الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الجنائز/فصل في الاسراع بالجنازة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل في الاسراع بالجنازة


ويكون المشي بالجنازة سريعاً لحديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي وأبي داود ، والحاكم قال : لقد رأيتنا مع رسول الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملاً وأخرج البخاري في تاريخه قال : أسرع النبي () حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () : أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب ، وقال ابن حزم : بوجوبه . وذلك بعض أهل العلم إلى أن المستحب التوسط لحديث أبي موسى قال : مرت برسول الله () جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول الله () : عليكم القصد أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي وفي إسناده ضعف . وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث ابن مسعود قال : سألنا رسول الله () عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب فإن كان خيراً عجلتموه وإن كان شراً فلا يبعد إلا أهل النار وفي إسناده مجهول . ولا يخفاك أن حديث أبي موسى لا يصلح للإحتجاج به على فرض عدم وجود ما يعارضه ، فكيف وقد عارضه ما هو في الصحيحين بلفظ الأمر . وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع ، لأن الخبب هو ضرب من العدو وما دونه إسراع .

أقول : والحق هو القصد في المشي ، فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإسراع ليس المراد بها الإفراط في المشي الخارج عن حد الإعتدال . والأحاديث التي فيها الإرشاد إلى القصد ليس المراد بها الإفراط في البطء فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإفراط والتفريط يصدق عليها أنه إسراع بالنسبة إلى الإفراط في البطء وأنها قصد بالنسبة إلى الإفراط في الإسراع ، فيكون المشروع دون الخبب وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم ، ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب وقد ضعفه جماعة بأبي ماجد المذكور في إسناده . قيل أنه مجهول ، وقيل منكر الحديث ، والراوي عنه يحيى الجابري وهو ضعيف . وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أبي بكرة قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأنا لنكاد نرمل بالجنازة رملاً فمعنى نكاد نرمل أي نقارب الرمل .

والمشي معها سنة وهو ظاهرة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي مع الجنائز هو وأصحابه ، كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي والأحاديث الآتية في التقدم والتأخر على الجنازة ، ولحديث أبي هريرة الثابت في الصحيح من اتبع جنازة مسلم إيماناً وإحتساباً الحديث ....

والحمل لها سنة لحديث ابن مسعود قال : من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع أخرجه ابن ماجة وأبو داوود اليطالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عنه . وفي الباب عن جماعة من الصحابة ، والأحاديث يقوي بعضها بعضاً ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل .

والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء لما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وصححه أيضاً والحاكم وقال : على شرط البخاري من حديث المغيرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها أو عن يسارها ولفظ أبي داود والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها وفي لفظ لأحمد والنسائي والترمذي الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها وأخرج أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر أنه رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أما الجنازة أفضل ، وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل .

أقول : فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل ، فأقل الأحوال أن يكون مساوياً للمشي خلفها في الفضيلة ، ولم يأت حديث صحيح ولا حسن أن المشي خلف الجنازة أفضل ، وأقوال الصحابة مختلفة ، فالحق أن ذلك سواء ، ولا ينافيه رواية من روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم مشى أمامها أو خلفها فذلك سواء ، لأن المشي مع الجنازة إنما يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها، وقد أرشد إلى ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما تقدم ، فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه . قال في الحجة : وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها ، وهل يحملها أربعة أو إثنان ، وهل يسل من قبل رجليه أو من القبلة . المختار أن الكل واسع ، وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر ا هـ .

ويكره الركوب لحديث ثوبان قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى ناساً ركباناً فقال : ألا تستحيون أن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب أخرجه ابن ماجة والترمذي ، وأخرج أبو داود من حديث ثوبان أيضاً أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبي أن يركبها ، فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له فقال : أن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت وقد خرج صلى الله عليه وآله وسلم مع جنازة ابن الدحداح ماشياً ورجع على فرس كما في حديث جابر بن سمرة عند الترمذي وقال صحيح ، ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله : الراكب خلف الجنازة لأنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز مع الكراهة ، أو المراد بأن كون الراكب خلفها أن يكون بعيداً على وجه لا يكون في صورة من يمشي مع الجنازة .

ويحرم النعي لحديث حذيفة عند أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النعي وحديث ابن مسعود عن النبي () إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية أخرجه الترمذي وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوي ، وفي الباب أحاديث ، والذي في الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها من كتب اللغة أن النعي الإخبار بموت الميت ، فظاهره تحريم ذلك وإن لم يصحبه ما يستنكر كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق . ولكنه قد ثبت أنه () نعي النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه ، أي أخبرهم وأخبر بقتلى مؤتة . وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد ألا أخبر تموني بموتها فدلت هذه الأحاديث على جواز الأعلام بمجرد الموت لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة ، والمنع منه لغير ذلك .

والنياحة لحديث من نيح عليه يعذب بما نيح عليه وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة ، وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي () قال : الميت يعذب في قبره بما نيح عليه وأخرج أحمد ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ أنا بريء مما برىء منه رسول الله () فإن رسول الله () برىء من الصالقة والحالقة والشاقة .

أقول : الأحاديث في هذا الباب قد إختلفت فمنها ما فيه الأذن بمطلق البكاء ، ومنها ما فيه النهي عن مطلق البكاء . ووردت أحاديث مصرحة بالنهي عن النوح كما تقدم بعض ذلك ولم يأت ما يدل على جوازه . واختلف الناس في الجميع بين الأحاديث ، فالذي يترجح الجزم بتحريم نفس النوح ، لأنه أمر زائد على البكاء . وأما ما لا يستطاع دفعه من دمع العين ، وماعجز الطبع عن كتمه من الصوت فلا مانع منه ، وعليه تحمل أحاديث الإذن بالبكاء ، وفيها ما يرشد إلى هذا فليعلم .

وإتباعها بنار وشق الجيب والدعاء بالويل والثبور لحديث أبي بردة قال : أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال : لا تتبعوني بمجمر قالوا : أوسمعت فيه شيئاً قال : نعم من رسول الله () أخرجه ابن ماجة وفي إسناده مجهول ، وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن النبي () قال : ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية .

ولا يقعد المتبع لها حتى توضع لحديث إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبع فلا يجلس حتى توضع وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد . وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة نحوه ، وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعداً كحديث إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره . وأخرج مسلم من حديث علي قال : قام النبي () يعني في الجنازة ثم قعد وفي رواية من حديثه قال : كان رسول الله () أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود وابن حبان . وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار من حديث عبادة بن الصامت أن يهودياً قال : لما كان النبي () يقوم للجنازة هكذا نفعل فقال النبي () : اجلسوا وخالفوهم وفي إسناده بشر بن أبي رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي . وقال البزار تفرد به بشر وهو لين ، فأفاد ما ذكرناه .

أن القيام لها إذا مرت منسوخ وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض فمحكم لم ينسخ . قال القاضي عياض : ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا .

أقول : وهذا الحديث بلفظ ثم قعد لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره () لنا بالقيام ، وعلل ذلك بأن الموت فزع و قام لجنازة فقيل إنها جنازة يهودي فقال : أليست نفساً فغاية ما يدل عليه قعوده من بعد هو أن القيام ليس بواجب عليه ، وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلاً لم يظهر منه التأسي به فيه ، وكان ذلك مخالفاً لما قد أمر به الأمة أو نهاها عنه ، فأنه يكون مختصاً به ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله ، ولفظ أمرنا بالجلوس إن بلغ إلى حد الإعتبار صلح للنسخ ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه ما تقدم والمقام عندي من المضايق .

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الجنائز
من السنن في الجنائز | فصل في وجوب غسل الميت على الاحياء | فصل في جوب تكفين الميت بما يستره | فصل في وجوب الصلاة على الميت | فصل في الاسراع بالجنازة | فصل ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السباع