وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن جشم بن حبران بن نوف بن همدان بن أوسله بن مالك بن أوسله بن ربيعة بن زيد بن كهلان لما حضرته الوفاة أقبل على ابنيه حاشد وبكيل وهو يقول: " من الرجز "
يُوصيكُما أبوكُما المرءُ جُشم
فليسَ ذُو جهالةٍ كمنْ عَلِمْ
الصِّدق بادٍ وبه تُهدى الأُمم
معالِمَ الرُّشدِ إذا الرُّشدُ ادلهمْ
إن رُمتُمَا السُّؤددَ في النَّاسِ فَهُمْ
يَسُودُهُم مَنْ يعتليهِمْ بالكَرَمْ
في كتب من عصره وفي أمم
يقري إذا ما طارق الليل ألم
في ليلةٍ حَفَّتْ بأهليها الظُّلمْ
من سَنَةٍ غبراءَ هذانِ الأذمْ
أكثرُ مَنْ باشرها لمَّا يَنَمْ
من الطَّوى والقُرِّ فيها والألمْ
وإنْ دعا الدَّاعِيْ لمكرُوهٍ عَظُمْ
من نازلٍ وهناً على الحيِّ هجمْ
أجابَهُ كاللَّيثِ من تحتِ الأجَمْ
وافد مثل السهم يأتم البُهم
حتَّى أتى القسطلَ مِنها والقتم
مفرِّجُ البأساءِ والكربِ المُلِمّ
بصارمٍ يترُكُ أفراخَ القِممَ
تطيرُ مثلَ الدَّاءِ أو مثلَ الحُلُمْ
هذا أوان قيل الامن للمهم
للعزمات ثم للرأي الشيم
وللمُجازاةِ وإيصالِ الرَّحِمْ
ولِلألدِّ الخصمِ إنْ لمْ يَحتكمْ
قامَ لهُمْ بالكُلِّ من ذاكَ وزم
أمرَ الجميعِ وعنِ الكُلِّ حلمْ
ولم يزِغْ عن قصدِهَا ولم يُحَمْ
في كُلِّ ما حاولَ من أمر ورَمْ
ذلِكُمَا السَّيِّدُ والعدلُ الحكمْ
ذَلِكُمَا الرُّكنُ الَّذيْ لا يَنهَدِمْ
ذِلكُمَا المأمُولُ واللَّيثُ القطِمْ
ذلِكُما المهبُوبُ في ذاتِ القُحَمْ
ذِلكُما السَّيفُ الّذِيْ لا ينثلمْ
ذَلِكُما الرُّمحُ الَّذي لا ينفصِمْ
ذَلِكُما الرَّأسُ الَّذي اعتمَّ وتمّ
فلما سمع حاشد وبكيل هذا الشعر من أبيهما قال حاشد لبكيل: أتجيبه قبلي أم أجيبه قبلك. وقام قائماً بين يديه وهو يقول: " من الرجز "
جُزيتَ خيراً من أبٍ ووالدِ
يا واحِداً ما مِثلُهُ من واحدِ
مُتَوَّجٍ على العمادِ ماجدِ
أَوعيتَ ما قُلتَ فغيرُ زاهدِ
في حوزتِي الفخرُ برأيٍ راشدِ
شُدتَ ليَ السُّؤددَ بالقواعِدِ
أولادُ حيِّ المَكرماتِ حاشدِ
فسوفَ تبنيهِ معَ المحامدِ
للكرمِ العاليْ وللمحامدِ
بنيانَ من قد سادَ كُلَّ سائدِ
وفازَ بالسُّؤددِ والفوائِدِ
من الوصايا الزُّهرِ في المساندِ
حفِظنَ عنْ قرمٍ كريمِ الوالدِ
ماضِي الجنانِ شيظميِّ السَّاعدِ
إني ورب الرواعد
الباسقات الشمخ الرواكد
لباذلٌ برغم أنفِ الحاسِدِ
برِّيَ للادنين والأباعِدِ
حتَّى أُسمَّى حيدر الأماجِدِ
في كُلِّ نادٍ دمت والمشاهد
من راتبٍ وصادرٍ وواردِ
وتلكَ نارِيْ شبَّها لي واقِدِي
في شرفٍ من ظلمِ الصَّعايدِ
للطَّارقِ الضَّاوي المُلِمِّ الوافِدِ
وإنْ دُعيتُ للعدوِّ الحاقدِ
ثُرتُ إليه كالهزبرِ الرَّاصِدِ
بصارمٍ ماضي الحُسامِ حاصِدِ
للهامِ والأعناقِ والسَّواعِدِ
قال: فلما سمع جشم هذا الشعر من ابنه بكيل جزاه خيراً وأومأ إليه بالجلوس فجلس. وقام أخوه حاشد بن جشم بن خبران بن نوف بن همدان، واندفع ينشد وهو يقول: " من الرجز "
جُزيتَ خيراً أيُّهَا البُهلولُ
من والدٍ أشكالُهُ قليلُ
في يعرُبٍ وهيَ لنا أُصُولُ
بها ملكنَا وبها نصُولُ
وأنتَ أنتَ قيلُهَا المأمُولُ
الماجِدُ المُتَوَّجُ الجَليلُ
تعنُو لِساميْ عَقلِكَ العقُولُ
وقولُكَ المُستمعُ المَقبُولُ
ورأيُكَ المُستحصِدُ الأصيلُ
قد قالَ ما قد قالَهُ بكيلُ
وحاشِدٌ يقولُ ما يقولُ
إنِّي لها المُؤَمَّلُ المسؤولُ
عِنديْ لطلَّابِ الجدا النُّهُولُ
مِنَ العطايا ولها التَّفصِيلُ
وخيريَ المُنتظرُ المَبذُولُ
لكُلِِّّ من حانَ لَهُ النُّزولُ
بساحتِيْ حيثُ لها التَّبجِيلُ
والرَّحبُ والتَّسهِيلُ والتَّأهِيلُ
والأُنسُ مِنِّي والقِرى المعمُولُ
عِندي ولا يغتالُ جارِي الغُولُ
إنِّيْ لجارِيْ حافِظٌ كفيلُ
وعنهُ ما يُثقلُهُ حَمُولُ
وجارتِيْ خباؤُها مَسدولُ
طرفي عما دونها كليل
وسَرحُهَا آمِنة تقيلُ
بحيثُ لا رَبعٌ ولا طُلُولُ
هذا وإن فاجأَ خنشليلُ
بمُعضلٍ ما دُونَهُ مُمِيلُ
ولا لأمرٍ دُونَهُ سبيلُ
ثُرتُ كأنِّي باسلٌ صؤُولُ
عفَّوس عَذوَّرٌ نِحليلُ
وفي يميني صارمٌ مصقُولُ
يُزيلُ ما شاءَ ولا يزُولُ
والنَّقعُ كابٍ والرَّدى يَجُولُ
بالمُعلِمينَ والكُما نَصُولُ
قال: فلما سمع جشم بن حبران بن نوف بن همدان هذا الشعر من ابنه حاشد جزاه خيراً، وأومأ إليه بالجلوس، فجلس، ثم قال لهما أبوهما جشم: أنتما همدان، وأنتما بيت الشرف من كهلان، لكما العديد الأكثر، وبكما تعز كهلان وحمير، قومكما الأعزون، وأولادكما الأكثرون الباقون. ثم أنشأ يقول:
لا الأزدُ إلا مازِنٌ لا ثمَ لا
همدانُ إلا حاشِدٌ وبكيلُ
ولُبابُ كِندةَ للأشاوس في الذُّرى
ولكُلِّ قومٍ ذروةٌ وسليلُ
وكَذاكَ حِميرُ في عريبٍ مُلكُهَا
وبنُو عريبٍ للمُلًوكِ أصولُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إنه كان كاهناً، وإنما تكلم بهذه الأبيات فيما انتهى إليه من نموِّ هؤلاء الذين ذكرهم.