بين يديك خفي عليك ما وراءك، وإذا سموت بطرفك إلى ماهو فوقك ذهب عنك علم ما تحتك، وأنا لا يخفي عليّ خافية منك في جميع أحوالك.

ونحو هذا قول رابعة العابدة العدوية قالت: شَغَلُوا قلوبهم عن الله بحُبِّ الدنيا، ولو تركوها لجالت في الملكوت، ثم رجعت إليهم بطرف الفائدة، ولم ترد أن أبدانهم وقلوبهم تجول في السماء بالحلول، ولكن تجول هناك بالفكر والقصد والإقبال.

وكذلك قول أبي ممندية الأعرابي قال: اطلعت في النار فرأيت الشعراء لهم كظيظ، يعني التقاء، وأنشد فيه:

جياد بها صرعى لهن كظيظ **

ولو قال قائل في قول رسول الله : «اطَّلَعْتُ في الجنة، فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء»: إن اطلاعه فيها كان بالفكرة والإقبال كان حسنًا.

قلت: وتأويل المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك بمعنى القصد والإرادة ونحو ذلك هو قول طائفة. وتأولوا ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} 12 وجعل ابن الزاغوني وغيره ذلك: هو إحدى الروايتين عن أحمد.

والصواب: أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئا منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث أحمد بن حنبل، وغيره من أئمة السنة.

ولكن بعض الخائضين بالتأويلات الفاسدة يتشبث بألفاظ تنقل عن بعض الأئمة، وتكون إما غلطًا أو محرفة، كما تقدم من أن قول الأوزاعي وغيره من أئمة السلف في النزول «يفعل الله ما يشاء» فسره بعضهم أن النزول مفعول مخلوق، منفصل عن الله، وأنهم أرادوا بقولهم: «يفعل الله ما يشاء» هذا المعنى وليس الأمر كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه.

وآخرون كالقاضي أبي يعلى في إبطال التأويل قالوا: لم يرد الأوزاعي أن النزول من صفات الفعل، وإنما أراد بهذا الكلام بقوله: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} وشبهوا ذلك بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 13، فزعموا أن قوله سبحانه ليس تنزيهًا له عن اتخاذ الولد بناء على أصلهم الفاسد، وهو أن الرب لا ينزه عن فعل من الأفعال بل يجوز عليه كل ما يقدر عليه.

وكذلك جعلوا قول الأوزاعي وغيره: أن النزول ليس بفعل يشاؤه الله؛ لأنه عندهم من صفات الذات لا من صفات الفعل، بناء على أصلهم، وأن الأفعال الاختيارية لا تقوم بذات الله؛ فلو كان صفة فعل لزم ألا يقوم بذاته، بل يكون منفصلًا عنه.

وهؤلاء يقولون: النزول من صفات الذات، ومع هذا فهو عندهم أزلي كما يقولون مثل ذلك في الاستواء، والمجيء، والإتيان، والرضا، والغضب، والفرح، والضحك، وسائر ذلك: إن هذا جميعه صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية، لا تتعلق بمشيئته واختياره؛ بناء على أصلهم الذي وافقوا فيه ابن كلاب، وهو أن الرب لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته واختياره، بل من هؤلاء من يقول: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يقوم به فعل يحدث بمشيئته واختياره.

بل من هؤلاء من يقول: إن الفعل قديم أزلي، وإنه مع ذلك يتعلق بمشيئته وقدرته، وأكثر العقلاء يقولون: فساد هذا معلوم بضرورة العقل؛ كما قالوا مثل ذلك في قول من قال من المتفلسفة: إن الفلك قديم أزلي، وأنه أبدعه بقدرته ومشيئته.

وجمهور العقلاء يقولون: الشيء المعين من الأعيان والصفات إذا كان حاصلًا بمشيئة الرب وقدرته لم يكن أزليًا.

فلما كان من أصل ابن كلاب ومن وافقه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والقضاة أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلي بن الفراء، وأبي جعفر السماني، وأبي الوليد الباجي وغيرهم من الأعيان، كأبي المعالي الجويني وأمثاله؛ وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهما: أن الرب لا يقوم به ما يكون بمشيئته وقدرته، ويعبرون عن هذا بأنه لا تحله الحوادث، ووافقوا في ذلك للجهم ابن صفوان، وأتباعه من الجهمية والمعتزلة، صاروا فيما ورد في الكتاب والسنة من صفات الرب، على أحد قولين:

إما أن يجعلوها كلها مخلوقات منفصلة عنه. فيقولون: كلام الله مخلوق بائن عنه، لا يقوم به كلام. وكذلك رضاه، وغضبه، وفرحه، ومجيئه وإتيانه، ونزوله وغير ذلك، هو مخلوق منفصل عنه، لا يتصف الرب بشيء يقوم به عندهم.

وإذا قالوا: هذه الأمور من صفات الفعل، فمعناه: أنها منفصلة عن الله بائنة، وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به.

ولهذا يقول كثير منهم: إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول: آيات الصفات وأحاديث الصفات.

وإما أن يجعلوا جميع هذه المعاني قديمة أزلية، ويقولون: نزوله ومجيئه، وإتيانه وفرحه، وغضبه ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي، كما يقولون: إن القرآن قديم أزلي.

ثم منهم من يجعله معنى واحدًا، ومنهم من يجعله حروفًا، أو حروفًا وأصواتًا قديمة أزلية، مع كونه مرتبًا في نفسه. ويقولون: فرق بين ترتيب وجوده، وترتيب ماهيته، كما قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع على هذه الأقوال وقائليها، وأدلتها السمعية والعقلية في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا: أنه ليس شيء من هذه الأقوال قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا قول أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة أئمة السنة والجماعة وأهل الحديث كالأوزاعي، ومالك بن أنس، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأمثالهم بل أقوال السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، موجودة في الكتب التي ينقل فيها أقوالهم بألفاظها، بالأسانيد المعروفة عنهم.

كما يوجد ذلك في كتب كثيرة، مثل كتاب السنة والرد على الجهمية لمحمد بن عبد الله الجعفي، شيخ البخاري؛ ولأبي داود السجستاني، ولعبد الله بن أحمد بن حنبل، ولأبي بكر الأثرم، ولحنبل بن إسحاق، ولحرب الكرماني، ولعثمان بن سعيد الدارمي، ولنعيم بن حماد الخزاعي، ولأبي بكر الخلال، ولأبي بكر بن خزيمة، ولعبد الرحمن بن أبي حاتم، ولأبي القاسم الطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، ولأبي عبد الله بن منده، ولأبي عمرو الطلمنكي، وأبي عمر بن عبد البر.

وفي كتب التفسير المسندة قطعة كبيرة من ذلك، مثل تفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ودُحَيْم وسُنَيْد، وابن جرير الطبري، وأبي بكر بن المنذر، وتفسير عبد الرحمن ابن أبي حاتم، وغير ذلك من كتب التفسير، التي ينقل فيها ألفاظ الصحابة والتابعين، في معاني القرآن بالأسانيد المعروفة.

فإن معرفة مراد الرسول ومراد الصحابة هو أصل العلم، وينبوع الهدى، وإلا فكثير ممن يذكر مذهب السلف ويحكيه لا يكون له خبرة بشيء من هذا الباب، كما يظنون أن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها. أنه لا يفهم أحد معانيها؛ لا الرسول ولا غيره، ويظنون أن هذا معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} 14 مع نصرهم للوقف على ذلك؛ فيجعلون مضمون مذهب السلف أن الرسول بلغ قرآنًا لا يفهم معناه، بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها، وأن جبريل كذلك، وأن الصحابة والتابعين كذلك.

وهذا ضلال عظيم، وهو أحد أنواع الضلال في كلام الله والرسول ، ظن أهل التخييل، وظن أهل التحريف والتبديل، وظن أهل التجهيل. وهذا مما بسط الكلام عليه في مواضع، والله يهدينا وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

والمقصود هنا الكلام على من يقول: ينزل ولا يخلو منه العرش، وإن أهل الحديث في هذا على ثلاثة أقوال:

منهم من ينكر أن يقال: يخلو، أو لا يخلو، كما يقول ذلك الحافظ عبد الغني وغيره.

ومنهم من يقول: بل يخلو منه العرش، وقد صنف عبد الرحمن بن منده مصنفًا في الإنكار على من قال: لا يخلو من العرش، أو لا يخلو منه العرش كما تقدم بعض كلامه.

وكثير من أهل الحديث يتوقف عن أن يقول: يخلو أو لا يخلو. وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش. وكثير منهم يتوقف عن أن يقال: يخلو أو لا يخلو؛ لشكهم في ذلك، وأنهم لم يتبين لهم جواب أحد الأمرين، وإما مع كون الواحد منهم قد ترجح عنده أحد الأمرين لكن يمسك في ذلك؛ لكونه ليس في الحديث ولما يخاف من الإنكار عليه. وأما الجزم بخلو العرش فلم يبلغنا إلا عن طائفة قليلة منهم.

والقول الثالث وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها : إنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه، مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك، وسنتكلم عليه إن شاء الله، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط.

وأما قول النافي: إنما ينزل أمره ورحمته، فهذا غلط لوجوه، وقد تقدم التنبيه على ذلك على تقدير كون النفاة من المثبتة للعلو. وأما إذا كان من النفاة للعلو والنزول جميعا، فيجاب أيضا بوجوه:

أحدها: أن الأمر والرحمة إما أن يراد بها أعيان قائمة بنفسها كالملائكة، وإما أن يراد بها صفات وأعراض. فإن أريد الأول، فالملائكة تنزل إلى الأرض في كل وقت، وهذا خص النزول بجوف الليل، وجعل منتهاه سماء الدنيا، والملائكة لا يختص نزولهم لا بهذا الزمان ولا بهذا المكان. وإن أريد صفات وأعراض مثل ما يحصل في قلوب العابدين في وقت السحر من الرقة والتضرع وحلاوة العبادة ونحو ذلك، فهذا حاصل في الأرض ليس منتهاه السماء الدنيا.

الثاني: أن في الحديث الصحيح: أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يقول: «لا أسأل عن عبادي غيري»، ومعلوم أن هذا كلام الله الذي لا يقوله غيره.

الثالث: أنه قال: «ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى يَطْلُعَ الفجر»، ومعلوم أنه لا يجيب الدعاء ويغفر الذنوب ويعطي كل سائل سؤله إلا الله، وأمره ورحمته لا تفعل شيئا من ذلك.

الرابع: نزول أمره ورحمته لا تكون إلا منه، وحينئذ فهذا يقتضي أن يكون هو فوق العالم، فنفس تأويله يبطل مذهبه؛ ولهذا قال بعض النفاة لبعض المثبتين: ينزل أمره ورحمته؛ فقال له المثبت: فممن ينزل؟ ما عندك فوق شيء؛ فلا ينزل منه لا أمر، ولا رحمة ولا غير ذلك؟ فبهت النافي وكان كبيرًا فيهم.

الخامس: أنه قد روي في عدة أحاديث: «ثم يعرج» وفي لفظ «ثم يصعد».

السادس: أنه إذا قدر أن النازل بعض الملائكة، وأنه ينادي عن الله كما حرف بعضهم لفظ الحديث فرواه «ينزل» من الفعل الرباعي المتعدي أنه يأمر مناديًا ينادي؛ لكان الواجب أن يقول: من يدعو الله فيستجيب له؟ من يسأله فيعطيه، من يستغفره فيغفر له؟ كما ثبت في الصحيحين، وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، وغير ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: «إذا أحب الله العبد نادى في السماء: ياجبريل، إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض»، وقال في البغض مثل ذلك.

فقد بين النبي الفرق بين نداء الله ونداء جبريل، فقال في نداء الله: «يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه»، وقال في نداء جبريل: «إن الله يحب فلانًا فأحبوه»، وهذا موجب اللغة التي بها خوطبنا، بل وموجب جميع اللغات، فإن ضمير المتكلم لا يقوله إلا المتكلم. فأما من أخبر عن غيره فإنما يأتي باسمه الظاهر وضمائر الغيبة. وهم يمثلون نداء الله بنداء السلطان ويقولون: قد يقال: نادى السلطان، إذا أمر غيره بالنداء وهذا كما قالت الجهمية المحضة في تكليم الله لموسى: إنه أمر غيره فكلمه، لم يكن هو المتكلم.

فيقال لهم: إن السلطان إذا أمر غيره أن ينادي أو يكلم غيره أو يخاطبه؛ فإن المنادي ينادي: معاشر الناس، أمر السلطان بكذا، أو رسم بكذا، لا يقول: إني أنا أمرتكم بذلك.

ولو تكلم بذلك لأهانه الناس ولقالوا: من أنت حتى تأمرنا؟ والمنادي كل ليلة يقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» كما في ندائه لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 15، وقال: {إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} 16. ومعلوم أن الله لو أمر ملكًا أن ينادي كل ليلة أو ينادي موسى لم يقل الملك: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» ولا يقول: لا أسأل عن عبادي غيري.

وأما قول المعترض: إن الليل يختلف باختلاف البلدان والفصول في التقدم والتأخر والطول والقصر.

فيقال له: الجواب عن هذا كالجواب عن قولك: هل يخلو منه العرش، أو لا يخلو منه؟ وذلك أنه إذا جاز أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، فتقدم النزول وتأخره وطوله وقصره كذلك، بناء على أن هذا نزول لا يقاس بنزول الخلق. وجماع الأمر أن الجواب عن مثل هذا السؤال يكون بأنواع:

أحدها: أن يبين أن المنازع النافي يلزمه من اللوازم ما هو أبعد عن المعقول الذي يعترف به مما يلزم المثبت، فإن كان مما يحتج به من المعقول حجة صحيحة، لزم بطلان النفي، فيلزم الإثبات؛ إذ الحق لا يخلو عن النقيضين. وإن كان باطلًا، لم يبطل به الإثبات، فلا يعارض ما ثبت بالفطرة العقلية والشرعة النبوية، وهذا كما إذا قال: لو كان فوق العرش لكان جسمًا، وذلك ممتنع، فيقالله: للناس هنا ثلاثة أقوال:

منهم من يقول: هو فوق العرش وليس بجسم.

ومنهم من يقول: هو فوق العرش وهو جسم.

ومنهم من يقول: هو فوق العرش ولا أقول: هو جسم، ولا ليس بجسم، ثم من هؤلاء من يسكت عن هذا النفي والإثبات؛ لأن كليهما بدعة في الشرع.

ومنهم من يستفصل عن مسمى الجسم، فإن فسر بما يجب تنزيه الرب عنه نفاه وبين أن علوه على العرش لا يستلزم ذلك، وإن فسر بما يتصف الرب به لم ينف ذلك المعنى. فالجسم في اللغة هو البدن، والله منزّه عن ذلك، وأهل الكلام قد يريدون بالجسم ما هو مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة. وكثير منهم ينازع في كون الأجسام المخلوقة مركبة من هذا وهذا، بل أكثر العقلاء من بنى آدم عندهم أن السموات ليست مركبة، لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، فكيف يكون رب العالمين مركبًا من هذا وهذا؟ فمن قال: إن الله جسم، وأراد بالجسم هذا المركب، فهو مخطئ في ذلك. ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله، فقد أصاب في نفيه عن الله، لكن ينبغي أن يذكر عبارة تبين مقصوده.

ولفظ التركيب قد يراد به أنه ركبه مركب، أو أنه كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمع، أو أنه يقبل التفريق، والله منزه عن ذلك كله.

وقد يراد بلفظ الجسم والمتحيز ما يشار إليه بمعنى أن الأيدي ترفع إليه في الدعاء، وأنه يقال: هو هنا وهناك، ويراد به القائم بنفسه، ويراد به الموجود. ولا ريب أن الله موجود قائم بنفسه، وهو عند السلف وأهل السنة ترفع الأيدي إليه في الدعاء، وهو فوق العرش. فإذا سمى المسمى ما يتصف بهذه المعاني جسمًا، كان كتسمية الآخر ما يتصف بأنه حي عالم قادر جسمًا، وتسمية الآخر ما له حياة وعلم وقدرة جسمًا.

ومعلوم أن هؤلاء كلهم ينازعون في ثلاث مقامات:

أحدها: أن تسمية ما يتصف بهذه الصفات بالجسم بدعة في الشرع واللغة، فلا أهل اللغة يسمون هذا جسمًا، بل الجسم عندهم هو البدن، كما نقله غير واحد من أئمة اللغة، وهو مشهور في كتب اللغة، قال الجوهري في صحاحه المشهور: قال أبو زيد: الجسم: الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان، وقال الأصمعي: الجسم والجثمان: الجسد، والجثمان الشخص، قال: والأجسم الأضخم بالبدن، وقال ابن السكيت: تجسمت الأمر أي: ركبت أجسمه، وجسيمه أي: معظمه، قال: وكذلك تجسمت الرجل والجبل، أي ركبت أجسمه.

وقد ذكر الله لفظ الجسم في موضعين من القرآن، في قوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 17، وفي قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} 18، والجسم قد يفسر بالصفة القائمة بالمحل وهو القدر والغلظ، كما يقال: هذا الثوب له جسم، وهذا ليس له جسم أي: له غلظ وضخامة بخلاف هذا، وقد يراد بالجسم نفس الغلظ والضخم.

وقد ادعى طوائف من أهل الكلام النفاة أن الجسم في اللغة هو المؤلف المركب، وأن استعمالهم لفظ الجسم في كل ما يشار إليه موافق للغة، قالوا: لأن كل ما يشار إليه، فإنه يتميز منه شيء عن شيء، وكل ما كان كذلك؛ فهو مركب من الجواهر المنفردة التي كل واحد منها جزء لا يتجزأ ولا يتميز منه جانب عن جانب، أو من المادة والصورة اللذين هما جوهران عقليان، كما يقول ذلك بعض الفلاسفة.

قالوا: وإذا كان هذا مركبًا مؤلفًا، فالجسم في لغة العرب هو المؤلف المركب، بدليل أنهم يقولون: رجل جسيم، وزيد أجسم من عمرو، إذا كثر ذهابه في الجهات، وليس يقصدون بالمبالغة في قولهم: أجسم وجسيم إلا كثرة الأجزاء المنضمة والتأليف؛ لأنهم لا يقولون: أجسم فيمن كثرت علومه وقدره وسائر تصرفاته وصفاته غير الاجتماع، حتى إذا كثر الاجتماع فيه بتزايد أجزائه قيل: أجسم، ورجل جسيم، فدل ذلك على أن قولهم: جسم مفيد للتأليف.

فهذا أصل قول هؤلاء النفاة، وهومبني على أصلين: سمعي لغوي، ونظري عقلي فطري.

أما السمعي اللغوي فقولهم: إن أهل اللغة يطلقون لفظ الجسم على المركب واستدلوا عليه بقوله: هو أجسم إذا كان أغلظ وأكثر ذهابًا في الجهات، وأن هذا يقتضي أنهم اعتبروا كثرة الأجزاء.

فيقال: أما المقدمة الأولى وهو: إن أهل اللغة يسمون كل ما كان له مقدار بحيث يكون أكبر من غيره أو أصغر جسمًا، فهذا لا يوجد في لغة العرب البتة، ولا يمكن أحد أن ينقل عنهم أنهم يسمون الهواء الذي بين السماء والأرض جسمًا، ولا يسمون روح الإنسان جسمًا، بل من المشهور أنهم يفرقون بين الجسم والروح؛ ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} 18 يعني أبدانهم دون أرواحهم الباطنة.

وقد ذكر نقلة اللغة: أن الجسم عندهم هو الجسد. ومن المعروف في اللغة أن هذا اللفظ يتضمن الغلظ والكثافة، فلا يسمون الأشياء القائمة بنفسها إذا كانت لطيفة كالهواء وروح الإنسان، وإن كان لذلك مقدار يكون به بعضه أكبر من بعض، لكن لا يسمى في اللغة ذلك جسمًا، ولا يقولون في زيادة أحدهما على الآخر: هذا أجسم من هذا، ولا يقولون: هذا المكان الواسع أجسم من هذا المكان الضيق، وإن كان أكبر منه، وإن كانت أجزاؤه زائدة على أجزائه عند من يقول بأنه مركب من الأجزاء.

فليس كل ما هو مركب عندهم من الأجزاء يسمى جسمًا ولا يوجد في الكلام قبض جسمه، ولا صعد بجسمه إلى السماء، ولا أن الله يقبض أجسامنا حيث يشاء، ويردها حيث شاء، إنما يسمون ذلك روحًا، ويفرقون بين مسمى الروح ومسمى الجسم كما يفرقون بين البدن والروح، وكما يفرقون بين الجسد والروح، فلا يطلقون لفظ الجسم على الهواء، فلفظ الجسم عندهم يشبه لفظ الجسد، قال الجوهري: الجسد البدن، تقول فيه: تجسد كما تقول في الجسم: تجسم، كما تقدم نقله عن أئمة اللغة أن الجسم هو الجسد.

فعلم أن هذين اللفظين مترادفان، أو قريبان من الترادف؛ ولهذا يقولون: لهذا الثوب جسد، كما يقولون له: جسم إذا كان غليظًا ثخينًا صفيقًا، وتقول العلماء: النجاسة قد تكون مستجسدة كالدم والميتة، وقد لا تكون مستجسدة كالرطوبة، ويسمون الدم جسدًا كما قال النابغة:

فلا لعمر الذي قد زرته حججًا وما أريق على الأنصاب من جسد كما يقولون: له: جسم، فبطل ما ذكروه عن اللغة؛ أن كل ما يتميز منه شيء عن شيء يسمونه جسمًا.

المقدمة الثانية: أنه لو سلم ذلك، فقولهم: إن هذا جسم يطلقونه عند تزايد الأجزاء، هو مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، وهذا لو قدر أنه صحيح، فأهل اللغة لم يعتبروه، ولا قال أحد منهم ذلك، فعلم أنهم إنما لحظوا غلظه وكثافته. وأما كونهم اعتبروا كثرة الأجزاء وقلتها؛ فهذا لا يتصوره أكثر عقلاء بني آدم؛ فضلًا عن أن ينقل عن أهل اللغة قاطبة أنهم أرادوا ذلك بقولهم: جسيم وأجسم. والمعنى المشهور في اللغة لا يكون مسماه ما لا يفهمه إلا بعض الناس، وإثبات الجواهر المنفردة أمر خص به بعض الناس، فلا يكون مسمى الجسم في اللغة ما لا يعرفه إلا بعض الناس، وهو المركب من ذلك.

وأما الأصل الثاني العقلي، فقولهم: إن كل ما يشار إليه بأنه هنا أوهناك، فإنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة. وهذا بحث عقلي، وأكثر عقلاء بني آدم من أهل الكلام وغير أهل الكلام ينكرون أن يكون ذلك مركبًا من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وإنكار ذلك قول ابن كلاب وأتباعه من الكلابية وهو إمام الأشعري في مسائل الصفات وهو قول الهشامية، والنجارية، والضرارية، وبعض الكرامية.

وهؤلاء الذين أثبتوا الجوهر الفرد زعموا أنا لا نعلم: لا بالحس ولا بالضرورة أن الله أبدع شيئا قائمًا بنفسه، وأن جميع ما نشهده مخلوق من السحاب والمطر والحيوان والنبات والمعدن وبني آدم وغير بني آدم فإن ما فيه أنه أحدث أكوانًا في الجواهر المنفردة كالجمع والتفريق والحركة والسكون، وأنكر هؤلاء أن يكون الله لما خلقنا أحدث أبداننا قائمة بأنفسها، أو شجرًا وثمرًا أو شيئا آخر قائمًا بنفسه، وإنما أحدث عندهم أعراضًا. وأما الجواهر المنفردة فلم تزل موجودة. ثم من يقول: إنها محدثة، منهم من يقول: إنهم علموا حدوثها بأنها لم تخل من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث، فهو حادث.

قالوا: فبهذا الدليل العقلي وأمثاله، علمنا أنه ما أبدع شيئا قائمًا بنفسه؛ لأنا نشهده من حلول الحوادث المشهودة كالسحاب والمطر. وهؤلاء في مُعاد الأبدان يتكلمون فيه على هذا الأصل: فمنهم من يقول: يفرق الأجزاء ثم يجمعها، ومنهم من يقول: يعدمها ثم يعيدها، واضطربوا هاهنا فيما إذا أكل حيوان حيوانًا فكيف يعاد؟ وادعى بعضهم أن الله يعدم جميع أجزاء العالم، ومنهم من يقول: هذا ممكن لا نعلم ثبوته ولا انتفاءه.

ثم المعاد عندهم يفتقر إلى أن يبتدئ هذه الجواهر، والجهم بن صفوان منهم يقول بعدمها بعد ذلك، ويقول بفناء الجنة والنار لامتناع دوام الحوادث عنده في المستقبل كامتناع دوامها في الماضي، وأبو الهذيل العلاف يقول بعدم الحركات. وهؤلاء ينكرون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، أو انقلاب جنس إلى جنس، بل الجواهر عندهم متماثلة، والأجسام مركبة منها، وما ثم إلا تغيير التركيب فقط، لا انقلاب ولا استحالة.

ولا ريب أن جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم على إنكار هذا، والأطباء والفقهاء ممن يقول باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما هو موجود في كتبهم، والأجسام عندهم ليست متماثلة، بل الماء يخالف الهواء، والهواء يخالف التراب وأبدان الناس تخالف النبات؛ ولهذا صارت النفاة إذا أثبت أحد شيئا من الصفات، كان ذلك مستلزمًا لأن يكون الموصوف عندهم جسمًا وعندهم الأجسام متماثلة فصاروا يسمونه مشبهًا بهذه المقدمات التي تُلزمهم مثل ما ألزموه لغيرهم، وهي متناقضة لا يتصور أن ينتظم منها قول صحيح، وكلها مقدمات ممنوعة عند جماهير العقلاء، وفيها من تغيير اللغة والمعقول ما دخل بسبب هذه الأغاليط والشبهات حتى يبقى الرجل حائرًا لا يهون عليه إبطال عقله ودينه، والخروج عن الإيمان والقرآن؛ فإن ذلك كله متطابق على إثبات الصفات.

ولا يهون عليه التزام ما يلزمونه من كون الرب مركبًا من الأجزاء ومماثلًا للمخلوقات؛ فإنه يعلم أيضا بطلان هذا، وأن الرب عز وجل يجب تنزيهه عن هذا، فإنه سبحانه أحد صمد، والأحد ينفي التمثيل، والصمد ينفي أن يكون قابلًا للتفريق والتقسيم والبعضية سبحانه وتعالى فضلًا عن كونه مؤلفًا مركبًا؛ ركب وألف من الأجزاء، فيفهمون من يخاطبون أن ما وصف به الرب نفسه لا يعقل إلا في بدن مثل بدن الإنسان، بل وقد يصرحون بذلك ويقولون: الكلام لا يكون إلا من صورة مركبة مثل فم الإنسان ونحو ذلك مما يدعونه.

وإذا قال النفاةلهم: متى قلتم إنه يرى؟ لزم أن يكون مركبًا مؤلفًا؛ لأن المرئي لا يكون إلا بجهة من الرائي، وما يكون بجهة من الرائي لا يكون إلا جسمًا، والجسم مؤلف مركب من الأجزاء، أو قالوا: إن الرب إذا تكلم بالقرآن أوغيره من الكلام، لزم ذلك، وإذا كان فوق العرش، لزم ذلك، وصار المسلم العارف بما قاله الرسول يعلم أن الله يرى في الآخرة؛ لما تواتر عنده من الأخبار عن الرسول بذلك، وكذلك يعلم أن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكلام، ويعلم أن الله فوق العرش بما تواتر عنده عن الرسول بما يدل على ذلك، مع ما يوافق ذلك من القضايا الفطرية التي خلق الله عليها عباده.

وإذا قالوا له: هذا يستلزم أن يكون الله مركبًا من الأجزاء المنفردة، والمركب لا بد له من مركب؛ فيلزم أن يكون الله محدثًا؛ إذ المركب يفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه تكون غيره، وما افتقر إلى غيره؛ لم يكن غنيًا واجب الوجود بنفسه حيروه وشككوه إن لم يجعلوه مكذبًا لما جاء به الرسول، مرتدًا عن بعض ما كان عليه من الإيمان، مع أن تشككه وحيرته تقدح في إيمانه ودينه وعلمه وعقله.

فيقال لهم: أما كون الرب سبحانه وتعالى مركبًا ركبه غيره، فهذا من أظهر الأمور فسادًا، وهذا معلوم فساده بضرورة العقل. ومن قال هذا، فهو من أكفر الناس وأجهلهم وأشدهم محاربة لله، وليس في الطوائف المشهورة من يقول بهذا.

وكذلك إذا قيل: هو مؤلف أو مركب بمعنى أنه كانت أجزاؤه متفرقة فجمع بينها كما يجمع بين أجزاء المركبات من الأطعمة والأدوية والثياب والأبنية فهذا التركيب من اعتقده في الله، فهو من أكفر الناس وأضلهم، ولم يعتقده أحد من الطوائف المشهورة في الأمة. بل أكثر العقلاء عندهم أن مخلوقات الرب ليست مركبة هذا التركيب، وإنما يقول بهذا من يثبت الجواهر المنفردة.


هامش

  1. 1٫0 1٫1 [فصلت: 11]
  2. 2٫0 2٫1 [المجادلة: 7]
  3. 3٫0 3٫1 [الزخرف: 84]
  4. [طه: 5]
  5. [المؤمنون: 28]
  6. [فاطر: 10]
  7. [الأنبياء: 19، 20]
  8. [آل عمران: 169]
  9. [الأنبياء: 17]
  10. [النحل: 128]
  11. [طه: 12]
  12. [البقرة: 29]
  13. [الأنبياء: 26 28]
  14. [آل عمران: 7]
  15. [طه: 14]
  16. [القصص: 30]
  17. [البقرة: 247]
  18. 18٫0 18٫1 [المنافقون: 4]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس
الأسماء والصفات | سئل شيخ الإسلام ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات | فصل في أن وصف الله لا يتجاوز القرآن والسنة | فصل في مخالفات المعتزلة والجهمية والحرورية | جماع الأمر في الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها | سئل شيخ الإسلام عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه | قول ابن عربي في معنى اسمه تعالى العلي | إنكار جماعة على أبي طالب بعض كلامه في الصفات | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن علو الله على سائر مخلوقاته | فصل في قول المعتزلة والجهمية والحرورية إن الاستواء معناه الاستيلاء والملك والقهر | فصل في إبطال تأويل من تأول الاستواء بمعنى الاستيلاء | فصل في الإخبار بكروية الأرض | قاعدة عظيمة في إثبات علوه تعالى | سئل شيخ الإسلام عن مسألة الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو على العرش | فصل في وجوب إثبات العلو لله تعالى | فصل في معنى الحقيقة | فصل | فصل في الجمع بين علو الرب عز وجل وبين قربه من داعيه وعابديه | فصل في تمام الكلام في القرب | فصل في قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه | ما يحصل لصاحب المحبة والذكر والتأله | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجلين اختلفا في الاعتقاد أن الله في السماء | سئل شيخ الإسلام عمن يعتقد الجهة هل هو مبتدع أو كافر أو لا | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الأبيات | فصل في مباينة الله لخلقه وعلوه على عرشه | سئل شيخ الإسلام في رجلين تنازعا في حديث النزول أحدهما مثبت والآخر ناف | فصل في معرفة أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه | فصل في علمنا بصفاته تعالى وجهلنا بكيفيتها | سئل عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش في أقوال أهل السنة | فصل في تأول قوم من المنتسبين إلى السنة والحديث حديث النزول | اختلاق كلام على الإمام أحمد يناقض المنقول المتواتر عنه | كفر من زعم أن الرب يقبل التفرق والانقسام | زعم ابن حزم أن العود لم يروه إلا زاذان عن البراء | معنى وسع ربنا كل شيء علما | فصل في معنى أن الله هو العلي الأعلى | فصل في نزاع الناس في معنى حديث النزول | قولان ضعيفان للجهمية ونحوهم