نزهة الفتيان في تراجم بعض الشجعان/عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


عمر بن عبيد الله بن معمر

القرشي التيمي من عشيرة أبي بكر رضي الله عنه، من التابعين ليث الغاب، بلأ رواح سلاَّب، أنكى الخوارج في دولة عبد الملك بن مروان، وطأطأت له رقاب الشجعان، وكان صاحبُ الترجمة، والمهلبُ بن أبي صفرة الأزدى ممن اعترَف لهم بالفروسية شجعانُ الخوارج، والفضل ما شهدت به الأعداء، وكان الخوارج الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق قد عاثوا في الأرض فسادًا، وكفَّروا الناس، وقتلوا النساء والأطفال في العراق، وذلك في خلافة عبد الله بن الزبير، وعبد الملك ابن مروان، فظهروا وجبوا خراج قُرى العراق، وكادوا يستولون على البصرة والكوفة، فُولىَ المهلب حربهم فهزمهم، وأثخن فيهم وأقصاهم عن المدن والقرى ثم جاء مصعب بن الزبير أميرًا على العراق من قبل أخيه عبد الله، واحتاج إلي المهلب فصرفه عن الحرب، وولاه الموصل ليكون بينه وبين عبد الملك بن مروان، واستشار رؤساء البصرة فيمن يولِّيه حربَ الخوارج، فقال قومَ: وَلِّ عبيد الله بن أبي بكرة، وقال فريق: ولِّ عمر بن عبيد الله بن معمر، وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب، فأمَّر مصعب صاحبَ الترجمة، وبلغت المشورة الخوارج، فتذكروا، فقال لهم قَطَرى بن الفجاءة: أميرهم إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيِّع لعسكره، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم شجاع بطل فارس جادٌّ يقاتل لدينه وملكه بطبيعة، لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائق ما نودي في القوم لحرب إلاّ كان أول فارس يطلع حتى يشد على قِرنه فيضربَه وإن رَدَّ إليكم المهلب؛ فهو مَن قد عرفتموه إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه، لا يبدؤكم إلا أن تبدؤه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبربِرُ، والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم، فلما بلغ المهلبَ أن مصعبًا ولى عمر بن عبيد الله على حرب الخوارج، قال: رماهم بفارس العرب وفتاها، فزحف إليهم عمر، وقاتلهم وألحَّ عليهم حتى أخرجهم من فارس، وألحقهم بأصفهان، ثم أتوا سابور، وجمعوا له وأعدوا واستعدوا، فسار إليهم حتى نزل على أربعة فراسخ منهم، فقال له مالك بن حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكى العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك، أتراك تموت قبل أجلك؟ فأقام هناك فبيَّته الخوارج ليلة، فخرج إليهم وحاربهم حتى أصبح فلم يظفروا منه بشيء، فقال لمالك بن حسان: كيف رأيت؟ قال: قد سلَّم الله ولم يكونوا يطمعون في المهلب بمثل هذا، فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا العدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي بعيد الدار خَيرُه لغيرنا فتقاتلون معي تعذيرًا، ثم زحف إلى الخوارج في غير ذلك اليوم فقاتلهم قتالًا شديدًا حتى ألجأهم إلى قنطرة، فتكاثف الناس عليها حتى سقطت فأقام حتى أصلحا ثم عبروا، وقدم ابنه عبيد الله وراء الخوارج فقاتلهم حتى قتل، فقال قطري للخوارج: لا تقاتلوا عمر اليوم؛ فإنه موتور، ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى وصل إلى الجيش فناداهم: أين ابني؟ فقالوا: احتسبه، فقد استشهد رحمه الله صابرًا مقبلًا غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها، وحمل أصحابه بحملته فقتلوا في حملتهم تسعين رجلًا من الخوارج، ووصل إلى قطري فضربه على جبينه ففلقه، ونجا قطري، وانهزمت الخوارج، وحوى ما عندهم من الذخائر، فلما استقروا قال لهم: قطري: أما أشرت عليكم بالانصراف فخرجوا من فارس وجمعوا جمعًا آخر، وعادوا إلى أرَّجان، فسار إليهم عمر وكتب إلى مصعب: أما بعد؛ فإني قد لقيت الأزارقة فرزق الله عبيد الله ابني الشهادة، ووهب له السعادة، ورزقنا الله عليهم الظفر فتفرقوا شذر مذر، وبلغني عنهم عودة فيممتهم، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، فسار إليهم فالتقوا فألح عليهم حتى اثخن فيهم، وانفرد من أصحابه فعمد له أربعة عشر رجلًا من شجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلًا منهم ضربة إلا صرعه، فركب إليه قطري على فرس طِمِرّ، وكان عمر على مهر فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كان يصرعه فحمل مُجَّاعة بن سِعْر السعدي التميمي من أصحابه على قطري، فصاحت الخوارج بقطري: يا أبا نعامة؛ إن عدوَّ الله قد رَهَقَك فانحط قطري عن قربوسه فطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري فكشط عنه جلده ونجا، ثم ارتحلوا إلى أصفهان، ورجعوا إلى الأهواز، ثم رد ابن الزبير المهلب إلى حرب الخوارج، وولى عمر بن عبيد الله على فارس إلى أن ملك عبد الملك بن مروان العراق من ابن الزبير، وقتل أخاه مصعبًا، وخرج على عبد الملك من الخوارج أبو فُدَيك، وأرسل معه عشرة آلاف من أهل الكوفة والبصرة، فسار إليه وأهل الكوفة في ميمنته وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله. وأهل البصرة في ميسرته وعليهم عمر بن موسى أخوه، وهو في القلب فانتهوا إلى البحرين واصطفوا للقتال، وحملوا على أبي فُذيك وأصحابه فهزموهم، واستباحوا عسكرهم، وقتلوا أبا فُديك، وحصروا أصحابه بحصن المشقّر حتى نزلوا على الحكم فقتل منهم ستة آلاف، وأسر ثمانمائة وذلك سنة سبعين وقد ولى ولايات متعددة، وشهد مع عبد الرحمن بن سُمرَة فتح كابل، وهو صاحب الثغرة، وكان قاتل عليها طول الليل حتى أصبح، وله مناقب عظيمة، وكان أحد أجواد العرب وأنجادها، وقد مدحه العجاج بأرجوزته المشهورة: قد جبر الدين الإله فجبر.

وفيها يقول:

لقد سما ابن معمر حين اعتمر
مغزى بعيدًا من بعيد وصبر

وغيره من الشعراء، وكان سبب موته أن ابن أخيه عمر بن موسى خرج مع ابن الأشعث على الحجاج فأخذه الحجاج فبلغ ذلك عمه عمر وهو بالمدينة، فخرج إلى الشام لعبد الملك يشفع فيه، فلما بلغ موضعًا يقال له: ضُمَيْر، بينه وبين دمشق خمسة عشر ميلًا بلغه أن الحجاج ضرب عنق ابن أخيه فمات كمدًا عليه، فقال الفرزدق يرثيه:

يا أيها الناس لا تبكوا على أحد
بعد الذي في ضُمَيْرٍ وافق القدر

وذلك سنة اثنتين وثمانين، وقيل: مات بالطاعون، وصلى عليه عبد الملك بن مروان، ومشى في جنازته، وحضر دفنه، وأثنى عليه بعد موته رحمه الله.