معالم السنن/الجزء الثاني/3

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​معالم السنن​ للإمام الخطابي
 


16/33م ومن باب الصائم يستقيء عامدا

536- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض. قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول ليس من ذا شيء.

قلت يريد أن الحديث غير محفوظ قال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه فلم يعرفه إلا من طريق عيسى بن يونس وقال ما أراه محفوظا. قال وروى يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن الحكم أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم.

قلت وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام كما رواه عيسى بن يونس.

قلت لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه ولا في أن من استقاء عامدا أن عليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة فقال عامة أهل العلم ليس عليه غير القضاء وقال عطاء عليه القضاء والكفارة وحكي ذلك عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور.

قلت وفي إسقاط أكثر العلماء الكفارة عن المستقيء عامدا دليل على أن لا كفارة على من أكل عامدا في نهار رمضان، إلا أن المستقيء عامدا مشبه بالآكل متعمدا ومن ذرعه القيء مشبه بالآكل ناسيا.

قلت ويدخل في معنى من ذرعه القيء كل ما غلب عليه الإنسان من دخول الذباب حلقه ودخول الماء جوفه إذا وقع في ماء غَمْر وما أشبه ذلك فإنه لا يفسد صومه شيء من ذلك.


17/31م - ومن باب الصائم يحتلم نهارا

537- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي قال: قال رسول الله لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم.

قلت هذا إن ثبت فمعناه من قاء غير عامد ولكن في إسناده رجل لا يعرف وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن النبي إلا أن عبد الرحمن ضعفه أهل الحديث.

وقال أبو عيسى أخطأ فيه عبد الرحمن ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسل.ا وعبد الرحمن ذاهب الحديث.

قلت حدثني محمد بن الحسين الزعفراني حدثنا ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول حديث بني زيد بن أسلم ثلاثتهم ليس بشيء.


18/34م ومن باب القبلة الصائم

538- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة عن عائشة قالت كان رسول الله يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملك لإرْبه.

قلت هذا يروى على وجهين أرب مفتوحة الألف والراء وإرب مكسورة الألف ساكنة الراء ومعناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها يقال لفلان عند فلان وأرَب وإربه ومأربه أي حاجة والأرب أيضا العضو.

واختلف الناس في جواز القبلة للصائم فكرهتها طائفة نهى عنها ابن عمر ويروى عن ابن مسعود أنه قال من فعل ذلك قضى يوما مكانه وعن ابن المسيب مثل ذلك. وقال ابن عباس يكره ذلك للشاب ويرخص فيه للشيخ.

وإلى هذا ذهب مالك بن أنس ورخص فيها عمر بن الخطاب وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن. وقال الشافعي لا بأس بها إذا لم يحرك منه شهوة، وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الثوري لاتفطره والتنزه أحب إليّ.


539- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الليث ( ح ) وحدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله عن عبد الملك بن سعيد عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هشِشت فقبلت وأنا صائم قال فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم، قال أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم. قال عيسى بن حماد في حديثه قلت لا بأس به قال فمه.

قلت في هذا إثبات القياس والجمع بين الشيئين في الحكم الواحد لاجتماعهما في الشبه وذلك أن المضمضة بالماء ذريعة لنزوله إلى الحلق ووصوله إلى الجوف فيكون به فساد الصوم كما أن القبلة ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم. يقول فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته.


19/37م ومن باب من أصبح جنبا في شهر رمضنان

540- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك ( ح ) وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن عبد ربه بن سعيد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة زوحي النبي قالتا كان رسول الله يصبح جنبا.

قال عبد الله الأذرمي في حديثه في رمضان من جماع غير احتلام ثم يصوم.


قال أبو داود ما أقل من يقول هذه الكلمة، يَعني يصبح جنبا في رمضان وإنما الحديث أنه كان يصبح جنبا ًوهو صائم.

قلت قد أجمع عامة العلماء على أنه إذا أصبح جنبا في رمضان فإنه يتم صومه ويجزئه غير أن إبراهيم النخعي فرق بين أن يكون ذلك منه في الفرض وبين أن يكون في التطوع فقال يجزئه في التطوع ويقضي في الفريضة. وهذه اللفظة التي زادها الأذرمي إن ثبتت فهي حجة عليه من جهة النص وإلا فسائر الأخبار حجة عليه من جهة العموم وكان أبوهريرة يفتي بأن من أصبح جنبا فلا صوم له وكان يرويه عن رسول الله فلما بلغه حديث عائشة وأم سلمة قال هما أعلم بذلك إنما أخبرنيه الفضل بن العباس عن النبي فتكلم الناس في معنى ذلك فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا أن يكون ذلك محمولا على النسخ وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الخطر المتقدم فيكون تأويل قول من أصبح جنبا فلا يصوم أي من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزئه صوم غده لأنه لا يصبح جنبا إلا وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمرالأول ولم يعلم بالنسخ فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه. وقد روي عن ابن المسيب أنه قال رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم.

قلت وقد يتأول ذلك أيضا على وجه آخر من حيث لا يقع فيه النسخ وهو أن يكون معناه من أصبح مجامعا فلا صوم له والشيء قد يسمى بسم غيره إذا كان مآله في العاقبة إليه.


20/38م ومن باب كفارة من أتى أهله في شهر رمضان

541- قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حدثنا سفيان بن عيينة قال مسدد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال أتي رجل النبي فقال هلكت، فقال ما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان، قال فهل تجد ما تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا، قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا، قال اجلس فأتى النبي بعرق فيه تمر قال تصدق به، فقال يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا قال فضحك رسول الله حتى بدت ثناياه قال فأطعمه إياهم.


542- قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك حدثنا هشام بن سعد عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة بهذا الحديث وقال فأتى بعَرق قدر خمسة عشر صاعا وقال فيه كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله.

قلت في هذا الحديث من الفقه أن على المجامع متعمدا في نهار شهر رمضان القضاء والكفارة وهو قول عوام أهل العلم غير سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة فإنهم قالوا عليه القضاء ولا كفارة. ويشبه أن يكون حديث أبي هريرة لم يبلغهم. وفيه أنه من قدر على عتق الرقبة لم يجزئه الصيام ولا الإطعام لأن البيان خرج فيه مرتبا فقدم العتق ثم نسق عليه الصيام ثم الإطعام كما رأيت ذلك في كفارة الظهار وهو قول أكثر العلماء إلا أن مالك بن أنس زعم أنه مخير بين عتق الرقبة وصوم شهرين والإطعام.


وحكي عنه أنه قال الإطعام أحب إلي من العتق. وفيه دلالة من جهة الظاهر أن كفارة الإطعام مد واحد لكل مسكين لأن خمسة عشر صاعا إذا قسمت بين ستين لم يخص كل واحد منهم أكثر من مد وإلى هذا ذهب مالك والشافعي.

وقال أصحاب الرأي يطعم كل مسكين نصف صاع. وفي قوله وصم يوما واستغفر الله بيان أن صوم ذلك اليوم الذي هو القضاء لا يدخل في صيام الشهرين الذي هو الكفارة وهو مذهب عامة أهل العلم غير الأوزاعي فإنه قال يدخل صوم ذلك اليوم في صيام الشهرين قال فإن كفر بالعتق أو بالإطعام صام يوما مكانه.

قلت وفي أمره الرجل بالكفارة لما كان منه من الجنابة دليل على أن على المرأة كفارة مثلها لأن الشريعة قد سوت بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام عليه دليل التخصيص وإذا لزمها القضاء لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء وهذا مذهب أكثر العلماء.

وقال الشافعي يجزيهما كفارة واحدة وهي على الرجل دونها. وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه قال إن كانت الكفارة بالصيام كان على كل واحد منهما صوم شهرين.

واحتجوا لهذا القول بأن قول الرجل أصبت أهلي سؤال عن حكمه وحكمها لأن الإصابة معناها أنه واقعها وجامعها، وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه ومنها معا ثم أجاب النبي عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل ولم يعرض لها بذكر دل أنه لا شيء عليها وأنها مجزئة في الأمرين معا ألا ترى أنه بعث اُنيسا إلى المرأة التي رميت بالزنا وقال إن اعترفت فارجمها فلم يهمل حكمها لغيبتها عن حضرته فدل هذا على أنه لورأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها.


قلت وهذا غير لازم وذلك أن هذا حكاية حال لا عموم لها، وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر من مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور، وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكم بها.

واحتجوا أيضا في هذا بحرف لا أزال أسمعهم يروونه في هذا الحديث وهو قوله هلكت وأهلكت، قالوا فدل قوله وأهلكت على مشاركة المرأة إياه في الجنابة لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة كما القطع يقتضي الانقطاع.

قلت وهذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله هلكت حسب. غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه وهو غير محفوظ والمعلى ليس بذاك في الحفظ والاتقان، وفي هذه القصة من رواية عائشة لفظة تدل على صحة ما ذهبنا إليه وقد ذكرها أبو داود في هذا الباب.


543- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرنى عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه أنه سمع عائشة زوج النبي تقول أتى رجل النبي في المسجد في رمضان فقال يا رسول الله احترقت فسأله النبي ما شأنك قال أصبت أهلي قال تصدق، قال والله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال اجلس فجلس فبينما هو على ذلك إذ أقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام فقال رسول الله أين المحترق آنفا فقام الرجل فقال رسول تصدق بهذا فقال يا رسول الله أعلى غيرنا فوالله إنا لجياع ما لنا شيء قال كلوه.


قلت قوله احترقت يدل على أنه المحترق بالجنابة دون غيره وهذا بإزاء قوله هلكت في حديث أبي هريرة. وقد اختلف الناس في تأويل قوله كله وأطعمه أهلك فقال الزهري هذا خاص لذلك الرجل ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير.

قلت وهذا من الزهري دعوى لم يحضر عليها برهانا ولا ذكر فيها شاهدا، وقال غيره هذا منسوخ ولم يذكر في نسخه خبرا يعلم به صحة قوله وأحسن ما سمعت فيه قول أبي يعقوب البويطي، وذلك أنه قال رجل وجبت عليه الرقبة فلم يكن عنده ما يشتري به رقبة فقيل له صم فلم يطق الصوم فقيل له اطعم ستين مسكينا فلم يجد ما يطعم فأمر له النبي بطعام ليتصدق به فأخبر أنه ليس بالمدينة أحوج منه وقد قال النبي خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى فلم ير له أن يتصدق على غيره ويترك عياله فلما نقص من ذلك بقدر ما أطعم أهله لقوت يومهم صار طعاما لايكفي ستين مسكينا فسقطت عنه الكفارة في ذلك الوقت فكانت في ذمته إلى أن يجدها وصار كالمفلس يمهل ويؤجل وليس في الحديث أنه قال لا كفارة عليك.

وقد ذهب بعضهم إلى أن الكفارة لا تلزم الفقير واحتج بظاهر الحديث.

وأما العَرَق فهو المكتل وأصله السفيفة تنسج من الخوص قبل أن يجعل منها زنبيل فسمي الزنبيل عرقا لذلك قاله أبوعييد وغيره. وقوله ما بين لابتيها يريد حرتي المدينة واحدة لابة وجمعها لوب.

قلت وظاهر هذا الحديث يدل على أن قدر خمسة عشر صاعا كاف للكفارة عن شخص واحد لكل مسكين مد، وقد جعله الشافعي أصلا لمذهبه في أكثر المواضع التي يجب فيها الإطعام إلا أنه قد روي في خبر سلمة بن صخر وأوس بن الصامت في كفارة الظهار أنه قال في أحدهما أطعم ستين مسكينا وسقا ًوالوسق ستون صاعا، وفي الخبر الآخر أنه أتي بعرق. وفسره محمد بن إسحاق بن يسار في روايته ثلاثين صاعا، وإسناد الحديثين لا بأس به وإن كان حديث أبي هريرة أشهر رجالا فالاحتياط أن لا يقتصر على المد الواحد لأن من الجائز أن يكون العرق الذي أتي به النبي المقدر بخمسة عشر صاعا قاصرا في الحكم عن مبلغ تمام الواجب عليه مع أمره إياه أن يتصدق به ويكون تمام الكفارة باقيا عليه إلى أن يؤديه عند اتساعه لوجوده كمن يكون عليه لرجل ستون درهما فيأتيه بخمسة عشر درهما فيقال لصاحب الحق خذه ولا يكون في ذلك إسقاط ما وراءه من حقه ولا براءة ذمته منه.


21/40م ومن باب من أكل وشرب ناسيا

544- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب وحبيب وهشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم قال الله أطعمك وسقاك.

قوله الله أطعمك وسقاك فيه دليل على أن لا قضاء على المفطر ناسيا وذلك أن النسيان من باب الضرورة والضرورات من فعل الله سبحانه ليست من فعل العباد ولذلك أضاف الفعل إلى الله سبحانه وتعالى.

وإلى إسقاط القضاء والكفارة عن الناس ذهب عامة أهل العلم غير مالك بن أنس وربيعة بن أبي عبد الرحمن. فأما إذا وطئ زوجته ناسيا في نهار الصوم فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسيا، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد عليه القضاء، وقال أحمد عليه القضاء والكفارة واحتج بأن النبي لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم عمدت.

قلت معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل. والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معا فبطل أن يكون له عموم. ومن مذهب أبي عبد الله أنه إذا أكل ناسيا لم يفسد صومه لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية فكذلك إذا جامع ناسيا. فأما المتعمد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة.


22/1 4م ومن باب تأخير قضاء رمضان

545- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة تقول إن كان ليكون عليّ تعني الصوم من رمضان فما استطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان.

قولها فما استطيع أن أقضيه إنما هولاشتغالها بقضاء حق رسول الله وتوفير الحظ في عشرته.

وفيه دلالة على أن من أخر القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل وهو مستطيع له غير عاجز عنه فإن عليه الكفارة ولولا ذلك لم يكن في ذكرها شعبان وحصرها موضع القضاء فيه فائدة من بين سائر الشهور.

وممن ذهب إلى إيجاب الكفارة على من أخر القضاء إلى أن يدركه شهر رمضان من قابل أبو هريرة وابن عباس وهو قول عطاء والقاسم بن محمد والزهري.

وإليه ذهب مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الحسن والنخعي يقضي وليس عليه فدية، وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقال سعيد بن جبير وقتادة يطعم ولا يقضي.


23/42م - ومن باب من مات وعليه صيام

546- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أن النبي قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه.

قلت هذا فيمن لزمه فرض الصوم إما نذرا وإما قضاء عن رمضان فائت مثل أن يكون مسافرا فيقدم وأمكنه القضاء ففرط فيه حتى مات أو يكون مريضا فيبرأ ولا يقضي.

وإلى ظاهر هذا الحديث ذهب أحمد وإسحاق وقالا يصوم عنه وليه، وهو قول أهل الظاهر. وتأوله بعض أهل العلم فقال معناه أن يطعم عنه وليه فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه وسمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه {أو عدل ذلك صياما} 1 فدل على أنهما يتناوبان.

وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يجوز صيام أحد عن أحد وهو قول أصحاب الرأي وقاسوه على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها واتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء حتى مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه. غير قتادة فإنه قال يطعم عنه وقد حكي ذلك أيضا عن طاوس.


24/43م ومن باب الصوم في السفر

547- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي قال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر قال صم إن شئت وافطر إن شئت.

قلت هذا نص في إثبات الخيار في السفر بين الصوم والإفطار. وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما روي عن ابن عمر أنه قال: إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يجزئه، وذهب إلى هذا من المتأخرين داود بن علي، ثم اختلف أهل العلم بعد هذا في فضل الأمرين منهما.

فقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر، وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه. وقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص أفضل الأمرين الصوم في السفر وبه قال التخعي وسعيد بن جبير وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي.

وقالت فرقة ثالثة أفضل الأمرين أيسرهما على المرء لقوله عز وجل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بك العسر} 2 فإن كان الصوم عليه أيسر صامه وإن كان الفطر أيسر فليفطر وإليه ذهب مجاهد وعمر بن عبدالعزيز وقتادة.


548- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان المعنى قالا: حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال أتيت أبا سعيد الخدري وهو مكثور عليه فانتظرت خلوته فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر فقال خرجنا مع رسول الله في رمضان عام الفتح فكان رسول الله يصوم ونصوم حتى بلغ منزلا من المنازل فقال إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأصبحنا منا الصائم ومبنا المفطر قال ثم سرنا فنزنا منزلا فقال إنكم تُصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة من رسول الله . قال أبو سعيد لقد رأيتني أصوم مع النبي قبل ذلك وبعد ذلك.

قلت وزعم بعض أهل العلم أنه اذا أنشأ السفر في رمضان لم يجز له أن يفطر واحتج بقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} 3 وفي هذا الحديث دلالة على غلط هذا القائل، ومعنى الآية شهود الشهر كله. وهم شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر.


25/44م ومن باب اختيار الفطر

549- قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسى حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن، يَعني ابن سعد بن زرارة عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله رأى رجلا يُظَلل عليه والزحام عليه قال ليس البر الصيام في السفر.

قلت هذا كلام خرج على سبب فهو مقصور على من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي في سفره عام الفتح وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار ولو لم يكن الصوم برا لم يخيره فيه والله أعلم.


550- قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا أبو هلال الراسبي حدثنبا ابن سوادة القشيري عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير قال أغارت علي خيل لرسول الله قال فانتهيت أو قال فانطلقت إلى رسول الله وهو يأكل فقال اجلس فأصب من طعامنا هذا، قلت إني صائم فقال اجلس احدثك عن الصلاة وعن الصيام إن الله وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما فلهف نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله .

قلت قد يجسع نظم الكلام أشياء ذات عدد منسوقة في الذكر مفترقة في الحكم وذلك أن الشطر الموضوع من الصلاة يسقط لا إلى قضاء والصوم يسقط في السفر ترخيصا للمسافر ثم يلزمه القضاء إذا أقام. والحامل والمرضع تفطران إبقاء على الولد ثم تقضيان وتطعمان من أجل أن إفطارهما كان من أجل غير أنفسهما.

وممن أوجب على الحامل والمرضع مع القضاء الإطعام مجاهد والشافعي وأحمد وقال مالك الحبلى تقضي ولا تكفر لأنها بمنزلة المريض والمرضع تقضي وتكفر وقال الحسن وعطاء تقضيان ولا تطعمان كالمريض وهو قول الأوزاعي والثوري وإليه ذهب أصحاب الرأي.


26/46م ومن باب متى يفطر الصانم إذا خرج

551- قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عبد الله بن يحيى حدثني سعيد بن أبي أيوب والليث بن سعد حدثني يزيد بن أبي حبيب أن كليب بن ذُهل الحضرمي أخبره عن عبيد بن جبر قال كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال اقترب قلت ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله فأكل.

قلت فيه حجة لمن رأى للمقيم الصائم إذا سافر من يومه أن يفطر وهوقول الشعبي وإليه ذهب أحمد بن حنبل.

وعن الحسن أنه قال يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج.

وقال إسحاق بن راهويه إذا وضع رجله في الرحل فله أن يفطر، وحكاه عن أنس بن مالك وشبهوه بمن أصبح صائما ثم مرض في يومه فان له أن يفطر من أجل المرض قالوا وكذلك من أصبح صائما ثم سافر لأن كل واحد من الأمرين سبب للرخصة حدث بعد مضي شيء من النهار.

قلت السفر لا يشبه المرض لأن السفر من فعله وهو الذي ينشئه باختياره والمرض شيء يحدث عليه لا باختياره فهو يعذر فيه ولا يعذر في السفر الذي هو فعل نفسه ولوكان في الصلاة فمرض كان له أن يصلي قاعدا ولو سافر وهو مصل لم يكن له أن يقصر.

وقال أصحاب الرأي لا يفطر إذا سافر يومه ذلك وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وروي ذلك عن النخعي ومكحول والزهري. قلت وهذا أحوط الأمرين والإقامة إذا اختلط حكمها بحكم السفر غلب حكم المقام.


27/47م - ومن باب مسيرة ما يفطر فيه

552- قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث، يَعني ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن منصور الكلبي أن دحية بن خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط وذلك ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا ثم قال عند ذلك اللهم اقبضني إليك.

قلت في هذا حجة لمن لم يحد السفر الذي يترخص فيه الافطار بحد معلوم ولكن يراعي الاسم ويعتمد الظاهر واحسبه قول داود وأهل الظاهر. فأما الفقهاء فإنهم لا يرون الإفطار إلا في السفر الذي يجوز فيه القصر وهو عند أهل العراق ثلاثة أيام وعند أهل الحجاز ليلتان أو نحوهما وليس الحديث بالقوي وفي إسناده رجل ليس بالمشهور، ثم أن دحية لم يذكر فيه أن رسول الله أفطر في قصير السفر إنما قال إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله ولعلهم إنما رغبوا عن قبول الرخصة في الافطار أصلا. وقد يحتمل أن يكون دحية إنما صار في ذلك إلى ظاهر اسم السفر، وقد خالفه غير واحد من الصحابة فكان ابن عمر وابن عباس لا يريان القصر والإفطار في أقل من أربعةُ برد وهما أفقه من دحية وأعلم بالسنة.


28/49م ومن باب صوم يوم الفطر والنحر

553- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب وهذا حديثه قالا: حدثنا سفيان عن الزهري، عن أبي عبيدة قال شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال أن رسول الله نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم.

قوله أما يوم الفطر ففطركم من صيامكم يدل على أنه من نذر صوم ذلك اليوم لم يلزمه صيامه ولا قضاؤه لأن هذا كالتعليل لوجوب الإفطار فيه، وقد وسم هذا اليوم بيوم الفطر والفطر مضاد للصوم ففى إجازة صومه إبطال لمعنى اسمه.

وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الصيام لا يجوز في هذين اليومين غير أن أهل العراق ذهبوا إلى أنه لو نذر صومهما لزمه قضاؤه والنذر إنما يلزم في الطاعة دون المعصية وصيام هذين اليومين معصية لنهي النبي عنه فالنذر لا ينعقد فيه ولا يصح كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها.


29/50م ومن باب صيام أيام التشريق

554- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا وهيب حدثنا موسى بن علي ( ح ) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن موسى بن علي والأخبار في حديث وهب، قال سمعت أبي أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الاسلام وهي أيام أكل وشرب.

قلت وهذا أيضا كالتعليل في وجوب الإفطار فيها وأنها مستحقة لهذا المعنى فلا يجوز صيامها ابتداء تطوعا ولانذرا ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر وهو قول على رضي الله عنه والحسن وعطاء وغالب مذهب الشافعي.

وقال مالك والأوزاعي وإسحاق يصوم المتمتع أيام التشريق إذا فاتته الثلاث في العشر وروى ذلك عن ابن عمر وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم.


هامش

  1. [المائدة: 95]
  2. [البقرة: 185]
  3. [البقرة: 185]


معالم السنن - الجزء الثاني للإمام الخطابي
معالم السنن/الجزء الثاني/1 | معالم السنن/الجزء الثاني/2 | معالم السنن/الجزء الثاني/3 | معالم السنن/الجزء الثاني/4 | معالم السنن/الجزء الثاني/5 | معالم السنن/الجزء الثاني/6 | معالم السنن/الجزء الثاني/7 | معالم السنن/الجزء الثاني/8 | معالم السنن/الجزء الثاني/9 | معالم السنن/الجزء الثاني/10 | معالم السنن/الجزء الثاني/11 | معالم السنن/الجزء الثاني/12 | معالم السنن/الجزء الثاني/13 | معالم السنن/الجزء الثاني/14