نزهة الفتيان في تراجم بعض الشجعان/المهلب بن أبي صفرة الأزدي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


المهلب بن أبي صفرة

الأزدي، الشجاع المشهور، أحد الدهاة، كان فارسًا بطلًا فقيهًا حليمًا شريفًا في قومه، ولد عام الفتح في زمن النبي صل الله عليه وسلم ولم يره، وأبوه من الصحابة، تقدم لنا شيء من خبره في ترجمة عمر بن معمر في ذكر الخوارج، وكان أهل البصرة حينما عاثت الخوارج الأزارقة في الأرض، وقتلوا بعض القواد، وهزموا بعضًا فزعوا إلى الأحنف بن قيس سيد بني تميم فأتى بهم إلى الحارث قُبَاع عامل البصرة، فقالوا له: إن هذا العدو قد غَلَبَناَ على سَوادنا وفيئنا، وما بقي إلا أن يَحْصُرَنا في بلدنا حتى نموت هَزْلًا، فقال لهم: اختاروا رجلًا، فقال الأحنف: ما أرى لهم إلا المهلب، فقال القباع: اذهبوا، واتفقوا على رجل وائتوني غدًا، فذهبوا واتفقوا على المهلَّب بعد اختلاف، فوجه الحارث إليه فأتاه فقال له القُباع: يا أبا سعيد، قد ترى ما رَهِقَنا من هذا العدو، وقد اجتمع أهل مِصْرك عليك، وقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ إني عند نفسي لدون ما وصفتم، ولست آبيًا ما دعوتم إليه على شروط أشْترطُها، فقال الأحنف: قل، فقال: على أن أَنْتَخِبَ من أحببتُ، قال: ذلك لك، قال: ولي إمره كل بلد أغلب عليه، قال: وذاك لك، قال ولى فَيء كل بلد أظفر به، قال الأحنف: ليس ذلك لك ولا لنا، إنما هو فيء المسلمين، فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوِّهم، ولكن لك أن تعطى أصحابك من فيء كل بلد تغلب عليه ما شئت وتنفق على محاربه عدوِّك فما فضل عنكم كان للمسلمين، قال المهلب فمن لي بذلك؟ قال: نحن وأميرك وجماعة أهل مِصْرك قال: قد قبلت فكتبوا بذلك كتابًا، ووضع على يدي الصلت بن حريث، ثم انتخب المهلب اثني عشر ألفًا من الجند ونظروا ما في بيت المال فلم يكن إلا مائتي ألف درهم فعجزت، فبعث المهلب إلى التجار: إن تجارتكم مُذ حَوْلٍ قد كسدت عليكم بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم، فهلم فبايعوني، واخرجوا معي أُوفَّكم حقكم إن شاء الله، فتَاجَرُوه فأخذ من المال ما يصلح به عسكره، واستعد بالآلات، وضرب الركب من الحديد، وهو أول من ضربها من الحديد، ثم نهض إليهم وأكثر أصحابه رَجَّالة، فعبر إليهم في السفن، وقدم ابنه المغيرة أمامه، فلما قاربوا الشاطئ خاضت إليهم الخوارج فحاربهم المغيرة بالنيل حتى تَنَحَّوا، وجاء أبوه فأمر بعقد الجسر فعبر هو وجنده، والخوارج منهزمون، فنهاهم عن اتباعهم، فأقام أربعين يومًا يجبي الخراج بكُوَر دَجلة ثم وفى التجار حقوقهم وأعطى أصحابه فأسرع الناس إليه رغبة في الجهاد والعطاء، ثم زحف إليهم ثانيًا وهم بنهر تِيرَى فتنحوا عنه إلى الأهواز، فأقام يجبى خراج من حوله من الكورودَسَّ الجواسيس إلى عسكر الخوارج فأتوه بأخبارهم ومَنْ في عسكرهم وإذا هم حُشْوَة، ما بين صباغ، وقَصَّار، وداعِر، وحَدَّاد، فخطب أصحابه وذكر لهم لفيف الخوارج، وقال لهم: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم؟ فلم يزل مقيمًا حتى قهرهم، وأحكم أمره، وكثر عنده الفرسان وتتامَّ إليه زُهاء عشرين ألفًا فمضى يؤُمُّ سوق الأهواز، وأرسل ابنه المغيرة في مقدمته فحاربته الخوارج يومهم، وانكشف عنه بعض أصحابه، وثبت المغيرة، وغاداهم الحرب في ثاني يومه فإذا هم قد حرقوا أثقالهم، وهربوا من الأهواز فدخلها، وجاءت أوائل خيل أبيه، فأقام بسوق الأهواز، وكتب إلى القُبَاع بالفتح، وكان المهلب يبث الأحراسَ في الأمن كما يبثهم في الخوف ويُذكى العيونَ في الأمصار كما يذكيها في الصحاري، ويأمر أصحابه بالتحرز ويخوفهم البَيَاتَ وإن بَعِد منهم العدو، ويقول: احذروا أن تكادوا كما تَكيدون، ولا تقولوا غَلَبْنا وهَزَمْنا؛ فإن القوم خائفون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم التقى معهم المهلب (بسُوَلاَف) موضع، وجعل على بني تميم لَحْرِيشَ بنْ هِلاَل فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحابه فقتله، فحمل عليه المهلب وطعنه فقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر، فانهزم الناس، وقتلوا سبعين رجلًا، وثبت المهلب وأبلى المغيرة ابنه يومئذٍ بلاءً حسنًا، وحمى المهلب أدبار المنهزمين، وحال الليل بينهم وبات في ألفين من أصحابه، فلما أصبح رجع إليه بعض المنهزمين، فصار في أربعة آلاف فخطبهم، وقال: والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والطَّمع والطَّبَع: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}[آل عمران:140] فسيروا إلى عدوكم على بركة الله، فقال له الْحَرِيشُ بنُ هِلال: لا تقاتلهم إلا أن يقاتلوك؛ فإن بأصحابك جراحًا، وقد أثخنتهم هذه الجولة فقبل منه ومضى المهلب في عشرة من أصحابه حتى أشرقت على عسكر الخوارج فلم يرَ منهم أحدًا يتحرك فارتحل فعبر دُجَيْلًا واستراح بالناس ثلاثة أيام فقال ابن قيس الرُّقَيَّات في ذلك:

ألاَ طَرَقَتْ مِنْ آل بْيَبةَ طَارقه
على أنها مَعْشُوقَةُ الْدَّلِّ عَاِشٍقَهْ
تَبيتُ وأرضُ السُّوسِ بيني وبينها
وسُولاَفُ رُسْتاقٌ حَمَتْهُ الأزَارِقه
إذا نحْنُ شِئنا صَادفتنا عَصَابةٌ
حَرُورِيَة أضْحَتْ من الدين مارفة
أجازَتْ إلينا العَسكَريْن كليْهما
فباتت لنا دون اللحافِ مُعانقه

ثم زحف إليهم في اليوم الرابع وهم بِسِلّى وَسِلَّيْرَى1 اسمي موضوعين، فنزل قريبًا منهم، فقال لهم أميرهم ابن الماحوز: ما تنتظرون بعدوكم، وقد هزمتموهم بالأمس وكَسَرْتم حَدَّهم؟ فخرج مائتان منهم إلى عسكر المهلب فحزَرُوهم ورجُعوا، وأمر المهلب أصحابه بالتَحَارُس حتى إذا أصبح ركب إليهم على تعبئة صحيحة فالتقوا وتصافَّوا فخرج منهم مائة فارس فركزوا رماحهم بين الصفين، واتكئُوا عليها، فأخرج إليهم المهلب أمثالهم ففعلوا مثل ما فعلوا لا يَريمون إلا للصلاة حتى أمسوا، فرجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هذا ثلاثة أيام، ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث فحمل عليهم هؤلاء الفرسان يجولون ساعة ثم طعن خارجي رجلًا من أصحاب المهلب فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم كما صنعوا يوم سُولاف فضَعْضَعُوا الناس، وَفُقِدَ المهلب وثبت المغيرة في جمع أكثرهم من أهل عُمان ثم نجم المهلب في مائة فارس، وقد انغمست كفاه في الدم وعلى رأسه قَلَنْسُوة مُرَبعة فوق المِغفْر مَحْشُوة قَزًّا وحَشْوُها يتطاير وهو يلهث وذلك في الظهيرة فلم يزل يحاربهم إلى الليل حتى كثر القتل في الفريقين وغاداهم ثاني يوم وهو في ثلاثة آلاف فقال لأصحابه: ما بكم من قلة، أَيَعْجِزُ أَحدُكم أن يرميَ برمحه ثم يتقدم فيأخذه؟ ففعل ذلك رجل من كِندة يقال له عياش، وقال لهم: أعدوا مَخالِي فيها الحجارة واْرموا بها في وقت الغفلة؛ فإنها تَصُد الفارس وتَصْرَع الراجل ففعلوا، وأمر مناديًا في أصحابه بأمرهم بالجِدِّ والصبر ويطمعهم في العدو وحمل فحملوا معه فاقتتلوا قتالًا شديدًا وجُهدَ الخوارج فنادى مناديهم: ألا إن المهلب قد قتل فركب المهلب بِرْذَوْنًا وأقبل يركض بين الصفين وهو يصيح: أنا المهلب، فسكن الناس بعد أن اْرتاعوا، وظنوا أن أميرهم قد قتل وَكلَّ الناسُ مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة: تقدم ففعل، ونادى مولاه ذَكْوانَ أن قَدِّم رايتك ففعل، واجتلدوا أشد جلاد حتى إذا كان مع المساء قُتل أمير الخوارج ابن الماحوز فانهزموا وساروا إلى أرَّجان ولم يشعر المهلب بذلك وبات في عسكره يأمرهم بالاحتراس وأرسل جماعة يكشفون أمر الخوارج فرجعوا إليه وأخبروه بارتحالهم، فقال: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا منكم إلا من جهة البيات، فإن كان ذلك فاجعلوا شعاركم: (حم لا ينصرون)؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها ثم غدا على القتلى فوجد فيهم أمير الخوارج، وقال شاعر من الخوارج في هذه الوقعة يرثي من قتل منهم:

بِسِلّى وسِلّيْرَى مَصَارِعُ فِتْيةٍ
كرامٍ وجَرْحَى لَم توَسَّدْ خُدُودُها2
واجتمعت الخوارج بأرَّجان وبايعوا أميرًا آخر وهو الزبير بن علي من بني سليط بن يربوع فخطبهم وشجعهم وتحملوا لمحاربة المهلب فنفحهم نفْحة فرجعوا وأكُمنوا للمهلب مائة في غمض من غموض الأرض ليقاتلوه قريبًا من عسكره فخرج المهلب يطوف على عسكره ويتفقده فوقف على جبل فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكَمنت في سفح هذا الجبل كَمينًا، فبعث عشرةَ فوارس فاطلعوا على المائة، فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا وكسفت الشمس فصاحوا بهم: يا أعداء الله، لو قامت القيامة لجدَدْنا في جهادكم فيئسوا من المهلب، فذهبوا إلى ناحية أَصْبهان ثم كرروا راجعين إلى أَرَّجان، وقد جمعوا جمعًا عظيمًا، وكان المهلب يقول: كأني بهم وقد جمعوا لكم جموعًا فلا ترهبوهم فَتَخْبُثَ قلوبكُم، ولا تغْفَلُوا الاحتراس فيطمعوا فيكم، فجاءوه من أَرَّجان فألفَوْه مستعدًا آخذًا بأفواه الطرق فحاربوه فظهر عليهم ظهورًا بينًا، فقال شاعر تميمي من بني رياح بن يربوع:
سَقَى الله المهلَّبَ كُلَّ غَيْثٍ
مِنَ الوَسْميِّ يَنْثَجِرُ انْثِجَارَا
فَمَا وَهَن المهلَّبُ يَوْمَ جَاءتْ
عوابسُ خَيلهم تَبْغِي الغِوَارا

وقال المهلب يومئذٍ: ما وقعت في أمر ضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالًا من بني الهُجيم بن عمرو بن تميم يجالدون وكأن لحاهم أذناب العقاعِق وكانوا صبروا معه في غير موطن وحمل يومئذٍ الحريش بن هلال التميمي على قيس الإكاف، وكان قيس من أشجع فرسان الخوارج فطعنه فدقَّ صلبه، وقال:

قيس الأِكافِ غَدَاة الرَّوْع يَعْلَمُني
ثَبْتَ الَمقام إذا لاقَيْتُ أقراني

ثم ولى مصعب بن الزبير المهلب على الموصل وصرفه عن حرب الخوارج، وولاها عمر بن عبيد الله بن معمر كما تقدم، ثم اضطربت بعد ذلك الأمور، واختلفت الأمراء على العراق، وطمع فيه الخوارج إلى أن جاء الحجاج أميرًا عليه من قِبَلِ عبد الملك، فخطب أهل العراق، ووبخهم على عدم مناصحتهم الأمراء وأمرهم باللحاق بالمهلب ليقاتلوا الخوارج، وهددهم بالقتل، وقال: كل مَن تأخر بعد ثلاثة أيام ضربت عنقه، فهرعوا إلى المهلب حتى كثروا عند المهلب، فقال المهلب: اليوم قوتل هذا العدو، ثم زحف إليهم وهم بسابور وكتب الحجاج إلى المهلب: أما بعد، فإنه بلغني أنك أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي، وعَبَّاد بن حصين الْحَبِطي، واخْترتك وأنت من أهل عُمان ثم رجل من الأزد فالقهم يوم كذا في مكان كذا وإلا أَشْرَعْتُ إليك صدر الرمح والسلام.

فكتب إليه المهلب: ورد علي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوِّ، ومَن عجز عن جباية الخراج، فهو عن قتال العدوِّ أعجز، وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم، وعَبَّاد بن حصَين، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك في فضلهما وغَنائهما وبطشهما، واخترتني وأنا رجل من الأزد ولعمري إن شرًّا من الأزد لقبيلة تُنازعها ثلاثُ قبائل لم تستقر في واحدة منهن، وزعمت أني إن لم ألقهم في يوم كذا في مكان كذا أشرَعْتَ إلىَّ صدر الرمح، فلو فعلت لقلبتُ إليِك ظهر المِجنِّ والسلام.

ثم واقعهم المهلب فانتصر عليهم، فبيتوا بني تميم من جيشه ليلة وعُبيدة بن هلال من شجعانهم يقول:

أَنِي لَمُذْكِ للشُّرَاةِ نارَها
ومانعٌ ممن أتاها دَارَها
وغاسِلٌ بالطعن عنها عَارَها

فوجدوا بني تميم أيقاظا متحارسين فخرج إليهم الحَرِيشُ بن هلال فارسهم، وهو يقول:

لقد وجَدْتم وُقُرًا أنْجَادَا
لا كُشُفًا مِيلًا ولا أوْغَادا
هيهات لا تُلْفُونَنَا رُقَّادا
لا بَلْ إذا صِيحَ بنا آسَادا

فحمل عليهم فرجعوا عنه فاتبعهم وصاح بهم: إلى أين يا كلاب النار؟ فقالوا: إنما أعدت النار لك ولأصحابك، فقال: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار، وعَنَى المهلب بقوله للحجاج: (قبيلة تُنازعها ثلاث قبائل) قبيلة الحجاج؛ فإنه مختلَفُ في نسبهم، قيل: هم بقية من ثمود قوم صالح، وقيل: من بني إياد بن نزار، وقيل: هم من قَيْس عَيْلان بن مضر، وهو المشهور، والشُّراة لقب للخوارج لاشترائهم الجنة بالجهاد في الكفار في زعمهم، وأرسل الحجاج الجرَّاحَ بن عبد الله الحَكَمي إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم وكتب معه: أما بعد؛ فإنك جبيت الخراج بالعِلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعز ناصرًا، وأكثر عددًا، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبنا، ولكنك اْتخذَتْ أكْلًا، وكان بقاؤهم أيسرَ عليك من قتالهم فناجِزْهم وإلا أنكرْتَنِي والسلام.

فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة، والله ما تركت حيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها، وما العجب من إبطاء النصر، وتراخي الظهر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يُبْصِره، ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال ولا يزالون كذلك إلى العصر، وينصرف أصحابه وبهم قَرْح، وبالخوارج قَرْح وقتل فقال له الجرَّاح: قد أَعْذَرْتَ، فكتب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم على أنك لا تظن بي معصية ولا جبنًا، وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وأوعدتني وعيد العاصي، فاسأل الجرَّاح والسلام.

فقدم الجرّاح فقال له الحجاج: كيف رأيت المهلَّب؟ فقال: والله ما رأيت أيها الأمير مثله قط، ولا ظننت أن أحدًا يبقى على مثل ما هو عليه، ولقد شهدت أصحابه أيامًا ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها وهم بها يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف، ويتخابَطُون بالعَمَد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئًا رَواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم، فقال الحجاج لشلد ما مدحته أبا عُقبة، قال: الحق أولى، ثم أرسل الحجاج أيضًا إلى المهلب رجلين يستحثانه المناجزة أحدهما ثَقَفي3، والآخر يقال له: زياد بن عبد الرحمن العامِري4، فضم المهلب زيادًا إلى ابنه حَبيب، والثقفي إلى ابنه يزيد، وقال لهما: خُذا يَزيدَ وحبيبًا بالمناجزة، فغادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال فقُتل زِياد رسول الحجاج وفُقد الثقفي، ثم باكَرُوهم في اليوم الثاني وقد وُجِد الثقفي فدعا به المهلب ودعا بالغَداء فجعل النَّبْل يقع قريبًا منهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب فقال الصَّلَتَان العَبْدِي في ذلك:

ألا يا أصْبَحَانِي قبْل عَوْق العوائِق
وقبْلَ اخْتراطِ القوم مثل العَقائق5
غَدَاةَ حَبيبٌ في الحديد يَقُودُنا
نَخُوضُ المنايا في ظِلال الخْوافِق
حَرونٌ إذا ما الحرْب طَارَ شَرارُها
وهَاج عَجاجُ الحرب فوْق البَوارق
فَمَنْ مبلغُ الحجَّاج أنَّ أمينه
زيادًا أطاحَتْه رِماحُ الأزارق

ثم وجه الحجاج أيضًا للمهلب رجلين6 يستحثانه، فقال المهلب متمثلًا في الحجاج:

ومستعجب مما يَرى مِنْ أَناتنا
ولو زَبَنَتْهُ الحرب لم يَتَرَمْرَم7

وأمر ابنه يزيد أن يحركهم فحركهم فتهايجوا، فحمل خارجي على رجل من أصحاب المهلب فشْك فخذه بالسَّرْج، فقال المهلب لرسول الحجاج: كيف نقاتل قومًا هذا طعنهم وجاء "الرُّقَّاد" وهو من فرسانه، وبه نيف وعشرون طعنة، وحمل عليهم يزيد فانهزموا، وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخُشَنِىِّ: مَنْ لهذين؟ قال: أنا، فحمل عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعُه، وحمل عليه الآخر فعانقه فسقطا جميعًا إلى الأرض فصاح قيس: اقتلونا جميعًا فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانقهُ امرأة فقام قيس مستحييًا، فقال له يزيد: أما أنت فبارزَتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قُتلتُ، أما يقال: قتلته امرأة، وأبى ابن المُنْجِب السَّدُوسي يومئذٍ، فقال له غلامه: خِلاج وددنا، والله أنا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرهم فاستلب جَاريتين مما هناك، فقال مولاه: وكيف تمنيت اثنتين؟ قال: لأعطيك واحدة، وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب في ذلك:

أَخِلَاجُ إنك لْنْ تُعانِقَ طَفْلَةً
شَرِقًا بها الْجَادِيُّ كالتَمثَالِ8
حتى تُلاقِيَ في الكتيبةِ مُعْلمًا
عَمْروَ الْقناَ وعُبيَدةَ بنَ هِلال9
وتَرى المَقَعْطَرَ في الكتيبةِ مُقْدَما
في عُصْبةٍ قَسَطُوا مَع الضُّلاُّل10
أوْ أَنْ يُعَلِّمكَ المهلب غَزْوَةً
وتَرَى جِبالًا قد دَنَتْ لجبالِ

وهؤلاء المذكورون في الشعر من شجعان الخوارج، وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم فيبغوا عليكم؛ فإنهم إذا بغوا نصرتهم عليهم، وكانت الخوارج تسمى المهلب الساحر؛ لأنهم كلما دبروا حيلة أو مكيدة يكيدونه بها يجدونه سبقهم إلى ذلك، وكان أولاده كلهم شجعانًا، وهم: المغيرة، ويزيد، وحَبيب، ومُدرِك، والمفضَّل وغيرهم، وأكبرهم وأعقلهم المغيرة، وأجودهم يزيد، ودسَّ المهلب إلى الخوارج من سألهم أسئلة فاختلفوا في الجواب، وكفر بعضهم بعضًا، وخلع قَطرِيًّا أكثرُهم، وبايعوا غيره فاقتتلوا مع بعضهم بعضًا حتى قتل منهم كثير، واستأصل المهلب بقيتهم، وقطع دابرهم بعد أن حاربوا المسلمين نحو ثلاث عشرة سنة، وذلك مدة خلافة عبد الله بن الزبير وسنين من خلافة عبد الملك بن مروان، وأرسل بشيرًا إلى الحجاج، وكان فصيحًا شاعرًا، فقال له الحجاج: أخبرني عن بني المهلب، قال المغيرةُ: فارسُهم وسيدهم وكفى بيزيد فارسًا شجاعًا، وجوادُهم وسخِيُّهم قُبيصة.

ولا يستحي الشجاع أن يفرد من مدرِك، وعبد الملك سمٌّ نَاقع، وحبيب موت زُعاف، ومحمد ليث غاب وكفاك بالمفضل نَجْدة، قال: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: تركتهم بخير قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيكم؟ قال: كانوا حماة السَّرْح نهارًا، فإذا أَلْيَلُوا ففُرسْان البَيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المُفرَغة لا يُدرى أينَ طَرْفُها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عَفَوْنا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال: الحجاج: إن الْعاقبة للمتقين، قال: فكيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقةُ الوالد، وله منابِرُّ الولد، قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: قد فشا فيهم الأمن، وشملهم النَّفلَ، قال الحجاج: هكذا تكون والله الرجال، المهلب أعلم بك حيث وجهك، ثم كتب الحجاج إلى المهلب أن استعمل شهمًا من أولادك على كِرْمان، وأقدم علي، فاستعمل ابنه يزيد، وقدم العراق فأجلسه الحجاج إلى جانبه، وأظهر إكرامه وبره، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلب، ثم قال الحجاج للمهلب: أنت والله كما قال لقيطٌ الإيادي:

وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ
رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا11
لاَ يَطْعَمُ النَّومَ إِلاَّ رَيْثَ يَبْعَثُهُ
هَمٌّ يَكَادُ حَشَاهُ يَقْصِمُ الضِّلعَا
لاَ مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ
وَلاَ إِذَا عَضَّ مَكُرُوهٌ بِهِ خَشَعَا
مَا زَالَ يَحْلُبُ هذا الدهْرِ أَشْطُرَهُ
يَكُونُ مُتَّبِعًا طَوْرًا وَمُتَّبَعَا
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ
مُسْتَحْكِمَ الرأْيِ لاَ فَحمْا وَلاَ ضَرَعَا12

هذا آخر ما أردت جمعه من تاريخ بعض مشاهير الشجعان تذكرة لشباب العصر الرافلين في حلل المدنية والفخر.

والله أعلم

  1. ضبطها الأخفش بفتح السين فيهما، وهما موضوعان بالأهواز وبسلى: موضوع بالبادية.
  2. وقال آخر:
    بسلى وسليزى مصارع فتية
    كرام وعفري من كَمَيْتٍ ومن ورد
  3. من آل أبي عقيل جدا الحجاج.
  4. من بني عامر بن صعصعة.
  5. العقائق: السيوف: جمع عقيقة. يقال سيف كأنه عقيقة برق أي كأنه لمعة برق.
  6. أحدهما من "كلب" والآخر من "سليم".
  7. الشعر لأوس ابن حجر. زبنته: دفعته يترمرم: يتحرك..
  8. طفلة: ناعمة الجادي: الزعفران.
  9. الكتيبة: الجيش، المعلم: الذي شهر نفسه في الحرب بعلامة، عمرو القنا: ابن بني سعدَ بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل.
  10. المقعطر: من بني عبد القيس، قسطوا: جاروا.
  11. رحب الذراع: واسع الصدر.
  12. يقال "شزرت الحبل إذا كرتت قتله بعد استحكامه راجعًا عليه. ر المريرة: الحبل وهذا مثل. والفحم آخر سن الشيخ، والضرع محركًا: الصغير الضعيف.