كتاب الأم/كتاب ما اختلف فيه أبو حنيفة وابن أبي ليلى/باب الديات
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا قتل الرجل الرجل عمدا وللمقتول ورثة صغار وكبار فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: للكبار أن يقتلوا صاحبهم إن شاءوا وكان ابن أبي ليلى يقول: ليس لهم أن يقتلوا حتى يكبر الأصاغر وبه يأخذ حدثنا أبو يوسف عن رجل عن أبي جعفر أن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم بعلي وقال أبو يوسف وكان لعلي رضي الله عنه أولاد صغار.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا قتل الرجل الرجل عمدا وله ورثة صغار وكبار أو كبار غيب فليس لأحد منهم أن يقتل حتى تبلغ الصغار وتحضر الغيب ويجتمع من له سهم في ميراثه من زوجة أو أم أو جدة على القتل فإذا اجتمعوا كان لهم أن يقتلوا فإذا لم يجتمعوا لم يكن لهم أن يقتلوا وإذا كان هذا هكذا فلأيهم شاء من البالغين الحضور أن يأخذ حصته من الدية من مال الجاني بقدر ميراثه من المقتول وإذا فعل كان لأولياء الغيب وعلى أولياء الصغار أن يأخذوا لهم حصصهم من الدية لأن القتل قد حال وصار مالا فلا يكون لولي الصغير أن يدعه وقد أمكنه أخذه فإن قال قائل: كيف ذهبت إلى هذا دون غيره من الأقاويل وقد قال بعض أهل العلم: أي ولاة الدم قام به قتل وإن عفا الآخرون فأنزله بمنزلة الحد وقال غيره من أهل العلم: يقتل البالغون ولا ينتظرون الصغار وقال غيره: يقتل الولد ولا ينتظرون الزوجة؟ قيل: ذهبنا إليه أنه السنة التي لا ينبغي أن تخالف أو في مثل معنى السنة والقياس على الإجماع. فإن قال: فأين السنة فيه؟ قيل: قال رسول الله ﷺ: (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا أخذوا القصاص وإن أحبوا فالدية) فلما كان من حكم رسول الله ﷺ أن لولاة الدم أن يقتلوا ولهم أن يأخذوا المال وكان إجماع المسلمين أن الدية موروثة لم يحل لوارث أن يمنع الميراث من ورث معه حتى يكون الوارث يمنع نفسه من الميراث وهذا معنى القرآن في قول الله عز وجل: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وهذا مكتوب في كتاب الديات ووجدنا ما خالفه من الأقاويل لا حجة فيه لما وصفت من السنة بخلافهم ووجدت مع ذلك قولهم متناقضا إذ زعموا أنهم امتنعوا من أن يأخذوا الدية من القاتل لأنه إنما عليه دم لا مال فلو زعموا أن واحدا من الورثة لو عفا حال الدم مالا ما لزموا قولهم ولقد نقضوه فأما الذين قالوا هو كالحد يقوم به أي الورثة شاء وإن عفا غيره فقد خالفوا بينه وبين الحد من أجل أنهم يزعمون أن للورثة العفو عن القتل ويزعمون أنه لا عفو لهم عن الحد ويزعمون أنهم لو اصطلحوا في القتل على الدية جاز ذلك ويزعمون أنهم لو اصطلحوا على مال في الحد لم يجز.
وإذا اقتتل القوم فانجلوا عن قتيل لم يدر أيهم أصابه فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: هو على عاقلة القبيلة التي وجد فيها إذا لم يدع ذلك أولياء القتيل على غيرهم وكان ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول: هو عاقلة الذين اقتتلوا جميعا إلا أن يدعي أولياء القتيل على غير أولئك وبهذا يأخذ.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا اقتتل القوم فانجلوا عن قتيل فادعى أولياؤه على أحد بعينه أو على طائفة بعينها أو قالوا: قد قتلته إحدى الطائفتين لا يدرى أيتهما قتلته قيل لهم: إن جئتم بما يوجب القسامة على إحدى الطائفتين أو بعضهم أو واحد بعينه أو أكثر قيل لكم: أقسموا على واحد فإن لم تأتوا مالك فلا عقل ولا قود ومن شئتم أن نحلفه لكم على قتله أحلفناه ومن أحلفناه أبرأناه وهكذا إن كان جريحا ثم مات ادعى على أحد أو لم يدع عليه إذا لم أقبل دعواه فيما هو أقل من الدم لم أقبلها في الدم وما أعرف أصلا ولا فرعا لقول من قال تجب القسامة بدعوى الميت وما القسامة التي قضى فيها رسول الله ﷺ في عبد الله بن سهل إلا على خلاف ما قال فيها دعوى ولا لوث من بينة.
وإذا أصيب الرجل وبه جراحة فاحتمل فلم يزل مريضا حتى مات فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول: ديته على تلك القبيلة التي أصيب فيهم وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول: ليس عليهم شيء.
وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: القصاص لكل وارث وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يجعل لكل وارث قصاصا إلا الزوج والمرأة.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: الزوج والمرأة الحرة والجدة وبنت الابن وكل وارث من ذكر أو أنثى فله حق في القصاص وفي الدية.
وإذا وجد القتيل في قبيلة فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: القسامة على أهل الخطة والعقل عليهم وليس على السكان ولا على المشترين شيء وبه يأخذ ثم قال أبو يوسف رحمه الله تعالى بعد على المشترين والسكان وأهل الخطة وكان ابن أبي ليلى يقول: الدية على السكان والمشترين معهم وأهل الخطة، وكذلك إذا وجد في الدار فهو على أهل القبيلة قبيلة تلك الدار والسكان الذين فيها في قول ابن أبي ليلى، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: على عاقلة أرباب الدور خاصة وإن كانوا مشترين وأما السكان فلا وبهذا يأخذ رجع أبو يوسف رحمه الله تعالى إلى قول ابن أبي ليلى وقول أبي حنيفة المعروف ما بقي من أهل الخطة رجل فليس على المشتري شيء.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وجد الرجل قتيلا في دار رجل أو أهل خطة أو سكان أو صحراء أو عسكر فكلهم سواء لا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم أو بما يوجب القسامة فيقسم الأولياء فإذا ادعى الأولياء على واحد وألف أحلفناهم وأبرأناهم لأن: (النبي ﷺ قال للأنصاريين فتبرئكم يهود بخمسين يمينا فلما أبوا أن يقبلوا أيمانهم لم يجعل على يهود شيئا وقد وجد القتيل بين أظهرهم ووداه النبي ﷺ من عنده متطوعا).
وإذا قطع رجل يد امرأة أو امرأة يد رجل فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: ليس في هذا القصاص ولا قصاص فيما بين الرجال والنساء فيما دون النفس ولا فيما بين الأحرار والعبيد فيما دون النفس ولا قصاص بين الصبيان في النفس ولا غيرها وكذلك حدثنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول: القصاص بينهم في ذلك وفي جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: القصاص بين الرجل والمرأة في الجراح وفي النفس وكذلك العبيد بعضهم من بعض وإذا كانوا يقولون: القصاص بينهم في النفس وهي الأكثر كان الجرح الذي هو الأقل أولى لأن الله عز وجل ذكر النفس والجراح في كتابه ذكرا واحدا وأما الصبيان فلا قصاص بينهم؛.
وإذا قتل الرجل رجلا بعصا أو بحجر فضربه ضربات حتى مات من ذلك فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: لا قصاص بينهما وكان ابن أبي ليلى يقول: بينهما القصاص وبه يأخذ.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا أصاب الرجل الرجل بحديدة تمور أو بشيء يمور فمار فيه موران الحديد فمات من ذلك ففيه القصاص وإذا أصابه بعصا أو بحجر أو ما لا يمور موران السلاح فأصله شيئان إن كان ضربه بالحجر العظيم والخشبة العظيمة التي الأغلب منها أنه لا يعاش من مثلها وذلك أن يشدخ بها رأسه أو يضرب بها جوفه أو خاصرته أو مقتلا من مقاتله أوحمل عليه الضرب بشيء أخف من ذلك حتى بلغ من ضربه ما الأغلب عند الناس أن لا يعاش من مثله قتل به وكان هذا عمد القتل وزيادة أنه أشد من القتل بالحديد لأن القتل بالحديد أوحى وإن ضربه بالعصا أو السوق أو الحجر الضرب الذي الأغلب منه أنه يعاش من مثله فهذا الخطأ شبه العمد ففيه الدية مغلظة ولا قود فيه.
وإذا عض الرجل يد الرجل فانتزع المعضوض يده فقلع سنا من أسنان العاض فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: لا ضمان عليه في السن لأنه قد كان له أن ينزع يده من فيه وبه يأخذ وقد بلغنا عن رسول الله ﷺ أن: (رجلا عض يد رجل فانتزع يده من فيه فنزع ثنيته فأبطلها رسول الله ﷺ وقال أيعض أحدكم أخاه عض الفحل) وكان ابن أبي ليلى يقول: هو ضامن لدية السن وهما يتفقان فيما سوى ذلك مما يجني في الجسد سواء في الضمان.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا عض الرجل يد الرجل أو رجله أو بعض جسده فانتزع المعضوض ما عض منه من في العاض فسقط بعض ثغره أو كله فلا شيء عليه لأنه كان للمعضوض أن ينزع يده من في العاض ولم يكن متعديا بالانتزاع فيضمن وقد قضى رسول الله ﷺ في مثل هذا.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن: (رجلا عض يد رجل فانتزع المعضوض يده في العاض فسقطت ثنيته أو ثنيتاه فأهدرها رسول الله ﷺ وقال أيدع يده في فيك تقضمها كأنها في فحل).
وإذا نفحت الدابة برجلها وهي تسير فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: لا ضمان على صاحبها لأنه بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه قال: (الرجل جبار) وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول: هو ضامن في هذا لما أصابت.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: يضمن قائد الدابة وسائقها وراكبها ما أصابت بيد أو فم أو رجل أو ذنب ولا يجوز إلا هذا ولا يضمن شيئا إلا أن يحملها على أن تطأ شيئا فيضمن لأن وطأها من فعله فنكون حينئذ كأداة من أداته جنى بها فأما أن نقول يضمن عن يدها ولا يضمن عن رجلها فهذا تحكم فإن قال: لا يرى رجلها فهو إذا كان سائقا لا يرى يدها فينبغي أن يقول في السائق يضمن عن الرجل ولا يضمن عن اليد وليس هكذا بقول فأما ما روي عن رسول الله ﷺ من أن: (الرجل جبار) فهو والله تعالى أعلم غلط لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول في الرجل إذا قتل العبد: إن قيمته على عاقلة القاتل وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول: لا تعقله العاقلة ثم رجع أبو يوسف فقال: هو مال لا تعقله العاقلة وعلى القاتل قيمته ما بلغ حالا.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا قتل الرجل العبد خطأ عقلته عاقلته لأنها إنما تعقل جناية حر في نفس محرمة قد يكون فيها القود قال: ويكون فيها الكفارة كما تكون في الحر بكل حال فهو بالنفوس أشبه منه بالأموال هو لا يجامع الأموال في معنى إلا في أن ديته قيمته فأما ما سوى ذلك فهو مفارق للأموال مجامع للنفوس في أكثر أحكامه وبالله تعالى التوفيق.