إظهار الحق/المطعن الثالث: مطعن النساء
(المطعن الثالث) باعتبار النساء وهو على خمسة أوجه:
(الأول) أن المسلمين لا يجوز لهم أزيد من أربع زوجات، ومحمد ﷺ لم يكتف بها بل أخذ تسعاً لنفسه، وأظهر حكم الله في حقه أن الله أجازني لأن أتزوج بأزيد من أربع.
(والثاني) أن المسلمين يجب العدل عليهم بين نسائهم، وأظهر حكم الله في حقه أن هذا العدل ليس بواجب عليه.
(والثالث) أنه دخل بيت زيد بن حارثة رضي الله عنه، فلما رفع الستر وقع نظره على زينب بنت جحش زوجة زيد رضي الله عنهما، فوقعت في نفسه وقال سبحان الله. فلما اطلع زيد على هذا الأمر طلقها فتزوج بها، وأظهر أن الله أجازني للتزويج.
(والرابع) أنه خلا بمارية القبطية رضي الله عنها، في بيت حفصة رضي الله عنها. في يوم نوبتها، فغضبت حفصة رضي الله عنها، فقال محمد ﷺ: حرمت مارية على نفسي، ثم لم يقدر أن يبقى على التحريم. فأظهر أن الله أجازه لإبطال اليمين بأداء الكفارة.
(والخامس) أنه يجوز في حق متبعيه، إن مات أحد منهم أن يتزوج الآخر زوجته، بعد انقضاء عدتها، وأظهر حكم الله في حقه أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج زوجة من زوجاته بعد مماته.
وهذه الوجوه الخمسة منتهى جهدهم في المطعن باعتبار النساء. وتوجد هذه الوجوه كلها أو بعضها في أكثر رسائلهم مثل ميزان الحق، وتحقيق الدين الحق، ودافع البهتان، ودلائل إثبات رسالة المسيح، ودلائل النبوة، ورد اللغو وغيرها. وأنا أمهد أموراً ثمانية يظهر منها جواب هذه الوجوه كلها فأقول:
(الأمر الأول) أن تزوج أكثر من امرأة واحدة كان جائزاً في الشرائع السابقة:
لأن إبراهيم عليه السلام تزوج بسارة ثم بهاجر في حياة سارة، وهو كان خليل الله، وكان الله يوحي إليه ويرشده إلى أمور الخير، فلو لم يكن النكاح الثاني جائزاً لما أبقاه عليه بل أمره بفسخه وحرمته.
ولأن يعقوب عليه السلام تزوج بأربع نسوة، ليا وراحيل وبلها وزلفا، فالأوليان منهما أختان ابتنا لابان خاله، والأخريان جاريتان. والجمع بين الأختين حرام قطعي في شريعة موسى عليه السلام، كما علمت في الباب الثالث. فلو كان التزوج بأكثر من امرأة واحدة حراماً، لزم أن يكون أولاده من تلك الأزواج، أولاد حرام والعياذ بالله، وكان الله يوحي إليه ويرشده إلى أمور الخير، فكيف يتصور أن يرشده في أمور خسيسة، ولا يرشده في هذا الأمر العظيم. فإبقاء الله يعقوب عليه السلام على نكاح تلك الأربعة سيما الأختين دليل بين على جواز مثل هذا التزوج في شريعته.
ولأن جدعون بن يواش تزوج نساء كثيرة في الباب الثامن من سفر القضاة هكذا: 30 (وكان له سبعون ابناً خرجوا من صلبه لأن كانت له نساء كثيرة) 31 (وسريته التي كانت له في شخيم ولدت له ابناً اسمه ابيمالك). ونبوته ظاهرة من الباب السادس والسابع من السفر المذكور، ومن الباب الحادي عشر من الرسالة العبرانية.
ولأن داود عليه السلام تزوج نساء كثيرة. تزوج أولاً ميخال بنت شاوول، وكان بدل المهر مائة غلفة من غلف الفلسطانيين، وأعطاه داود عليه السلام مائتي غلفة من غلفهم، فأعطى شاوول داود عليه السلام ابنته ميخال.. الآية السابعة والعشرون من الباب الثامن عشر من سفر صموئيل الأول هكذا: (فمضت أيام قليلة وقام داود عليه السلام وانطلق هو ورجاله وقتل من الفلسطانيين مائتي رجل وأتى داود عليه السلام بغلفهم إلى الملك ودفعها للملك بالتمام ليكون له ختناً فأعطى شاوول ميخال ابنته له امرأة).
والملاحدة يستهزؤون بهذا البدل من المهر، ويقولون أكان شاوول يريد أن يسوي من هذه الغلف حميلاً ويعيطه بنته في الجهاز، أم كان غرضه شيئاً آخر. لكني أقطع النظر عن استهزائهم وأقول: لما بغى داود عليه السلام على شاوول، أعطى شاوول ميخال فلطى بن ليس الذي هو من جليم، كما هو مصرح به في آخر الباب الخامس والعشرين من السفر المذكور. وتزوج داود عليه السلام بست نساء أخرى - احينعام الازراعايلية 1 بيغال 2 ومعهما ابنة تلمى ملك جاشور 3 وحجبت 4 وابيطل 5 وعجلا 6 - كما هو مصرح به في الباب الثالث من سفر صموئيل الثاني. ومع كون هذه الست، ما زالت محبة ميخال عن قلبه الشريف، وإن كانت في فراش الغير فلذلك لما قتل شاوول، طلب داود من اسباسوت بن شاوول زوجته ميخال، وقال له: رد على امرأتي ميخال التي خطبتها بمائة غلفة من غلف أهل فلسطين. فأخذها أسباسوت قهراً من فلطى بن ليس وأرسلها إلى داود، فجاء هذا فلطى باكياً خلفها إلى بحوريم ثم رجع. كما هو مصرح به في الباب المذكور. فبعد ما وصلت ميخال إلى داود عليه السلام مرة أخرى صارت له زوجة، وكمل عدد الزوجات السبع، ثم أخذ داود نساء أخرى، وسراري لم يصرح بعددها في كتبهم المقدسة.. الآية الثالثة عشر من الباب الخامس من سفر صموئيل الثاني هكذا: (وأخذ داود أيضاً نساء وسراري من أورشليم من بعد أن أتى من هارون وولد لداود أيضاً بنون وبنات).
.. ثم زنى بامرأة أوريا وقتل زوجها بالحيلة، ثم أخذها. فعاتبه الله على هذا الزنا كما علمت في أول هذا الفصل. وداود عليه السلام، وإن كان خاطئاً في هذا الزنا والتزويج بتلك الامرأة، لكنه لم يكن عاصياً في تزوج جم غفير من نساء أخرى، وإلا لعاتبه الله على تزوجهن كما عاتبه على تزوج امرأة أوريا، فعاتبه الله على تزوجها. بل أظهر رضاه على هذا التزوج، ونسب إعطاءها إلى نفسه وقال: وإذا كانت هذه قليلة أزيد مثلهن ومثلهن، وقول الله تعالى في حق داود عليه السلام على لسان ناثان النبي عليه السلام.. في الآية الثامنة من الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1822 وسنة 1831 وسنة 1844 في لندن على النسخة المطبوعة في رومية العظمى سنة 1671 هكذا: (ووهبت لك بيت مولاك ونساء سيدك اضطجعت في حضنك ووهبت لك بيت إسرائيل ويهوذا وإذا كانت هذه قليلة فأزيدك مثلهن ومثلهن). فقوله وهبت على صيغة المتكلم في الموضعين، وقوله إذا كانت هذه قليلة فأزيدك مثلهن ومثلهن يدلان على ما قلت. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 الجملة الأخيرة هكذا: (فإذا كانت عندك قليلة كان ينبغي لك أن تقول فأزيد مثلهن ومثلهن).
وتزوج في آخر عمره شابة عذراء أخرى اسمها أبى شاغ الشونامية وكانت جميلة جداً، كما هو مصرح به في الباب الأول من سفر السلاطين الأول.
ولأن سليمان عليه السلام، تزوج بألف امرأة، سبعمائة منهن حرات من بنات السلاطين وثلثمائة جوار. وارتد بإغوائهن في آخر عمره وبنى المعابد للأصنام، كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول.
ولا يفهم من موضع من مواضع التوراة، حرمة التزوج بأزيد من امراة واحدة، ولو كان حراماً لصرح موسى عليه السلام بحرمته، كما صرح بسائر المحرمات وشدد في إظهار تحريمها، بل يفهم جوازه من مواضع. لأنك قد علمت في جواب الطعن الأول أن الأبكار التي كانت من غنيمة المديانيين، كانت اثنتين وثلاثين ألفاً وقسمت على بني إسرائيل، سواء كانوا ذوي زوجات أو لم يكونوا، ولا يوجد فيه تخصيص العزب.
وفي الباب الحادي والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: 10 (وإذا خرجت إلى القتال مع أعدائك وأسلمهم الرب إلهك في يدك وسبيتهم) 11 (ورأيت في جملة المسبيين امرأة حسنة وأحببتها، وأردت أن تتخذها لك امرأة) 12 (فأدخلها إلى بيتك وهي تحلق رأسها وتقص أظفارها) 13 (وتنزع عنها الرداء الذي سبيت به وتجلس في بيتك وتبكي على أبيها وأمها مدة شهر ثم تدخل إليها وترقد معها ولتكن لك امرأة) 14 (فإن كانت بعد ذلك لا تهواها نفسك فسرحها حرة ولا تستطيع أن تبيعها بثمن ولا تقهرها أنك قد ذليتها) 15 (وإن كان لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة ويكون لهما منه بنون وكان ابن المبغوضة بكراً) 16 (وأراد أن يقسم رزقه بين أولاده فلا يستطيع يعمل ابن المحبوبة بكراً ويقدمه على ابن المبغوضة) 17 (ولكنه يعرف ابن المبغوضة أنه هو البكر ويعيطه من كل ما كان له الضعف من أجل أنه هو أول بنيه ولهذا تجب البكورية). فقوله ورأيت في جملة المسبيين الخ. لا تختص بمخاطب لا تكون له زوجة بل أعم، سواء كانت له زوجة أو لم تكن، ولا يوجد فيه التصريح أيضاً بأن هذا الحكم يختص بمسبية واحدة فقط، بل الظاهر أنه إذا رأى المخاطب أزيد من واحدة، وأراد أن يتخذها نساء كان له جائزاً، فجاز لكل إسرائيلي أخذ نساء كثيرة. ودلالة قوله وإن كان لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة الخ. على ما ادعينا ظاهرة غير محتاجة إلى البيان. فثبت أن كثرة الأزواج ما كانت محرمة في شريعة موسى، فلذلك أخذ جدعون وداود وغيرهما من صالحي الأمة الموسوية نساء.
(الأمر الثاني) الصحيح في قصة زينب رضي الله عنها، أنها بنت عمة رسول الله ﷺ، وكانت عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه ثم طلقها زيد ولما انقضت عدتها تزوج بها رسول الله ﷺ.
وأنا أنقل بعض آيات سورة الأحزاب المتعلقة بهذه القصة مع عبارة التفسير الكبير وهي هكذا: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه} وهو زيد، أنعم الله عليه بالإسلام {وأنعمت عليه} بالتحرير والإعتاق {أمسك عليك زوجك} همَّ زيد بطلاق زينب فقال له النبي ﷺ: أمسك، أي لا تطلقها {واتق الله} قيل في الطلاق وقيل في الشكوى من زينب فإن زيد قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} من أنك تريد التزوج بزينب {وتخشى الناس} من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الابن {والله أحق أن تخشاه}. ليس إشارة إلى أن النبي ﷺ، خشي الناس ولم يخش الله، بل المعنى الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحداً معه، وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً، فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله} ثم قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها، وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته، وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن، وكذلك إذا كانت في العدة، له بها تعلق لإمكان شغل الرحم، فلم يقض منها بعد وطره، وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها، ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر. وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز، فلهذا قال: فلما قضى. وكذلك قوله: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً} أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن، وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي ﷺ لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي ﷺ {وكان أمر الله مفعولاً} أي مقضياً ما قضاه كائن. ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها، مع أنه كان مبيناً لشرع مشتمل على فائدة، كان خالياً عن المفاسد، انتهى كلامه بلفظه.
فظهر أن زينب رضي الله عنها، كانت تتكبر على زيد بسبب النسب وعدم الكفاءة، وهذا الأمر كان سبب عدم المحبة بينهما، فأراد زيد رضي الله عنه أن يطلقها، فمنعه النبي ﷺ، لكنه طلقها آخر الأمر. فلما انقضت عدتها تزوجها رسول الله ﷺ، لبيان الشريعة لا لأجل قضاء الشهوة. وكان قبل نزول الحكم مخفياً لهذا الأمر لأجل عادة العرب، ولا بأس فيه كما ستعرف في الأمر الثالث إن شاء الله تعالى. والرواية التي وقعت في البيضاوي، ضعيفة عند محققي أهل الحديث. كما صرح به المحقق المحدث الشيخ عبد الحق الدهلوي في بعض تصنيفاته وفي شرح المواقف: (وما يقال أنه أحبها حين رآها فما يجب صيانة النبي ﷺ عن مثله) انتهى.
(الأمر الثالث) أن الأمور الشرعية، لا يجب أن تكون متحدة في جميع الشرائع، أو مطابقة لعادات الأقوام وآرائهم. أما الأول فقد عرفت بما لا مزيد عليه في الباب الثالث، وقد عرفت فيه أن سارة زوجة إبراهيم عليه السلام كانت أختاً علانية له، وأن يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، وأن عمران أبا موسى عليه السلام تزوج بعمته، وهذه الزوجات الثلاث محرمة في الشريعة الموسوية والعيسوية والمحمدية، وبمنزلة الزنا سيما نكاح الأخت العلانية والعمة، وهذه الزوجات أقبح القبائح عند علماء مشركي الهند، فهم يشنعون تشنيعاً بليغاً ويستهزؤون بهؤلاء المتزوجين غاية الاستهزاء، وينسبون أولادهم إلى أشد أنواع الزنا.
وفي الباب الخامس من إنجيل لوقا هكذا: 29 (والذين كانوا متكئين معه كانوا جمعاً كثيراً من عشارين وآخرين) 30 (فتذمر كتبتهم والفريسيون على تلاميذه قائلين لماذا تأكلون وتشربون مع عشارين وخطاة) 33 (وقالوا لماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيراً ويقدمون طلبات وكذلك تلاميذ الفريسيين أيضاً وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون فالكتبة والفريسيون الذين من أعظم فرق اليهود وأشرفها كانوا يشنعون على تلاميذ عيسى عليه السلام بأنهم يأكلون ويشربون مع الخطاة والعشارين وأنهم لا يصومون).
وفي الباب الخامس عشر من إنجيل لوقا هكذا: 1 (وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه) 2 (فتذمر الفريسيون، والكتبة قائلين هذا يقبل الخطاة ويأكل معهم) فالفريسيون كانوا يشنعون على عيسى عليه السلام أنه يأكل مع الخطاة ويقبلهم.
وفي الباب الحادي عشر من كتاب الأعمال: 2 (ولما صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان) 3 (قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة وأكلت معهم).
وفي الباب السادس من إنجيل مرقس هكذا: 1 (واجتمع إليه الفريسيون وقوم من الكتبة قادمين من أورشليم) 2 (ولما رأوا بعضاً من تلاميذه يأكلون خبزاً بأيد دنسة أي غير مغسولة لاموا) 3 (لأن الفريسيين وكل اليهود إن لم يغسلوا أيديهم باعتناء لا يأكلون متمسكين بتقليد الشيوخ) 4 (ومن السوق إن لم يغتسلوا لا يأكلون، وأشياء أخر كثيرة تسلموها للتمسك بها من غسل كؤوس وأباريق، وآنية نحاس، وأسرة) 5 (ثم سأله الفريسيون، والكتبة لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقاليد الشيوخ بل يأكلون خبزاً بأيد غير مغسولة).
وفي ملة براهمة الهند، وغيرهم من أقوام مشركي الهند تشددات عظيمة، وعندهم لو أكل أحد منهم مع المسلم أو اليهودي والنصراني خرج عن ملته، ونكاح زوجة المتبنى بعد الطلاق، كان قبيحاً عند مشركي العرب. ولما كان زيد بن حارثة رضي الله عنه متبنى محمد ﷺ، كان محمد ﷺ أيضاً يخاف أولاً من طعن عوام المشركين في نكاح زينب رضي الله عنها، فلما أمره الله تزوج بها لبيان الشريعة، ولم يبال بعادة المشركين.
(الأمر الرابع) أن الطاعنين من علماء بروتستنت، لا يستحيون ولا ينظرون إلى بضاعات كتبهم المقدسة من الاختلافات، والأغلاط، والأحكام التي عرفت نبذاً منها في الباب الأول، والفصل الثاني والثالث من الباب الخامس. ومن ذنوب الأنبياء وعشائرهم وأصحابهم التي قد عرفتها في ابتداء هذا الفصل. وأريد أن لا أترك هذا الموضع أيضاً خالياً عن ذكر بعض الأمور المندرجة في التوراة، وإن حصل للناظر إطلاع على أمور كثيرة فيما سبق:
1 - في الباب الثلاثين من سفر التكوين هكذا: 37 (فأخذ يعقوب عصياً خضرة من حور، ولوز، ومن دلب، وكشف من بياضها والخضرة ظاهرة فيها فظهرت العصي المقشرة بلقاء، وبيضاء) 38 (ووتد العصى في مساقي الماء لكي إذا جاءت الغنم لتشرب تتوحم الغنم على العصى، وفي نظرها إليها تحمل) 39 (وصار أنه في حمية التوحم، النعاج تتبصر بالعصى، وتنتج منقطة ومتمرة مختلفة اللون) 40 (وعزل يعقوب القطيع، ووضع القضبان في المساقي أمام الكباش فكانت البيض، والسود كلها للابان، والباقي ليعقوب، والقطعان مفترقة بعضها عن بعض) 41 (فكان في كل عام ما حمل من الغنم أولاً جعل يعقوب القضبان قدام الغنم في المساقي ليتوحم الغنم على العصى) 42 (وما حمل منها أخيراً لم يجعلها فصار آخر نتاج الغنم للابان، وأوله ليعقوب) 43 (فاستغنى الرجل جداً جداً، وصارت له مواشي كثيرة، وإماء، وعبيد، وإبل، وحمير).
وهذا عجيب أيضاً، فإن الأولاد بحسب جرى العادة، غالباً تكون على شبه ألوان أصولهم، وأما كونهم على شبه ما يرونه من العصى وغيرها، فلا يتوهمه أحد من العقلاء أصلاً، وإلا يلزم أن يكون الأولاد المتولدة في الربيع خضراً كلهم.
2- في الباب الثالث عشر من سفر الأحبار هكذا: 46 (وإن كان في رداء أو في ثوب ضربة البرص من الصوف كان الثوب أو من الكتان) 47 (في السدا أو في اللحمة أو في جلدة أو في عمل أديم) 48 (فإن كانت الضربة بيضاء أو حمراء في الرداء أو في الجلد في السداء أو في اللحمة، أو في كل جلود الأديم فإنها ضربة برص فليروه) 49 (فينظر الحبر إلى الضربة ويحجز الحبر عليها سبعة أيام) 50 (وينظر إليها في اليوم السابع فإن رآها قد مشت في الرداء أو في السدا أو اللحمة أو في أديم أو في كل أدم يصنع الصنعة فإنها ضربة برص مر وهو نجس) 51 (فليحرق الحبر الرداء أو السدا أو لفافة الصوفة أو الكتان أو كل أديم من جلد يكون فيه ضربة من أجل أنه برص فيحرقونه بالنار) 52 (وإن رأى الحبر أن الضربة لم تفش في الثوب أو في السدا أو في اللحمة أو في كل أديم من جلود) 53 (فليأمر الحبر فليغسل ما فيه الضربة، ويحجز عليه الحبر سبعة أيام أخر) 54 (وينظر الحبر إلى الضربة من بعد ما غسلوها فإن لم تكن تغير لونها، والضربة لم تتغير فإنه خبيث أحرقوه بالنار فإنها ضربة في جدته أو في بلاه) 55 (وإن رأى الحبر أنها قد استوت من بعد ما غسلت فليأمر الحبر فليلقط من الرداء أو من الجلد أو من السدا أو من اللحمة) 56 (فإن رأى أيضاً في الرداء أو في السدا أو في اللحمة أو في كل جلود الأدم جميع ما يستعمل من الجلود، فألقوه في النار فإن الضربة قد كثرت فيه) 57 (وكل رداء أو سدا أو لحمة أو أديم يذهب منه إذا غسل، فيغسل مرتين فيطهر) 58 (هذه سنة البرص في رداء الصوف أو الكتان أو السدا أو اللحمة أو كل جلود الأدم يطهره أو ينجسه).
فانظروا إلى هذه الأحكام فإنها ثمرات الأوهام، أيليق إحراق الجلود والثياب بأمثال هذه الوساوس.
3- في الباب الرابع عشر من سفر الأحبار هكذا: 34 (إذا دخلتم أرض كنعان التي أعطيكم ميراثاً إن كان ضربة برص في بيت) 35 (يخبر رب البيت الكاهن ويقول له إن ظهر في بيتي ضربة كأنها برص) 36 (يأمرهم الكاهن فيفرغون البيت قبل أن يدخل البيت لينظر إليه لئلا يتنجس كل ما في البيت ثم يدخل الكاهن لينظر ضربة البيت) 37 (فإن كان ضربة في حيطان البيت قشوراً صفراء أو حمراء ومنظرها أغمق من الحائط) 38 (فليخرج الكاهن خارجاً من البيت، وليقم بابه، ويحجز على ذلك البيت سبعة أيام) 39 (ثم يرجع في اليوم السابع فينظر، فإن رأى الضربة قد فشت في حيطان البيت) 40 (فليأمر الكاهن بالحجارة التي فيها الضربة فتنقض، وتلقى خارجاً من القرية في موضع نجس) 41 (ويقشر ذلك البيت من داخل باستدارته، ويلقي التراب الذي قشر خارجاً من القرية في موضع نجس) 42 (تدخل حجارة أخرى في مكان تلك الحجارة، ويأخذون تراباً غير ذلك ويطلون به ويطين) 43 (فإن فشت الضربة، وكثرت في البيت من بعد ما قشر البيت وطين) 44 (فيدخل الكاهن وينظر إن كانت الضربة قد فشت في البيت، فليعلم أن في البيت برصاً مراً وهو نجس) 45 (ولساعته يهدمونه، ويلقون حجارته، وخشبه، وطينه بأسرها خارجة من القرية في موضع نجس) 46 (ومن دخل ذلك البيت وهو محجوز عليه يكون نجساً إلى الليل) 47 (ومن رقد فيه أو أكل فيه شيئاً فليغسل كسوته) 48 (وإن دخل الكاهن، ورأى البرص لم يفش في البيت بعد ما طين ثانياً فليطهره الكاهن من أجل أنه قد برئ من ضربته).
فهذه الأحكام أيضاً من ثمرات الأوهام، أتهدم البيوت بمثل هذه الأوهام، التي هي أوهن من نسج العنكبوت، أيعتقد عقلاء أوربا أن يكون الثوب، أو الجلد، أو البيت، أبرص قابلاً للإحراق أو الهدم.
4- في الباب الخامس عشر من سفر الأحبار هكذا: 12 (وأي إناء من فخار مسه من يقطر زرعه فليكسر، وإن كان إناء من خشب أو نحاس فليغسل بالماء) 16 (وأيما رجل جنب أو خرجت منه جنابة يغسل جسده كله بالماء، ويكون نجساً إلى الليل) 23 (ومن مس ثوباً جلست عليه امرأة، وهي طامث يغسل ثيابه، ويستحم بالماء، ويكون نجساً إلى الليل) 24 (وإن اضطجع معها رجل فأصابه من حيضتها فإنه يكون جنباً سبعة أيام، وكل مضطجع يضطجع فإنه يكون نجساً).
ففي الحكم الأول بالنسبة إلى إناء الفخار إضاعة المال، وظاهر أنه لا يسري شيء بمجرد المس فيه وإن توهم سريان شيء فيه، فَلِمَ لَمْ يكتف فيه بغسله بالماء، كما اكتفى في إناء الخشب، والنحاس. وفي الحكم الثاني ما معنى كونه نجساً إلى الليل بعد ما غسل الجسد كله بالماء. وفي الحكم الثالث أيضاً نظر لأن الظاهر أنه لا يسري شيء بمجرد مس الثوب، الذي جلست عليه الحائض في جسد الماس، وإن توهم سريان شيء، كان غسل العضو الذي به مس الثوب كافياً، وإن توهم سريان شيء بمجرد المس في سائر جسده، فما معنى كونه نجساً إلى الليل، بعد ما غسل الثياب، والجسد كلها، والعجب أن الرجل إذا جامع، أو احتلم، وصار جنباً، لا يجب عليه غسل الثياب بل يكفي غسل الجسد. وههنا بمجرد مس الثوب يلزم غسل الثياب أيضاً. والحكم الرابع أعجب من الثلاثة فإن الرجل بمجرد إصابة شيء من الحيض بم صار حكمه حكم الحائض، فكما هي تكون نجسة إلى سبعة أيام يكون هو أيضاً نجساً إلى سبعة أيام، وفي أحكام الحائض والمستحاضة أيضاً، تشددات عجيبة مذكورة في هذا الباب. وبالنظر إلى هذه الأحكام نجد النصارى كلهم أنجس الناس لأنهم لا يراعونها مطلقاً.
5- في الباب السادس عشر من سفر الأحبار هكذا: 7 (ثم يأخذ الجديين ويقيمهما أمام الرب مذبوحين في باب قبة الزمان) 8 (ويقترع عليهما قرعتين قرعة واحدة للرب وقرعة أخرى لعزرائيل) 9 (ويقرب هارون الجدي الذي أصابته قرعة الرب ويصيره قرباناً بدل الخطيئة) 10 (والجدي الذي وقعت قرعة عزرائيل يقوم حياً أمام الرب ليستغفر عليه ويسرحه لعزرائيل إلى القفر).
وهذا الحكم عجيب أيضاً، وما معنى القربان لعزرائيل وتسريحه إلى القفر، ولا ريب إنه لقربان لغير الله، ورأيت مشركي الهند أنهم يتركون الثيران على أسماء آلهتهم، لكنهم يتركونها في الأسواق لا في القفر حتى تموت جوعاً وعطشاً.
6- في الباب الخامس والعشرين من سفر الاستثناء هكذا: 5 (إذا سكن أخوة جميعاً فمات أحدهم وليس له ولد فلا تتزوج امرأة الميت برجل غريب، ولكن يأخذها أخوه ويقيم زرع أخيه) 6 (والولد البكر الذي يكون منها فليسمه باسم أخيه لئلا يبطل اسمه من إسرائيل) 7 (فإن لم يرض أن يأخذ امرأة أخيه التي تحق له بالسنة فتذهب المرأة إلى باب القرية إلى المشيخة وتقول لهم أن أخا زوجي لا يريد أن يقيم اسم أخيه في إسرائيل ولا يريد أن يأخذني له زوجة) 8 (ولوقتهم يطلبونه ويسألونه فإن أجاب وقال لا أريد أن أتزوجها) 9 (فتدنو المرأة منه قدام المشايخ وتخلع الخف من رجله وتبصق في وجهه وتقول هكذا يفعل بكل رجل لا يعمر بيت أخيه) 10 (ويدعي اسمه في إسرائيل بيت مخلوع الخلف).
وهذا الحكم عجيب أيضاً، لأن امرأة الميت، قد تكون عوراء، أو عمياء، أو عرجاء، أو شوهاء قبيحة الصورة، أو غير عفيفة، أو معيبة بعيب آخر، فكيف يرضى بها الرجل، وهذه الإقامة لزرع أخيه أيضاً عجيبة، وأعجب منها أن علماء بروتستنت تركوا هذا الحكم العظيم الشأن وقالوا: (لا يحل للرجل أن يتزوج زوجة أخيه). كما هو مصرح به في جدول القرابة والنسب، من كتاب الصلاة العامة، وغيرها من رسوم الكنيسة وطقوسها، على موجب استعمال الكنيسة الإنكليزية والأرلندية المطبوع سنة 1840 في قالته، مع أن بيان المحرمات، لا يوجد في الإنجيل، وما أخذوها إلا من التوراة.
(الأمر الخامس) أن المتقشف، إذا كان جل همته الاعتساف، يعترض بأمثال اعتراضاتهم على المسيح عليه السلام والحواريين.
في الباب السابع من إنجيل لوقا هكذا: 33 (جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فتقولون به شيطان) 34 (وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة) 36 (وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه فدخل بيت الفريسي واتكأ) 37 (وإذا امراة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب) 38 (ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب) 39 (فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك تكلم في نفسه قائلاً لو كان هذا نبياً لعلم مَنْ هذه الامرأة التي تلمسه وما هي إنها خاطئة) 44 (ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان انتظر هذه المرأة أني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها) 45 (قبلة لم تقبلني وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي) 46 (بزيت لم تدهن رأسي وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي) 47 (من أجل ذلك أقول قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً والذي يغفر له قليل يحب قليلاً) 48 (ثم قال لها مغفور لك خطاياك) 49 (فابتدأ المتكؤون معه يقولون في أنفسهم من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً) 50 (فقال للمراة إيمانك قد خلصك اذهبي بسلام).
وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 1 (وكان إنسان مريضاً وهو لعازر من بيت عيناً قرية مريم ومرثا أختها) 2 (وكانت مريم التي كان لعازر أخوها هي التي دهنت الرب بطيب ومسحت رجليه بشعرها) 5 (وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر) فهذه المحبوبة مريم هي التي كانت دهنت ومسحت رجلي عيسى عليه السلام.
وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا: 21 (لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم أن واحداً منكم سيسلمني) 22 (فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون فيمن قال عنه) 23 (وكان متكئاً في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه) 24 (فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه) 25 (فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد من هو). ووقع في حق التلميذ، في الآية السادسة والعشرين من الباب التاسع عشر، والآية الثانية من الباب العشرين، والآية السابعة والآية العشرين من الباب الحادي والعشرينمن إنجيل يوحنا، أن يسوع كان يحبه.
وفي الباب الثامن من إنجيل لوقا هكذا: 1 (وعلى أثر ذلك كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر) 2 (وبعض نساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض مريم التي تدعي المجدلية التي خرج منها سبعة شاطين) 3 (وبونا امرأة خوزي وكيل هيرودس وسوسنة وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن).
وظاهر أن الخمر أم الخبائث وقبيحة عند الله وسبب للضلال والكفر والهلاك ولا يناسب شربها للأتقياء وإزالة العقل من خواصها اللازمة سواء كان الشارب نبياً أو غير نبي ولذلك حرم الله شربها على هارون وأولاده إذا أرادوا الدخول في قبة الشهادة لأجل الخدمة وجعلها سبب الموت وجعل حرمتها عهداً أبدياً معهم.
في الباب العاشر من سفر الأخبار هكذا: 8 (وقال الرب لهارون) 9 (لا تشربوا خمراً ولا شيئاً آخر يسكر لا أنت ولا بنوك إذا أردتم الدخول في قبة الشهادة لئلا تموتوا ويكون هذا عهداً لكم إلى الأبد في أجيالكم). ولذلك منع ملك الرب، زوجة ما نوح من شرب الخمر، وشرب كل مسكر وقت حملها، ليكون ولدها من الأتقياء، ولا يسري خبث المسكرات في هذا الولد التقي، وأكد على زوجها أيضاً، في هذا الباب في الباب الثالث عشر من سفر القضاء هكذا: 4 (إياك من شرب الخمر والمسكر ولا تأكلي شيئاً نجساً) 13 (فقال ملاك الرب لمنوح فليحذر عن جميع ما قلت لامرأتك) 14 (ولا تأكل شيئاً مما يخرج من الكرم ولا تشرب خمراً ولا مسكراً ولا تأكل شيئاً نجساً وتحفظ بكل ما أمرتها به وتفعل ما قلت لها) ولذلك لما بشر الملك زكريا، بولادة يحيى عليهما السلام، بين من أوصاف تقوى يحيى، أنه لا يشرب خمراً ولا مسكراً آخر.
الآية الخامسة عشر من الباب الأول من إنجيل لوقا هكذا: (لأنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب). ولذلك أشعيا عليه السلام، ذم شارب المسكر، وشهد أن الأنبياء والكهنة، ضلوا بسبب شرب الخمر والمسكرات.
الآية الثانية والعشرون من الباب الخامس من كتاب أشعيا هكذا: (الويل للأقوياء منكم على شرب الخمر والمقتدرين أن يمزجوا المسكرة).
والآية السابعة من الباب الثامن والعشرين من كتابه هكذا: (وهؤلاء أيضاً لم يفهموا بسبب الخمر وضلوا من المسكر الكاهن والنبي لم يعلموا للمسكر غرقوا في الخمر تاهوا من المسكر لم يعلموا الرؤيا ولم يفهموا القضاء).
وقد عرفت في أول هذا الفصل، أن نوحاً عليه السلام، شرب الخمر، وزال عقله، وصار عرياناً. وأن لوطاً شرب الخمر، وزال عقله، وفعل بابنتيه ما فعل، بحيث لم يسمع مثله من المولعين بشربها.
وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتزر بها ثم صب ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها).
وقال اللوذعي الألمعي الظريف فارس مضمار البلاغة أطال الله بقاءه إلزاماً هكذا: (هذا يوهم أن عيسى عليه السلام وقتئذ كان قد سرت فيه الخمرة حتى لم يكن يدري ما يفعل، فإن غسل الأقدام لا يوجب التجرد عن الثياب) انتهى كلامه بلفظه.
وقال سليمان الحكيم النبي عليه السلام في ذم الشراب في كتابه سفر الأمثال في الباب الثالث والعشرين هكذا: 31 (لا تنظر إلى الخمر إذا اصفر وإذا شعشع لونه في الزجاج ويدخل لذيذاً) 32 (وفي نهاية أمره يلدغ كالحية ومثل ملك الحيات يسكب سمومه).
وكذا اختلاط النساء الشواب الأجنبيات مع الرجال الشبان، آفة شديدة لا ترجى العصمة، سيما إذا كان الرجل شاباً عزباً شارب الخمر، والمرأة فاحشة محبوبة وهي تدور معه وتخدمه بمالها ونفسها. وقد عرفت حال داود عليه السلام، أن نظراً واحداً إلى الامرأة الأجنبية، بلغه إلى ما بلغ، مع أنه كان كثير الأزواج وجاوز الخمسين. وكذا قد عرفت حال سليمان عليه السلام، أن النساء قد أزلن عقله وجعلناه مرتداً وثنياً في شيخوخته، بعد ما كان نبياً صالحاً في شبابه، ولما حصل له التجربة الكاملة من حال أبيه وأمه، ومن حال أخيه وأخته أمنون وثامار، ومن حال أسلافه مثل روبيل ويهودا، سيما من حال نفسه. شدد في هذا الباب تشديداً بليغاً في سفر الأمثال فقال:
في الباب الخامس: (لا تصغ إلى مكر الامرأة) 3 (لأن شفتي الامرأة الأجنبية تسكبان عسلاً، وحنجرتها ألطف من الدهن) 4 (ثم عاقبتها مرة كالعلقم، ومرهفة كسيف ذي فمين) 5 (رجلاها تنحدران إلى الموت وخطوتها تنفذ إلى الجحيم) 6 (تسلك أنت سبيل الحيات لأن طرقها ضالة لا تدرك) 7 (والآن يا ابني اسمع مني، ولا تبعد عن أقوال فمي أجعل طريقك منها بعيداً، ولا تدن إلى أبواب منزلها) 20 (لماذا تضلك يا ابني الامرأة الغريبة وتحاضنك أجنبية).
ثم قال في الباب السادس: 24 (لنحفظك من امرأة رضية ومن لطافة لسان غريبة لا يشتهي قلبك جمالها ولا تقتنصك غمزاتها) 26 (فإن قيمة الزانية مقدارها خبزة واحدة وامرأة الرجل تصطاد النفس الكريمة) 27 (أيستطيع رجل أن يخفي في حجره ناراً وما تحترق ثيابه) 28 (أم يتمشى على جمر وما تحترق رجلاه) 29 (هكذا من يدخل إلى امرأة غريبة لا يتبرأ إذا لمسها).
ثم قال في الباب السابع: 24 (فالآن يا ابني استمعني وأصغ إلى أقوال فمي) 25 (لا تحنحن قلبك إلى طرقها ولا تضلن في مناهجها) 26 (فإنها قد طرحت كثيرين جرحى وهي قتلت كل قوي) 28 (بيتها هو طرق الجحيم محدرة إلى مطابق الموت).
ثم قال في الباب الثالث والعشرين: 33 (عيناك تنظران الأجنبيات وقلبك يتكلم بالملتويات) 34 (وتكون كنائم في قلب البحر وكمدير راقد إذ تلفت الدفة).
وكذا اختلاط الأمارد آفة بل أخوف من اختلاط النساء وأشنع كما شهد به المجربون، وإذا عرفت هذا، أقول أن عيسى عليه السلام لما كان شارب الخمر، حتى كان معاصروه يقولون أنه أكول شريب خمر، وكان شاباً عزباً، فإذا بلت مريم قدميه بدموعها، ولم تكف عن تقبيلهما منذ دخلت، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وكانت في هذا الوقت فاحشة مشهورة. فكيف نسى عيسى عليه السلام حال أسلافه، يهوذا وداود وسليمان عليهما السلام، وكيف نسي أقوال سليمان عليه السلام، وكيف لم يعلم أن قيمتها مقدار خبزة واحدة، وأن من لمسها لا يتبرأ، كما لا يمكن أن يخفى رجل في حجره ناراً، وما تحترق ثيابه، أو يمشي على جمر النار، وما تحترق رجلاه. فكيف أجاز لها بهذه الأمور، حتى اعترض عليه الفريسي، وكيف يتصور أن هذه الأمور لم تكن من مقتضى الشهوات النفسانية، وكيف غفر خطاياها وذنوبها على هذا الفعل. أهذه الأمور هي اللائقة لذات الله العادل المقدس.
ولذلك قال اللوذعي السابق ذكره: (وقد كانت وقتئذ بغياً مباحة، فهل يليق الآن بأحد مطارنة النصارى، إذا كان ضيفاً في بيت أحد معارفه، أن يأذن لقبيحة فاحشة في أن تغسل رجليه بمحضر ملأ من الناس، من غير أن تبدي أمارة التوبة من قبل، لا سراً ولا جهراً) انتهى كلامه.
وكان يحب مريم، ويدور هو والاثنا عشر تلاميذه ومعهم نساء كثيرة يخدمنه من أموالهن. فكيف يتصور أنه لم تزل أقدامهم مع هذه المخالطة الشديدة، كما زل قدم روبيل، حتى زنى بزوجة أبيه، وقدم يهودا حتى زنى بكنته، وقدم داود عليه السلام حتى زنى بامرأة أوريا، وقدم أمنون حتى زنى بأخته.
ولذلك قال اللوذعي السابق ذكره: (وأغرب منه ما ذكره لوقا من أن عيسى وتلاميذه كانوا يجولون في القرى ومعهم نساء، منهن مريم هذه التي كان أمرها مشهوراً بالفجور والزنا، وأنت خبير بأنه لا يتأتى لكل واحد في البلاد الشرقية، وخصوصاً في القرى، أن يبيت وحده في محل مخصوص. فلا بد أن هؤلاء الأولياء كانوا يبيتون مع تلك الوليات معاً) انتهى كلامه بلفظه.
واحتمال مزلة أقدام الحواريين أقوى، لأنهم ما كانوا كاملين في الإيمان، قبل صعود المسيح عليه السلام، على ما أقر علماؤهم. فلا يظن في حقهم العصمة من الزنا، ألا ترى أن الأساقفة والشمامسة من فرقة كاتلك، لا يتزوجون ويدعون أن هذا الأمر من العفاف، ويفعلون ما لا يفعله الفاسق الغني من أهل الدنيا، كأن كنائسهم بيوت الفاحشات الزانيات.
في الصفحة 144 و 145 من كتاب الثلاث عشرة رسالة، في الرسالة الثانية هكذا: (القديس برنردوس يقول [1] وعظ عدد 66 في نشيد الإنشاد (نزعوا من الكنيسة الزواج المكرم والمضجع الذي هو بلا دنس فملؤوها بالزنا في المضاجع مع الذكور والأمهات والأخوات وبكل أنواع الأدناس).
والفاروس بيلاجيوس أسقف سلفا في بلاد البورتكال سنة 1300 يقول: يا ليت أن الأكليروسيين لم يكونوا نذروا العفة، ولا سيما أكليروس سبانيا، لأن أبناء الرعية هناك أكثر عدداً بيسير من أبناء الكهنوت.
ويوحنا أسقف سالتزبرج في الجيل الخامس عشر، كتب: (أنه وجد قسوساً قلائل غير معتادين على نجاسة متكاثرة مع النساء، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا) انتهى كلامه بلفظه ملخصاً.
وشهادة قدمائهم هذه، تكفي في حق عصمة هؤلاء القسوس التي ادعوها، فلا حاجة إلى أن أزيد على هذه، بل أترك ذكرهم وأقول: مثلهم حال فقراء مشركي الهند الذين يدعون العصمة، ويفهمون الزواج أنه أشد المعائب لفقرهم وطريقتهم، وهم أفجر الناس وأفسقهم، لا يحصل للأمراء الفساق ما يحصل لهم.
وتذكرت حكاية: أن بعض المسافرين، لما وصل إلى قرية من قرى الهند، رأى جارية كاعبة تجيء من القرية، فسألها يا بنت أنت من بنات القرية أم من كناتها؟ فأجابت هذه اللاكعة: أيها السائل إني من بنات القرية، لكني أفضل من كناتها في قضاء الشهوة يحصل لي ما لم يحصل لإحداهن في الرؤيا والمنام.
فهؤلاء المجردون ذوو حظ جسيم من المتزوجين، فعند المنكرين كان عيسى عليه السلام، مستغنياً عن الزواج مطلقاً، وكان تلاميذه مستغنين إما عن الزواج مطلقاً، أو عن كثرة الأزواج مثل حضرات الشمامسة والقسوس من فرقة كاتلك، ومثل فقراء مشركي الهند. وكذا محبة عيسى عليه السلام لتلميذه، محل تهمة عند الذين ابتلوا بهذا الفحش القبيح.
ولذلك قال الألمعي السابق ذكره، على قول الإنجيلي الرابع أعني، فاتكأ ذاك على صدر يسوع، هكذا: (كالمرأة التي تحاول شيئاً من عاشقها فتتغنج له) انتهى كلامه بلفظه.
واعلم أني ما كتبت في هذا الأمر الخامس، كتبته إلزاماً، وإلا فإني أتبرأ من أمثال هذه التقريرات. ولا اعتقد أمراً منها في حق عيسى عليه السلام، ولا في حق حواريه الأمجاد، كما صرحت في مقدمة الكتاب، ومواضع متعددة.
(الأمر السادس) في الجلالين في سورة التحريم هكذا: (من الإيمان تحريم الأمة) انتهى. فقول النبي ﷺ حرمت مارية على نفسي يمين بهذا المعنى.
(الأمر السابع) إذا قال النبي لا أفعل هذا الأمر ثم فعل، لأجل أنه كان جائزاً من الأصل، أو جاء إليه حكم الله، لا يقال أنه أذنب، بل في الصورة الثانية لو لم يفعل يكون عاصياً البتة. وعندهم يوجد مثله في حق الله في كتب العهد العتيق، فضلاً عن الأنبياء كما عرفت بما لا مزيد عليه، في أمثلة القسم الثاني من الباب الثالث، وفي جواب الشبهة الخامسة من الفصل الرابع من الباب الخامس. ويوجد في العهد الجديد، في حق عيسى عليه السلام، في الباب الخامس عشر من إنجيل متى، أن امرأة كنعانية استغاثت لأجل شفاء بنتها، فأبى عيسى عليه السلام فأجابت جواباً حسناً استحسنه عيسى عليه السلام، ودعا لابنتها فشفيت. وفي الباب الثاني من إنجيل يوحنا أن أم عيسى عليه السلام استدعت منه في عرس قانا الجليلي، أن يحول الماء خمراً، وقال ما لي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي، ثم حوله.
(الأمر الثامن) لا بأس بأن يخصص أولياء الله بخصائص، ألا ترى أن هارون وأولاده كانوا مخصصين بأمور كثيرة، من خدمة قبة الشهادة، وما يتعلق بها، وما كانت هذه الأمور جائزة لبني لاوى الآخرين، فضلاً عن غيرهم من بني إسرائيل.
وإذا عرفت الأمور الثمانية، ظهر لك جواب مطعنهم بالوجوه الخمسة، لكني أتعجب كل العجب من هؤلاء المعاندين، أنهم لو رأوا في شريعة الغير أمراً لا يكون حسناً في آرائهم، يقولون أن هذا الأمر لا يجوز أن يكون من جانب الله. المقدس الحكيم العادل، أو يقولون أن هذا ليس بلائق بمنصب النبوة. ولو وجد أمر أشنع منه في شرائعهم، يكون من جانب الله، أو لائقاً بمنصب النبوة. فأمر الله لحزقيال عليه السلام أن يحمل إثم آل إسرائيل وآل يهوذا على نفسه، وأن يأكل إلى ثلثمائة وتسعين يوماً، خبزاً ملطخاً ببراز الإنسان. وكذا أمر الله لأشعيا عليه السلام، أن يمشي مكشوف العورة الغليظة، وعرياناً بين النساء والرجال إلى ثلاث سنين، مع كونه في قيد العقل. وكذا أمره لهوشع أن يأخذ لنفسه زوجة زانية وأولاد الزنا، وأن يتعشق بامرأة فاسقة محبوبة لزوجها. يكون كلها عندهم أموراً من جانب الله الحكيم المقدس، ولائقاً بمناصب هؤلاء الأنبياء المقدسين. وإجازة نكاح زينب بعد طلاق زوجها وانقضاء عدتها لا يمكن أن يكون من جانب الله، ولا يكون لائقاً بمنصب نبوة محمد ﷺ. وكذا لا يسقط عن درجة النبوة، يعقوب عليه السلام الذي هو ابن الله البكر بنص التوراة، بسبب أن تعشق راحيل، وخدم أباها أربع عشرة سنة، وأخذ أربع زوجات، وجمع بين الأختين، وكذا لا يسقط عنها داود ابن الله البكر الآخر، بنص الزبور، بسبب أن أخذ نساء كثيرة، وجواري كثيرة، قبل أن يزني بامرأة أوريا بل تكون هذه النساء كلها بهبة الله ورضاه، ويكون داود عليه السلام قابلاً لأن يقول الله في حقه: فإذا كانت عندك قليلة كان ينبغي لك أن تقول فأزيد مثلهن. ولا يصدر العتاب عليه على تكثير النساء، بل على أنه زنى بامرأة الغير، وقتل ذلك الغير بالحيلة، وأخذ تلك الامرأة. وكذا لا يسقط عنها سليمان عليه السلام، الذي هو ابن الله بشهادة كتبهم المقدسة بسبب أن أخذ ألف امرأة من الزوجات والجواري، وارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، بل يبقى مسلم النبوة ويكون كتبه الثلاثة، أعني الأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد، كتباً إلهية. وكذا لا يسقط لوط عنها، بسبب الزنا بابنتيه. وكذا لا يسقط عنها ابن الله الوحيد وحواريه الأمجاد، بسبب حب الفاحشة، وبعض التلاميذ، والجولان مع النساء في قرى البلاد الشرقية. بل لا يتهمون أيضاً بشيء مع هذه المخالطة الشديدة وكونهم شاربي الخمر وشباناً. ويسقط محمد ﷺ عن درجة النبوة بكثرة الأزواج، ونكاح زينب، وتحليل جاريته بعد تحريمها. لعل منشأ هذه الأمور أن الله لما كان واحداً حقيقياً، لا تكثر في ذاته بوجه من الوجوه عند أهل الإسلام، فذاته المقدسة لا تسع أمراً غير مناسب، وعندهم لما كان ذاته مشتملة على الأقانيم الثلاثة المتصف كل منهم بصفات الألوهية كلها، الممتاز كل منهم عن الآخر امتيازاً حقيقياً تسع أمراً غير مناسب. لأن الامتياز الحقيقي، لا يمكن أن يفارق التعدد، بل يستلزمه البتة وإن لم يقروا بحسب الظاهر به، كما عرفت في الباب الرابع والثلاثة أكثر من الواحد.
فلعل إلههم في زعمهم أقوى من إله المسلمين، وكذلك لما لم تكن العصمة من ذنب من الذنوب، حتى الشرك وعبادة العجل والأصنام والزنا والسرقة والكذب حتى في تبليغ الوحي وغيرها من المعاصي، شرط للنبوة عندهم، كانت ساحة النبوة عندهم أوسع من ساحتها عند المسلمين أو لعل. منشأها أن يعقوب وداود وسليمان وعيسى لما كانوا أبناء الله، فلهم أن يفعلوا في مملكة أبيهم ما يشاؤون، بخلاف محمد ﷺ، فإنه لما كان عبد الله بن عبد الله، لا يجوز له أن يفعل في مملكة مالكه وسيده ما يشاء. نعوذ بالله من التعصب الباطل والاعتساف ومن المكابرة وعدم الإنصاف.