معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/في الإسلام الخلاص/فساد العمل وضعف الإنتاج
فساد العمل وضعف الإنتاج
أحب أن ألفت النظر بشدة إلى أن هنالك خطراً حقيقياً مصلتا على رقابنا، وعلى وجودنا ذاته كأمة: خطر الفساد الشامل لكل جهاز العمل فى الدولة وفى المجتمع؛ ذلك الفساد الذى يؤدى إلى ضعف الإنتاج العام، بل إلى الشلل فى بعض الأحيان.
ولقد تحدثت عن هذا الشلل فى مقدمات الكتاب؛ ولكنى أحب ألا أكتفى بما قلت هناك: إننا على حافة الهاوية والخراب بسبب تناقص الغلة وضعف الإنتاج؛ وإن الفقر والبؤس والهوان لا تحيق بنا لمجرد سوء التوزيع وحده، بل لأن مجموع الثروة القومية فى ذاته ضئيل، ولأن الإنتاج العام دون ما ينبغى أن يكون عليه بكثير.
هذا الشلل وذلك الفساد كلاهما وليد أمراض اجتماعية شتى: وليد سوء توزيع الملكيات والثروات؛ ووليد فساد نظام العمل والأجور، وعدم تكافؤ الجهد والجزاء؛ ووليد انعدام تكافؤ الفرص والقضاء بذلك على القوى والكفايات التي لم توهب نعمة الولادة فى بيت مرموق، أو الاحتماء ببيت من بيوت الثراء ... ثم من بعد ذلك كله وليد الانحلال الخلقى، الذي ينشأ من تلك العوامل جميعا؛ وينشأ من خواء الضمير من عقيدة دافعة، توقظ شعور الفرد بالواجب، وتدفع المجتمع كله إلى الخلق والتقدم والاستعلاء.
ولقد أسلفنا رأى الإسلام في المشكلات الثلاث الكبيرة، التي تنشئ بدورها – أو تشارك في إنشاء – هذه المشكلة الضخمة الرابعة. فالآن ننظر كيف يعالج الإسلام هذه المشكلة أيضا.
إنه يعالجها بإزالة مسبباتها المادية الأولى، ثم يعالجها بامتلاء النفس بالعقيدة الدافعة؛ العقيدة التي تملأ فراغ النفس وخواءها؛ وترفعها إلى الله؛ وتجعل للفرد هدفاً أكبر من ذاته، هو ذلك المجتمع الذي يعيش فيه، وتلك الإنسانية التي هو منها.
ولقد يظن المصابون بضحالة الروح، وقزامة الذات، وخواء الضمير أن هذا الذى نقوله هنا كلام وعظى لا رصيد له فى واقع الحياة!
ونحن لا نكتب لهؤلاء.. فهؤلاء ميئوس منهم في كل زمان؛ وضمير الإنسانية لم ينضب على الرغم من إيحاءاتهم له فى كل مكان.
إن الفرد بلا عقيدة كلية تربطه بالأرض والسماء، قزم ضائع، ولقى مهمل، والعقيدة ضرورية له حتى فى عالم الشيوعية الذي يسخر بالعوامل الروحية فى الحياة! فلو لا حرارة العقيدة ما تلقى الألوف منا فى سيبريا وسجون القيصرية بمثل ذلك الحماس الذى مكن للحكم الشيوعى فى نهاية المطاف!
ولقد انتهت بنا الأوضاع الاجتماعية المريضة إلى فساد فى الذمم والضمائر، واستهتار بالعمل والواجب، لا يقتصر أثرهما على مجال دون مجال. وجريمة الاستثناءات فى دواوين الحكومة انتهت بالمحظوظين والمنسيين سواء إلى الاستهتار بالعمل، لأنه لا يؤدى إلى ثمرة، ولا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وجريمة الحرمان من عدالة الأجر والضمانات الاجتماعية فى دائرة العمل انتهت بالعمال إلى الاستهتار، لأن الفوضى أيسر من النظام، فى محيط لا عدالة فيه ولا وزن الجهد ولا جزاء. وجريمة انعدام تكافؤ الفرص أهدرت وبددت ثروات بشرية هائلة وحولتها إلى فتات وحطام. وجريمة تكتيل الثروة كلها فى أيد قليلة واحتكارها فى حيازة عدد محدود انتهت إلى تعطل الملايين، وتمضية أوقات فراغهم على المقاهى فى المدن، وبجوار الأجران فى القرى، وبذلك أصبحت هذه الملايين المتعطلة مستهلكة لا منتجة، لأنها لا تجد ما تعمل، والدولة لا تجد المال المشروعات الإنشائية، لأنها لا تحصل إلا على ميزانية هزيلة من ضرائب هزيلة، إشفاقًا على رؤوس الأموال أن تضار ثم أضيف إلى هذا البلاء كله خواء روح الشعب من العقيدة الدافعة على العمل، وحساسية الضمير التى تشيها العقيدة. فتمت تلك الحلقة المفرغة الأليمة التى لا يحطمها إلا الإسلام.
إن الإسلام ليحارب روح البطالة بكل روحه، ويكافح أسبابها بالوسائل التى أسلفنا. فيعالجها فى عالم الضمير والشعور، وفى دنيا العمل والواقع. فالبطالة هى أعدى أعدائه على أى لون وفى أى وضع، وفى جميع الصور والأشكال.
الإسلام عدو التبطل الناشئ عن تكدس الثراء؛ فلا جزاء إلا على الجهد، ولا أجر إلا على العمل. فأما القاعدون الذين لا يعملون، فثراؤهم حرام، وأموالهم حرام، وعلى الدولة أن تنتفع بذلك الثراء لحساب المجتمع؛ وألا تدعه لذلك المتبطل الكسلان.
والإسلام عدو التبطل الناشئ عن الكسل، وحب الدعة، والاسترزاق من أيسر السبل كالاستجداء. وهو ينذر الذين يتسولون وهم قادرون: أن يأتوا يوم القيامة وليس فى وجوههم مزعة لحم!
والإسلام عدو التبطل باسم العبادة والتدين! فالعبادة ليست وظيفة حياة؛ وليس لها إلا وقتها المعلوم ﴿فإِذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله﴾ وتمضية الوقت فى التراتيل والدعوات بلا عمل منتج ينهى الحياة، أمر لا يعرفه الإسلام؛ ولا يقر عليه تلك الألوف المؤلفة فى مصر التي لا عمل لها إلا إقامة الصلوات فى المساجد أو تلاوة الأدعية والأذكار فة الموالد!
ولو كان الأمر للإسلام لجند الجميع للعمل، فإن لم يجدوا فالدولة حاضرة؛ وحق العمل كحق الطعام؛ فالعمل زكاة للأرواح والأجسام، وعبادة من عبادات الإسلام، التي يجب أن تقيمها الدولة وتهيئ لها السبل؛ والبطالة مفسدة، وعلى الدولة أن تقى المجتمع عواقبها، وتأخذ الطريق على أسبابها؛ فمن أتاها بعد ذلك طوعا، فعلى الدولة أن تصده عنها، وأن تجنده للعمل ما استطاع.