معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/لا بد للإسلام أن يحكم
لابدّ للإسلام أن يحكم
إذا أريد للإسلام أن يعمل، فلابد للإسلام أن يحكم؛ فما جاء هذا الدين لينزوى فى الصوامع والمعابد، أو يستكن فى القلوب والضمائر؛ إنما جاء ليحكم الحياة ويصرفها؛ ويصوغ المجتمع وفق فكرته الكاملة عن الحياة، لا بالوعظ والإرشاد، بل كذلك بالتشريع والتنظيم. جاء ليترجم مبادئه ونظرياته، نظاما وحياة، ويجعل أوامره ونواهيه مجتمعاً حياً وناساً من اللحم والدم، يدبون على هذه الأرض، ويمثلون بسلوكهم ونظام حياتهم، وعلاقات مجتمعهم، وشكل حكمهم.. مبادئ هذا الدين وأفكاره، وقوانينه وتشريعاته.
ومما سبق عرضه من مشكلات اجتماعية وقومية، وطريقة علاج الإسلام لها، يتبين بما لا لَبْسَ فيه ضرورة الحكم للإسلام. وإلا فكيف يواجه هذه المشكلات وسواها، وكيف يعالجها ويجد لها الحلول؟
إنه لا يملك توزيع الثروة طبقاً لحاجات المجتمع، أو تحقيق العدالة بين الجهد والجزاء، أو منح الجميع فرصاً متكافئة فى الحياة، أو تجنيد القوى المعطلة للعمل والإنتاج، أو دفع الدولة إلى اتخاذ موقف معين فى المجتمع الدولى، أو تجنيد الجيوش وإعداد القوى ... أو.. أو.. مما يمثل مبادئه الأساسية التى يقوم عليها كيانه ذاته فى فكرته الكلية التى جاء ليصوغ منها الحياة.. إنه لا يملك شيئاً من هذا كله وهو عقيدة مستمرة فى الضمير، أو صلاة خاشعة في المسجد، أو مناجاة بين العبد ومولاه.
والذين يتحدثون عن الإسلام وانتفاء حاجته إلى الحكم؛ أو عن إمكان تحققه فى الحياة دون تحكيمه فى الحياة.. إنما يلقون حديثاً فيه من التفاهة والقزامة ما لا يرتفع إلى شرف المناقشة واحترام الجدل ! إنهم لا يدلون بهذا على جهلهم لطبيعة هذا الدين من أساسها، ولا بعدهم عن الإلمام بحقائقه البسيطة التى يلام على جهلها المبتدئون؛ بل يدلون على جهل بكل مقوّمات الطبيعة البشرية، وكل العوامل المؤثرة فى تكوين المجتمعات، وكل الثقافات الضرورية لاستقبال الحياة، بله الحكم على الحياة!
ولكن القزامة والتفاهة الفاشية عند الكثيرين فى هذا الجيل، وسطحية التفكير وضحالة الثقافة، تقبل مثل هذا الكلام أحياناً، حتى ليردده وزراء فى الحكم، لا يخجلون أن يطلع الناس فى مصر وفى غير مصر على مدى ما يتمتعون به من سذاجة وغفلة، ومن سطحية وبعد عن الثقافة – وهم الذين يدعون أنفسهم أو يدعوهم الناس «مثقفين»!
فى العالم المسيحى الغربى يدخل الفرد إلى الكنيسة فيستمع إلى المواعظ والتراتيل؛ وقد يخشع قلبه، وهو ينصت إلى صوت الواعظ المؤثر، وإلى الموسيقى المنبعثة من الجوقة، والتراتيل الخاشعة، والأبخرة الأريجة العطرة ...
ولكنه حين يغادر الكنيسة يجد قانوناً آخر يحكم الحياة الواقعة ويصرفها، ويجد مجتمعاً يقوم على أساس هذا القانون، الذى لا علاقة بين روحه وروح المسيحية.
وكثيراً ما ذهبت إلى هذه الكنائس، واستمعت إلى الوعاظ فى الكنيسة، وإلى الموسيقى والتراتيل والأدعية، وكثيراً ما استمعت إلى إذاعة الآباء فى محطات الإذاعة فى الأعياد المسيحية.. دائماً يحاول الآباء أن يعقدوا الصلة بين قلب الفرد وبين الله. ولكن واحداً منهم لم أسمعه يقول: كيف يمكن أن تكون مسيحياً فى واقع الحياة اليومية، ذلك أن المسيحية إنما هى مجرد دعوة لتطهر الروحي، ولم تتضمن تشريعاً للحياة الواقعة، بل تركت ذلك لقيصر.
وكان من أثر هذا فى العالم المسيحي أن أصبحت المسيحية فى جانب والحياة الواقعة فى جانب؛ وعلى توالى الأزمان أصبحت المسيحية محصورة داخل الكنيسة، والحياة من حولها أبعد ما تكون عن روحها السمحة المتطهرة. فلما نشطت الكنيسة فى السنوات الأخيرة للاتصال بالجمع من جديد، لم يكن منها أن ترفع الناس إليها، بل كانت طريقها أن تهبط هى إلى الناس. وإذا قلت تهبط، فلست أعنى أنها تتبسط وتواجه الحياة بحلول عملية، إنما أعنى أنها تملق شهواتهم ورغباتهم؛ وتتغاضى عن لذائذهم الهابطة ونزواتهم الجامحة، لتضمن ألا يعيد المجتمع نبذها، كما نبذها فى مطلع النهضة والأحياء.
نحن ببلاهة غبية، وسطحية تافهة قد حاولنا بالإسلام هذه المحاولة، لا لأن الإسلام لم يتضمن التشريعات التى تحكم الحياة وتصرفها؛ بل لأننا بشعور العبيد وعلى طريقة القرود، قد أردنا أن نجعل مصر قطعة من أوربا، ولما كانت أوربا تحكمها القوانين المدنية لا الدينية، فقد فعلناها نحن أيضاً! دون فطنة إلى أن أوربا لم يكن لها مفر من ذلك، لأنها لم تجد فى المسيحية تشريعاً للحياة، وإنما وجدتها مجرد عقيدة روحية وصلاة!
لقد فطن الإسلام إلى أن العقيدة لا يمكن أن تتحقق بذاتها فى واقع الحياة ما لم تتمثل فى نظام اجتماعى معين، وتتحول إلى تشريعات تحكم الحياة، وتكيف علاقاتها الواقعية المتجددة، ولكننا نحن بحماقة غبية لم نفطن إلى هذا الذى فطن إليه الإسلام، وصاغ نفسه على أساسه: عقيدة تتمثل فى شريعة، وشريعة هى تفسير وتحقيق لهذه العقيدة، ووحدة شعورية تشريعية، تتألف منها حياة واقعة، ممثلة فى العقيدة والسلوك، وفى العبادات والمعاملات، وفى السرائر والجوارح، وفى الأفراد والجماعات.
لقد سمعنا الأوربيين يقولون: إن الدين علاقة ما بين الفرد وربه، وليس له أن يتدخل فى الحياة المدنية.. فرددنا كالببغاوات الفارغة الدماغ هذا الذى سمعناه!
نعم! الدين علاقة ما بين الفرد وربه فى المسيحية، ولأوربا عذرها فى هذا، لأن دينها لم يبين لها كيف يتدخل فى الحياة المدنية، وحين تدخل آباء الكنيسة فى تلك الحياة تدخلوا لصالح أنفسهم، وبوحى هذه المصالح، لا بوحى من المسيحية التى لم تتضمن شيئاً عن الحياة المدنية. فلما ثقلت وطأة الكنيسة ورجالها على الناس، وتحولت إلى سلطة دكتاتورية، تتخذ من الدين ستاراً لمطامعها الدنيوية.. نفض الناس هذا السلطان عن رقابهم، ووقفوا الكنيسة ورجالها عند حدهم الذى جعلته لهم الديانة ذاتها أى عند أعتاب الكنيسة.
فأما الإسلام قد أنشأ مجتمعاً محكوماً بشرائعه والتى يمكن الرجوع إليها هى ذاتها لوقف كل طغيان لمن قد يسمون أنفسهم «رجال الدين» حين يتشبهون رجال الكنيسة، ويحاولون اكتساب سلطة دينية!
ومع وضوح هذه الحقائق، وبساطتها، نجد فى جيل الأقزام الذى نعيش فيه من يحاول أن يبدو للناس مثقفاً جداً! فينعق بفصل الدولة عن الدين! لأن الدين يجب أن يتدير شؤون الروح، ويدع الحياة للقوانين الأرضية!
وفى فترات الانحطاط تبدو فى الشعوب العريقة قزامة عجيبة وضآلة.
وينفش البغاث الصغير ريشه ويختال. ولكن عهد الأقزام فى مصر قصير الأجل مشرف على الزوال!
إننى مؤمن كل الإيمان بأن لا نجاة لهذه الأمة ولا حياة إلا أن تعود إلى عقيدة ضخمة، تنفض عنها قزامة الجيل وتفاهته، وتملأ حياتها حركة وحيوية واقتحاما.
وهذه العقيدة الضخمة اليوم ليست شيئا بالقياس إلى مصر إلا الإسلام.
إن العقيدة الوطنية وحدها لم تعد تكفى، بدليل أنها لا تستطيع أن تقاوم العقيدة الشيوعية فى كثير من أقطار الأرض. ذلك أن فكرة العدالة الاجتماعية بين الأفراد فى حياة المجتمع، أخذت تطغى بقوة على النعرة الوطنية فى أوطان تقسم أهلها إلى عبيد وأسياد.
والإسلام هو وحده القادر على تحقيق الفكرتين جميعاً، بلا تعارض ولا تصادم ولا مغالاة: فكرة الوطنية فى الوطن الإسلامي الأكبر حيثما مد الإسلام ظله. وفكرة العدالة الاجتماعية الكاملة فى هذا الوطن الكبير.
والإسلام لا يحقق هذه العدالة الاجتماعية الكاملة فى ذلك الوطن الكبير المسلمين من أهله وحدهم، بل يحققها كذلك لجميع سكانه على اختلاف الأديان والأجناس واللغات والألوان.. وتلاك مزيته الإنسانية الكبرى التى لا تحققها عقيدة أخرى.
ولكن ينبغى أن نكرر دائماً أن هذا كله لا يتحقق بمجرد أن يذهب الناس إلى المساجد، ويحتفلوا بالمولد النبوي الشريف، ويلقوا الخطب فى مدح سيد المرسلين! ولا بأن تعج الأرض بالمجاذيب والدراويش، يتلون الأدعية، ويقيمون الأذكار، ويحملون المسابح، ويتمتمون أو يهدرون!
ولا يتحقق بأن تكون لنا «هيئة كبار علماء» تصدر قرارات الحرمان، ثم تعود فتصدر صكوك الغفران، لتغير الظروف والملابسات، أو نصدر الفتاوى فى تخطئة أبى ذر لأنه طالب بالعدالة الاجتماعية للفقراء، أو لترفع العرائض الإنشائية، تتضمن الوعظ الشريف، ورثاء الأخلاق التى انحلت فى هذا الزمان!
إن شيئاً من هذا كله لن يجدى شيئاً، إنما الذى يجدى وحده أن يحكم الإسلام الحياة ويصرفها. أن تحكم الدولة حكم إسلاميا. أن نستمد القوانين التى تنظم علاقات الناس بعضهم بعض، وعلاقاتهم بالحكومة وعلاقات الحكومة بهم من الشريعة الإسلامية وليس قانون الأحوال الشخصية وحده، بل قانون العقوبات والقانون المدنى والتجارى وسائر القوانين والتشريعات التى تكيف صورة المجتمع وتمنحه شكله ونظامه الخاص.
إن دستور الدولة الحاضر ينص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام. وليس هذا من معنى إلا أن تستمد القوانين كلها من الشريعة الإسلامية؛ والشريعة الإسلامية قادرة على تلبية الحياة العصرية ، ونموها وتجددها مع الانتفاع بتجاربنا نحن وبتجارب الإنسانية كلها فيما يتفق مع فكرة الإسلام الكلية ومبادئه العليا عن الحياة.
لست أزعم أن الفقه الإسلامى الحاضر قادر اللحظة على الإحاطة بكل مطالب الحياة العصرية الجزئية، فقد وقف نمو هذا الفقه حقبة من الدهر طويلة. ولكن أصول الشريعة الإسلامية بما فيها من مرونة وشمول قادرة على أن تلبى حاجات الحياه - على النحو الذي أوضحته فى مشكلاتنا الكبرى - وتبقى صياغة المواد القانونية، المستمدة من الأصول العامة، حسب الحاجات المتجددة أبداً1.
ولقد يخطر لبعضهم أن يقول: وعلام هذا العناء؟ ومالنا لا ندع هذه الشريعة جملة، ونستعد تشريعاتنا من تلك التجارب الجاهزة التى انتهت إليها البشرية أخيراً؟
وهى قولة من استمرأ الاستعارة الجاهزة حتى فقد كل شعور بشخصيته وبقومتيه، وبتاريخه الحى الذي يعيش في كيانه. وقولة السطحي الذي لا يدرك كيف تتم الاستجابات بين الفرد والبيئة، وأخيراً فهى قولة الذى لا يعرف من أين تستمد الأمم عناصر البقاء والمقاومة فى معترك الحياة.
إن الطريق الذى ندعو إليه نحن هو الطريق الذى يضمن لروح هذه الأمة أن تستشرف، وتتطلع إلى حياة كريمة عزيزة؛ والذى يمكنها أن تحقق للكتلة الإسلامية البروز والتميز بين الكتلتين الشرقية والغربية، البروز بمجتمع خاص له سماته الواضحة، وله شخصيته المستقلة. وذو الرصيد الأصيل إنما يزيد رصيده وينمو بما يقع له من زيادات وعلاوات. فأما المفلس المستجدى فلن يكون يوماً ذا رصيد قائم، وإن ظل حياته يسأل ويستجدى!
لا بد للإسلام أن يحكم ليحقق وجوده، وليحقق ذلك المجتمع الكامل العادل الذى رسمنا الكثير من خطوطه. وما كان شىء من ذلك ليتحقق والإسلام بعيد عن الحكم فى الحياة.
ولا بد للإسلام أن يحكم ليقدم للإنسانية مجتمعاً من طراز آخر، قد تجد فيه الإنسانية حلمها الذى تحاوله الشيوعية، ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام والشراب؛ وتحاوله الاشتراكية ولكن طبيعتها المادية تحرمه الروح والطلاقة؛ والذى حاولته المسيحية ولكنها لم تنظم له الشرائع ولم تضع له القوانين.
ولا بد للإسلام أن يحكم لأنه العقيدة الوحيدة الإيجابية الإنشائية التى تصوغ من المسيحية والشيوعية معاً مزيجاً كاملا، يتضمن أهدافهما جميعاً، ويزيد عليهما التوازن والتناسق والاعتدال.
والعالم لا يستغنى عن عقيدة إيجابية. والمسيحية قد أدت دورها، ولم تعد عاملا إيجابياً فى واقع البشرية؛ فلقد أصبحت الجماهير تقود الكنيسة، والكنيسة تتبعها بلا توقف ولا تحرج ولا مدافعة حتى عن أقدس أقداسها وأشرف أهدافها فى القلب والضمير!
وأخيراً يجب أن يحكم الإسلام، لأن الإسلام كان أعرف بطبيعته وطبيعة الحياة وهو يقرر: أن لا إسلام بلا حكم، ولا مسلمين بلا إسلام: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل اللَه فَأولئك هم الكافرون﴾.
صدق الله العظيم.
- ↑ قام الأستاذ عبد القادر عودة بجهد ضخم رائع فى هذا المجال في كتابه: «التشريع الجنائى الإسلامى» في مجلدين نشر أولهما والثاني فى الطريق.