مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/سئل شيخ الإسلام عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه
سئل شيخ الإسلام عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه
[عدل]سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه
فأجاب:
قد وصف الله تعالى نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش، والفوقية، في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابرأصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد، تدل على أن الله تعالى عال على الخلق، وأنه فوق عباده.
وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك؛ مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} 1، {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} 2؛ فلو كان المراد بأن معنى عنده في قدرته كما يقول الجهمي لكان الخلق كلهم عنده؛ فإنهم كلهم في قدرته ومشيئته، ولم يكن فرق بين من في السموات ومن في الأرض ومن عنده.
كما أن الاستواء على العرش لو كان المراد به الاستيلاء عليه، لكان مستويا على جميع المخلوقات، ولكان مستويا على العرش قبل أن يخلقه دائمًا، والاستواء مختص بالعرش بعد خلق السموات والأرض، كما أخبر بذلك في كتابه، فدل على أنه تارة كان مستويا عليه، وتارة لم يكن مستويا عليه؛ ولهذا كان العلو من الصفات المعلومة بالسمع مع العقل والشرع عند الأئمة المثبتة، وأما الاستواء على العرش، فمن الصفات المعلومة بالسمع فقط دون العقل.
والمقصود أنه تعالى وصف نفسه بالمعية وبالقرب. والمعية معيتان: عامة، وخاصة. فالأولى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} 3. والثانية قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} 4، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما القرب فهو كقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} 5، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} 6
وافترق الناس في هذا المقام أربع فرق:
فالجهمية النفاة الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل الجميع عندهم متأول أو مفوض، وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص؛كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية، فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي.
ولهذا قال ابن المبارك، ويوسف بن أسباط: الجهمية خارجون عن الثلاث وسبعين فرقة، وهذا أعدل الوجهين لأصحاب أحمد، ذكرهما أبو عبد الله بن حامد وغيره.
وقسم ثان: يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية، وكثير من الجهمية عبادهم، وصوفيتهم، وعوامهم. ويقولون: إنه عين وجود المخلوقات، كما يقوله أهل الوحدة القائلون بأن الوجود واحد، ومن يكون قوله مركبًا من الحلول والاتحاد.
وهم يحتجون بنصوص المعية والقرب، ويتأولون نصوص العلو والاستواء، وكل نص يحتجون به حجة عليهم؛ فإن المعية أكثرها خاصة بأنبيائه وأوليائه، وعندهم أنه في كل مكان، وفي نصوصهم ما يبين نقيض قولهم، فإنه قال: {سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 7، فكل من في السموات والأرض يسبح، والمسبِّح غير المسبَّح، وقال: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 8، فبين أن الملك له، ثم قال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 9. وفي الصحيح: «أنت الأول فليس قبلك شيء ». . . إلخ.
فإذا كان هو الأول، كان هناك ما يكون بعده، وإذا كان آخرًا، كان هناك ما الرب بعده، وإذا كان ظاهرًا ليس فوقه شيء، كان هناك ما الرب ظاهر عليه، وإذا كان باطنًا ليس دونه شيء، كان هناك أشياء نفي عنها أن تكون دونه.
هامش
- ↑ [الأعراف: 206]
- ↑ [الأنبياء: 91]
- ↑ [الحديد: 4]
- ↑ [النحل: 128]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [الواقعة: 58]
- ↑ [الحديد: 1]
- ↑ [الحديد: 2]
- ↑ [الحديد: 3]