معالم السنن/الجزء الثاني/1
462- قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا مسكين حدثنا محمد بن المهاجر عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي حدثنا سهل بن الحنظلية قال قدم على عهد رسول الله ﷺ عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه. فأما الأقرع بن حابس فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق. وأما عيينة فأخذ كتابه فأتى النبي ﷺ مكانه فقال أتراني يا محمد حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فقال رسول الله ﷺ من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار فقالوا يا رسول الله وما يغنيه قال قدر ما يغديه ويعشيه.
صحيفة المتلمس لها قصة مشهورة عند العرب وهو المتلمس الشاعر وكان هجا عمرو بن عبد الملك فكتب له كتابا إلى عامله يوهمه أنه أمر له فيه بعطية وقد كان كتب إليه يأمره بقتله فارتاب المتلمس به ففكه وقُرىء له، فلما علم ما فيه رمى به ونجا فضربت العرب المثل بصحيفته بعد.
وقوله ما يغديه ويعشيه فقد اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث.
وقال بعضهم إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة.
وقال آخرون هذا منسوخ بالأحاديث التي تقدم ذكرها. قلت وإنما أعطاهما رسول الله ﷺ من سهم المؤلفة قلوبهم فإن الظاهر من حالهما أنهما ليسا بفقيرين وهما سيدا قومهما ورئيسا قبائلهما.
463- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الله، يَعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي أنه سمع زياد بن الحارث الصُدائي قال: أتيت رسول الله ﷺ فبايعته قال فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله ﷺ: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك.
قلت في قوله فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك دليل على أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد وأن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم ولو كان معنى الاية بيان المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى وسل على صحة ذلك قوله أعطيتك حقك فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقا وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي.
وقال إبراهيم النخعي إذا كان المال كثيرا يحتمل الأجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد.
وقال أحمد بن حنبل تفريقها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف واحد.
وقال أبو ثور إن قسمه الإمام قسمه على الأصناف وإن تولى قسمه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه.
وقال مالك بن أنس يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخَلة والفاقة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم. وإن رآها في أبناء السبيل في عام آخر حولها إليهم.
وقال أصحاب الرأي هو مخير يضعه في أي الأصناف شاء.
وكذلك قال سفيان الثوري، وقد روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح.
وفي قوله إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما ما تولى الله بيانه في الكتاب وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي ﷺ وبيان شهادات الأ صول.
والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملا ووكل بيانه إلى النبي ﷺ فهو يفسره قولا وفعلا أو يتركه على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطا واعتبارا بدلائل الأصول وكل ذلك بيان مصدره عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله ﷺ.
ولم يختلفوا في أن السهام الستة ثابتة مستقرة لأهلها في الأحوال كلها، وإنما اختلفوا في سهم المؤلفة فقالت طائفة من أهل العلم سهمهم ثابت يجب أن يعطوه هكذا قال الحسن البصرى.
وقال أحمد بن حنبل يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. وقالت طائفة انقطعت المؤلفة بعد رسول الله ﷺ روي ذلك عن الشعبي. وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقال مالك سهم المؤلفة يرجع على أهل السهام الباقية.
وقال الشافعي لا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام. وأما العاملون فهم السعاة وجباة الصدقة فإنما يعطون عمالة قدر أجرة مثلهم. فأما إذا كان الرجل هو الذي يتولى إخراج الصدقة وقسمها بين أهلها فليس فيها للعاملين حق.
464- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطنون به فيعطونه.
قلت الأكلة مضمومة اللقمة والأكلتان اللقمتان، فأن الأكلة مفتوحة فهي الواحدة والمرة من الأكل.
وفي الحديث دليل على أن المسكين في الظاهر عندهم والمتعارف لديهم هو السائل الطواف وإنما نفى ﷺ عنه اسم المسكنة لأنه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزيادة عليها فتزول حاجته وسنقط عنه اسم المسكنة، وإنما تدوم الحاجة والمسكنة ممن لا يسأل ولا يفطن له فيعطى.
وقد اختلف الناس في المسكين والفقير والفرق بينهما روي عن ابن عباس أنه قال المساكين هم الطوافون والفقراء فقراء المسلمين وعن مجاهد وعكرمة والزهري أن المسكين الذي يسأل والفقير الذي لا يسأل.
وعن قتادة أن الفقير هو الذي به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج.
وقال الشافعي الفقير من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا زمنا كان أو غير زمن وللمسكين من له مال أو حرفة لا تقع منه موقعا ولا تغنيه سائلا كان أو غير سائل. وقال بعض أهل اللغة المسكين الذي لا شيء له والفقير من له البلغة من العيش واحتج بقول الراعي.
أما الفقير الذي كانت حَلوبته... وَفْقَ العيال فلم يترك له سَبَد
قال فجعل للفقير حلوبة، وقال غيره من أهل اللغة إنما اشترط له الحلوبة قبل الفقر فلما انتزعت منه ولم يترك له سبد صار فقيرا لا شيء له، قال والمسكين أحسن حالا من الفقير، واحتج بقول الله تعالى {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} 1 فأثبت لهم مع المسكنة ملكاَ وكسبا وهما السفينة والعمل بها في البحر. وقال بعض من ينصر القول الأول إنما سماهم مساكين مجازا وعلى سبيل الترحم والشفقة عليهم إذ كانوا مظلومين، وقيل إن المسكنة مشتقة من السكون والخشوع اللازمين لأهل الحاجة والخصاصة والميم زيادة في الاسم. وقيل إن الفقير مشبه بمن أصيب فِقاره فانقصف ظهره من قولهم فقرت الرجل إذا أصبت فقاره كما يقال بطنته إذا أصبت بطنه ورأسته إذا أصبت رأسه إلى ما أشبه ذلك من نظائر هذا الباب. ويشبه أن يكون الفقير أشدهما حاجة ولذلك بدىء بذكره في الآية على سائر أصناف أهل الفاقة والخلة والفقر هو الذي يقابل الغنى إذا قيل فقير وغني فصار أصلا للفاقة وعنه يتفرع المسكنة وغيرها من وجوه الحاجة.
465- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار. قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي ﷺ في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جَلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
قلت هذا الحديث أصل في أن من لم يعلم له مال فأمره محمول على العدم.
وفيه أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجلد دون أن يضم إليه الكسب فقد يكون من الناس من يرجع إلى قتوة بدنه ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة بدلالة الحديث. وقد استظهر ﷺ مع هذا في أمرهما بالإنذار وقلدهما الأمانة فيما بطن من أمرهما.
466- قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إبراهيم، يَعني ابن سعد أخبرني أبي عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرة سَوِي.
قلت معنى المرة القوة وأصلها من شدة فتل الحبل ؛ يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة أسر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب.
وقد اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب فقال الشافعي لا تحل له الصدقة، وكذلك قال إسحاق بن راهويه وأبو عبيد.
وقال أصحاب الرأي يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدا.
13/25م - ومن باب من يجوز له الصدقة ممن هو غني
467- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أولعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني.
468- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ بمعناه.
قلت فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه وهو من سهم سبيل الله وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال أصحاب الرأي لا يجوز أن يعطى الغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به.
قلت سهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال {وفي سبيل الله وابن السبيل} 2 والمنقطع به هو ابن السبيل فأما سهم ابن السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب. وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه.
وفي قوله أو رجل اشتراها بماله دليل على أن المصدق إذا تصدق بالشيء ثم اشتراه من المدفوع إليه فإن البيع جائز وقد كرهه أكثر العلماء مع تجويزهم البيع في ذلك. وقال مالك بن أنس إن اشتراه فالبيع مفسوخ.
وأما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدَّان في المعروف وإصلاح ذات البين وله مال إن بيع فيها افتقر فيوفر عليه ماله ويعطي من الصدقة ما يقضي به دينه، وأما الغارم الذي يدَّان لنفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا المعنى لأنه من جملة الفقراء.
وأما العامل فإنه يعطى منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله فسواء كان غنيا أو فقيرا فإنه يستحق العمالة إذا لم يفعله متطوعا، وأن المهدى له الصدقة فهو إذا ملكها فقد خرجت عن أن تكون صدقة وهي ملك لمالك تام الملك جائز التصرف في ملكه.
وقد روي أن بريرة أهدت لعائشة لحما تصدق به عليها فقربته لرسول الله ﷺ وأخبرته بشأنها فقال هذا أوان بلغت حلها وكان رسول الله ﷺ لا تحل له الصدقة.
14/26م ومن باب كم يعطي الرجل الواحد من الزكاة
469- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا أبو نعيم حدثنا سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار وزعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن النبي ﷺ وداه مائة من إبل الصدقة، يَعني دية الأنصاري الذي قتل بخيبر.
قلت يشبه أن يكون النبي ﷺ إنما أعطاه ذلك من سهام الغارمين على معنى الحمالة في إصلاح ذات البين إذ كان قد شجر بين الأنصار وبين أهل خيبر في دم القتيل الذي وجد بها منهم فإنه لا مصرف لمال الصدقات في الديات.
وقد يحتج بهذا من يرى جمع الصدقة في صنف واحد من أهل السهام الثمانية وهذا محتمل ولكن في وسع رسول الله ﷺ أن يسوي بين الأصناف من صدقات مختلفة ولعله قد كان يجتمع عنده من سهم الغارمين مئون وألوف فليس فيما يحتج به من ذلك كبير درك.
وقتد اختلف الناس في قدر ما يعطاه الفقير من الصدقة فكره أصحاب الرأي أن يبلغ به مائتي درهم إذا لم يكن عليه دين أو له عيال. وكان سفيان الثوري يقول لا يدفع إلى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما، وكذلك قال أحمد بن حنبل. وعلى مذهب الشافعي يجوز أن يعطي على قدر حاجته من غير تحديد فإذا زال اسم الفقر عنه لم يعط.
15/م - ومن باب ما يجوز فيه المسألة
470- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمرى حدثنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة عن النبي ﷺ قال: المسايل كُدُوح يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمرلا يجد منه بدا.
قلت قول إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمرلا يجد بدا هو أن يسأل حقه من بيت المال الذي في يده وليس هذا على معنى استباحة الأموال التى تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أملاك المسلمين.
471- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رباب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت النبي ﷺ فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا صدقه فنأمر لك بها ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا الفاقة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ثم يمسك وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا.
قلت في هذا الحديث علم كثير وفوائد جمة ويدخل في أبواب من العلم والحكم وذلك أنه قد جعل من تحل له المسألة من الناس أقساما ثلاثة غنيا وفقيرين وجعل الفقر على ضربين فقرا ظاهرا وفقرا باطنا، فالغني الذي تحل له المسألة هو صاحب الحمالة وهي الكفالة والحميل الكفيل والضمين وتفسير الحمالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال ويحدث بسببهما العداوة والشحناء ويخاف منها الفتق العظيم فيتوسط الرجل فيما بينهم ويسعى في إصلاح ذات البين ويتضمن مالا لأصحاب الطوايل يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة فهذا الرجل صنع معروفا وابتغى بما أتاه صلاحا فليس من المعروف أن تورّك الغرامة عليه في ماله ولكن يعان على أداء ما تحمله منه ويعطي من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمته ويخرج من عهدة ما تضمنه منه.
وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة فهو رجل أصابته جائحة في ماله فأهلكته والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر أمره من الآفات كالسيل يغرق متاعه والنار تحرقه والبرد يفسد زرعه وثماره في نحو ذلك من الأمور وهذه أشياء لا تخفى آثارها عند كونها ووقوعها فإذا أصاب الرجل شىء منها فذهب ماله وافتقر حلت له المسألة ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينه يطالبونه بها على ثبوت فقره واستحقاقه إياها.
وأما النوع الآخر فإنما هو فيمن كان له ملك ثابث وعرف له يسار ظاهر فادعى تلف ماله من لص طرقه أو خيانة ممن أودعه أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر المشاهدة والعيان فإذا كان ذلك ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم يعط شيئا من الصدقة إلا بعد استبراء حاله والكشف عنه بالمسألة عن أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا الفاقة واشتراطه الحجى تأكيد لهذا المعنى أي لا يكونوا
من أهل الغباوة والغفلة ممن يخفى عليهم بواطن الأمور ومعانيها وليس هذا من باب الشهادة ولكن من باب التبيين والتعرف وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه أو جيرانه أو من ذوي الخبرة بشأنه أنه صادق فيما يدعيه أعطى الصدقة.
وفيه من العلم أن من ثبت عليه حق عند حاكم من الحكام فطلب المحكوم له به حبسه وادعى المطلوب الإفلاس والعدم فإن الواجب في ذلك أن ينظر فإن كان الطالب إنما استحقه عليه بسبب فيه تمليك مثل أن يقرضه مالا أو يبيعه متاعا فيقبضه إياه فإنه يحبس ولا يقبل قوله في العُدم لأنه قد ثبت له ملك ما صار إليه وحصل في يده من ذلك فالظاهر من حاله الوجد واليسار حتى تقوم دلالة على إفلاس حادث بعده فإن أقام البينة على ذلك لم يحبس وخلي عنه وإن كان ذلك مستحقا عليه بجناية من إتلاف مال أو أرش جراحة جرحه بها في بدنه أو من قبل مهر امرأة أو ضمان أوما أشبهها مما لم يتقدم فيه تمليك ولا إقباض فإنه لا يحبس له وينظر فإن كان له ملك ظاهر انتزع له منع أو بيع عليه وإلا أنظر إلى الميسرة.
وأصل الناس العُدْم والفقر وقد روي عن رسول الله ﷺ قال: إن أحدكم يسقط من بطن أمه ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله تعالى ويغنيه أو كما قال: وثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: مطل الغني ظلم وقال: ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته فإنما جعله ظالما مع الواجد والغني فلا يجوز حبسه وعقوبته وهو ليس بظالم.
وفي قوله أقم حتى تأتينا صدقة فنأمر لك بها دليل على جواز نقل الصدقة من بلد إلى أهل بلد آخر. وفيه أن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي تكون بها قوام العيش وسداد الخله وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس فيه حد معلوم يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف أحوالهم.
472- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا عيسى بن يونس عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفى عن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي ﷺ فقال له أما في بيتك شيء قال بلى حِلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه قال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله ﷺ بيده فقال من يشتري هذين فقال رجل أنا آخذهما بدرهم فقال من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما فانفذه إلى أهلك واشتر بالاخر قدوما فأتنى به فأتاه به فشد فيه رسول الله ﷺ عودا بيده، ثم قال اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله ﷺ هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أولذي دم موجع.
في هذا الحديث من الفقه جواز بيع المزايدة وأنه ليس بمخالف لنهيه أن يبيع الرجل على بيع أخيه لأن ذلك إنما هو بعد وقوع العقد ووجوب الصفقة وقبل التفرق من المجلس وهذا إنما هو في حال المراودة والمساومة وقبل تمام المبايعة.
وفيه إثبات الكسب والأمر به. وفيه أنه لم ير الصدقة تحل له مع القوة على الكسب.
وقوله فقر مدقع فهو الفقر الشديد وأصله من الدقعاء وهو التراب ومعناه الفقر الذي يفضي به إلى التراب لا يكون عنده ما يقي به التراب. والغرم المفظع هو أن تلزمه الديون الفظيعة القادحة حتى ينقطع به فتحل له الصدقة فيعطى من سهم الغارمين. والدم الموجع هو أن يتحمل حمالة في حقن الدماء وإصلاح ذات البين فتحمل له المسألة فيها وقد فسرناه فيما مضى.
16/28م ومن باب الاستعفاف
473- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة.
قال أبو داود اختلف على أيوب عن نافع في هذا الحديث قال عبدالوارث اليد العليا المتعففة وقال أكثرهم عن حماد بن زيد عن أيوب المنفقة وقال واحد عن حماد المتعففة.
قلت رواية من قال المتعففة أشبه وأصح في المعنى وذلك أن ابن عمر ذكر أن رسول الله ﷺ قال هذا الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى.
وقد يتوهم كثير من الناس أن معنى العليا هو أن يد المعطي مستعلية فوق يد الآخذ يجعلونه عن علو الشيء إلى فوق وليس ذلك عندي بالوجه وإنما هومن علاء المجد والكرم يريد به الترفع عن المسألة والتعفف عنها وأنشدني أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس قال أنشدنا ابن الأعرابي في معناه:
إذا كان باب الذل من جانب الغنى …سموت إلى العلياء من جانب الفقر
يريد به التعزز بترك المسألة والتنزه عنها.
17/29م ومن باب الصدقة على بني هاشم
474- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع أن النبي ﷺ بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها فقال حتى آتي النبي ﷺ فأسأله فأتاه فسأله فقال مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة.
قلت أما النبي ﷺ فلا خلاف بين المسلمين أن الصدقة لا تحل له وكذلك بنو هاشم في قول أكثر العلماء.
وقال الشافعي لا تحل الصدقة لبني المطلب لأن النبي ﷺ من سهم ذي القربى وأشركهم فيه مع بني هاشم ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة.
فأما موالي بني هاشم فإنه لا حظ لهم في سهم ذي القربى فلا يجوز أن يحرموا الصدقة ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيها له. وقال مولى القوم من أنفسهم على سبيل التشبيه في الاستنان بهم والاقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هى أوساخ الناس. ويشبه أن يكون ﷺ قد كان يكفيه المؤنة ويزيح له العلة إذ كان أبو رافع مولى له وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة فقال له على هذا المعنى إذا كنت تستغني بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك مولانا ومنا.
قلت وكان رسول الله ﷺ يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة لنفسه وكان المعنى في ذلك أن الهدية إنما يراد بها ثواب الدنيا فكان ﷺ يقبلها ويثيب عليها فتزول المنة عنه. والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فلم يجز أن يكون يد أعلى من يده في ذات الله وفي أمر الآخرة.
475- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا: حدثنا حماد عن قتادة عن أنس أن النبي ﷺ كان يمر بالتمرة العائره فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة.
العائرة هي الساقطة على وجه الأرض لا يعرف من صاحبها ومن هذا قيل عار الفرس إذا انفلت على صاحبه فذهب على وجهه ولا يدفع وهذا أصل في الورع وفي أن كل ما لا يستبينه الإنسان من شيء طلقا لنفسه فإنه يجتنبه ويتركه.
وفيه دليل على أن التمرة ونحوها من الطعام إذا وجدها الإنسان ملقاة في طريق ونحوها أن له أخذها وأكلها إن شاء وأنها ليست من جملة اللقطة التي حكمها الاستيناء بها والتعريف لها.
476- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا محمد بن الفضيل عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: بعثني أبى إلى النبي ﷺ في إبل أعطاها إياه من الصدقة.
قلت وهذا لا أدري ما وجهه والذي لا أشك فيه أن الصدقة محرمة على العباس والمشهور أنه أعطاه من سهم ذوي القربى من الفيء ويشبه أن يكون ما أعطاه من إبل الصدقة أن ثبت الحديث قضاء عن سلف كان تسلفه منه لأهل الصدقة فقد روى أنه شُكي إليه العباس في منع الصدقة فقال هى عليَّ ومثلها كأنه كان قد تسلف منه صدقة عامين فردها أو رد صدقة أحد العامين عليه لما جاءته إبل الصدقة فروى الحديث من رواه على الاختصار من غير ذكر السبب فيه والله أعلم.
18/31م ومن ظب من تصدق بصدقة ثم ورثها
477- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريده عن أبيه بريدة أن امرأة أتت النبي ﷺ فقالت كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة. قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث.
قلت الصدقة في الوليدة معناها التمليك وإذا ملكتها في حياتها بالأقباض ثم ماتت كان سبيلها سائر أملاكها. والوليدة الجاريه الحديثة السن والولائد الوصائف.
19/32م ومن باب حقوق المال
478- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عَوانة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله قال كنا نعد الماعون على عهد رسول الله ﷺ عارية الدلو والقِدر.
قلت يقال في تفسير الماعون أنه الشيء الذي لا يجوز منعه من الارفاق التي للناس فيها متاع، وزعم بعض أهل اللغة أن الماعون مشتق من المعن وهو الشيء القليل وزنه فاعول منه والعرب تقول ماله سَعْنة ولا مَعْنة أي قليل ولا كثير وقال النمر بن تولب:
- فإن هلال مالك غير مَعْن*
وإنما اشتق للصدقة والمعونة هذا الاسم لأن الواجب من حق الزكاة والصدقات إنما هو قليل من كثير، وقد جاء الماعون بمعنى الزكاة قال الراعي.
قوم على الإسلام لما يمنعوا... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
يريد الصلاة والزكاة.
479- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله يوم القيامة يحمي عليها في نار جهنم فيكوي بها جبهته وجنبه وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيُبطح لها بقاع قَرْقَر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم هى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم هى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
القرقر المستوى الأملس من الأرض والعقصاء الملتوية القرن والجلحاء التي لا قرن لها. وإنما اشترط نفي العقص والالتواء في قرونها ليكون أنكى لها وأدنى أن تمور في المنطوح.
480- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا شعبة عن قتادة، عن أبي عمير الغُداني، عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ وذكر الحديث إلى أن قال فما حق الإبل قال تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة وتُفقِر الظهر وتُطرِق الفحل وتسقي اللبن.
الغزيرة الكثيرة اللبن والمنيحة الشاة اللبون أو الناقة ذات الدر تعار لدرها فإذا حلبت ردت إلى ربها. وإفقار الظهر اعارته للركوب يقال أفقرت الرجل بعيري إذا أعرته ظهره يركبه ويبلغ عليه حاجته واطراق الفحل إعارته للضراب لا يمنعه إذا طلبه ولا يأخذ عليه عسبا، ويقال طرق الفحل الناقة فهي مطروقة وهي طروقة الفحل إذا حان لها أن تطرق.
481- قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين.
قوله جاد عشرة أوسق. قال إبراهيم الحربي يريد قدرا من النخل يُجَذُّ منه عشرة أوسق وتقديره تقدير مجذوذ فاعل بمعنى مفعول وأراد بالقنو العذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة التي هي فرض واجب.
0 2/33م ومن باب حق السائل
482- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا مصعب بن محمد بن شرحبيل حدثني يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن حسين بن علي قال قال رسول الله ﷺ للسائل حق وإن جاء على فرس.
قلت معنى هذا الكلام الأمر بحسن الظن بالسائل إذا تعرض لك وأن لا تجبهه بالتكذيب والرد مع إمكان الصدق في أمره يقول لا تخيب السائل إذا سألك وإن راقك منظره فقد يكون له الفرس يركبه ووراء ذلك عيلة ودين يجوز له معهما أخذ الصدقة. وقد يكون من أصحاب سهم السبيل فيباح له أخذها مع الغنى عنها وقد يكون صاحب حمالة أو غرامة لديون ادّانها في معروف واصلاح ذات البين ونحو ذلك فلا يرد ولا يخيب مع إمكان أسباب الاستحقاق.
واختلفوا فيمن أعطى من الصدقة على أنه فقير فتبين غنيا. قال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن يجزئه، وروي ذلك عن الحسن البصرى، وقال الثورى لا يجزد وكذلك قال الشافعي في أحد قوليه وهو قول أبي يوسف.
21/34م ومن باب الصدقة على أهل الذمة
483- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت قدمت عليَّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركه فقلت يا رسول الله إن أمى قدمت علي وهي راغمة افأصلها قال نعم فصلي أمك.
قولها راغبة في عهد قريش أي طالبة بري وصلتي وقولها راغمة معناه كارهة للإسلام ساخطة عليّ تريد أنها لم تقدم مهاجرة راغبة في الدين كما كان يقدم المسلمون من مكة للهجرة والإقامة بحضرة رسول الله ﷺ وإنما أمر بصلتها لأجل الرحم. فأما دفع الصدقة الواجبة إليها فلا يجوز وإنما هي حق للمسلمين لا يجوز صرفها إلى غيرهم ولو كانت أمها مسلمة لم يكن أيضا يجوز لها إعطاؤها الصدقة فإن خلَّتها مسدودة بوجوب النفقة لها على ولدها إلا أن تكون غارمة فتعطى من سهم الغارمين. فأما من سهم الفقراء والمساكين فلا وكذلك إذا كان الوالد غازيا جاز للولد أن يدفع إليه من سهم السبيل.
22/39م ومن باب الرجل يخرج من ماله
484- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال كنا عند رسول الله ﷺ إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله ﷺ ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله ﷺ ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله ﷺ فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته وقال رسول الله ﷺ يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس. خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى.
قوله يستكف الناس معناه يتعرض للصدقة وهو أن يأخذها ببطن كفه يقال تكفف الرجل واستكف إذا فعل ذلك.
ومن هذا قوله ﷺ لسعد رضي الله عنه أنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
وقوله ﷺ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى أي عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب التي تنوبه كقوله في حديث آخر خير الصدقة ما أبقت غنى.
وفي الحديث من الفقه أن الاختيار للمرء أن يستبقي لنفسه قوتا وأن لا ينخلع من ملكه أجمع مرة واحدة لما يخاف عليه من فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس.
قلت ولم ينكر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه خروجه من ماله أجمع لما علمه من صحة نيته وقوة يقينه ولم يخف عليه الفتنة كما خافها على الرجل الذي رد عليه الذهب.
485- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ إن خير الصدقة ما ترك غنى وأبدأ بمن تعول.
قوله ما ترك غنى يتأول على وجهين أحدهما أن يترك غني للمتصدق عليه بأن تجزل له العطية والاخر أن يترك غنى للمتصدق وهو أظهرهما ألا تراه يقول وابدأ بمن تعول أي لا تضيع عيالك وتُفضل على غيرك.
23/44م ومن باب المرأة تصدق من بيت زوجها
486- قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي ﷺ إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ولزوجها أجر بما اكتسبت ولخازنه مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض.
قلت هذا الكلام خارج على عادة الناس بالحجاز وبغيرها من البلدان في أن رب البيت قد يأذن لأهله ولعياله وللخادم في الإنفاق مما يكون في البيت من طعام وأدام ونحوه ويطلق أمرهم في الصدقة منه إذا حضرهم السائل ونزل بهم الضيف فحضهم رسول الله ﷺ على لزوم هذه العادة واستدامة ذلك الصنيع ووعدهم الأجر والثواب عليه وأفرد كل واحد منهم باسمه ليتسارعوا إليه ولا يتقاعدوا عنه.
والخازن هو الذي يكون بيده حفظ الطعام والمأكول من خادم وقهرمان وقيم لأهل المنزل في نحو ذلك من أمر الناس وعاداتهم في كل أرض وبلد وليس ذلك بأن تقتات المرأة أو الخازن على رب البيت بشيء لم يؤذن لهما فيه ولم يطلق لهما الإنفاق منه بل يخاف أن يكونا آثمين إن فعلا ذلك والله أعلم.
487- قال أبو داود: حدثنا محمد بن سوَّار المصري حدثنا عبد السلام بن حرب عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير بن حية عن سعد. قال لما بايع رسول الله ﷺ النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر فقالت ما نبي الله أنأكل على آبائنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم قال الرطب تأكلنه وتهدينه.
قوله امرأة جليلة الجليلة تكون بمعنيين أحدهما أن تكون خليقة جسيمة يقال امرأة خليقة وخلِّيقاء كذلك والآخر أن تكون بمعنى المسنة يقال جل الرجل إذا كبر وأسن وجلت المرأة إذا عجزت وإنما خص الرطب من الطعام لأن خطبه أيسر والفساد إليه أسرع إذا ترك فلم يؤكل وربما عفن ولم ينتفع به فيصير إلى أن يلقى ويرمى به وليس كذلك اليابس منه لأنه يبقى على الخزن وينتفع به إذا رفع وادخر فلم يأذن لهم في استهلاكه، وقد جرت العادة بين الجيرة والأقارب أن يتهادوا رطب الفاكهة والبقول وأن يغرفوا لهم من الطبيخ وأن يتحفوا الضيف والزائر بما يحضرهم منها فوقعت المسامحة في هذا الباب بأن يترك الاستئذان له وأن يجري على العادة المستحسنة في مثله وإنما جاء هذا فيمن ينبسط إليه في ماله من الآباء والأبناء دون الأزواج والزوجات فإن الحال بين الوالد والولد ألطف من أن يحتاج معها إلى زيادة استقصاء في الاستثمار للشركة النسبية بينهما والبعضية الموجودة فيهما.
فأما نفقة الزوجة على الزوج فإنها معاوضه على الاستمتاع وهي مقدرة بكمية ومتناهية إلى غاية فلا يقاس أحد الأمرين بالآخر وليس لأحدهما أن يفعل شيئا من ذلك إلا بأذن صاحبه وقد وضعه أبو داود في باب المرأة تصدق من بيت زوجها.
24/45م ومن باب صلة الرحم
488- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال لما نزلت {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} 3 قال أبو طلحنة يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فإني أشهدك أني قد جعلت أرضى بأريحا له فقال رسول الله ﷺ اجعلها في قرابتك فقسمها بين حسان بن ثابت وأُبيّ بن كعب.
قلت فيه من الفقه أن الحبس إذا وقع أصله مبهما ولم يذكر سبله وقع صحيحا. وفيه دلالة على أن من أحبس عقارا على رجل بعينه فمات المحبس عليه ولم يذكر المحبس مصرفها بعد موته فإن مرجعها يكون إلى أقرب الناس بالواقف.
وذلك أن هذه الأرض التي هي بأريحا لما حبسها أبو طلحة بأن جعلها لله عز وجل ولم يذكر سبلها صرفها رسول الله ﷺ إلى أقرب الناس به من قبيلته فقياس ذلك فيمن وقفها على رجل فمات الموقوف عليه وبقي الشيء محبس الأصل غير مبين السبل أن يوضع في أقاربه وأن يتوخى بذلك الأقرب فالأقرب ويكون في التقدير كأن الواقف قد شرطه له وهذا يشبه معنى قول الشافعي.
وقال المزني يرجع إلى أقرب الناس به إذا كان فقيرا، وقصة أبي بن كعب تدل على أن الفقير والغني في ذلك سواء. وقال الشافعي كان أبيّ يعد من مياسير الأنصار.
وفيه دلالة على جواز قسم الأرض الموقوفة بين الشركاء وأن للقسمة مدخلا فيما ليس بمملوك الرقبة. وقد يحتمل أيضا أن يكون أريد بهذا القسم قسمة ريعها دون رقبتها وقتد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قسمة أحباس النبي ﷺ بين علي والعباس لما جاءاه يلتمسان ذلك.
489- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري، عن أبي هريرة قال أمرالنبي ﷺ بالصدقة فقال رجل يا رسول الله عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال تصدق به على ولدك. قال عندي آخر قال تصدق به على زوجك. قال عندي آخر قال تصدق به على خادمك. قال عندي آخر قال أنت أبصر.
قلت هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه ﷺ قدم الأولى فالأولى والأقرب وهو أنه أمره بأن يبدأ بنفسه ثم بولده لأن ولده كبعضه فإذا ضيعه هلك ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه. ثم ثلث بالزوجة وآخرها عن درجة الولد لأنه إذا لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه. ثم ذكر الخادم لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون النفقة على من يبتاعه ويملكه. ثم قال له فيما بعد أنت أبصر. أي إن شئت تصدقت وإن شئت أمسكت. وقياس هذا في قول من رأى أن صدقة الفطر تلزم الزوج عن الزوجة ولم يفضل من قوته أكثر من صاع أن يخرجه عن ولده دون الزوجة لأن الولد مقدم الحق على الزوجة ونفقة الأولاد إنما تجب بحق البعضية النسبية ونفقة الزوجة إنما تجب بحق المتعة العوضية وقد يجوز أن ينقطع ما بين الزوجين بالطلاق والنسب لا ينقطع أبدا ومعنى الصدقة في هذا الحديث النفقة.
490- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا أبو إسحاق عن وهب بن جابر الخَيْواني عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت.
قوله من يقوت يريد من يلزمه قوته والمعنى كأنه قال للمتصدق لا تتصدق بما لا فضل فيه عن قوت أهلك تطلب به الأجر فينقلب ذلك إثما إذا أنت ضيعتهم.
491- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ويعقوب بن كعب وهذا حديثه قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ من سره أن يبسط الله عليه في رزقه ويُنَسأ في أثره فليصل رحمه.
قوله ينسأ في أثره معناه يؤخر في أجله يقال للرجل نسأ الله في عمرك وأنسأ عمرك والأثر ههنا آخر العمر قال كعب بن زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل... لا ينتهي العين حتى ينتهي الأثر
492- قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا سفيان عن الزهري، عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها من اسمي من وصلها وصلته ومن قطعها بَتَته.
قلت في هذا بيان صحة القول بالاشتقاق في الأسماء اللغويه وذلك أن قوما أنكروا الاشتقاق وزعموا أن الأسماء كلها موضوعة وهذا يبين لك فساد قولهم.
وفيه دليل على أن اسم الرحمن عربي مأخوذ من الرحمة وقد زعم بعض المفسرين أنه عبراني. قلت والرحمن بناؤه فعلان وهو بناء نعوت المبالغة كقولهم غضبان وإنما يقال لمن يشتد غضبه ولم يغلب عليه الغضب ضجر وجرد ونحو ذلك حتى إذا امتلأ غضبا قيل غضبان وكقولهم سكران وإنما هو قبل ذلك طَرِب ثم ثمِل فإذا طفِح قيل سكران ولا يجوز أن يسمى بالرحمن أحد غير الله ولذلك لا يثنى ولا يجمع كما ثنوا وجمعوا الرحيم فقيل رحيمان ورحماء وقوله بتته معناه قطعته والبت القطع.
هامش