إظهار الحق/الفصل الثاني: في رفع شبهات القسيسين
الفصل الثاني: في رفع شبهات القسيسين على القرآن
(الشبهة الأولى) لا نسلم بأن عبارة القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة الخارجة عن العادة، ولو سلمنا بذلك فهو يكون دليلاً ناقصاً على الإعجاز، لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلسان العرب، ويلزم أن تكون جميع الكتب التي توجد في الألسن الأخرى مثل اليوناني واللاطيني وغيرهما في الدرجة العالية من بلاغة كلام الله، على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى.
(والجواب) عدم تسليم كون عبارة القرآن في الدرجة العليا - مكابرة محضة، لما عرفت في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول، وقولهم لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة حقة بلسان العرب، لكن التقريب غير تام لأن هذه المعجزة لما كانت لتعجيز البلغاء والفصحاء وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوا واعترفوا بها وعرفها أهل اللسان بسليقتهم وغيرهم من العلماء بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام وعرفها العوام من الفرق بشهادة ألوف ألوف من أهل اللسان والعلماء، فظهر أنها معجزة يقيناً، ودليل كامل لا ناقص كما زعموا، وصارت سبباً من الأسباب الكثيرة التي يعلم بها أن القرآن كلام الله ولا يدعي أهل الإسلام أن سبب كون القرآن كلام الله منحصر في كونه بليغاً فقط وكذا لا يدعون أن معجزة النبي ﷺ منحصرة في بلاغة القرآن فقط بل يدعون إن هذه البلاغة سبب من الأسباب الكثيرة لكون القرآن كلام الله، وأن القرآن بهذا الاعتبار أيضاً معجزة من المعجزات الكثيرة للنبي ﷺ كما عرفت في الفصل الأول، وستعرف في الباب السادس إن شاء الله تعالى. وهذه المعجزة ظاهرة في هذا الزمان أيضاً لألوف ألوف من أهل اللسان وماهري علم البيان، وعجز المخالفين ثابت من ظهورها إلى هذا الحين وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين من الهجرة، وقد عرفت في الأمر الثاني من الفصل الأول أن قول النظام مردود وما قال أبو موسى الملقب بمزدار راهب المعتزلة من أن الناس قادرون على مثل هذا القرآن فصاحة ونظماً وبلاغة فهو مردود أيضاً كقول النظام، على أن مزدار هذا كان رجلاً مجنوناً استولت على دماغه اليبوسة بسبب كثرة الرياضة فهذى بأمثال هذه الهذيات كثيراً فكان يقول مثلاً إن الله قادر على أن يكذب ويظلم ولو فعل لكان إلهاً كاذباً ظالماً وإن من لابس السلطان كافر لا يرث ولا يورث، وقوله يلزم أن يكون جميع الكتب إلخ غير مسلم، لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي مر ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول، ولم يثبت ادعاء مصنفيها بالإعجاز، ولا عجز فصحاء هذه الألسن عن معارضتها. فإن ادعى أحد هذه الأمور بالنسبة إلى هذه الكتب فعليه الإثبات. وإلا فلا بد أن يمتنع عن مثل هذا الادعاء الباطل.
على أن شهادة بعض المسيحيين في حق الكتب المذكورة بأنها في هذه الألسن مثل القرآن في اللسان العربي في الدرجة العليا من البلاغة غير مقبولة، لأنهم إذا لم يكونوا من أهل اللسان فلا يميزون غالباً في لسان الغير بين المذكر والمؤنث، ولا بين المفرد والتثنية والجمع ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور، فضلاً عن أن يميزوا الأبلغ عن البليغ وعدم تميزهم هذا لا يختص بالعربي، بل فيه وفي العبراني واليوناني واللاطيني على طريقة واحدة، ومنشأ عدم التمييز سذاجة كلامهم سيما إذا كان هذا البعض من أهل إنكلترة فإنهم يشاركون في هذه السذاجة غيرهم من المسيحيين ويمتازون عنهم بعادة أخرى أيضاً، وهي أنهم إذا عرفوا ألفاظاً معدودة من لسان الغير يظنون أنهم تبحروا في المعرفة، وإذا تعلموا مسائل معدودة من علم يعدون أنفسهم من علماء هذا العلم، والفرنساويون واليونانيون طاعنون عليهم في هذه العادة. ويشهد على الدعوى الأولى أن الأب سركيس الهاروني مطران الشام جمع بإذن البابا أربانوس الثامن كثيراً من القسيسين والرهبان والعلماء ومعلمي اللسان العبراني والعربي واليوناني وغيرها ليصلحوا الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة والنقصانات الغزيرة فاجتهدوا في هذا الباب اجتهاداً تاماً في سنة ألف وستمائة وخمس وعشرين من الميلاد فأصلحوا، لكنه لما بقيت بعد الإصلاح التام في تراجمهم النقصانات التي هي لازمة لسجية المسيحيين اعتذروا عنه في المقدمة التي كتبوها في أول تلك الترجمة، وإني أنقل عذرهم عن المقدمة المذكورة بعبارتهم وألفاظهم وهي هذه: (ثم إنك في هذا النقل تجد شيئاً من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضاد لها كالجنس المذكر بدل المؤنث، والعدد المفرد بدل الجمع، والجمع بدل المثنى والرفع مكان الجر والنصب في الاسم والجزم في الفعل وزيادة الحروف عوض الحركات وما يشابه ذلك، فكان سبباً لهذا كله سذاجة كلام المسيحيين فصار لهم نوع تلك اللغة مخصوصاً، ولكن ليس في اللسان العربي فقط، بل في اللاطيني واليوناني والعبراني تغافلت الأنبياء والرسل والآباء الأولون عن قياس الكلام، لأنه لم يرد روح القدس أن نقيد اتساع الكلمة الإلهية بالحدود الضيقة التي حددتها الفرائض فقدم لنا الأسرار السماوية بغير فصاحة وبلاغة) انتهى كلامهم.
ويشهد على الدعوى الثانية أن أبا طالب خان السياح ألف كتاباً باللسان الفارسي سماه بـ (المسير الطالبي) وهو مشتمل على أحوال سياحته، وكتب فيه من حالات كل إقليم ساح فيه ما رأى فيه من المحاسن والذمائم، فكتب محاسن أهل إنكلترة وذمائمهم، وإني أترجم الذميمة الثامنة من كتابه لتعلق الحاجة بها في هذا المقام. قال: (الثامنة) خطؤهم في معرفة حد العلوم ولسان الغير، لأنهم يحسبون أنفسهم عارفي كل لسان ومن أهل كل علم إذا عرفوا ألفاظاً معدودة من ذلك اللسان أو مسائل معدودة من ذلك العلم ويؤلفون الكتب فيهما وينشرون هذه المزخرفات بعد الطبع، ووقفت على هذا المعنى بشهادة الفرنساويين واليونانيين لأن تحصيل ألسنتهم رائج في أهل إنكلترة، وحصل لي اليقين بمشاهدة تصرفاتهم في اللسان الفارسي) انتهى، ثم قال: (اجتمع في لندن الكتب الكثيرة من هذا النوع بحيث كادت تبقى الكتب الحقة بعد برهة من الزمان غير مميزة)، انتهى كلامه. وقولهم على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة إلخ -لا ورود له في حق القرآن، لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر هذه الأمور السبعة والعشرين، ولا تجد آية طويلة فيه تكون خالية من ذكر أمر من هذه الأمور:
(الأول) الصفات الكاملة الإلهية مثل كونه واحداً وقديماً وأزلياً وأبدياً وقادراً وعالماً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً وحكيماً وخبيراً وخالق السماوات والأرض ورحيماً ورحماناً وصبوراً وعادلاً وقدوساً ومحيياً ومميتاً وغيرها. (الثاني) تنزيه الله عن المعايب والنقائص مثل الحدوث والعجز والجهل والظلم وغيرها. (الثالث) الدعوة إلى التوحيد الخالص والمنع عن الشرك مطلقاً وعن التثليث الذي هو شعبة الشرك يقيناً كما علمت في الباب الرابع. (الرابع) ذكر الأنبياء عليهم السلام. (الخامس) تنزيههم عن عبادة الأوثان والكفر وغيرها. (السادس) مدح المؤمنين بالأنبياء. (السابع) ذم منكريهم. (الثامن) تأكيد الإيمان بالأنبياء عموماً وبالمسيح خصوصاً. (التاسع) الوعد بأن المؤمنين يغلبون المنكرين عاقبة الأمر. (العاشر) حقيقة القيامة وجزاء الأعمال في يومها. (الحادي عشر) ذكر الجنة والنار. (الثاني عشر) ذم الدنيا وبيان عدم ثباتها. (الثالث عشر) مدح العقبى وبيان ثباتها. (الرابع عشر) بيان حل الأشياء وحرمتها. (الخامس عشر) بيان أحكام تدبير المنزل. (السادس عشر) بيان أحكام سياسات المدن. (السابع عشر) التحريض على محبة الله وأهل الله. (الثامن عشر) بيان الأشياء التي هي ذريعة الوصول إلى الله. (التاسع عشر) الزجر عن مصاحبة الفجار والفساق. (العشرون) تأكيد خلوص النية في العبادات البدنية والمالية. (الحادي والعشرون) التهديد على الرياء والسمعة. (الثاني والعشرون) التأكيد على تهذيب الأخلاق بالإجمال والتفصيل. (الثالث والعشرون) التهديد على الأخلاق الذميمة بالإجمال. (الرابع والعشرون) مدح الأخلاق الحسنة، مثل الحلم والتواضع والكرم والشجاعة والعفة وغيرها. (الخامس والعشرون) ذم الأخلاق القبيحة مثل الغضب والتكبر والبخل والجبن والظلم وغيرها. (السادس والعشرون) وعظ التقوى. (السابع والعشرون) الترغيب إلى ذكر الله وعبادته، ولا شك أن هذه الأمور محمودة عقلاً ونقلاً، وجاء ذكر هذه الأمور في القرآن مراراً للتأكيد، والتقرير، ولو كانت هذه المضامين قبيحة فأي مضمون يكون حسناً.
نعم لا يوجد في القرآن: -[1] أن النبي الفلاني زنى بابنته. -[2] أو زنى بزوجة الغير وقتله بالحيلة. -[3] أوعبد العجل. -[4] أو ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى المعابد لها. -[5] أو افترى على الله الكذب، وكذب في التبليغ وخدع بكذبه نبياً آخر مسكيناً وألقاه في غضب الرب. -[6] أو أن داود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد ولد الزنا وهو فارض بن يهودا. -[7] أو أن الرسول الأعظم ابن الله البكر أبا الأنبياء زنى ابنه الأكبر بزوجة أبيه. -[8] وابنه الثاني بزوجة ابنه، وسمع هذا النبي العظيم الشأن ما صدر عن ابنيه المحبوبين وما أجرى عليهما الحد، غير أنه دعا على الأكبر وقت موته لأجل هذه الحركة الشنيعة ولم ينقل في حق الآخر الغضب أيضاً، بل دعا له بالبركة التامة عند الموت. -[9] أو أن الرسول العظيم الآخر البكر الثاني أيضاً الزاني بزوجة الغير زنى ابنه الحبيب ببنته الحبيبة وسمع، وما أجرى عليهما الحد لعله امتنع عن الحد لأنه كان مبتلى بالزنا أيضاً في زعمهم، فكيف يجري على الغير سيما على أولاده وهذا القدر مسلم بين اليهود والنصارى ومصرح به في كتب العهد العتيق المسلمة عند الفريقين. -[10] أو أن يحيى عليه السلام الرسول الذي هو أعظم الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه السلام وإن كان الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه بشهادة عيسى عليه السلام أيضاً لم يعرف إلهه الثاني ومرسله الذي هو عيسى باعتبار العلاقة المجهولة معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريداً لعبده هذا وما لم يحصل الاصطباغ منه وما لم ينزل على هذا الإله الثاني الإله الثالث في شكل الحمامة، وبعد ما رأى نزول الثالث على الثاني في الشكل المذكور تذكر أمر الإله الأول الأب أن الإله الثاني هو ربه ومالكه وخالق الأرض والسماوات. -[11] أو أن الرسول الآخر السارق الذي كان عنده الكيس للسرقة أعني يهود الأسخريوطي الذي هو صاحب الكرامات والمعجزات وأحد الحواريين الذين هم أعلى منزلة من موسى بن عمران وسائر الأنبياء الإسرائيلية على زعمهم باع دينه بدنياه بثلاثين درهماً، ورضي بتسليم إلهه بأيدي اليهود على هذه المنفعة القليلة حتى أخذوا إلهه وصلبوه لعل هذه المنفعة كانت عظيمة عنده، لأنه كان صياداً مفلوكاً لصاً، وإن كان رسولاً صاحب معجزات أيضاً على زعمهم فثلاثون درهماً عنده كانت أحب وأعظم رتبة من هذا الإله المصلوب. -[12] أو أن قيافا رئيس الكهنة الذي ثبتت نبوته بشهادة يوحنا الإنجيلي أفتى بقتل إلهه وكذبه وكفره وأهانه ووقع في حق هذا الإله المصلوب ثلاثة أمور عجيبة من ثلاثة أنبياء عدد التثليث أن اعظم أنبيائه الإسرائيلية لم يعرفه معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريداً له ولم ينزل عليه الإله الثالث في شكل الحمامة، وأن نبيه الثاني رضي بتسليمه ورجح منفعة ثلاثين درهماً منزلة ألوهيته ووعده، وأن رسوله الثالث أفتى بقتله وكذبه وكفره أعاذنا الله من أمثال هذه الاعتقادات السوء في حق الأنبياء عليهم السلام. ولا يؤاخذني على ما نقلت هذه المزخرفات على سبيل الإلزام والله ثم بالله لا أعتقد في حق الأنبياء هذه الكذبات وهم بريئون منها، وأقول القدر الذي نقلت من حال يحيى عليه السلام إلى حال قيافا مصرح به في العهد الجديد.
وكذا لا يوجد في القرآن هذه المسائل الفخيمة التي عجزت في أكثرها عقولنا، بل عقول العالم ويعتقدها الفرقة القديمة العظيمة الشأن، أعني فرقة كاثلك التي عددها بحسب ادعاء بعض آبائها في هذا الزمان أيضاً بقدر مائتي مليون. -[1] إن مريم عليها السلام قد حبلت بها أمها بلا قرب الزوج كما انكشفت هذه الحقيقة على البابويين من مدة قريبة. ومثل [2] أن مريم والدة الله حقيقة. ومثل [3] أن كل خبز من الخبزات وإن كانت بمقدار مليونات غير متعددة يستحيل في العشاء الرباني في آن واحد في أمكنة مختلفة إلى المسيح الكامل بلاهوته وناسوته الذي تولد من العذراء إذا فرض أن مليونات من الكهنة في أطراف العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً قدسوا في آن واحد. ومثل [4] أن خبزاً واحداً إذا كسره الكاهن ولو إلى مائة ألف كسرة يصير كل كسرة منه أيضاً مسيحاً كاملاً وإن كان وجود الحبوب ثم الطحن ثم العجن ثم وجود الخبز ثم الكسرة كلها من الحوادث بمشاهدة فتعطل حكم الحبس عندهم في هذه الأمور كلها. ومثل [5] أنه لا بد أن يصطنع الصورة والتماثيل ويسجد قدامهن. ومثل [6] أنه لا خلاص بدون الإيمان بالبابا وإن كان غير صالح في نفس الأمر.
ومثل [7] أن أسقف رومية هو البابا دون غيره وهو رأس الكنيسة ومعصوم من الغلط، وأن [8] كنيسة رومية هي أم الكنائس كلها ومعلمتها. ومثل [9] أن للبابا ولمتعلقيه خزانة من قدر جزيل من استحقاقات القديسين أن يمنحوا الغفرانات سيما إذا استوفوا ثمناً وافياً لأجلها كما هو المروج عندهم. ومثل [10] أن البابا له منصب تحليل الحرام وتحريم الحلال. قال المعلم ميخائيل مشاقة من علماء بروتستنت في الصفحة 66 من كتابه المسمى بأجوبة الإنجيليين على أباطيل التقليديين المطبوع سنة 1852 في بيروت هذا: (والآن تراهم يزوجون العم بابنة أخيه، والخال بابنة أخته، والرجل بامرأة أخيه ذات الأولاد خلافاً لتعليم الكتب المقدسة ولمجامعهم المعصومة. وقد أضحت هذه المحرمات حلالاً عند أخذهم الدراهم عليها، وكم من التحديدات وضعوها على الإكليريكيين بتحريم الزيجة الناموسية المأمور بها من رب الشريعة) انتهى كلامه بلفظه. ثم قال: (وكم حرموا أصناف الأطعمة ثم أباحوا ما حرموه، وفي عصرنا أباحوا أكل اللحوم في صومهم الكبير الذي طالما شددوا بتحريهما فيه) انتهى كلامه بلفظه. وفي الرسالة الثانية من كتاب الثلاث عشرة رسالة في الصفحة 88:
(فرنسيس ذابادلا الكردينال يقول: إن البابا مأذون أن يعمل ما يريد حتى ما لا يحل أيضاً، وهو أكبر من الله سبحان الله عما يصفون) انتهى كلامه بلفظه.
ومثل [11] أن أنفس الصديقين تتوجه إلى العذاب في المطهر وتتقلب في نيرانه حتى يمنحها البابا الغفران أو يخلصها القسوس بقداساتهم بعد استيلائهم على أثمانها، وهو غير جهنم. وأهل هذه يحصلون السندات من نواب البابا وخلفائه لتحصيل النجاة من عذابه. لكن العجب من هؤلاء العقلاء أنهم إذا اشتروا سندات من خليفة الله النافذ أمره في الأرض والسماء فلم لا يطلبون منه وصولات ممضية بختم الذين أعتقهم من العذاب، ولما كانت قدرة الباباوات تزيد يوماً فيوماً بفيض روح القدس اخترع البابا لاون العاشر للمغفرة تذاكر تعطى منه أو من وكيله للمشتري بمغفرة خطاياه الماضية والمستقبلة أيضاً، وكان مكتوباً فيها هكذا: (ربنا يسوع المسيح يرحمك ويعفو عنك باستحقاقات آلامه المقدسة. وبعد فقد وهب لي بقدرة سلطان رسله بطرس وبولس والبابا الجليل في هذه النواحي أن أغفر لك أولاً عيوبك الاكليروسية مهما كانت ثم خطاياك ونقائصك مهما كانت تفوت الإحصاء، بل أيضاً الخطايا المحفوظ حلها للبابا، وبقدر امتداد مفاتيح الكنيسة الرومانية أغفر لك كل العذابات التي سوف تستحقها في المطهر وأردك إلى أسرار الكنيسة المقدسة وإلى اتحادها وإلى ما كنت حاصلاً عليه عند عمادك من العفة والطهارة حتى أنك متى مت تغلق في وجهك أبواب العذابات وتفتح لك أبواب الفردوس وإن لم تمت الآن فهي باقية لك بفاعلية تامة إلى آخر ساعة موتك باسم الأب والابن والروح القدس آمين) كتب بيد الأخ يوحنا تنزل الوكيل الثاني. ومثل [12] أن مسافة جهنم فراغ مكعب في قلب الأرض كل من أضلاعه مائتا ميل. ومثل [13] أن البابا يرسم الصليب على نعليه وغيره على وجهه لعل نعلي البابا ليسا أدون من الصليب ومن وجوه الأساقفة الآخرين. ومثل [14] أن بعض القديسين وجهه كوجه الكلب وجسده كجسد الإنسان، وهو يشفع لهم عند الله. قال المعلم المذكور في الصفحة 114 من كتابه المذكور طاعناً على تلك الفرقة أو الكتابة: (وربما صوروا بعض قديسين على صورة لم يخلق الله مثلها، كتصويرهم رأس كلب على جسم إنسان يسمونه القديس خريسطفورس ويقدمون له أنواع العبادة إذ يلقبونه ويسجدون أمامه ويشعلون له الشموع ويطلقون البخور ويلتمسون شفاعته، فهل يليق بالمسيحيين الاعتقاد بوجود العقل النطقي والقداسة في أدمغة الكلاب؟ أي هي من عصمة كنائسهم من الغلط؟ انتهى كلامه بلفظه.
وهذا القول هل يليق بالمسيحيين الخ صادق يقيناً، وهذا القديس مشابه لبعض قديسي مشركي الهند، ولعل محبة المسيحيين من أهل أوربا للكلاب لأجل كونها على صورة هذا القديس المكرم.
ومثل [15] أن خشبة الصليب وتصاوير الأب الأزلي والابن والروح القدس يسجد لها بالسجود الحقيقي العبادي وأن صور القديسين يسجد لها بالسجود الإكرامي، وإني متحير ما معنى استحقاق الأشياء الأولية للسجود العبادي، لأن تعظيمهم لخشبة الصليب لا يخلو إما أن يكون مثلها قد مس جسد المسيح، وهو ارتفع عليه بحسب زعمهم، وإما لأجل أنها واسطة فداء، وإما لأجل أن دمه سال عليه. فإن كان الأول يلزم أن يكون نوع الحمير معبوداً لهم أعلى من الصليب عندهم، لأن المسيح عليه السلام ركب على الأتان والجحش ومساجد المسيح وكانا موضوعي راحته ودخوله ممجداً إلى أورشليم، والحمار يشارك الإنسان في الجنس القريب والحيوانية، فهو جسم نام حساس متحرك بالإرداة بخلاف الخشب الذي ليست له قدرة الحس والحركة. وإن كان الثاني فيهودا الاسخريوطي الدافع أحق بالتعظيم لأنه الواسطة الأولى والذريعة الكبرى للفداء، فإنه لولا تسليمه لما أمكن لليهود مسك المسيح وصلبه، ولأنه مساوٍ للمسيح عليه السلام في الإنسانية وعلى صورة الإنسان الذي هو صورة الله، وكان ممتلئاً بروح القدس صاحب الكرامات والمعجزات فالعجب أن هذه الواسطة الأولى عندهم ملعونة والصغرى مباركة معظمة. وأما الثالث فلأن الشوك المضفور إكليلاً على رأس المسيح عليه السلام قد فاز أيضاً بالمنصب الأعلى، وهو سيلان الدم عليه فما باله لا يعظم ولا يعبد ويشعل بالنار، وهذا الخشب يعبد إلا أن يقولوا إن هذا سر مثل سر التثليث والاستحالة خارج عن إدراك العقول البشرية وأفحش منه تعظيم صورة أقنوم الأب، لأنك قد عرفت في الأمر الثالث والرابع من مقدمة الباب الرابع أن الله بريء من الشبه وما رآه أحد ولا يقدر أن يراه أحد في الدنيا فإذا كان كذلك فأي أب من آبائهم رآه فصوره؟ ومن أين علموا أن هذه الصورة مطابقة لصورته تعالى وليست مطابقة لصورة شيطان من الشياطين، أو لصورة كافر من الكفار؟ ولم لا تعبدون كل إنسان سواء أكان مسلماً أم كافراً لأن الإنسان على صورة الله بحسب نص التوراة. والعجب أن البابا يسجد لهذه الصورة الوهمية الجمادية التي لا حس ولا حركة لها ويحقر صورة الله التي هي الإنسان ويمد رجله لذلك الإنسان لكي يقبل حذاءه وما ظهر لي فرق بين هؤلاء أهل الكتاب ومشركي الهند وجدت عوامهم كعوامهم وخواصهم كخواصهم في هذه العبادة وعلماء مشركي الهند يقولون مثل قول علمائهم في الاعتذار. ومثل [16] أن البابا هو القاضي الأعلى في الحكم على تفسير معاني الكتب واخترعت هذه العقيدة في الأجيال المتأخرة وإلا لما قدر اكستاين وفم الذهب وغيرهما من القدماء الذين لم يكونوا باباوات ولم يستأذنوهم أن يفسروا جميع الكتب المقدسة من تلقاء أنفسهم، وتفاسيرهم قبلت عند جميع كنائس عصرهم لعل الباباوات حصل لهم هذا القضاء الأعلى بمطالعة تفاسيرهم بعد ما صنفوها. ومثل [17] أن الأساقفة والشمامسة ممنوعون من الزواج، ولذلك يفعلون ما لا يفعله المتزوجون، وقاوم في كثير من الأحيان بعض معلميهم اجتهاد الباباوات فأنقل بعض أقوالهم عن كتاب الثلاث عشرة رسالة في الرسالة الثالثة في الصفحة 144 و 145:
القديس برنردوس يقول - وعظ عدد 66 في نشيد الإنشاد: نزعوا من الكنيسة الزواج المكرم والمضجع الذي هو بلا دنس فملؤها بالزنا في المضاجع مع الذكور والأمهات والأخوات وبكل أنواع الإدناس. والفاروس بيلاجيوس أسقف سلفاً في بلاد البورتكال سنة 1300 يقول: يا ليت إن الأكليروسيين لم يكونوا نذروا العفة ولا سيما أكليروس سبانيا لأن أبناء الرعية هناك أكثر عدداً بيسير من أبناء الكهنوت، ويوحنا أسقف سالتزبرج في الجيل الخامس عشر كتب أنه وجد قسوساً قلائل غير معتادين على نجاسة متكاثرة مع النساء، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا. انتهى كلامه بلفظه ملخصاً. وكيف يعتقد العصمة في حقهم إذا كانوا شابين شاربي الخمر وما نجا روبيل ابن يعقوب عليه السلام فزنى ببلهاء سرية أبيه، ولا يهوذا بن يعقوب عليه السلام فزنى بزوجة ابنه، ولا داود عليه السلام فزنى بزوجة أوريا مع كونه ذا زوجات كثيرة ولا لوط عليه السلام فزنى في حالة خمار الخمر بابنتيه، وهكذا. فإذا كان حال الأنبياء وأبنائهم على عقائدهم هكذا فكيف يرجى منهم العصمة، بل الحق أن الفاروس بيلاجيوس ويوحنا صادقان في أن أبناء الرعية هناك أكثر عدداً بيسير من أبناء الكهنوت، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا.
وأمثال هذه المسائل كثيرة أطوي الكشح عن بيانها خوفاً من التطويل. فأقول:
لعل هذه المضامين العالية التي نقلتها وأمثالها لو وجدوها في القرآن لاعترفوا بأنه كلام الله وقبلوه، لكنهم لما وجدوه خالياً منها ومن أمثالها فكيف يعترفون ويقبلون لأن المضامين الحسنة المألوفة عندهم هي هذه المضامين وأمثالها، لا المضامين التي ذكرت في القرآن. وأما بعض المضامين التي توجد في القرآن في ذكر الجنة والنار وغيرهما ويزعمون أنها قبيحة فأذكرها إن شاء الله تعالى في الشبهة الثالثة بأجوبتها فانتظر.
(الشبهة الثانية) أن القرآن مخالف لكتب العهد العتيق والجديد في مواضع، فلا يكون كلام الله.
والجواب: أولاً - أن هذه الكتب لما لم تثبت أسانيدها المتصلة إلى مصنفيها وكذا لم يثبت أن كل كتاب منها إلهامي قد ثبت أنها مختلفة اختلافاً معنوياً في مواضع كثيرة ومملوءة بالأغلاط الكثيرة يقيناً - كما عرفت هذه الأمور في الباب الأول - وقد ثبت التحريف فيها أيضاً كما عرفت في الباب الثاني فلا تضر مخالفتها القرآن في المواضع المذكورة، بل تكون دليلاً على كون المواضع المذكورة غلطاً أو محرفة في الكتب المذكورة كسائر الأغلاط والتحريفات التي عرفتها في البابين الأولين، وقد عرفت في الأمر الرابع من الفصل الأول من هذا الباب أن هذه المخالفة قصدية لأجل التنبيه على أن ما خالف القرآن غلط أو محرف لا أنها سهوية. (والجواب الثاني) أن المخالفة التي بين القرآن وبين كتب العهدين في ذم القسيسين على ثلاثة أنواع: (الأول) باعتبار الأحكام المنسوخة. (والثاني) باعتبار بعض الحالات التي جاء ذكرها في القرآن لا يوجد ذكرها في العهدين. (والثالث) باعتبار أن بيان بعض الحالات في القرآن يخالف بيان هذه الكتب، ولا مجال لهم أن يطعنوا على القرآن باعتبار هذه الأنواع.
(أما الأول) فلأنك قد عرفت في الباب السادس بما لا مزيد عليه أن النسخ لا يختص بالقرآن، بل وجد في الشرائع السابقة بالكثرة، وأنه لا استحالة فيه، وأن الشريعة العيسوية نسخت جميع أحكام التوراة إلا تسعة أحكام من الأحكام العشرة المشهورة، وقد وقع فيها التكميل أيضاً على زعمهم، والتكميل أيضاً نوع من أنواع النسخ، فصارت هذه الأحكام أيضاً منسوخة بهذا الوجه فبعد ذلك ليس من شأن المسيحي العاقل أن يطعن على القرآن باعتبار هذا النوع.
(وأما الثاني) فهو كالأول أيضاً، وشواهده كثيرة أكتفي منها على ثلاثة عشر شاهداً:
(الشاهد الأول) الآية التاسعة من رسالة يهودا هكذا: (وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس محاجاً عن جسد موسى لم يجسر أن يورد حكم افتراء، بل قال لينتهرك الرب) فمخاصمة ميخائيل إبليس عن جسد موسى لم تذكر في كتاب من كتب العهد العتيق. (الشاهد الثاني) ثم في تلك الرسالة هكذا 14: (وتنبأ عن هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم قائلاً: هو ذا قد جاء الرب في ربوات قديسية) 15 (ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاط فجار) ولا أثر لهذا الخبر أيضاً في كتاب من كتب العهد العتيق. (الشاهد الثالث) الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني عشر من الرسالة العبرانية هكذا: (وكان المنظر هكذا مخيفاً حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد)، وهذا الحال مذكور في الباب التاسع عشر من سفر الخروج، لكن لا توجد فيه ولا في كتاب من كتب العهد العتيق هذه الفقرة: (حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد). )الشاهد الرابع) الآية الثامنة من الباب الثالث من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس هكذا: (وكما قاوم ينيس ويمبريس موسى) إلخ، وهذا الحال مذكور في الباب السابع من سفر الخروج ولا أثر لهذين الاسمين في هذا الباب ولا في باب آخر ولا في كتاب آخر من كتب العهد العتيق. (الشاهد الخامس) الآية السادسة من الباب الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا) ولا يوجد لهذا أثر في إنجيل من الأناجيل الأربعة، ولا في كتاب أعمال الحواريين مع أن لوقا أحرص الناس على تحرير أمثال هذه الأحوال. (الشاهد السادس) في الآية الخامسة والثلاثين من الباب العشرين من كتاب الأعمال هكذا: (متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ)، وهذا القول لا يوجد له أثر في إنجيل من الأناجيل الأربعة.
(الشاهد السابع) الأسماء التي ذكرت في الباب الأول من إنجيل متى بعد زربابل لا توجد في كتاب من كتب العهد العتيق. (الشاهد الثامن) في الباب السابع من كتاب الأعمال هكذا: 23 (ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته بني إسرائيل). 24: (وإذا رأى واحداً مظلوماً حامى عنه وأنصف المغلوب إذ قتل المصري). 25: (فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا). 26: (وفي اليوم الثاني ظهر لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى السلامة قائلاً: أيها الرجال أنتم أخوة لماذا تظلمون بعضكم بعضاً) 27: (فالذي كان يظلم قريبه دفعه قائلاً: من أقامك رئيساً وقاضياً علينا) 28: (أتريد أن تقتلني كما قتلت أمس المصري)، وهذا الحال مذكور في الباب الثاني من كتاب الخروج، لكن بعض الأشياء ذكرت في كتاب الأعمال وما جاء ذكرها في كتاب الخروج، وعبارة الخروج هكذا: 11- وفي تلك الأيام لما شب موسى خرج إلى إخوته وأبصر تعبدهم ورأى رجلاً من أهل مصر يضرب رجلاً من إخوته العبرانيين). 12: (فالتفت إلى الجانبين فلم ير أحداً. فقتل المصري ودفنه في الرمل) 13: (وأنه خرج من اليوم الثاني ونظر إلى رجلين عبرانيين يختصمان فقال للظالم منهما: لم تضرب صاحبك؟). 14: (فقال له ذلك الرجل: من جعلك سلطاناً علينا أو قاضياً لعلك تريد قتلي كما بالأمس قتلت المصري). (الشاهد التاسع) الآية السادسة من رسالة يهودا هكذا: (والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام). (الشاهد العاشر) في الآية الرابعة من الباب الثاني من الرسالة الثانية لبطرس: (الله لم يشفق على ملائكة قد أخطئوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء) وهذا الحال الذي نقله بطرس ويهودا الحواريان لا يوجد في كتاب من كتب العهد العتيق، بل الظاهر أنه كاذب لأن المراد بهؤلاء الملائكة المحبوسين الشياطين، والشياطين ليسوا بمحبوسين بقيود أبدية كما يشهد عليه الباب الأول من كتاب أيوب والآية الثانية عشرة من الباب الأول من إنجيل مرقس، والآية الثامنة من الباب الخامس من الرسالة الأولى لبطرس وغيرها من الآيات. (الشاهد الحادي عشر) الآية الثامنة عشرة من الزبور المائة والرابع على وفق الترجمة العربية، ومن الزبور المائة والخامس على وفق التراجم الأخر هكذا: (وذلت بالقيود رجلاه وبالحديد عبرت نفسه) وحال كون يوسف مسجوننا مذكور في الباب التاسع والثلاثين من سفر التكوين وليس ذلت رجليه بالقيود وعبرت نفسه بالحديد مذكورين فيه، ولا يلزم هذان الأمران للمسجون وإن كانا غالبين. ( الشاهد الثاني عشر) في الآية الرابعة من الباب الثاني عشر من كتاب هوشع هكذا: (وغلب الملاك وتقوى وبكى وسأله) إلخ وحال مصارعة الملك يعقوب مذكور في الباب الثاني والثلاثين من سفر التكوين ولا يوجد فيه بكاء يعقوب. (الشاهد الثالث عشر) يوجد في الإنجيل ذكر الجنة والجحيم والقيامة وجزاء الأعمال فيها وإن كان بالإجمال، ولا أثر لهذا في الكتب الخمسة لموسى، بل لا يوجد فيها سوى المواعيد الدنيوية للمطيعين والتهديدات الدنيوية للعاصين.
وهكذا توجد مواضع كثيرة. فظهر مما ذكرنا أنه إذا ذكر بعض الأحوال في كتاب ولا يوجد ذكره في الكتاب المتقدم لا يلزم منه تكذيب الكتاب المتأخر وإلا يلزم أن يكون الإنجيل كاذباً لاشتماله على الحالات التي لم تذكر في التوراة ولا في كتاب آخر من كتب العهد العتيق. فالحق أن الكتاب المتقدم لا يلزم أن يكون مشتملاً على الحالات كلها. ألا ترى أن أسماء جميع أولاد آدم وشيث وأنوس وغيرهم وكذا أحوالهم ليست مذكورة في التوراة؟ وفي تفسير دوالي ورجردمييت ذيل شرح الآية الخامسة والعشرين من الباب الرابع عشر من سفر الملوك الثاني هكذا: (لا يوجد ذكر هذا الرسول يونس إلا في هذه الآية). وفي البلاغ المشهور الذي كان إلى أهل نينوى: (ولا يوجد في كتاب من الكتب إخباراته عن الحوادث الآتية التي جرأ بها يوربعام السلطان على محاربة سلاطين السريا وسببه ليس منحصراً في أن الكتب الكثيرة للأنبياء لا توجد عندنا، بل سببه هذا أيضاً أن الأنبياء لم يكتبوا كثيراً من أخبارهم عن الحوادث الآتية) انتهى. فهذا القول يدل صراحة على ما قلت، والآية الثلاثون من الباب العشرين من إنجيل يوحنا هكذا: (وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب) والآية الخامسة والعشرون من الباب الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا هكذا: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة). وهذا الكلام وإن لم يخل من المبالغة الشاعرية، لكنه لا شك يفيد أن جميع حالات عيسى عليه السلام ما كتبت، فالطاعن باعتبار النوع الثاني على القرآن حاله كحال الطاعن باعتبار النوع الأول بلا تفاوت.
(وأما النوع الثالث) فلأن مثل هذه الاختلافات توجد بين كتب العهد العتيق بعضها مع بعض وبين الأناجيل بعضها مع بعض وبين الإنجيل والعهد العتيق، كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول. وتوجد في النسخ الثلاث للتوراة، أعني العبرانية واليونانية والسامرية، وقد حصل لك الاطلاع على بعض الاختلافات أيضاً في الباب الثاني، لكن القسيسين من عادتهم أنهم يغلطون عوام المسلمين في كثير من الأوقات بهذه الشبهة فالأنسب أن أذكر بعض هذه الاختلافات ولا أخاف من التطويل اليسير لأنه لا يخلو من الفائدة المهمة. (الاختلاف الأول) أن الزمان من خلق آدم إلى زمن الطوفان باعتبار العبرانية ألف وستمائة وست وخمسون سنة [1656] وباعتبار اليونانية ألفان ومائتان واثنتان وستون سنة [2262] وعلى وفق السامرية ألف وثلثمائة وسبع سنين [1307]. (الاختلاف الثاني) أن الزمان من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام باعتبار العبرانية مائتان واثنتان وتسعون سنة [292] وباعتبار اليونانية ألف واثنتان وسبعون سنة [1072] وباعتبار السامرية تسعمائة واثنتان وأربعون سنة [942]. (الاختلاف الثالث) يوجد في النسخة اليونانية بين أرفخشد وشالح بطن واحد، هو قينان، ولا يوجد في العبرانية والسامرية ولا في السفر الأول من أخبار الأيام، وفي تاريخ يوسيفس، لكن لوقا الإنجيلي اعتمد على اليونانية فزاد قينان في بيان نسب المسيح فيجب على المسيحيين أن يعتقدوا صحة اليونانية وكون غيرها غلطاً لئلا يلزم كذب إنجيلهم.
(الاختلاف الرابع) أن موضع بناء الهيكل أعني المسجد باعتبار العبرانية جبل عيبال، وباعتبار السامرية جبل جرزيم، وقد عرفت حال هذه الاختلافات في الباب الثاني فلا أطول الكلام في توضيحها. (الاختلاف الخامس) إن الزمان من خلق آدم إلى ميلاد المسيح باعتبار العبرانية [4004] وباعتبار اليونانية [5872] وباعتبار السامرية [4700] وفي المجلد الأول من تفسير هنري واسكات (أن اهليز أخذ التاريخ بعد تصحيح أغلاط يوسيفس واليونانية وعلى تحقيقه من خلق العالم إلى ميلاد المسيح [5411] ومن الطوفان إلى الميلاد [3155] انتهى. وجارلس روجر في كتابه الذي قابل فيه التراجم الإنجليزية نقل خمسة وعشرين قولاً من أقوال المؤرخين في بيان المدة التي من خلق العالم إلى ميلاد المسيح وإلى سنة ألف وثمانمائة وسبع وأربعين، ثم اعترف أنه لا يطابق قولان منها أو أن تمييز الصحيح عن الغلط محال، وأنا أنقل ترجمة كلامه وأكتفي ببيانها إلى ميلاد المسيح لأن المدة التي بعدها لا اختلاف فيها للمؤرخين فلا حاجة إلى نقل الغاية الأخرى.
أسماء المؤرخين | المدة التي من خلق آدم إلى ميلاد المسيح |
---|---|
[1] ماريانوس سكونوس | 4192 |
[2] لارنت يوس كودومانوس | 4141 |
[3] توماليديت | 4103 |
[4] ميكائيل مستلي نوس | 4079 |
[5]جي بابتست رك كيولس | 4062 |
[6] جيكب سليانوس | 4053 |
[7]هنري كوس بوندانوس | 4051 |
[7] وليم لينك | 4041 |
[9] ارازمس ربن هولت | 4021 |
[10] جيكوبوس كيبالوس | 4005 |
[11]أرج بشب أشر | 4003 |
[12]ديوني سيوس بتاويوس | 4983 |
[13] بشب بك | 3973 |
[14] كرن زيم | 3971 |
[15] ايلي اس ريوس نيروس | 3970 |
[16]جوهانيس كلاوريوس | 3968 |
[17] كرستيانوس لونكرمونتانوس | 3966 |
[18]فلب ملاتختون | 3964 |
[19]جيكب هين لي نوس | 3963 |
[20] الفون سوس سال مرون | 3958 |
[21] إسكي ليكر | 3949 |
[22]ميتهيوس برول ديوس | 3927 |
[23] اندرياس هل وي كيوس | 2836 |
[24]الرواج العام لليهود | 3760 |
[25]الرواج العام للمسيحيين | 4004 |
(ولا يطابق قولان من هذه الأقوال، ومن لم يتأمل في هذا الأمر في حين من الأحيان يفهم أن هذا الأمر العجيب في غاية الإشكال، لكن الظاهر أن المؤرخين المقدسين لم يريدوا في حين من الأحيان أن يكتبوا التاريخ بالنظم ولا يمكن الآن لأحد أن يعلم العدد الصحيح) انتهى كلام جارلس روجر. فظهر من كلامه أن معرفة الصحيح الآن محال جداً، وأن المؤرخين من أهل العهد العتيق أيضاً كتبوا ما كتبوا رجماً بالغيب، وأن الرائج العام في اليهود يخالف الرائج العام في المسيحيين، فأنصف أيها اللبيب، إنه لو فهمت مخالفة القرآن المجيد لتاريخ من تواريخهم المقدسة التي حالها كما عرفت، لا تشك لأجل هذه المخالفة في القرآن، لا والله بل نقول إن مقدسيهم غلطوا وكتبوا ما كتبوا سيما إذا لاحظنا تواريخ العالم جزمنا أن تحرير مقدسيهم في أمثال هذه الأمور ليس له إلا رتبة الظن والتخمين، ولذلك لا نعتمد على هذه الأقوال الضعيفة.
قال العلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في المجلد الأول من تاريخه، ناقلاً عن الفقيه الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم:
(وأما نحن - يعني أهل الإسلام - فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل، فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله ﷺ فيه لفظة تصح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا الله تعالى قال الله تعالى: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} وقال رسول الله ﷺ: (ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض)، وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكثر علم أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا الله تعالى) انتهى كلامه بلفظه، وهو مختار الفقير أيضاً والعلم التام عند الله وهو أعلم.
(الاختلاف السادس) أن الحكم الحادي عشر الزائد على الأحكام العشرة المشهورة يوجد في السامرية ولا يوجد في العبرانية. (الاختلاف السابع) الآية الأربعون من الباب الثاني عشر من سفر الخروج في العبرانية هكذا: (فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة) وفي السامرية واليونانية هكذا: (فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل وآباؤهم وأجدادهم في أرض كنعان وأرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة) والصحيح ما فيهما وما في العبرانية غلط يقيناً. (الاختلاف الثامن) في الآية الثامنة من الباب الرابع من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (وقال قائين لهابيل أخيه ولما صار في الحقل) وفي السامرية واليونانية هكذا: (وقال قائين لهابيل أخيه تعال نخرج إلى الحقل ولما صارا في الحقل) والصحيح ما فيهما عند محققيهم. (الاختلاف التاسع) في الآية السابعة عشرة من الباب السابع من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (وصار الطوفان أربعين يوماً على الأرض). وفي اليونانية هكذا: (وصار الطوفان أربعين يوماً وليلة على الأرض) والصحيح ما في اليونانية. (الاختلاف العاشر) في الآية الثامنة من الباب التاسع والعشرين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (حتى تجتمع الماشية). وفي السامرية واليونانية وكني كات والترجمة العربية لهيوبي كينت هكذا: (حتى تجتمع الرعاة). والصحيح ما في هذه الكتب لا ما في العبرانية. (الاختلاف الحادي عشر) في الآية الثانية والعشرين من الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (وضاجع بلها سرية أبيه فسمع إسرائيل) وفي اليونانية هكذا: (وضاجع بلها سرية أبيه فسمع إسرائيل وكان قبيحاً في نظره) والصحيح ما في اليونانية.
(الاختلاف الثاني عشر) في أول الآية الخامسة من الباب الرابع والأربعين من سفر التكوين توجد في اليونانية هذه الجملة: (لما سرقتم صواعي) ولا توجد في العبرانية والصحيح ما في اليونانية. (الاختلاف الثالث عشر) في الآية الخامسة والعشرين من الباب الخمسين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (فاذهبوا بعظامي من ههنا) وفي اليونانية والسامرية هكذا: (فاذهبوا بعظامي من ههنا معكم). (الاختلاف الرابع عشر) في آخر الآية الثانية والعشرين من الباب الثاني من سفر الخروج في اليونانية هذه العبارة: (وولدت أيضاً غلاماً ثانياً ودعا اسمه العازار فقال من أجل أن إله أبي أعانني وخلصني من سيف فرعون) ولا توجد في العبرانية، والصحيح ما في اليونانية وأدخلها مترجمو العربية في تراجمهم. (الاختلاف الخامس عشر) في الآية العشرين من الباب السادس من سفر الخروج في العبرانية هكذا: (فولدت له هارون وموسى) وفي السامرية واليونانية هكذا: (فولدت له هارون وموسى ومريم أختهما) والصحيح ما فيهما. (الاختلاف السادس عشر) توجد في آخر الآية السادسة من الباب العاشر من سفر العدد في الترجمة اليونانية هذه العبارة: (وإذا نفخوا مرة ثالثة ترفع الخيام الغربية للارتحال، وإذا نفخوا مرة رابعة ترفع الخيام الشمالية للارتحال) ولا توجد في العبرانية والصحيح ما في اليونانية. (الاختلاف السابع عشر) توجد في النسخة السامرية في الباب العاشر من سفر العدد ما بين الآية العاشرة والحادية عشرة هذه العبارة: (قال الرب مخاطباً لموسى: إنكم جلستم في هذا الجبل كثيراً فارجعوا وهلموا إلى جبل الأمورانيين وما يليه إلى العرباء وإلى أماكن الطور والأسفل قبالة التيمن وإلى شط البحر أرض الكنعانيين ولبنان وإلى النهر الأكبر نهر الفرات هو ذا أعطيتكم الأرض فادخلوا ورثوا الأرض التي خلف الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه سيعطيكم إياها ولخلفكم من بعدكم) انتهت. ولا توجد هذه العبارة في العبرانية. قال المفسر هارسلي في الصفحة 161 من المجلد الأول من تفسيره: (توجد في النسخة السامرية ما بين الآية العاشرة والحادية عشرة من الباب العاشر من سفر العدد العبارة التي توجد في الآية السادسة والسابعة والثامنة من الباب الأول من سفر الاستثناء، وظهر هذا الأمر في عهد بروكوبيس).
(الاختلاف الثامن عشر) في الباب العاشر من الاستثناء في العبرانية هكذا: 6: (ثم ارتحل بنو إسرائيل من بيروت بني يعقن إلى موشرا ومات هناك هارون وقبر هناك ثم حبر بعده العازار ابنه) 7: (ومن ثم أتوا إلى غدغادوا وارتحلوا من هناك وحلوا في يطبشا أرض المياه والسواقي) 8: (في ذلك الزمان اعتزل سبط لاوى ليحمل التابوت الذي فيه ميثاق الرب ويقوم قدامه في الخدمة ويبارك باسمه حتى إلى هذا اليوم).
وهذه العبارة تخالف عبارة الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد في تفصيل المراحل. وتوجد في السامرية في كتاب الاستثناء أيضاً العبارة التي في سفر العدد وعبارة سفر العدد هكذا: 30: (وارتحلوا من حشمونا وأتوا مشروت) 31: (ومن مشروت نزلوا في بني عقان) 32: (وارتحلوا من بني عقان وأتوا جبل جد جاد) 33: (وارتحلوا من ثم ونزلوا في يطبث) 34: (ومن يطبث أتوا عفرونا) 35: (وارتحلوا من عفرونا ونزلوا في عصينجير) 36: (وارتحلوا من ثم وأتوا برية سين، فهذه هي قادس) 37: (وارتحلوا من قادس في هور الطور الذي في أقصى أرض أدوم) 38: (ثم صعد هارون الحبر إلى هور الجبل عن أمر الرب فمات هناك في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الخامس في اليوم الأول من الشهر) 39: (وهارون يومئذ ابن مائة وثلاث وعشرون سنة) 40: (وسمع الكنعاني ملك غارد الذي كان يسكن التيمن في أرض كنعان أن جاء بنو إسرائيل) 41: (ثم ارتحلوا من هور الطور ونزلوا في صلمونا) 42: (وارتحلوا من ثم وأتوا فينون) الخ. ونقل آدم كلارك في الصفحة 779 و 780 من المجلد الأول من تفسيره في شرح الباب العاشر من كتاب الاستثناء تقرير كني كات في غاية الإطناب وخلاصته: (أن عبارة المتن السامري صحيحة، وعبارة العبري غلط وأربع آيات ما بين الآية الخامسة والعاشرة أعني الآية السادسة إلى التاسعة ههنا أجنبية محضة لو أسقطت ارتبط جميع العبارة ارتباطاً حسناً، فهذه الآيات الأربع كتبت من غلط الكاتب ههنا وكانت من الباب الثاني من كتاب الاستثناء) انتهى. وبعد نقل هذا التقرير أظهر رضاه عليه وقال: (لا يعجل في إنكار هذا التقرير). أقول يدل على إلحاقية الآيات الأربع في الجملة الأخيرة التي توجد في آخر الآية الثامنة.
(الاختلاف التاسع عشر) الآية الخامسة من الباب الثاني والثلاثين من كتاب الاستثناء في العبرانية هكذا: (هم أخرجوا نفوسهم. عيبهم ليس عيباً يكون على أبنائه هم الجيل الأعوج المتعسف) وفي اليونانية والسامرية هكذا: (أخربوهم ليسوا له هم أبناء الغلط والعيب) وفي تفسير هنري واسكات (هذه العبارة أقرب إلى الأصل) انتهى. وقال المفسر هارسلي في الصفحة 215 من المجلد الأول هكذا: (فلتقرأ هذه الآية على وفق السامرية واليونانية وهينولي كينت وكني كات والمتن العبري محرف ههنا) انتهى، وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1831 وسنة 1844 وسنة 1848 هكذا: (أخطوا إليه، وهو بريء من أبناء القبائح أيها الجيل الأعوج المتلوي).
(الاختلاف العشرون) الآية الثانية من الباب العشرين من سفر التكوين في العبرانية هكذا: (قال عن سارة امرأته إنها أختي ووجه أبي ملك جراراً وأخذها). وفي تفسير هنري واسكات أن هذه الآية في اليونانية هكذا: (وقال عن سارة امرأته أنها أختي لأنه كان خائفاً من أن يقول إنها امرأته ظاناً أن أهل البلدة يقتلونه بسببها فوجه أبي ملك سلطان فلسطين أناساً وأخذها) انتهى. فهذه العبارة: (لأنه كان خائفاً من أن يقول إنها امرأته ظاناً أن أهل البلدة يقتلونه بسببها). لا توجد في العبرانية.
(الاختلاف الحادي والعشرون) توجد في الباب الثلاثين من سفر التكوين بعد الآية السادسة والثلاثين هذه العبارة في السامرية: (وقال ملك الرب ليعقوب: يا يعقوب، فقال لبيك. قال الملك ارفع طرفك وانظر إلى التيوس والفحول التي تضرب النعاج والمعز فإنهم بلقاء ومثمرة ومنقطة فقد رأيت ما فعل بك لابان، أنا إله بيت ايل حيث مسحت قائمة الحجر ونذرت لي نذراً والآن قم فاخرج من هذه الأرض إلى أرض ميلادك) ولا توجد في العبرانية.
(الاختلاف الثاني والعشرون) توجد بعد الجملة الأولى من الآية الثالثة من الباب الحادي عشر من سفر الخروج هذه العبارة في النسخة السامرية: (وقال موسى لفرعون الرب يقول إسرائيل ابني، بل بكري، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني وأنت أبيت أن تطلقه، ها أنا ذا سأقتل ابنك بكرك) ولا توجد في العبرانية.
(الاختلاف الثالث والعشرون) الآية السابعة من الباب الرابع والعشرين من سفر العدد في العبرانية هكذا: (يجري الماء من دلوه وذريته بماء كثير فيتعالى من أجاج ملكه وترفع مملكته) وفي اليونانية: (ويظهر منه إنسان وهو يحكم على الأقوام الكثيرة وتكون مملكته أعظم من مملكة أجاج وترتفع مملكته).
(الاختلاف الرابع والعشرون) توجد في الآية الحادية والعشرين من الباب التاسع من سفر الأحبار في العبرانية هذه الجملة: (كما أمر موسى) وتوجد بدلها في اليونانية والسامرية هذه الجملة: (كما أمر الرب موسى).
(الاختلاف الخامس والعشرون) الآية العاشرة من الباب السادس والعشرين من سفر العدد في العبرانية هكذا: (ففتحت الأرض فاها وابتلعت قورح في موت الجماعة مع المائتين والخمسين الذين أحرقتهم النار وكانت آية عظيمة)، وفي السامرية هكذا: (وابتلعتهم الأرض ولما ماتت الجماعة وأحرقت النار قورح مع المائتين والخمسين فصار عبرة) وفي تفسير هنري واسكات: (إن هذه العبارة مناسبة للسياق والآية السابعة عشرة من الزبور المائة والسادس) انتهى.
(الاختلاف السادس والعشرون) استخرج محققهم المشهور ليكلرك اختلافات بين السامرية والعبرانية وقسمها إلى ستة أقسام:
(القسم الأول) الاختلافات التي فيها السامرية أصح من العبرانية وهي أحد عشر اختلافاً.
(والقسم الثاني) الاختلافات التي تقتضي القرينة والسياق فيها صحة ما في السامرية وهي سبعة اختلافات.
(والقسم الثالث) الاختلافات التي توجد فيها زيادة في السامرية وهي ثلاثة عشر اختلافاً.
(والقسم الرابع) الاختلافات التي فيها حرفت السامرية والمحرف محقق فطن، وهي سبعة عشر اختلافاً.
(والقسم الخامس) الاختلافات التي فيها السامرية ألطف مضموناً وهي عشرة اختلافات.
(والقسم السادس) الاختلافات التي فيها السامرية ناقصة، وهما اختلافان. وتفصيل الاختلافات المذكورة هكذا:
القسم الأول : أحد عشر اختلافا
القسم الثاني: سبعة اختلافات
في سفر التكوين 9 درس 4 باب 2 و 3 باب 7 و 19 باب 19 و 2 باب 20 و 16 باب 23 و 14 باب 34 و 10 و 11 باب 49 باب 50
في سفر الخروج 2 2 باب 1 و2 باب 4
في سفر التكوين 6 49 باب 31 و 26 باب 35 و 17 باب 37 و 34 و 43 باب 41 و 3 باب 47
في سفر الاستثناء 1 5 باب 32
القسم الثالث: ثلاثة عشر اختلافا
القسم الرابع: سبعة عشر اختلافا
في سفر التكوين 3 15 باب 29 و 36 باب 30 و16 باب 41
في سفر الأحبار 2 10 باب 1 و4 باب 17
في سفر الخروج 7 18 باب 7 و 23 باب 8 و 5 باب 9 و 20 باب 21 و 5 باب 22 و 10 باب 32 و 9 باب32
في سفر الاستثناء 1 21 باب 5
في سفر التكوين 13 2 باب 2 و 10 باب 4 و 5 باب 9 و 19 باب 10 و 21 باب 11 و 3 باب 18 و 12 باب 19 و 16 باب 20 و 38 و 55 باب 24 و 7 باب 35 و 6 باب 36 و 50 باب 31
في سفر الخروج 3 باب 5 و 6 باب 13 و 5 باب 15
في سفر العدد 1 32 باب 22
القسم الخامس: عشرة اختلافات
القسم السادس: اختلافان
في سفر التكوين 6 8 باب 5 و 31 باب 11 و 9 باب 19 و 34 باب 27 و 3 باب 39 و 25 باب 43
في سفر العدد 1 14 باب 4
في سفر الخروج 2 40 باب 12 و 17 باب 40
في سفر الاستثناء1 16 باب 20
في سفر التكوين 2 16 باب 20 و 13 باب 25
قال محققهم المشهور هورن في المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة 1822: (إن المحقق المشهور ليكلرك قابل العبرانية بالسامرية بالجد والتدقيق واستخراج هذه المواضع، وفي هذه المواضع للسامرية بالنسبة إلى العبرانية نوع صحة) انتهى.
ولا يظن أحد انحصار مواضع المخالفة بين العبرانية والسامرية في الستين على ما حقق ليكلرك، لأن الاختلاف الرابع والثامن والعاشر والخامس عشر والسابع عشر والثامن عشر والثاني والعشرين والرابع والعشرين والخامس والعشرين ليست بداخلة في هذه الستين، بل مقصود ليكلرك ضبط المواضع التي فيها مخالفة كثيرة بين النسختين عنده، ولم يدخل في هذه الستين مما ذكرت إلا أربعة اختلافات، فإذا أخذنا جميع الاختلافات المذكورة في الشواهد الستة والعشرين بعد إسقاط المشترك صار اثنين وثمانين شاهداً من الاختلافات التي بين النسخ الثلاث للتوراة، فأكتفي عليها ولا أذكر الاختلافات التي بين العبرانية واليونانية بالنسبة إلى الكتب الأخرى من العهد العتيق خوفاً من التطويل، وهذا القدر يكفي اللبيب. وظهر أن قول الطاعن باعتبار النوع الثالث أيضاً ساقط عن الاعتبار بمثل سقوطه باعتبار النوعين الأولين.
(الشبهة الثالثة) يوجد في القرآن أن الهداية والضلال من جانب الله تعالى، وأن الجنة مشتملة على الأنهار والحور والقصور، وأن الجهاد على الكفار مأمور به وهذه المضامين قبيحة تدل على أن القرآن ليس كلام الله، وهذه الشبهة أيضاً من أقوى شبههم قلما تخلو رسالة من رسائلهم تكون في رد أهل الإسلام ولا توجد فيها هذه الشبهة، ولهم في بيانها على قدر اختلاف أذهانهم تقريرات عجيبة يتحير الناظر من تعصباتهم بعد ملاحظة هذه التقريرات.
(أقول) في الجواب عن الأمر الأول أنه قد وقع في مواضع من كتبهم المقدسة أمثال هذا المضمون فيلزم عليهم أن يقولوا إن كتبهم المقدسة ليست من جانب الله يقيناً، وأنا أنقل بعض الآيات عنها ليظهر الحال للناظر - الآية الحادية والعشرون من الباب الرابع من سفر الخروج هكذا: (وقال له الرب وهو راجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي وضعتها بيدك أعملها قدام فرعون فأنا أقسي قلبه فلا يطلق الشعب).
ثم قول الله في الآية الثالثة من الباب السابع من سفر الخروج هكذا: (إني أقسي قلب فرعون وأكثر آياتي وعجائبي في أرض مصر) وفي الباب العاشر من سفر الخروج هكذا: 1: (وقال الرب لموسى ادخل عند فرعون لأني قسيت قلبه وقلوب عبيده لكي أصنع به آياتي هذه) 20: (وقسى الرب قلب فرعون ولم يطلق بني إسرائيل) 27: (فقسى الرب قلب فرعون ولم يشأ أن يرسلهم) وفي الآية العاشرة من الباب الحادي عشر من سفر الخروج هكذا: (وقسى الرب قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل من أرضه) فظهر من هذه الآيات أن الله كان قد قسى قلوب فرعون وعبيده لتكثير معجزات موسى عليه السلام في أرض مصر.
والآية الرابعة من الباب التاسع والعشرين من كتاب الاستثناء هكذا: (ولم يعطيكم الرب قلباً فهيماً ولا عيوناً تنظرون بها ولا آذاناً تسمعون بها حتى اليوم). والآية العاشرة من الباب السادس من كتاب أشعيا هكذا: (أعم قلب هذا الشعب وثقل آذانه وغمض عيونه لئلا يبصر بعينه ويسمع بأذنه ويفهم بقلبه ويتوب فأشفيه). والآية الثامنة من الباب الحادي عشر من الرسالة الرومية هكذا: (كما هو مكتوب أعطاهم الله روح سبات وعيوناً لا يبصرون بها وآذاناً لا يسمعون بها حتى اليوم).
وفي الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (لم يقدروا أن يؤمنوا لأن أشعيا قال أيضاً قد عمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم) فعلم من التوراة وكتاب أشعيا والإنجيل أن الله أعمى عيون بني إسرائيل وأغلظ قلوبهم وأثقل آذانهم لئلا يتوبوا فيشفيهم فلذلك لا يبصرون الحق ولا يتفكرون فيه ولا يسمعونه، ولا يزيد معنى ختم الله على القلوب والسمع على هذا. والآية السابعة عشرة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1671 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا: (لماذا أضللتنا يا رب عن طرقك أقسيت قلوبنا أن لا نخشاك فالتفت بسبب عبيدك سبط ميراثك).
والآية التاسعة من الباب الرابع عشر من كتاب حزقيال في التراجم المسطورة هكذا: (والنبي إذا ضل وتكلم بكلام فأنا الرب أضللت ذلك النبي وأمد يدي عليه وأهلكه من بين شعبي إسرائيل) فوقع في كلام أشعيا صراحة: (أضللتنا يا رب وأقسيت قلوبنا) وفي كلام حزقيال: (أنا الرب أضللت ذلك النبي).
وفي الباب الثاني والعشرين من سفر الملوك الأول هكذا: 19: (ثم قال ميخا أيضاً من أجل هذا فاسمع قول الرب: رأيت الرب جالساً على كرسيه وجميع أجناد السماء قياماً حوله عن يمينه وعن شماله) 20: (فقال الرب من يخدع أخاب ملك إسرائيل فيصعد ليسقط تراموث جلعاد وقال بعضهم قولاً وقال بعضهم قولاً أخر) 21: (فخرج روح وقام قدام الرب وقال أنا أخدعه فقال له الرب بماذا) 22: (فقال أنا أخرج فأكون روح ضلالة في أفواه جميع أنبيائه، فقال له الرب تخدع وتقدر على ذلك اخرج وافعل وكذلك) 23: (والآن قد جعل الرب روح ضلالة في أفواه جميع أنبيائك) وكانوا نحو أربعمائة (هؤلاء والرب قال عليك بالشر) وهذه الرواية صريحة في أن الله تعالى يجلس على كرسيه وينعقد عنده محفل المشاورة للاغواء والخدع (كما ينعقد محفل بارلمنت في لندن لأجل بعض أمور السلطنة) فيحضر جميع أجناد السماء، فبعد المشاورة يرسل روح الضلالة فيقع هذا الروح في الأفواه ويضل الناس. فانظر أيها اللبيب إذا كان الله وأجناد السماء يريدون إغواء الإنسان فكيف ينجو الإنسان الضعيف، وههنا عجب آخر وهو أن الله شاور وأرسل روح الضلالة بعد المشاورة ليخدع أخاب فكيف أظهر ميخا الرسول سر محفل الشورى ونبه أخاب عليه.
وفي الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هكذا: 11: (ولأجل هذا) أي لعدم قبولهم محبة الحق (سيرسل إليهم عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب) 34: (لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم). فمقدسهم ينادي أن الله يرسل إلى الهالكين عمل الضلال أولاً فيصدقون الكذب فيدينهم، وإذا فرغ المسيح عليه السلام من توبيخ المدن التي لم يتب أهلها فقال: (أحمدك أيها الأب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الأب لأن هكذا صارت المسرة أمامك) كما هو مصرح في الباب الحادي عشر من إنجيل متى، فالمسيح عليه السلام يصرح بأن الله أخفى الحق عن الحكماء فأظهره للأطفال ويحمد على هذا الأمر ويقول وكان رضا الله هكذا، والآية السابعة من الباب الخامس والأربعين من كتاب أشعيا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1671 وسنة 1831 هكذا: (المصور النور والخالق الظلمة الصانع السلام والخالق الشر أنا الرب الصانع هذه جميعها).
وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838 هكذا: (سازنده نور وافر يننده تاريكي منم صلح دهنده وظاهر كننده شر منكه خداوندم ابن همه أشيار بوجود مي آرام) وفي الآية الثامنة والثلاثين من الباب الثالث من مراثي أرمياء هكذا: (أمن فم الرب لا يخرج الشر والخير) وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838: (آياخير وشرازدهان خداصادر نمي شود) والاستفهام إنكاري والمراد أن الخير والشر كلاهما يصدران عن الله تعالى. وفي الآية الثانية عشرة من الباب الأول من كتاب ميخا في التراجم المذكورة هكذا: فإن الشر نزل من قبل الرب إلى باب أورشليم). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838: (أما هربدي بردر وازه أورشليم أزخد أوندنازل شد) فظهر أن خالق الشر هو الله تعالى كما هو خالق الخير. وفي الباب الثامن من الرسالة الرومية هكذا: 29: (لأن الذين عرفهم بسبق علم قصدهم أن يكونوا شركاء لشبه ابنه ليكون هو بكر الأخوة كثيرين) 30: (والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً) الخ وفي الباب التاسع من الرسالة المذكورة 11: (وهما لم يولدا بعد ولا فعلاً خيراً وشراً لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو) 12: (قيل لها إن الكبير يستعبد للصغير) 13: (كما هو مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو) 14: (فإذا نقول ألعل عند الله ظلماً حاشا) 15: (لأنه يقول لموسى ارحم من أرحم وترأف على من أترأف) 16: (فإذن ليس لمن يشأ ولا لمن يسعى بل الله الذي يرحم) 17: (لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي ولكي ينادي باسمي في كل الأرض) 18: (فإذن هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء) 19: (فستقول لي: لماذا يلوم بعد لأن من يقاوم مشيئته) 20: (بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟) 21: (أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان) فهذه العبارة من مقدسهم كافية لإثبات القدر، وكون الهداية والضلال من جانبه. ولنعم ما قال أشعيا عليه السلام في الآية التاسعة من الباب الخامس والأربعين من كتابه: (الويل لمن يخالف جابلة خزف من خزاف الأرض هل يقول الطين لجابله ماذا تصنع هل يقول عملك ليس اليدان لك) وبالنظر إلى هذه الآيات لعل مقتدى فرقة بروتستنت لو طرمال إلى الجبر كما يدل عليه ظاهر كلامه ذكر في الصفحة 277 من المجلد التاسع من كاثلك هرلد أقوال المقتدى الممدوح فأنقل عنها قولين: 1 (طبع الإنسان كالفرس إن ركبه الله يمشي كما يريد وإن ركبه الشيطان يمشي كما يمشي الشيطان، وهو لا يختار راكباً من نفسه بل يجتهد الركبان أن أياً منهم يحصله ويتسلط عليه) 2 (إذا وجد أمر في الكتب المقدسة بأن افعلوا هذا الأمر فافهموا أن هذه الكتب تأمر عدم فعل هذا الأمر الحسن لأنك لا تقدر على فعله) انتهى. فالظاهر من كلامه أنه يعتقد الجبر. وقال القسيس طامس أنكلس كاتلك في الصفحة 33 من كتابه المسمى بمرآة الصدق المطبوع سنة 1851 طاعناً على فرقة بروتستنت هكذا: (وعاظهم القدماء علموهم هذه الأقوال المكروهة) 1 (أن الله موجد العصيان) 2 (وأن الإنسان ليس مختاراً على أن يجتنب عن الإثم) 3 (وأن العمل على الأحكام العشرة غير ممكن) 4 (وأن الكبائر وإن كانت عظيمة لا توصل الإنسان إلى النقص في نظر الله) 5 (وأن الإيمان فقط ينجي الإنسان لأننا ندان بالإيمان فقط وهذا التعليم أنفع وتعليم مملوء بالطمأنينة) 6 (وأن أب إصلاح الدين يعني لوطر قال آمنوا فقط واعلموا يقيناً أنه يحصل لكم النجاة بلا مشقة الصوم وبلا مؤنة التقوى وبلا مشقة الاعتراف وبلا مشقة الأمور الحسنة ولكم نجاة نفيسة بلا شبهة كما للمسيح نفسه أذنبوا بالجرأة التامة أذنبوا وآمنوا فقط وينجيكم بالإيمان وإن ابتليتم في يوم واحد ألف مرة بالزنا أو القتل آمنوا فقط أنا أقول إن إيمانكم ينجيكم) انتهى، فظهر أن ما قال علماء بروتستنت في الأمر الأول في حق القرآن مردود بلا شبهة مخالف لكتبهم المقدسة، ولقول مقتداهم: ولا يلزم من خلق الشر أن يكون الله شريراً كما لا يلزم من خلق السواد والبياض وغيرهما من الأعراض أن يكون أسود أو أبيض، والحكمة في خلق الشر كما هي في خلق الشيطان الذي هو أصل الشرور ورأس المفاسد مع علم الله الأزلي بأن الشيطان يصدر عنه كذا وكذا، وكما هي في خلق الشهوة والحرص في طبع الإنسان مع علمه الأزلي بما يترتب عليهما في كل فرد من أفراد الإنسان وكما كان الله قادراً على أن لا يخلق الشيطان أو يخلقه ولا يعطيه القدرة على الإغراء ويمنعه عن الشر، ومع ذلك خلق ولم يمنعه عن الشر لحكمة ما، فكذلك قادر على أن لا يخلق الشر ولكنه في خلقه له حكمة ما.
(وأما الجواب عن الأمر الثاني) فهو أنه لا قبح في كون الجنة مشتملة على الحور والقصور وسائر النعيم عند العقل، ولا يقول أهل الإسلام إن لذات الجنة مقصورة على اللذات الجسمانية فقط كما يقول علماء بروتستنت غلطاً أو تغليطاً للعوام، بل يعتقدون بنص القرآن أن الجنة تشتمل على اللذات الروحانية والجسمانية، والأولى أفضل من الثانية ويحصل كلا النوعين للمؤمنين. قال الله في سورة التوبة: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} فقوله ورضوان من الله - الآية - معناه أن رضواناً من الله أكبر منزلة من كل ما سلف ذكره من الجنات والأنهار والمساكن الطيبة وهذا القول يدل على أن أفضل ما يعطي الله في الجنة هي اللذات الروحانية وإن كان يعطي اللذات الجسمانية أيضاً. ولذلك قال ذلك هو الفوز العظيم، لأن الإنسان مخلوق من جوهرين لطيف علوي وكثيف سفلي جسماني، وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية، كان الروح فائزاً بالسعادات اللائقة به والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم، وإن قال علماء بروتستنت إن اجتماعهما أيضاً في الجنة قبيح في عقولنا. أقول لهم لا تضطربوا فإنه لا يحصل لكم إن شاء الله، وقد عرفت في الباب الأول أن الإنجيل عندنا عبارة عما أنزل على عيسى عليه السلام فقط، فلو وجد في قول من الأقوال المسيحية ما يخالف ظاهره حكم القرآن، فمع قطع النظر عن أنه مروي برواية الآحاد، وعن أن مخالفة كتبهم المقدسة لا تضر القرآن، كما عرفت في جواب الشبهة الثانية. أقول إن ذلك القول يكون مئولاً ألبتة، وكون أهل الجنة كالملائكة في زعمهم لا ينافي الأكل والشرب على حكم كتبهم، ألا يرون أن الملائكة الثلاثة الذين ظهروا لإبراهيم وأحضر لهم إبراهيم عليه السلام عجلاً حنيذاً وسمناً ولبناً أكلوا هذه الأشياء كما صرح به في الباب الثامن عشر من سفر التكوين، وأن الملكين اللذين جاءا إلى لوط عليه السلام وصنع لهما وليمة وخبزاً فطيراً أكلا كما صرح به في الباب التاسع عشر من سفر التكوين، والعجب أنهم لما اعترفوا بالحشر الجسماني فأي استبعاد في اللذات الجسمانية، نعم لو كانوا منكرين للحشر مطلقاً كمشركي العرب، أو كانوا منكرين للحشر الجسماني ومعترفين بالحشر الروحاني كاتباع أرسطو لكان لاستبعادهم وجه بحسب الظاهر. وعندهم تجسد الله وما انفك عنه الأكل والشرب وسائر اللوازم الجسدانية باعتبار أنه إنسان، ولما لم يكن عيسى عليه السلام مرتاضاً مثل يحيى في الاجتناب عن الأطعمة النفسية وشرب الخمر كان المنكرون يطعنون عليه بأنه أكول وشريب كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى. وعندنا هذا الطعن مردود لكنا نقول إنه لا شك أن عيسى عليه السلام باعتبار الجسمية كان إنساناً فقط، فكما أن الأطعمة النفيسة وشرب الخمر ما كانا مانعين في حقه عليه السلام عن اللذات الروحانية مع كونه في هذه الدار الدنيا بل كان على حضرته غلبة الأحكام الروحانية، فكذلك اللذات الجسمانية لا تكون مانعة عن اللذات الروحانية لأهل الجنة مع كونهم في النشأة الأخرى.
(وأما الجواب عن الأمر الثالث) فيجيء في الباب السادس إن شاء الله لأن الجهاد في مطاعن النبي ﷺ عندهم من أعظم المطاعن فأذكره في المطاعن هناك.
(الشبهة الرابعة) أن القرآن لا يوجد فيه ما يقتضيه الروح ويتمناه. (والجواب) أن ما يقتضيه الروح ويمتناه أمران: الاعتقادات الكاملة والأعمال الصالحة، والقرآن مشتمل على بيان كلا النوعين على أكمل وجه كما عرفت في جواب الشبهة الأولى، ولا يلزم من عدم بعض الأمور التي هي مقتضيات الروح على زعم علماء بروتستنت نقصان القرآن كما لا يلزم نقصان التوراة والإنجيل والقرآن من عدم الأمر الذي هو مقتضى الروح على زعم علماء مشركي الهند من البراهمة، كما سمعت منهم أنهم يقولون إن ذبح الحيوان لأجل الأكل والتلذذ خلاف مقتضى الروح وغير مستحسن عند العقل جداً، ولا يتصور أن يحصل له الإجازة فيه من جانب الله، فالكتاب المشتمل عليه لا يكون من جانب الله.
(الشبهة الخامسة) يوجد في القرآن الاختلافات المعنوية مثلاً، قوله: {لا إكراه في الدين} وقوله في سورة الغاشية: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} وقوله في سورة النور: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمِّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}. وهذه الآيات تخالف الآيات التي فيها أمر الجهاد. ووقع في أكثر الآيات أن المسيح إنسان ورسول فقط، ووقع في موضع بضدها أنه ليس من جنس البشر بل منزلته أعلى منه. الأول قوله في سورة النساء: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} والثاني قوله في سورة التحريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} وهذان الاختلافان من أعظم الاختلافات في زعم القسيسين ولذا اكتفى عليهما صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الثالث منه. (وأقول) في الجواب عن الاختلاف الأول أن هذا ليس باختلاف، بل هذا الحكم كان قبل الجهاد فلما نزل حكم الجهاد نسخ هذا الحكم، والنسخ ليس باختلاف معنوي وإلا يلزم أن يكون بين الإنجيل والتوراة في جميع الأحكام المنسوخة اختلاف معنوي، وكذا في نفس أحكام التوراة وكذا في نفس أحكام الإنجيل كما عرفت في الباب الثالث بما لا مزيد عليه، على أن قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} ليس بمنسوخ وقد عرفت الجواب عن الاختلاف الثاني في الأمر السابع من مقدمة الكتاب وظهر لك هناك أن القولين المذكورين لا يدلان على أن عيسى بن مريم ليس من جنس البشر وفهم هذا المعنى وهم صرف وظن فاسد، والعجب من هؤلاء العقلاء أنهم لا يرون الاختلافات والأغلاط التي وقعت في كتبهم كما علمت بعضاً منها في الفصل الثالث من الباب الأول.