إظهار الحق/مقدمة: بيان اثني عشر أمرا تفيد الناظر بصيرة
مقدمة
أما المقدمة ففي بيان اثني عشر أمراً تفيد الناظر بصيرة في الفصول.
(الأمر الأول) أن كتب العهد العتيق ناطقة بأن الله واحد أزلي أبدي لا يموت، قادر يفعل ما يشاء ليس كمثله شيء لا في الذات ولا في الصفات، بريء عن الجسم والشكل، وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد.
(الأمر الثاني) أن عبادة غير الله حرام، وحرمتها مصرحة في مواضع شتى من التوراة مثل الباب العشرين والرابع والثلاثين من سفر الخروج، وقد صرح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء أنه لو دعا نبي أو من يدعي الإلهام في المنام إلى عبادة غير الله يقتل هذا الداعي، وإن كان ذا معجزات عظيمة، وكذا لو أغرى أحدٌ من الأقرباء أو الأصدقاء إليها يُرْجَم هذا المُغْري ولا يرجم عليه، وفي الباب السابع عشر من السفر المسطور أنه لو ثبتت على أحد عبادة غير الله يُرْجَم رجلاً كان أو امرأة.
(الأمر الثالث) في الآيات الكثيرة الغير المحصورة من العهد العتيق إشعار بالجسمية والشكل والأعضاء للّه تعالى مثلاً في الآية 26 و 27 من الباب الأول من سفر التكوين والآية 6 من الباب التاسع من السفر المذكور إثبات الشكل والصورة للّه، وفي الآية 17 من الباب التاسع والخمسين من كتاب أشعياء إثبات الرأس، وفي الآية 9 من الباب السابع من كتاب دانيال إثبات الرأس والشعر، وفي الآية 3 من الزبور الثالث والأربعين إثبات الوجه واليد والعضد، وفي الآية 22 و 23 من الباب الثالث والثلاثين من كتاب الخروج إثبات الوجه والقفا، وفي الآية 15 من الباب الثالث والثلاثين إثبات العين والأذن، وكذا في الآية 18 من الباب التاسع من كتاب دانيال إثبات العين والأذن، وفي الآية 29 و 52 من الباب الثامن من سفر الملوك الأول وفي الآية 17 من الباب السادس عشر والآية 19 من الباب الثاني والثلاثين من كتاب أرمياء والآية 21 من الباب الرابع والثلاثين من كتاب أيوب، والآية 21 من الباب الخامس والآية 3 من الباب الخامس عشر من كتاب الأمثال إثبات العين، وفي الآية 4 من الزبور العاشر إثبات العين والأجفان، وفي الآية 6 و 8 و 9 و 15 من الزبور السابع عشر إثبات الأذن والرجل والأنف والنفس والفم، وفي الآية 27 من الباب الثلاثين من كتاب أشعياء إثبات الشَّفة واللسان، وفي الباب الثالث والثلاثين من سفر الاستثناء إثبات اليد والرجل، وفي الآية 18 من الباب الحادي والثلاثين من سفر الخروج إثبات الأصابع، وفي الآية 19 من الباب الرابع من كتاب أرمياء إثبات البطن والقلب، وفي الآية 3 من الباب الحادي والعشرين من كتاب أشعياء إثبات الظهر، وفي الآية 7 من الزبور الثاني إثبات الفرج، وفي الآية 28 من الباب العشرين من أعمال الحواريين إثبات الدم، وللتنزيه في التوراة آيتان وهما الآية الثانية عشرة والآية الخامسة عشرة من الباب الرابع من سفر الاستثناء وهما هكذا: 12 "فكلمكم الرب من جوف النار فسمعتم صوت كلامه ولم تروا الشبه ألبتة" 15 "فاحفظوا أنفسكم بحرص فإنكم لم تروا شبيهاً يوماً كلمكم الرب في حوريب من جوف النار" ولما كان مضمون هاتين الآيتين مطابقاً للبرهان العقلي، وجب تأويل الآيات الغير المحصورة لا [عدم] تأويلهما، وأهل الكتاب ههنا أيضاً يوافقوننا ولا يرجحون الآيات الغير المحصورة على هاتين الآيتين، وكما يوجد الإشعار بالجسمية للّه تعالى فكذا يوجد بإثبات المكان للّه تعالى في الآيات الغير محصورة من العهد العتيق والجديد مثل الآية 8 باب 25، والآية 45 و 46 من باب 29 من سفر الخروج، وفي الآية 3 باب 5 و 34 باب 35 من سفر العدد، وفي الآية 15 من الباب السادس والعشرين من سفر الاستثناء، وفي الآية 5 و 6 من الباب السابع من سفر صموئيل الثاني، وفي الآية 30 و 32 و 34 و 36 و 39 و 45 و 49 من الباب الثامن من سفر الملوك الأول، وفي الآية 11 من الزبور التاسع، وفي الآية 4 من الزبور العاشر، وفي الآية 8 من الزبور الخامس والعشرين، وفي الآية 16 من الزبور السابع والستين، وفي الآية 2 من الزبور الثالث والسبعين وفي الآية 2 من الزبور الخامس والسبعين وفي الآية 1 من الزبور الثامن والتسعين وفي الآية 21 من الزبور المائة والرابع والثلاثين، وفي الآية 17 و 21 من الباب الثالث من كتاب يوتيل، وفي الآية 2 من الباب الثامن من كتاب زكريا وفي الآية 45 و 48 باب 5 و 1 و 9 و 14 و 26 باب 6 و 11 و 21 باب 7 و 32 و 33 باب 10 و 50 باب 2 و 13 باب 15 و 17 باب 16 و 10 و 14 و 19 و 35 باب 18 و 19 و 22 باب 23 من إنجيل متى، ولا توجد في العهد العتيق والجديد الآيات الدالة على تنزيه الله عن المكان إلا قليلة مثل الآية 1 و 2 من الباب السادس والستين من كتاب أشعياء، والآية 48 من الباب السابع من أعمال الحواريين، لكن لما كان مضمون هذه الآيات القليلة موافقاً للبراهين أولت الآيات الكثيرة الغير المحصورة المشعرة بالمكان للّه تعالى لا هذه الآيات القليلة، وأهل الكتاب أيضاً يوافقوننا في هذا التأويل، فقد ظهر من هذا الأمر الثالث أن الكثير إذا كان مخالفاً للبرهان يجب إرجاعه إلى القليل الموافق له، ولا يعتد بكثرته فكيف إذا كان الكثير موافقاً والقليل مخالفاً فإن التأويل فيه ضروري ببداهة العقل.
(الأمر الرابع) قد علمت في الأمر الثالث أنه ليس للّه شبه وصورة وقد صرح به في العهد الجديد أيضاً في مواضع عديدة أن رؤية الله في الدنيا غير واقعة، في الآية الثامنة عشرة من الباب الأول من إنجيل يوحنا هكذا: "الله لم يره أحد قط" وفي الآية السادسة عشرة من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس: "لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه" وفي الآية الثانية عشرة من الباب الرابع من رسالة يوحنا الأولى: "الله لم ينظره أحد قط" فثبت من هذه الآيات أن من كان مرئياً لا يكون إلهاً قط، ولو أطلق عليه في كلام الله أو الأنبياء أو الحواريين لفظ الله ومثله فلا يغتر أحدٌ بمجرد إطلاق مثل لفظ الله، ولا يدعي أن التأويل مجاز فكيف يرتكب لأن المصير إلى المجاز يجب عند القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة سيما إذا دل البرهان القطعي على المنع، نعم يكون لإطلاق مثل هذه الألفاظ على غير الله وجه مناسب لكل محل، مثلاً إن إطلاقها في الكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام على بعض الملائكة لأجل ظهور جلال الله فيه أزيد من الغير، وفي الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج قول الله سبحانه هكذا: 20 "أنا أرسل ملاكي أمامك ليحفظك في الطريق ويدخلك إلى المكان الذي أن استعديت 21 فاحتفظ به وأطع أمره ولا تشاقّه، إنه لا يغفر إذا أخطأت، إن اسمي معه 23 وينطلق ملاكي أمامك فيدخلك على الأموريين والحيثانيين والفرزانيين والكنعانيين والحوايين واليانوسانيين الذين أنا أخرجهم" فقوله: أرسل ملاكي أمامك، وكذا قوله ينطلق ملاكي، نصان على أن الذي كان يسير مع بني إسرائيل في عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل كان ملكاً من الملائكة وقد أطلق عليه مثل هذه الألفاظ كما ستطّلع عليه لأجل ما قلت، كما يظهر من قوله إن اسمي معه، وقد جاء إطلاقها في مواضع غير محصورة على الملك والإنسان الكامل، بل على آحاد الناس، بل على الشيطان الرجيم، بل على غير ذوي العقول أيضاً، وقد علم من بعض المواضع تفسير بعض هذه الألفاظ، وفي بعض المواضع يدل سوق الكلام بحيث لا يشتبه على الناظر في بادئ الرأي، وها أنا أورد عليك شواهد هذا الباب وأنقل في هذا الباب عبارة كتب العهد العتيق عن الترجمة العربية التي طبعت في لندن سنة 1844 من الميلاد وعبارة العهد الجديد، إما من الترجمة المذكورة وإما من الترجمة العربية التي طبعت في بيروت سنة 1860 ولا أنقل جميع عبارة الموضع المستشهد به بل أنقل الآيات التي يتعلق الغرض بها في هذا المقام وأترك الآيات الغير المقصودة، في الباب السابع عشر من سفر التكوين هكذا: 1 "ولما صار أبرام ابن تسعة وتسعين سنة تراءى له الرب وقال أنا الله ضابط الكل فسر أمامي وكن تاماً" 4 " وقال له الله أنا هو وعهدي معك وستكون أباً لأمم كثيرة" 7 "وأقيم ميثاقي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك بأجيالهم ميثاقاً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك" 8 "وسأعطي لك ولنسلك أرض غُربتك جميع أرض كنعان مِلْكاً إلى الدهر، وأكون لهم إلهاً" 9 "فقال الله لإبراهيم ثانية الخ" 15 وقال "الله أيضاً لإبراهيم الخ" 18 "وقال الله الخ" 22 "ولما فرغ الله من خطابه صعد عن إبراهيم" وكان هذا المتكلم المرئي ملكاً لما علمت، ولقوله صعد عن إبراهيم، ففي هذه العبارة أطلق عليه لفظ الله والرب والإله، وأطلق هو على نفسه "أنا الله ضابط الكل لأكون إلهك ولنسلك من بعدك وأكون إلهاً لهم" وكذا أطلق أمثال هذه الألفاظ في الباب الثامن عشر من سفر التكوين على الملك الذي ظهر على إبراهيم عليه السلام مع الملكين الآخرين، وبشره بولادة إسحاق وأخبر بأن قرى لوط ستخرب في أزيد من أربعة عشر موضعاً، وفي الباب الثامن والعشرين من السفر المذكور في حال يعقوب عليه السلام إذ سافر إلى بلد حاله هكذا: 10 "وخرج يعقوب من بير سبع ماضياً إلى حرّان" 11 "وأتى إلى موضع وبات هناك فأخذ حجراً من حجارة ذلك الموضع ووضعه تحت رأسه ونام هناك" 12 "فنظر في الحلم سلماً قائماً على الأرض ورأسه يصل إلى السماء وملائكة الله يصعدون ويهبطون فيه" 13 "والرب كان ثابتاً على رأس السلم، وقال أنا هو الله إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق فالأرض التي أنت عليها راقد أعطيكها لك ولنسلك" 14 "ويكون نسلك مثل رمل الأرض، ويتسع إلى المغرب والمشرق، ويتيمن ويتبارك بك وبزرعك جميع قبائل الأرض" 15 "وأحفظك حيثما انطلقت، وأعيدك إلى هذه الأرض ولا أخليك حتى أعمل ما قلته لك" 16 "فاستيقظ يعقوب من نومه وقال حقاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أكن أعلم" 17 " وخاف وقال ما أخوف هذا الموضع ما هذا إلا بيت الله وباب السماء" 18 "وقام يعقوب بالغداة وأخذ الحجر الذي كان توسد به وأقامه نصبة وسكب عليه دهناً" 19 "ودعا اسم المدينة بين إيل التي كانت أولاً لوزاً" 20 "ونذر نذراً قائلاً إن كان الله يكون معي ويحفظني في الطريق الذي أنا سائر به ويرزقني خبزاً آكل وكسوة ألبس" 21 "ورجعت بسلام إلى بيت أبي فالرب يكون لي إلهاً" 22 "وهذا الحجر الذي أقمته نصبة يدعى بيت الله وكل ما أعطيتني أديت إليك عشوره".
وفي الباب الحادي والثلاثين من السفر المذكور قول يعقوب عليه السلام في خطاب زوجته لِيَا وراحيل هكذا: 11 "فقال لي ملاك الله في الحلم يا يعقوب فقلت هو ذا أنا" 12 "فقال لي الخ" 13 "أنا إله بيت إيل حيث مسحت قائمة الحجر ونذرت لي نذراً والآن قم فاخرج من هذه الأرض وارجع إلى أرض ميلادك" وفي الباب الثاني والثلاثين من السفر المذكور هكذا: 9 "وقال يعقوب يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق أيها الرب الذي قلت لي ارجع إلى أرضك وإلى مكان ميلادك وأباركك" 12 "فأنت تكلمت وقلت إنك تحسن إلي وتوسع نسلي مثل رمل البحر الذي لا يحصى لكثرته" وفي الباب الخامس والثلاثين من السفر المذكور هكذا: "وقال الله ليعقوب قم فاصعد إلى بيت إيل واسكن هناك، وانصب هناك مذبحاً للّه الذي ظهر لك وأنت هارب من وجه عيصو أخيك" 2 "وقال يعقوب لأهله الخ" 3 "نصعد إلى بيت إيل لنصنع هناك مذبحاً للّه الذي استجاب لي في ضيقتي وكان معي في طريقي" 6 "فجاء يعقوب إلى لوزا التي في أرض كنعان هذه بيت إيل الخ" 7 "وبنى هناك مذبحاً ودعا اسم المكان بيت الله لأن هناك ظهر له الله الخ" وفي الباب الثامن والأربعين من السفر المذكور هكذا: 3 "إن الله الضابط الكل استعلن عليّ في لوزا بأرض كنعان وباركني" 4 "وقال لي أني منميك وجاعلك بجماعة الشعوب وأعطيك هذه الأرض ولنسلك من بعدك ميراثاً إلى الدهر" فظهر من الآية الحادية عشرة والثالثة عشرة من الباب الحادي والثلاثين أن الذي ظهر على يعقوب عليه السلام، ووعده وعهد ونذر يعقوب عليه السلام معه كان ملكاً، وجاء إطلاق لفظ مثل الله عليه في العبارات المذكورة في أزيد من ثمانية عشر موضعاً وقال هذا الملك: "أنا هو الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق، وقال يعقوب عليه السلام في حقه "يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق أيها الرب وإن الله ضابط الكل استعلن عليّ" وفي الباب الثاني والثلاثين من السفر المذكور هكذا: 24 "وتخلف هو وحده وهو ذا رجل فكان يصارعه إلى الفجر" 25 "وحين نظر أنه لا يقوى به فجس عرق وركه ولساعته ذبل" 26 "وقال له أطلقني لأنه قد أسفر الصبح وقال له لا أطلقك أو تباركني" 27 "فقال له ما اسمك فقال يعقوب" 28 "قال لا يدعي اسمك يعقوب بل إسرائيل من أجل أنك إن كنت قويت مع الله فكم بالحري لك قوة في الناس" 19 "فسأله يعقوب عرفني ما اسمك فقال له لم تسأل عن اسمي وباركه فيذلك المكان" 30 "فدعا يعقوب اسم ذلك المكان فنوائل قائلاً رأيت الله وجهاً لوجه وتخلصت نفسي" وهذا المصارع كان ملكاً لما عرفت ولأنه يلزم أن يكون إله بني إسرائيل في غاية العجز والضعف حيث صارع يعقوب عليه السلام إلى الفجر، ولم يغلب عليه بدون الحيلة، ولأن كلام هوشع نص في هذا الباب في الباب الثاني عشر من كتابه هكذا: 3 "في البطن عقب أخاه وفي جبروته أفلح معه الملاك" 4 "وغلب الملك وتقوّى وبكى وسأله ووجده في بيت إيل وهناك كلمنا" فأطلق عليه لفظ الله في الموضعين وفي الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين هكذا: 9 "فظهر الله ليعقوب أيضاً من بعد ما رجع من بين نهري سورية وباركه" 10 "قائلاً لا يدعي اسمك بعدها يعقوب بل يكون اسمك إسرائيل ودعا اسمه إسرائيل" 11 "وقال له أنا الله الضابط الكل أتم وأكثر الأمم ومجامع الشعوب تكون منك والملوك من صلبك يخرجون 12 والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق فلك أعطيها وأعطي نسلك هذه الأرض من بعدك 13 وارتفع الله عنه 14 ونصب يعقوب حجراً في الموضع الذي كلمه فيه الله قائمة حجرية ودفق عليه مدفوقاً وصب عليه دهناً 15 ودعا اسم الموضع الذي كلمه الله هناك بيت إيل" وهذا الذي ظهر هو الملك المذكور فأطلق عليه لفظ الله في خمسة مواضع وقال هو "أنا الله الضابط الكل" وفي الباب الثالث من سفر الخروج 2 "وتراءى له الرب بلهيب النار من وسط العليقة فنظر إلى العليقة تتوقد فيها النار، وهي لم تحترق 3 ورأى الله أنه جاء الخ 6، وقال له إني أنا الله إله آبائك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، فغطى موسى وجهه من أجل أنه خشي أن ينظر نحو الله 7 فقال له الرب الخ 11 فقال موسى للّه الخ 12 فقال له الله أنا أكون معك وهذه علامة لك أني أنا أرسلتك إذا أخرجت شعبي من مصر يعملون ذبيحة قدّام الله على هذا الجبل 13 فقال موسى للّه هو ذا أنا أذهب إلى بني إسرائيل، وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن قالوا لي ما اسمه ماذا أقول لهم؟ 14 فقال الله لموسى اهية اشراهيه، وقال له: هكذا تقول لبني إسرائيل اهية أرسلني إليكم 15 وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل الرب إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم هكذا اسمي إلى الدهر، وهذا هو ذكري إلى جيل الأجيال 16 فاذهب اجمع شيوخ بني إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم استعلن عليّ إله إبراهيم وإله يعقوب الخ".
فالذي ظهر على موسى وكلمه قال في حقه "إني أنا الله إله آبائك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب" ثم قال "اهية اشراهية" ثم أمر موسى عليه السلام أن يقول لبني إسرائيل "اهية أرسلني والرب إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم" وقال "هذا اسمي إلى الدهر وهذا هو ذكري إلى جيل الأجيال" وأطلق عليه في هذه العبارة لفظ الله والرب وأمثالهما في أزيد من خمسة وعشرين موضعاً، وأطلق عليه المسيح عليه السلام أيضاً لفظ الله كما نقل مرقس في الباب الثاني عشر، ومتى في الباب الثاني والعشرين، ولوقا في الباب العشرين قول المسيح عليه السلام في خطاب الصدوقيين هكذا: "أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلاً أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب" انتهى بعبارة مرقس، وهذا كان مَلكاً لما عرفت، ولذلك في أكثر التراجم الهندية والفارسية بدل لفظ الله لفظ فرشته الذي هو ترجمة الملك، والآية الأولى من الباب السابع من سفر الخروج هكذا: "فقال الرب لموسى انظر فإني قد جعلتك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون لك نبياً" والآية السادسة عشرة من الباب الرابع من سفر الخروج هكذا: "هو يتكلم مع الشعب عوضك، وهو يكون لك وأنت تكون له في أمور الله" فوقع لفظ الإله والله في حق موسى عليه السلام، ومن ههنا يظهر ترجيح اليهود على المسيحيين في هذه العقيدة لأنهم مع ادعاء محبتهم لموسى وترجيحه على سائر الأنبياء ما أوصلوه إلى رتبة الألوهية متمسكين بمثل هذه الأقوال، وفي الباب الثالث عشر من سفر الخروج هكذا: 21 "وكان الرب يسير أمامهم ليريهم الطريق في النهار بعمود سحاب وفي الليل بعمود نار ليهديهم الطريق نهاراً وليلاً 22 لم يزل قط عمود السحاب نهاراً ولا عمود النار ليلاً من قدام الشعب" ثم في الباب الرابع عشر من السفر المذكور هكذا: 19 "فانطلق ملاك الله الذي كان يسير قدّام عسكر إسرائيل، ومشى خلفهم وعمود الغمام أيضاً معه فتحوّل من قدام وجوههم إلى ورائهم 24 فلما كان عند محرس السحر نظر الرب إلى محلة المصريين بعمود النار والغمامة وقتل عسكرهم"، وهذا السائر كان ملكاً كما صرح به في الآية 19 وأطلق عليه لفظ الرب على وفق الترجمة العربية ولفظ يَهُواه على وفق الهندية الموجودة عندي، وفي الباب الأول من سفر الاستثناء هكذا: 30 "فإن الرب الإله الذي يسير أمامكم فهو يقاتل عنكم كما عمل في مصر، والكل ينظرون 31 وفي البرية أنت رأيت بعينيك، حملك الرب إلهك كما أنه يحمل الرجل ولده الخ" 32 "ولم تؤمنوا في ذلك بالرب إلهكم 33 الذي سار أمامكم في الطريق، وحدد لكم المكان الذي كان فيه يجب أن تنصبوا الخيام، في الليل يريكم الطريق بالنار، وفي النهار بعمود الغمام، فجاء إطلاق لفظ الرب الإله في ثلاثة مواضع على الملك المذكور، لأنه كان سائراً أمامهم وقاتلاً لعسكر المصريين. وفي الباب الحادي والثلاثين من السفر المذكور هكذا: 3 "فالرب إلهك هو يعبر قدامك الخ" 4 "فيصنع الرب الخ" 5 "فإذا أمكنكم الرب الخ" 6 فاجترءوا عليهم وتقووا ولا تخافوا ولا ترهبوا إذا نظرتموهم "إن الرب إلهك فهو يسير أمامك الخ 8 والرب الذي هو السائر أمامكم فهو يكون معك الخ" ففي هذه العبارة أيضاً إطلاق لفظ الرب إلهك والرب على الملك المذكور: والآية 22 من الباب الثالث عشر من كتاب القضاة في حق الذي تكلم مع نوح وامرأته وبشرهما بالولد هكذا: "فقال منوح لامرأته بموت نموت لأننا عاينا الله" وصرح به في الآية 3 و 9 و 13 و 15 و 16 و 18 و 21 من هذا الباب أنه كان ملكاً فأطلق عليه لفظ الله، وكذا جاء هذا الإطلاق على الملك في الباب السادس من كتاب أشعياء، والباب الثالث من سفر صموئيل الأول، والباب الرابع والتاسع من كتاب حزقيال، والباب السابع من كتاب عاموص والآية السادسة من الزبور الحادي والثمانين على وفق الترجمة العربية، ومن الزبور الثاني والثمانين على وفق التراجم الأخر هكذا: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم" فجاء ههنا إطلاق الآلهة وأبناء الله على العوام فضلاً عن الخواص، وفي الباب الرابع من الرسالة الثانية إلى أهل قورنيثوس هكذا: 3 "ولكن إن كان إنجيلنا مكتوماً فإنما هو مكتوم في الهالكين 4 الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان الغير المؤمنين لئلا تضيء لهم نارة إنجيل مجد المسيح" والمراد بإله الدهر الشيطان على ما زعم علماء البروتستنت، فجاء مثل هذا الإطلاق على الشيطان الرجيم على زعمهم فضلاً عن الإنسان، وإنما قلت على زعمهم لأنهم يريدونه ههنا لئلا يلزم نسبة الإعماء إلى الله تعالى، فيلزم كون الله خالق الشر، وهذا هو هوس من هوساتهم لأن خالق الشر على وفق كتبهم المقدسة يقيناً هو الله تعالى، وأنقل ههنا شاهدين وستطلع على شواهد أخر أيضاً في موضعه.
الآية السابعة من الباب الخامس والأربعين من كتاب أشعياء هكذا: "المصور النور والخالق الظلمة الصانع السلام والخالق الشر أنا الرب الصانع هذه جميعاً" وقال مقدسهم بولس في الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالو نيقي: "سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم" ولما كان زعمهم كما ذكرنا والمقصود النقل على سبيل الإلزام فالمقصود حاصل، وهو أن إطلاق إله الدهر جاء على الشيطان والآية 16 من الباب الثالث من رسالة بولس إلى أهل فيلبس هكذا: "الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم" فأطلق مقدسهم على البطن لفظ الإله، وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: 8 "ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة 16، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي للّه فينا الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" فيوحنا أثبت اتحاد المحبة بالله، وقال في الموضعين الله محبة ثم أثبت التلازم هكذا من يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه، وإطلاق الآلهة على الأصنام كثير جداً في الكتب السماوية، فلا حاجة إلى نقل شواهد. وكذا إطلاق الرب بمعنى المخدوم والمعلم كثير جداً يعني عن نقل شواهده. التفسير الواقع في الآية 38 من الباب الأول من إنجيل يوحنا هكذا: "فقال ربي تفسيره يا معلم" إذا علمت ما ذكرت فقد حصلت لك البصيرة التامة أنه لا يجوز لعاقل أن يستدل بإطلاق بعض هذه الألفاظ على بعض الحوادث التي حدوثها وتغيرها وعجزها من الحسيات أنه إله أو ابن الله، وينبذ جميع البراهين العقلية القطعية، وكذا البراهين النقلية وراءه.
(الأمر الخامس) إن وقوع المجاز في غير المواضع التي مرّ ذكرها في الأمر الثالث والرابع كثير: مثلاً وعد الله إبراهيم عليه السلام في تكثير أولاده هكذا الآية السادسة عشرة من الباب الثالث عشر من سفر التكوين: "وأجعل نسلك مثل تراب الأرض فإن استطاع أحد من الناس أن يحصي تراب الأرض فإنه يستطيع أن يحصي نسلك" والآية السابعة عشرة من الباب الثاني والعشرين من السفر المذكور: "أباركك وأكثر نسلك كنجوم السماء ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر الخ" وهكذا وعد يعقوب عليه السلام بأن نسلك يكون مثل رمل الأرض كما عرفت في الأمر الرابع، وأولادهما لم يبلغ مقدارهم عدد رطل رمل في الدنيا في وقت من الأوقات فضلاً عن مقدار رمل شاطئ البحر أو رمل الأرض، ووقع في مدح الأرض التي كان وعد الله إعطاءها في الآية الثامنة من الباب الثالث من سفر الخروج وغيرها من الآيات بأنه يسيل فيها اللبن والعسل ولا أرض في الدنيا كذلك، ووقع في الباب الأول من سفر الاستثناء هكذا: "والقرى عظيمة محصّنة إلى السماء" ووقع في الباب التاسع من السفر المذكور هكذا: "وأشد منك مدناً كبيرة حصينة مشيدة إلى السماء" وفي الزبور السابع والسبعين هكذا: 65: "واستيقظ الرب كالنائم مثل الجبار المفيق من الخمر 66 فضرب أعداءه في الوراء وجعلهم عاراً إلى الدهر"، والآية الثالثة من الزبور المائة والثالث في وصف الله هكذا: "والمسقف بالمياه علاليه الذي جعل السحاب مركبه الماشي على أجنحة الرياح" وكلام يوحنا مملوء من المجاز قلما تخلو فقرة لا يحتاج فيها إلى تأويل كما لا يخفى على ناظر إنجيله ورسائله ومشاهداته، وأكتفي ههنا على نقل عبارة واحدة من عبارته قال في الباب الثاني عشر من المشاهدات هكذا: 1 "وظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة متسربلة بالشمس، والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً 2 وهي حبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلده 3 وظهرت آية أخرى في السماء هو ذا تنين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى رؤوسه سبعة تيجان 4 وذنبه يجر ثلث نجوم السماء، فطرحها إلى الأرض، والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتى يبتلع ولدها متى ولدت 5 فولدت ابناً ذكراً أن يرعى جميع الأمم بعصى من حديد واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه 6 والمرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولوها هناك ألفاً ومائتين وستين يوماً 7 وحدثت حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وحارب التنين وملائكته" إلى آخر كلامه وهذا الكلام في الظاهر كلام المجاذيب فلو لم يؤول فمستحيل قطعاً، وتأويله أيضاً يكون بعيداً لا سهلاً وأهل الكتاب يؤوّلون الآيات المذكورة وأمثالها يقيناً ويعترفون بكثرة وقوع المجاز في الكتب السماوية قال صاحب (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) في الفصل الثالث عشر من كتابه: "وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة وخاصة العهد العتيق" ثم قال: "واصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً وخاصة مسامرات مخلصنا وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً، ولأجل ذلك نقدم بعض أمثال لنرى بها أن تأويل الاستعارات حرفياً ليس صواباً، وذلك كقول المسيح عن هيرودس اذهبوا وقولوا لذلك الثعلب، فمن المعلوم أن المراد بلفظة الثعلب في هذه العبارة جبار ظالم لأن ذلك الحيوان المدعو هكذا معروف بالحيلة والغدر أيضاً، قال ربنا لليهود: أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء فكل من أكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي سوف أعطيه لحياة العالم، يوحنا ص 6 عدد 15، فاليهود الشهوانيون فهموا هذه العبارة بالمعنى الحرفي وقالوا كيف يقدر هذا الرجل أن يعطينا جسده لنأكله؟ آية 52 ولم يلاحظوا أنه عني بذلك ذبيحته التي وهبها كفارة لخطايا العالم، وقد قال مخلصنا أيضاً عن الخبز عند تعيينه العشاء السري: هذا هو جسدي، وعن الخمر هذا هو دمي، متّى ص 26 عدد 26، فمنذ الدهر الثاني عشر جعلت الرومانيون الكاثوليكيون لهذا القول معنى آخر معكوساً ومغايراً لشواهد أخرى في الكتب المقدسة وللدليل الصحيح، وحتموا أن ينتجوا من ذلك تعليمهم عن الاستحالة أي تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه الجوهريين عندما يلفظ الكاهن بكلمات التقديس الموهوم، مع أنه قد يظهر لكل الحواس الخمسة أن الخبز والخمر باقيان على جوهرهما ولم يتغيرا، فأما التأويل الصحيح لقول ربنا فهو أن الخبز بمثل جسده والخمر بمثل دمه" انتهى كلامه بلفظه. فاعترافه بين لا خفاء فيه لكن لا بد من النظر في قوله فمنذ الدهر الثاني عشر إلى آخره فإنه رد على الرومانيين في اعتقاد استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح عليه السلام ودمه بشهادة الحس، وأوّلَ قول المسيح عليه السلام بحذف المضاف وإن كان ظاهر القول كما فهموا لأنه هكذا: 26 "وفيم هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ قال خذوا كلوا هذا هو جسدي 27 وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلكم 28 لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا"، فقالوا: إن لفظ هذا يدل على جوهر الشيء الحاضر كله، ولو كان جوهر الخبز باقياً لما صح هذا الإطلاق، وإنهم كانوا قبل ظهور فرقة البروتستنت أكثر المسيحيين في العالم وأنهم كثيرون من هذه الفرقة إلى هذا الحين أيضاً. فكما أن هذه العقيدة غلط بشهادة الحس عند هذه الفرقة فكذلك عقيدة التثليث غلط، ولو فرضنا دلالة بعض الأقوال المتشابهة بحسب الظاهر عليها بل محال بالأدلة القطعية، فإن قالوا ألسنا من ذوي العقول فكيف نعترف بها لو كانت محالاً؟ قلنا أليس الرومانيون من ذوي العقول مثلكم، وفي المقدار أكثر منكم إلى هذا الحين فضلاً عن سالف الزمان، فكيف اعترفوا وأجمعوا على ما هو غير صحيح عندكم ويشهد ببطلانه الحس أيضاً؟ وهو باطل في نفس الأمر أيضاً بوجوه:
(الأول) أن الكنيسة الرومانية تزعم أن الخبز وحده يستحيل جسد المسيح ودمه ويصير مسيحاً كاملاً، فأقول إذا استحال مسيحاً كاملاً حياً بلاهوته وناسوته الذي أخذه من مريم عليهما السلام، فلا بد أن يشاهد فيه عوارض الجسم الإنساني ويوجد فيه الجلد والعظام والدم وغيرها من الأعضاء لكنها لا توجد فيه بل جميع عوارض الخبز باقية الآن كما كانت فإذا نظره أحد أو لمسه أو ذاقه لا يحس شيئاً غير الخبز، وإذا حفظه يطرأ عليه الفساد الذي يطرأ على الخبز لا الفساد الذي يطرأ على الجسم الإنساني، فلو ثبتت الاستحالة تكون استحالة المسيح خبزاً لا استحالة الخبز مسيحاً، فلو قالوا إن المسيح استحال خبزاً لكان أقل بعداً من هذا، وإن كان هو أيضاً باطلاً ومصادماً للبداهة.
(الثاني) إن حضور المسيح بلاهوته في أمكنة متعددة في آن واحد وإن كان ممكناً في زعمهم لكنه باعتبار ناسوته غير ممكن لأنه بهذا الاعتبار كان مثلنا حتى كان يجوع ويأكل ويشرب وينام ويخاف من اليهود ويفر وهلم جرّا، فكيف يمكن تعدده بهذا الاعتبار بالجسم الواحد في أمكنة غير محصورة في آن واحد حقيقة؟ والعجب أنه ما وُجد قبل عروجه إلى السماء بهذا الاعتبار في مكانين أيضاً فضلاً عن الأمكنة الغير المتناهية وكذا بعد عروجه إلى السماء فكيف يوجد بعد القرون بعد اختراع هذا الاعتقاد الفاسد بالاعتبار المذكور في أمكنة غير محصورة في آن واحد.
(الثالث) إذا فرضنا أن مليونات من الكهنة في العالم قدسوا في آن واحد واستحالت تقدمة كل إلى المسيح الذي تولد من العذراء، فلا يخلو إمّا أن يكون كل من هؤلاء المسيحيين الحادثين عين الآخر أو غيره، والثاني باطل على زعمهم والأول باطل في نفس الأمر لأن مادة كل غيرُ مادة الآخر.
(الرابع) إذا استحال الخبز مسيحاً كاملاً تحت يد الكاهن فكسر هذا الكاهن هذا الخبز كسرات كثيرة وأجزاء صغيرة فلا يخلوا إمّا أن يتقطع المسيح قطعة قطعة على عدد الكسرات والأجزاء أو يستحيل كل كسرة وجزء مسيحاً كاملاً أيضاً فعلى الأول لا يكون المتناول متناول مسيح كامل، وعلى الثاني من أين جاءت هؤلاء المسحاء لأنه ما حصل بالتقدمة إلا المسيح الواحد؟.
(الخامس) لو كان العشاء الرباني الذي كان قبل صلبه بيسير نفس الذبيحة التي حصلت على الصليب لزم أن يكون كافياً لخلاص العالم، فلا حاجة إلى أن يصلب على الخشبة من أيدي اليهود مرة أخرى لأن المسيح ما جاء إلى العالم في زعمهم إلا ليخلص الناس بذبيحة مرة واحدة، وما أنى لكي يتألم مراراً كما يدل عليه عبارة آخر الباب التاسع من الرسالة العبرانية صراحة.
(السادس) لو صح ما ادعوه لزم أن يكون المسيحيون أخبث من اليهود لأن اليهود ما آلموه إلا مرة واحدة فتركوا وما أكلوا لحمه، وهؤلاء يؤلمونه ويذبحونه كل يوم في أمكنة غير محصورة، فإن كان القاتل مرة واحدة كافراً وملعوناً فما بال الذين يذبحونه مرات غير محصورة ويأكلون لحمه ويشربون دمه؟ نعوذ بالله من الذين يأكلون إلههم ويشربون دمه حقيقة فإذا لم ينج من أيدي هؤلاء إلههم الضعيف المسكين فمن ينجو، بعّدنا الله من ساحتهم، ولنعم ما قيل "دوستي نادان سراسَر دُشمني ست " (توضع على الهامش: ) يتضمن معنى المثل العربي: عدو عاقل خير من صديق جاهل والترجمة الحرفية: الصديق الجاهل مثل العدو. .
(السابع) وقع في الباب الثاني والعشرين من لوقا قول المسيح في العشاء الرباني هكذا: "اصنعوا هذا لذكري" فلو كان هذا العشاء هو نفس الذبيحة لما صح أن يكون تذكرة لأن الشيء لا يكون تذكرة لنفسه، فالعقلاء الذين عقولهم السليمة تحكم بأمثال هذه الأوهام في الحسيات لو وهموا في ذات الله أو في العقليات فأي استبعاد منهم؟ لكني أقطع النظر عن هذا وأقول في مقابلة علماء البروتستنت: إنه كما اجتمع هؤلاء العقلاء عندكم على هذه العقيدة المخالفة للحس والعقل تقليداً للآباء أو لغرض آخر فكذلك اجتماعهم واجتماعكم في عقيدة التثليث المخالفة للحس والبراهين، والأناس الكثيرون الذين تسمونهم ملاحدة ومقدارهم في هذا الزمان أزيد من مقدار فرقتكم بل من فرقة الرومانيين أيضاً وهم عقلاء مثلكم ومن أبناء أصنافكم ومن أهل دياركم وكانوا مسيحيين مثلكم فتركوا هذا المذهب لاشتماله على أمثال هذه الأمور يستهزؤون بها استهزاء بليغاً لا يستهزؤون بشيء آخر مثلها، كما لا يخفى على من طالع كتبهم، وفرقة يوني نيرين من فرق المسيحيين أيضاً ينكرونها والمسلمون واليهود سلفاً وخلفاً يفهمونها من جنس أضغاث الأحلام.
(الأمر السادس) كان الإجمال يوجد كثيراً في أقوال المسيح عليه السلام بحيث لا يفهمها معاصروه وتلاميذه في كثير من الأحيان ما لم يفسرها بنفسه، فالأقوال التي فسرها من هذه الأقوال المجملة فهموها، وما لم يفسره منها فهموا بعضها بعد مدة مديدة وبقي البعض عليهم مبهماً إلى آخر الحياة، ونظائره كثيرة أكتفي هنا على بعضها. وقع في الباب الثاني من إنجيل يوحنا مكالمة المسيح عليه السلام مع اليهود الذين كانوا يطلبون المعجزة هكذا: 19 "أجاب يسوع وقال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" 20 "فقال اليهود في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟" 21 "وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده" 22 "فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع" فهنا لم يفهم التلاميذ فضلاً عن اليهود، لكن فهم التلاميذ بعد ما قام من الأموات، وقال المسيح لينقود بموس من علماء اليهود: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله، فلم يفهم ينقود بموس مقصوده، وقال كيف يمكن أن يولد الإنسان وهو شيخ أيقدر أن يدخل في بطن أمه ثانية ويولد ففهمه المسيح مرة أخرى فلم يفهم مقصوده في هذه المرة أيضاً، وقال كيف يمكن هذا فقال المسيح ألا تفهم وأنت معلم إسرائيل؟، وهذه القصة مفصلة في الباب الثالث من إنجيل يوحنا، وقال المسيح في مخاطبة اليهود: "أنا خبز الحياة إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي"، فخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل، فقال لهم المسيح: "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان ولم تشربوا دمه فليس لكم حياة، فيكم من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه كما أرسلني الأب الحي وأنا حي بالأب، فمن يأكلني فهو يحيا بي" فقال كثيرون من تلاميذه إن هذا الكلام مَنْ يقدر أن يسمعه؟ فرجع كثير منهم عن صحبته، وهذه القصة مفصلة في الباب السادس من إنجيل يوحنا، فهنا لم يفهم اليهود كلام المسيح والتلاميذ استصعبوه، وارتد كثير منهم. وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: 21 "قال لهم يسوع أيضاً أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطبتكم حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا 22 فقال اليهود: لعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا 51 الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد 52 فقال له اليهود الآن علمنا أن بك شيطاناً، قد مات إبراهيم والأنبياء وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد" وههنا أيضاً لم يفهم اليهود مقصوده في الموضعين بل نسبوه في الموضع الثاني إلى الجنون. وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 11 "قال لهم لعاذر حبيبنا قد نام لكني أذهب لأوقظه 12 فقال تلاميذه يا سيد إن كان قد نام فهو يُشفى 13 وكان يسوع يقول عن موته وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم 14 فقال لهم يسوع حينئذ علانية لعاذر مات" وههنا لم يفهم تلاميذ المسيح عليه السلام كلامه حتى صرح به، وفي الباب السادس عشر من إنجيل متى هكذا: 6 "وقال لهم يسوع انظروا وتحرّزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين ففكروا في أنفسهم أننا لم نأخذ خبزاً 8 فعلم يسوع وقال لهم لماذا تفكرون في أنفسكم يا قليلي الإيمان إنكم لم تأخذوا خبزاً 11 كيف لا تفهمون أني ما قلت لكم عن الخبز أن تتحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين" 12 "حينئذ فهموا أنه لم يقل أن يتحرزوا من خمير الخبز بل من تعليم الفريسيين والصدوقيين" وههنا أيضاً لم يفهم تلاميذ المسيح عليه السلام مقصوده قبل التنبيه، وفي الباب الثامن من إنجيل لوقا في حال الصبية التي أحياها المسيح عليه السلام بإذن الله هكذا: 52 "وكان الجميع يبكون عليها ويلطمون فقال لا تبكوا لم تمت لكنها نائمة" 53 "فضحكوا عليه عارفين أنها ماتت" وههنا لم يفهم الجميع مقصود المسيح عليه السلام، ولذلك ضحكوا عليه، وفي الباب التاسع من إنجيل لوقا قول المسيح في مخاطبة الحواريين هكذا: 44 "ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس" 25 "وأما هم فلم يفهموا هذا القول وكان مخفي عنهم لكيلا يفهموه وخافوا أن يسألوه عن هذا القول" وههنا لم يفهم الحواريون ولم يسألوه خوفاً منه، وفي الباب الثامن عشر من إنجيل لوقا هكذا: 31 "وأخذ الاثني عشر وقال لهم ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان" 32 "لأنه يسلم إلى الأمم ويستهزؤ به ويشتم ويُتْفَل عليه" 33 "ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم" 34 "وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً وكان هذا الأمر مخفياً عنهم، ولم يعلموا ما قيل" وههنا أيضاً لم يفهم الحواريون مع أن هذا التفهيم كان في المرة الثانية ولم يكن في الكلام إجمال أيضاً بحسب الظاهر، لعل سبب عدم الفهم هو أنهم كانوا سمعوا من اليهود أن المسيح يكون سلطاناً عظيم الشأن فلما آمنوا بعيسى عليه السلام وصدقوه بالمسيحية فكانوا يظنون أنه سيجلس على سرير السلطنة، ونحن أيضاً نجلس على أسرة السلطنة، لأن عيسى عليه السلام كان وعدهم أنهم يجلسون على اثني عشر سريراً ويحكم كل منهم على فرقة من فرق بني إسرائيل، وكانوا حملوا هذه السلطنة الدنياوية كما هو الظاهر، وكان هذا الخبز مخالفاً لما ظنوه، ولما يرجونه، فلذا لم يفهموا، وستعرف عن قريب أنهم كانوا يرجون هكذا، وأيضاً قد شُبِّه على تلاميذ عيسى عليه السلام من بعض الأقوال المسيحية أمران ولم يزل هذا الاشتباه من أكثرهم أو كلهم إلى الموت (الأول) أنهم كانوا يعتقدون أن يوحنا لا يموت إلى القيامة (الثاني) أنهم كانوا يعتقدون أن القيامة تقوم في عهدهم كما عرفت مفصلاً في الباب الأول، وهذا الأمر يقيني أن ألفاظ عيسى عليه السلام بعينها ليست بمحفوظة في إنجيل من الأناجيل، بل في كل توجد ترجمتها باليوناني على ما فهم الرواة، وقد عرفت مفصلاً في الشاهد الثامن عشر من المقصد الثالث من الباب الثاني أن إنجيل متى لم يبق بل الباقي ترجمته، ولم يعلم أيضاً اسم مترجمه بالجزم إلى الآن، ولا يثبت بالسند المتصل أن الكتب الباقية من الأشخاص المنسوبة إليهم، وقد ثبت أن التحريف وقع في هذه الكتب يقيناً وثبت أن أهل الدين والديانة كانوا يحرفون قصد التأييد مسألة مقبولة أو لدفع اعتراض، وقد عرفت في الشاهد الحادي والثلاثين من المقصد الثاني بالأدلة القوية أنه ثبت تحريفهم في هذه المسألة فزادوا في الباب الخامس من الرسالة الأولى ليوحنا هذه العبارة: "في السماء وهم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والذين يشهدون في الأرض"، وزادوا بعض الألفاظ في الباب الأول من إنجيل لوقا وأسقطوا بعض الألفاظ من الباب الأول من إنجيل متّى، وأسقطوا الآية الثامنة من الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا، ففي هذه الصورة لو وجد بعض الأقوال المسيحية المتشابهة الدالة على التثليث لا اعتماد عليها مع أنها ليست صريحة كما ستعرف في الأمر الثاني عشر من المقدمة.
قد لا يدرك العقل ماهية بعض الأشياء وكنهها كما هي لكن مع ذلك يحكم بإمكانها ولا يلزم من وجودها عنده استحالة ما ولذا تعد هذه الأشياء من الممكنات، وقد يحكم بداهة أو بدليل قطعي بامتناع بعض الأشياء، ويلزم من وجودها عنده محال ما، ولذا تعد هذه الأشياء من الممتنعات، وبين الصورتين فرق جليّ، ومن القسم الثاني اجتماع النقيضين الحقيقيين وارتفاعهما، وكذا اجتماع الوحدة والكثرة الحقيقيتين في زمان واحد من جهة واحدة، وكذا اجتماع الزوجية والفردية وكذا اجتماع الأفراد المختلفة، وكذا اجتماع الأضداد مثل النور والظلمة والسواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والعمى والبصر، والسكون والحركة في المادة الشخصية مع اتحاد الزمان والجهة، واستحالةُ هذه الأشياء بديهية يحكم بها عقل كل عاقل، وكذا من القسم الثاني لزوم الدور والتسلسل وأمثالهما يحكم العقل ببطلانها بأدلة قطعية.
(الأمر الثامن) إذا تعارض القولان فلا بد من إسقاطهما إن لم يمكن التأويل، أو من تأويلهما إن أمكن، ولا بد أن يكون التأويل بحيث لا يستلزم المحال أو الكذب، مثلاً الآيات الدالة على الجسمية والشكل تعارضت ببعض الآيات الدالة على التنزيه فيجب تأويلها كما عرفت في الأمر الثالث، لكن لا بد أن لا يكون التأويل بأن الله متصف بصفتين أعني الجسمية والتنزيه، وإن لم تدرك عقولنا هذا الأمر فإن هذا التأويل باطل محض واجب الرد لا يرفع التناقض.
(الأمر التاسع) العددُ لما كان قسِماً من الكَم لا يكون قائماً بنفسه بل بالغير، وكل موجود لا بد أن يكون معروضاً للوحدة أو الكثرة. والذوات الموجودة بالامتياز الحقيقي المتشخصة بالتشخص تكون معروضة للكثرة الحقيقية، فإذا صارت معروضة لها لا تكون معروضة للوحدة الحقيقية وإلا يلزم اجتماع الضدين الحقيقيين كما عرفت في الأمر السابع، نعم يجوز أن تكون معروضة للوحدة الاعتبارية بأن يكون المجموع كثيراً حقيقياً وواحداً اعتبارياً.
(الأمر العاشر) المنازعة بيننا وبين أهل التثليث والتوحيد كليهما حقيقيان وإن قالوا التثليث حقيقي والتوحيد اعتباري فلا نزاع بيننا وبينهم لكنهم يقولون إن كلاً منهما حقيقي كما هو مصرح به في كتب علماء البروتستنت، قال صاحب ميزان الحق في الباب الأول من كتابه المسمى بحل الإشكال هكذا: "إن المسيحيين يحملون التوحيد والتثليث كليهما على المعنى الحقيقي".
(الأمر الحادي عشر) قال العلامة المقريزي في كتابه المسمى بالخطط في بيان الفرق المسيحية التي كانت في عصره: "النصارى فرق كثيرة الملكانية والنسطورية واليعقوبية والبوذعانية والمرقولية وهم الرهاويون الذين كانوا بنواحي حران وغير هؤلاء" ثم قال "والملكانية واليعقوبية والنسطورية كلهم متفقون على أن معبودهم ثلاثة أقانيم، وهذه الأقانيم الثلاثة هي واحد وهو جوهر قديم ومعناه أب وابن وروح القدس إله واحد" ثم قال "قالوا الابن اتحد بإنسان مخلوق فصار هو وما اتحد به مسيحاً واحداً، وإن المسيح هو إله العباد وربهم، ثم اختلفوا في صفة الاتحاد فزعم بعضهم أنه وقع بين جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي اتحاد، ولم يخرج الاتحاد كل واحد منهما عن جوهريته وعنصره، وإن المسيح إله معبود وإنه ابن مريم الذي حملته وولدته، وإنه قتل وصلب، وزعم قوم أن المسيح بعد الاتحاد جوهران أحدهما لاهوتي والآخر ناسوتي، وأن القتل والصلب وقعا من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وأن مريم حملت بالمسيح وولدته من جهة ناسوته، وهذا قول النسطورية، ثم يقولون إن المسيح بكماله إله معبود وإنه ابن الله تعالى الله عن قولهم، وزعم قوم أن الاتحاد وقع بين جوهرين لاهوتي وناسوتي فالجوهر اللاهوتي بسيط غير منقسم ولا متجزئ، وزعم قوم أن الاتحاد على جهة حلول الابن في الجسد ومخالطته إياه، ومنهم من زعم أن الاتحاد على جهة الظهور كظهور كتابة الخاتم والنقش، إذا وقع على طين أو شمع وكظهور صورة الإنسان في المرآة إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يوجد مثله في غيرهم، والملكانية تنسب إلى ملك الروم وهم يقولون إن الله اسم لثلاثة معان فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد، واليعقوبية يقولون إنه واحد قديم، وإنه كان لا جسم ولا إنسان ثم تجسم وتأنس، والمرقولية قالوا الله واحد علمه غيره قديم معه والمسيح ابنه على جهة الرحمة، كما يقال إبراهيم خليل الله" انتهى كلامه بلفظه، فظهر لك أن آراءهم في بيان علامة الاتحاد بين أقنوم الابن وجسم المسيح كانت مختلفة في غاية الاختلاف، ولذا ترى البراهين المورَدة في الكتب القديمة الإسلامية مختلفة، ولا نزاع لنا في هذه العقيدة مع المرقولية إلا باعتبار إطلاق اللفظ الموهم، وفرقة البروتستنت لما رأوا أن بيان علاقة الاتحاد لا يخلو عن الفساد البين تركوا آراء الأسلاف، وعجزوا أنفسهم واختاروا السكوت عن بيانها وعن بيان العلاقة بين الأقانيم الثلاثة.
(الأمر الثاني عشر) عقيدة التثليث ما كانت في أمة من الأمم السابقة من عهد آدم إلى عهد موسى عليه السلام، وهَوْسات أهل التثليث بتمسكهم ببعض آيات سفر التكوين لا تتم علينا لأنها في الحقيقة تحريف لمعانيها، ويكون المعنى على تمسكهم من قبيل كون المعنى في بطن الشاعر، ولا أدعي أنهم لا يتمسكون بزعمهم بآية من آيات السفر المذكور بل أدعي أنه لم يثبت بالنص كون هذه العقيدة لأمة من الأمم السالفة، وأما أنها ليست بثابتة في الشريعة الموسوية وأمته فغير محتاج إلى البيان لأنه من طالع هذه التوراة المستعملة لا يخفى عليه هذا الأمر، ويَحْيى عليه السلام كان إلى آخر عمره شاكاً في المسيح عليه السلام بأنه المسيح الموعود به أم لا، كما صرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى أنه أرسل اثنين من تلاميذه وقال له أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟، فلو كان عيسى عليه السلام إلهاً يلزم كفره إذ الشك في الإله كفر، وكيف يتصوّر أنه لا يعرف إلهه وهو نبيه، بل هو أفضل الأنبياء بشهادة المسيح كما هي مصرحة في هذا الباب، وإذا لم يعرف الأفضل مع كونه معاصراً فعدم معرفة الأنبياء الآخرين السابقين على عيسى أحق بالاعتبار، وعلماء اليهود من لدن موسى عليه السلام إلى هذا الزمان لا يعترفون بها، وظاهر أن ذات الله وصفاته الكمالية قديمة غير متغيرة موجودة أزلاً وأبداً، فلو كان التثليث حتماً لكان الواجب على موسى عليه السلام وأنبياء بني إسرائيل أن يبينوه حق التبيين، فالعجب كل العجب أن تكون الشريعة الموسوية التي كانت واجبة الإطاعة لجميع الأنبياء إلى عهد عيسى عليه السلام خالية عن بيان هذه العقيدة التي هي مدار النجاة على زعم أهل التثليث، ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبياً كان أو غير نبي، ولا يبين موسى ولا نبي من الأنبياء الإسرائيلية هذه العقيدة ببيان واضح، بحيث تفهم منه هذه العقيدة صراحة ولا يبقى شك ما، ويبين موسى عليه السلام الأحكام التي هي عند مقدس أهل التثليث ضعيفة ناقصة جداً بالتشريح التام ويكررها مرة بعد أولى وكرة بعد أخرى، ويؤكد على محافظتها تأكيداً بليغاً، ويوجب القتل على تارك بعضها، وأعجبُ منه أن عيسى عليه السلام أيضاً ما بين هذه العقيدة إلى عروجه ببيان واضح مثلاً بأن يقول إن الله ثلاثة أقانيم الأب والابن وروح القدس، وأقنوم الابن تعلق بجسمي بعلاقة فلانية أو بعلاقة فهمها خارج عن إدراك عقولكم فاعلموا أني أنا الله لا غير، لأجل العلاقة المذكورة أو يقول كلاماً آخر مثله في إفادة هذا المعنى صراحة، وليس في أيدي أهل التثليث من أقواله إلا بعض الأقوال المتشابهة: قال صاحب ميزان الحق في كتابه المسمى بمفتاح الأسرار: "إن قلت لِمَ لَمْ يبين المسيح ألوهيته ببيان أوضح مما ذكره، ولِمَ لَمْ يقل واضحاً ومختصراً أني أنا الله لا غير؟" فأجاب أولاً بجواب غير مقبول لا يتعلق غرضنا بنقله في هذا المحل، ثم أجاب ثانياً "بأنه ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه" يعني من الأموات "وعروجه فلو قال صراحة لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني وهذا الأمر كان باطلاً جزماً فدرك هذا المطلب أيضاً من المطالب التي قال في حقها لتلاميذه إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كان ما يسمع يتكلم ويخبركم بأمور آتية" ثم قال "إن كبار ملة اليهود أرادوا مراراً أن يأخذوه ويرجموه، والحال أنه ما كان بَيَّن ألوهيته بين أيديهم إلا على طريق الإلغاز" فعلم من كلامه عذران: (الأول) عدم قدرة فهم أحد قبل العروج (والثاني) خوف اليهود وكلاهما ضعيفان في غاية الضعف، أما الأول فإنه كان هذا القدر يكفي لدفع الشبهة: أن علاقة الاتحاد التي بين جسمي وبين أقنوم الابن فهمها خارج عن وسعكم فاتركوا تفتيشها واعتقدوا بأني لست إلهاً باعتبار الجسم بل بعلاقة الاتحاد المذكور، وأما نفس عدم القدرة على فهمها فباقية بعد العروج أيضاً حتى لم يعلم عالم من علمائهم إلى هذا الحين كيفية هذه العلاقة والوحدانية، ومن قال ما قال فقوله رَجْم بالغيب لا يخلو عن مَفْسَدة عظيمة، ولذا ترك علماء فرقة البروتستنت بيانها رأساً، وهذا القسيس يعترف في مواضع من تصانيفه بأن هذا الأمر من الأسرار خارج عن درك العقل، وأما الثاني فلأن المسيح عليه السلام ما جاء عندهم إلا لأجل أن يكون كفارة لذنوب الخلق ويصلبه اليهود، وكان يعلم يقيناً أنهم يصلبونه ومتى يصلبونه فأي محل للخوف من اليهود في بيان العقيدة؟، والعجب أن خالق الأرض والسماء والقادر على ما يشاء يخاف من عباده الذين هم من أذل أقوام الدنيا، ولا يبين لأجل خوفهم العقيدة التي هي مدار النجاة.
وعباده من الأنبياء مثل أرمياء وأشعياء ويحيى عليهم السلام لا يخافون منهم في بيان الحق ويؤذَوْن إيذاء شديداً ويقتل بعضهم، وأعجب منه أن المسيح عليه السلام يخاف منهم في بيان هذه المسألة العظيمة، ويشدد عليهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غاية التشديد حتى تصل النوبة إلى السب، ويخاطب الكتبة والفريسيين مشافهة بهذه الألفاظ: ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون، وويل لكم أيها القادة العميان وأيها الجهال العميان، وأيها الفريسي الأعمى، وأيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم، ويظهر قبائحهم على رؤوس الأشهاد، حتى شكا بعضهم بأنك تشتمنا كما هو مصرح به في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متّى والحادي عشر من إنجيل لوقا، وأمثال هذا مذكورة في المواضع الأخر من الإنجيل أيضاً، فكيف يظن بالمسيح عليه السلام أن يترك بيان العقيدة التي هي مدار النجاة لأجل خوفهم؟. حاشا ثم حاشا أن يكون جنابه هكذا، وعلم من كلامه أن المسيح عليه السلام ما بين هذه المسألة عند اليهود قط إلا بطريق الإلغاز وأنهم كانوا ينكرون هذه العقيدة أشد الإنكار حتى أرادوا رجمه مراراً على البيان الإلغازي.