الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الجنائز/فصل في وجوب الصلاة على الميت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل في وجوب الصلاة على الميت


وتجب الصلاة على الميت لأن إجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت ، له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه . والصلاة على الأموات ثابتة ثبوتاً ضرورياً من فعله () وفعل أصحابه ، ولكنها من واجبات الكفاية ، لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته () ولا يؤذنونه كما في حديث السوداء التي كانت تقم المسجد ، فإنه لم يعلم النبي () إلا بعد دفنها فقال لهم : ألا آذنتموني وهو في الصحيح . وامتنع من الصلاة على من عليه دين وأمرهم بأن يصلوا عليه .

ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة لحديث أنس بن مالك أنه صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه ، فلما رفعت أتى بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها فسئل عن ذلك ، وقيل له هكذا كان رسول الله () يقوم من الرجل حيث قمت ، ومن المرأة حيث قمت قال : نعم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة ، ولفظ أبي داود هكذا كان رسول الله () يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال : نعم وفي الصحيحين من حديث سمرة قال : صليت وراء رسول الله () على إمرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله () في الصلاة وسطها والخلاف في المسألة معروف وهذا هو الحق .

وأقول : الثابت عنه () أنه كان يقف مقابلاً لرأس الرجل ولم يثبت عنه غير ذلك ، وأما المرأة فروي أنه كان يقوم مقابلاً لوسطها ، وروي أنه كان يقوم مقابلاً لعجيزتها ، ولا منافاة بين الروايتين ، فالعجيزة يصدق عليها أنها وسط ، وإيثار ما ثبت عن رسول الله () عند أئمة الفن الذين هم المرجع لغيرهم واجب . ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة أو من غيرهم على قول رسول الله () وفعله ، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى .

ويكبر أربعاً أو خمساً لورود الأدلة بذلك . أما الأربع فثبتت ثبوتاً متواتراً من طريق جماعة من الصحابة أبي هريرة وابن عباس وجابر وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم ، وأما الخمس فثبتت في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلة قال : كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً وأنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال كان رسول الله () يكبرها أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن . وأخرج أحمد عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمساً ثم إلتفت فقال : ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي () صلى على جنازة فكبر خمساً وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو ضعيف . وقد إختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة : فذهب الجمهور إلى أنه أربع . وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس . وقال القاضي عياض : إختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع . قال ابن عبد البر : وإنعقد الإجماع بعد ذلك على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه ا هـ . وهذه الدعوى مردودة ، فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى الآن . ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية إلا أن يصح ما رواه ابن عبدا لبر في الإستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وسبعاً وثمانياً حتى جاء موت النجاشي فخرج فكبر أربعاً ، ثم ثبت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى على أن إستمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه () من الخمس ما لم يقل قولاً يفيد ذلك . وقد أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعاً صلوا على موتاكم بالليل والنهار ، والصغير والكبير ، والدنىء والأمير أربعاً وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي تفرد به عن ابن لهيعة وما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت . وقد روى البخاري عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً وقال إنه شهد بدراً . وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة أنه قال : كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً وستاً وسبعاً .

ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة لحديث ابن عباس عند البخاري وأهل السنن أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنه من السنة ولفظ النسائي فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ، فلما فرغ قال سنة وحق وروى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شئ منهن ، ثم يسلم سراً في نفسه قال في الفتح : وإسناده صحيح ، وقد أخرجه عبد الرزاق والنسائي بدون قوله بعد التكبيرة ولا قوله ثم يسلم سراً في نفسه قال في الحجة : ومن السنة قراءة الفاتحة لأنها خير الأدعية وأجمعها علمها الله تعالى عباده في محكم كتابه اهـ .

والحاصل : أن المواطن موطن دعاء لا موطن قراءة قرآن ، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة ، ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى ، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء .

ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة منها ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا صلى على جنازة قال : اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان زاد أبو داود وابن ماجة اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم قال : وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه : وأخرج هذا الشاهد الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار . وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك قال : سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : اللهم اغفر له وارحمه ، واعف عنه وعافه ، وأكرم نزله ووسع مدخله ، واغسله بماء وثلج وبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وقه فتنة القبر وعذاب النار وقد وردت أدعية متنوعة في أحاديث صحيحة هي أولى من الإستحسانات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم من عند أنفسهم ، فإنهم لم يقصدوا أنها أولى من الثابت عنه () ، ولكن فن الرواية هم عنه بمعزل فضاعت عليهم المسالك وهي واسعة . قال في الحجة البالغة : ومن دعاء النبي () على الميت اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق ، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم وأما الصلاة على الجنائز في المساجد فغاية ما استدل به من قال بالكراهة ما أخرجه أبو دواد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () : من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ عليه وأخرجه ابن ماجة بلفظ فليس له شئ وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة منها : أنه ضعيف كما قاله جماعة من الحفاظ ، فإن في إسناده صالحاً مولى التوأمة . ومنها : أن الذي في النسخ المشهورة الصحيحة من سنن أبي داود بلفظ فلا شئ عليه كما تقدم ، وعلى فرض ثبوت الرواية باللفظ الآخر ، فيجب تأويلها لما ثبت من صلاته () ابني بيضاء في المسجد . بل أخرج سعيد بن منصور وابن شيبة أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد . وأما إنكار على عائشة فلا حجة فيه ، ولا سيما وقد إنقطع عند أن قامت عليه الحجة . وأما الصلاة على الجنازة فرادى فأقول : الإستدلال ممن قال باشتراط التجميع فيها بأنه () ما صلى على جنازة إلا في جماعة لا تتم به الحجة ، لأن الأصل في كل صلاة مشروعة أن تكون كالصلوات الخمس في إجزائها فرادى كما تجزىء جماعة . ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل ، ولو كان فعلها منه () في جماعة تقوم به الحجة للزم في صلاة الفرائض الخمس أن لا تصح إلا جماعة ، لأنه () لم يؤدها إلا في جماعة . إذا تقرر هذا فالاقتصار في الإستدلال لصحة صلاة الجنازة فرادى على ما ذكرناه مغن عن غيره ، فإن تحقيق إجماع الصحابة على تجويز الصلاة عليه () عند موته فرادى ممنوع ، لأنهم قد تفرقوا بعض تفرق في تلك الحال وإن كان الباقون في المدينة جمهورهم وأكابرهم . ثم لو فرض الإجماع على ذلك فهو إجماع سكوتي وإنتهاضه للاحتجاج فيه ما لا يخفى على عارف بالأصول . ثم هذا مبني على صدور ذلك ولم يرد إلا بإسناد ضعيف أنهم فعلوا ذلك . وأما ما يقال أنه () أوصاهم بأن يصلوا عليه فرادى ففي إسناده عند المنعم بن ادريس وهو كما قيل كذاب . وصرح بعض الحفاظ بأن الحديث موضوع .

ولا يصلي على الغال لا متناعه () في غزاة خبير من الصلاة على الغال ، كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

وقاتل نفسه لحديث جابر بن سمرة عند مسلم وأهل السنن أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه النبي () .

والكافر وذلك هو المعلوم منه () ، فإنه لم ينقل عنه أنه صلى على كافر ، وقد صرح بذلك القرآن الكريم ، قال الله عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره .

والشهيد وقد اختلفت الروايات في ذلك ، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر أن النبي () لم يصل على شهداء أحد وأخرجه أيضاً أهل السنن . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث أنس أنه () لم يصل عليهم .

أقول : لا يشك من له أدنى إلمام بفن الحديث أن أحاديث الترك أصح إسناداً وأقوى متناً ، حتى قال بعض الأئمة إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه ، لكن الجهة التي جعلها المجوزون وجه ترجيح وهي الإثبات ، لا ريب أنها من المرجحات الأصولية ، إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي لأن الترجيح فرع المعارضة .

والحاصل : أن أحاديث الإثبات مروية من طرق متعددة لكنها جمعياً متكلم عليها . وقد أطال الماتن الكلام على هذا في شرح المنتقى ، وسرد الروايات المختلفة وإختلاف أهل العلم في ذلك فليرجع إليه فإن هذا المقام من المعارك .

ويصلي على القبر وعلى الغائب لحديث أنه () انتهى إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعاً وهو في الصحيحن من حديث ابن عباس . وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد وهو أيضاً في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة . وصلى على قبر أم سعد وقد مضى لذلك شهر أخرجه الترمذي . وصلى على النجاشي هو وأصحابه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وأبي هريرة ، وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمدينة . والخلاف في الصلاة على القبر والغائب معروف ولم يأت المانع بشئ يعتد به .

أقول : الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتاً لا يقابله أهل العلم بغير القبول ، أما فيمن لم يصل عليه فالأمر أوضح من أن يخفى، ولا تزال الصلاة مشروعة عليه ما علم الناس أنه لم يصل عليه أحد . وأما فيمن قد صلى عليه فلمثل حديث السوداء المتقدم ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره () بدون صلاة عليه . وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقاً فأشف ما استدلوا به ما روي عنه () في حديث السوداء المذكور أنه قال : أن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وأن الله ينورها بصلاتي عليهم قالوا : فهذا يدل على إختصاصه () بذلك ، وتعقب بأنه () لم ينكر على من صلى معه على القبور ولو كان خاصاً به لأنكر عليهم . وأجيب عن هذا التعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للإستدلال به على الفعل أصالة . وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة بأنها مدرجة في هذا الحديث كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد على أنه يمكن الجواب بأن كون الله ينور القبور بصلاة رسوله () عليها لا ينفي مشروعية الصلاة من غيره تأسياً به لا سيما بعد قوله () صلوا كما رأيتموني أصلي قال ابن القيم في أعلام الموقعين : ردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله : لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها وهذا حديث صحيح ، والذي قاله هو الذي صلى على القبر ، فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر ، فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر ، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان ، بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه ، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين . ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض ، وبين كونه في بطنها بخلاف سائر الصلوات ، فإنها لم تشرع في القبور ولا إليها لأنها ذريعة إلى إتخاذها مساجد ، وقد لعن رسول الله () من فعل ذلك ، فأين ما لعن فاعله وحذر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال : إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذي يتخذون القبور مساجد إلى ما فعله () مراراً متكررة وبالله التوفيق .

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الجنائز
من السنن في الجنائز | فصل في وجوب غسل الميت على الاحياء | فصل في جوب تكفين الميت بما يستره | فصل في وجوب الصلاة على الميت | فصل في الاسراع بالجنازة | فصل ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السباع