انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الثلاثون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


باب الصلح

سئل عن رجل اشترى دارا ولها بابان

سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن رجل اشترى دارا ولها بابان. كل باب في زقاق غير نافذ وأحدهما مسدود والكتب تشهد بالبابين والمسدود هو الباب الأصلي في صدر الزقاق; فأراد أن يفتح الباب. فهل له أن يفتحه؟

فأجاب: إذا اشترى دارا بحقوقها وكان ذلك الباب الذي سد من حقوقها فله أن يفتحه كما كان أولا. إلا أن يكون هذا الحق مستثنى من المبيع لفظا أو عرفا.

وسئل رحمه الله: عن دارين بينهما شارع فأراد صاحب أحد الدارين أن يعمر على داره غرفة تفضي إلى سد الفضاء عن الدار الأخرى. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟.

فأجاب: إن كان في ذلك إضرار بالجار مثل أن يشرف عليه فإنه يلزم ما يمنع مشارفته الأسفل فإذا لم يكن فيه ضرر على الجار بأن يبني ما يمنع الإشراف عليه أو لا يكون فيه إشراف عليه لم يمنع من البناء.

سئل عن رجل اشترى دارا وهي تشرف إلى طريق المارة

وسئل عن رجل اشترى دارا وهي تشرف إلى طريق المارة ثم إنه أراد أن يزيد فيها. فاشترى من وكيل بيت المال من جانب الطريق أذرعا معلومة وأقام حائطا فيما اشتراه وأراد أن يعمل على طريق المسلمين ساباطا ليبني عليه دارا. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟ وهل يصح بيع الأرض المبتاعة من وكيل بيت المال التي في طريق المسلمين؟ أم لا؟ وهل يفسق الشاهد الذي يشهد بها لبيت المال أم لا؟ وإذا ادعى الثاني أن بناءه لم يضر بالمسلمين هل يسمع ذلك منه؟ وما الضرر الذي لأجله يمنع البناء على الطريق؟ وهل يجوز لحاكم المسلمين تمكينه من ذلك على هذه الصفة المشروحة. أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله. لا يجوز بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس لوكيل بيت المال بيع ذلك سواء كانت الطريق واسعة أو ضيقة وليس مع الشاهد علم ليس مع سائر الناس اللهم إلا أن يشهد أن هذه لبيت المال مثل أن تكون ملكا لرجل فانتقلت عنه إلى بيت المال وأدخلت في الطريق بطريق الغصب. وأما شهادته أنها لبيت المال بمجرد كونها طريقا فهذا إن أراد أن الطريق المشتركة حق للمسلمين لم يسوغ ذلك بيعها وإن أراد أنها ملك لبيت المال يجوز بيعها كما يباع بيت المال فهذه شهادة زور يستحق صاحبها العقوبة التي تردعه وأمثاله. وليس للحاكم أن يحكم بصحة هذا البيع.

سئل عن بيتين أحدهما شرقي الآخر والدخول إلى أحدهما من تحت ميزاب

وسئل رحمه الله عن بيتين: أحدهما شرقي الآخر والدخول إلى أحدهما من تحت ميزاب الآخر من سلم وذلك من قديم. فهل لصاحب البيت الذي سلمه ومجراه تحت الميزاب الآخر أن يمنع هذا الميزاب أن يجري على هذا السلم لأجل الضرر الذي يلحقه؟ أم لا؟

فأجاب: ليس له أن يمنع صاحب الحق القديم من حقه. والله أعلم.

سئل عن رجل أحدث بنيانا ورواشنا على باب

وسئل رحمه الله عن رجل أحدث بنيانا ورواشنا على باب الطبقات عليه من حيث يكشف حريم جاره وطبق عليه باب مطلعه من حيث لا يقدر ينزل طبق العجين ولا يطلع قربة سقاء؟

فأجاب: ليس للجار أن يحدث في الطريق المشترك الذي لا ينفذ شيئا بغير إذن رفيقه ولا شركائه ولا أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره. وإذا فعل ذلك فللشريك إزالة ضرره قبل البيع وبعده; لكن إذا أزيل قبل البيع لم يعد وبعد البيع فللمشتري فسخ البيع لأجل هذا النقص.

سئل عن رجل اشترى حوانيت أرضا وبنى

وسئل عن رجل اشترى حوانيت أرضا وبنى من مدة عشرين سنة وفوقهم علو فحضر من ادعى أن العلو ملكه ولم يصدقه مالك الحوانيت على صحة ملكه وأنشأ على العلو عمارة جديدة فهل يلزمه هدم ما أنشأ مستجدا؟

فأجاب: إذا كانت يده على العلو وصاحب السفل لا يدعي أنه له فهو لصاحب اليد حتى يقيم غيره حجة أنه له. وأما ما أنشأه من العمارة الجديدة فليس له ذلك; إلا أن يكون ذلك من حقوق ملكه. والله أعلم.

سئل عن رجل اشترى طبقة ولم يكن يروز ثم عمرها

وسئل عن رجل اشترى طبقة ولم يكن يروز ثم عمرها وأحدث روشنا على جيرانه في زقاق ليس نافذا وادعى أن فيه بابا شرقي الظاهرية فهل له أن يحدث الروشن؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين ليس له أن يحدث في الدرب الذي لا ينفذ روشنا باتفاق الأئمة فإنهم لم يتنازعوا في ذلك; لكن تنازعوا في جواز إحداثه في الدرب النافذ وفي ذلك نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه. وأما الدرب الذي لا ينفذ فلا نزاع فيه سواء كان له باب إلى مدرسة أو لم يكن فإنه ليس بنافذ. وإذا ادعى أن له فيه حق روشن لم يقبل قوله بغير حجة لكن له تحليف الجيران الذين تنازعوا فيه على نفي استحقاقه لذلك. والله أعلم.

سئل عمن له دار وبينهم طريق ونزل على أحدهم

وسئل رحمه الله عمن له دار وبينهم طريق ونزل على أحدهم بأن كان ساباطا ولم يتضرر الجار والمار وقصد أحد الجيران أن يساويه بالبروز ويخرج عن جيرانه في الطريق ويضر بالجار؟

فأجاب: أما الساباط ونحوه إذا كان مضرا فلا يجوز باتفاق العلماء وكذلك لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط من خارج إلا أن يدخل حده بمقدار غلظ الجص. وأما إذا كان الساباط ونحوه لا يضر بالطريق ففيه نزاع مشهور بين العلماء. قيل: يجوز كقول الشافعي. وقيل: لا يجوز كأحد القولين في مذهب أحمد ومالك. وقيل: يجوز بإذن الإمام كالقول الأخير. وقيل: إن منعه بعض العامة امتنع كما هو مذهب أبي حنيفة. والله أعلم.

سئل عن زقاق غير نافذ وفيه جماعة سكان

وسئل عن زقاق غير نافذ وفيه جماعة سكان وفيهم شخص له دار. فهل له أن يفتح بابا غير بابه الأصلي؟

فأجاب: ليس له أن يفتح في الدرب الذي لا ينفذ بابا يكون أقرب إلى آخر الدرب من بابه الأصلي; إلا بإذن المشاركين له في الاستطراق في ذلك. والله أعلم.

سئل عن رجل عمر حوانيت وبجنبها خربة لإنسان

وسئل عن رجل عمر حوانيت وبجنبها خربة لإنسان فهل لصاحب الدار أن يفتح مشرعا من الخربة؟ أم لا؟

فأجاب: ليس له أن يفتح مشرعا - يعني بابا في درب غير نافذ - إلا بإذن أهله; إلا أن يكون له فيه حق الاستطراق. والله أعلم.

سئل عن ملك مشترك بين مسلم وذمي فهدماه إلى آخره

وسئل عن ملك مشترك بين مسلم وذمي فهدماه إلى آخره. فهل يجوز تعليته على ملك جارهما المسلم؟ أم لا؟

فأجاب: الحمد لله. ليس لهما تعليته على ملك المسلم فإن تعلية الذمي على المسلم محظورة وما لا يتم اجتناب المحظور إلا باجتنابه فهو محظور. كما في مسائل اختلاط الحرام بالحلال كما لو اختلط بالماء والمائعات نجاسة ظاهرة وكالمتولد بين مأكول وغير مأكول كالسمع والعسار والبغل وكما في مسائل الاشتباه أيضا: مثل أن تشتبه أخته بأجنبية والمذكى بالميت فإنه لما لم يمكن اجتناب المحظورات إلا باجتناب المباح في الأصل ; وجب اجتنابهما جميعا كما أن ما لا يتم الواجب إلا بفعله ففعله واجب. وإنما ذاك إذا كان ليس شرطا في الوجوب وهو مقدور للمكلف وهنا لا يمكن منع الذمي من تعلية بنائه على المسلم إلا أن يمنع شريكه فيجب منعهما وليس في منع المسلم من تعلية بنائه على مسلم تعلية كافر على مسلم بخلاف ما إذا أمكن الشريك من التعلية فإنه يكون في ذلك علو للكافر على المسلم وذلك لا يجوز وإذا عليا البناء وجب هدمه. ولا يجوز لمسلم أن يجعل جاه المسلم ذريعة لرفع كافر على مسلم. ومن شارك الكافر أو استخدمه وأراد بجاه الإسلام أن يرفع على المسلمين فقد بخس الإسلام واستحق أن يهان الإهانة الإسلامية. والله أعلم.

سئل عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة

وسئل عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة فأراد أحد الشريكين أن يبني بينه وبين شريكه جدارا فامتنع أن يدعه يبني أو يقوم معه على البناء.

فأجاب: إنه يجبر على ذلك ويؤخذ الجدار من أرض كل منهما بقدر حقه.

سئل عن بستان بين شريكين ثم قسماه

وسئل عن بستان بين شريكين، ثم قسماه، فأراد أحدهما أن يبني حائطه بينه وبين شريكه، فامتنع الشريك أن يخليه يبني في أرضه وعلي غرامة البناء؟

فأجاب: يجبر الممتنع أن يبني الجدار في الحقين من الشريكين جميعا، إذا كانا محتاجين إلى السترة.

وسئل أيضا فلو كانت المسألة بحالها , فإن امتنع أحدهما أن يبني مع شريكه، وبناه أحدهما بماله، لكنه وضع بعض أساسه من سهم هذا, وبعضه من سهم هذا، فهل له أن يمنع الذي لم يبن معه أن ينتفع بالجدار؟ مثل أن يضع جاره عليه شيئاً، أو يبني عليه، أم لا؟

فأجاب: لو كان الجدار مختصا بأحدهما لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضر بصاحب الجدار.

والله أعلم.

سئل عن رجل اشترى من بيت المال بمصر شراء صحيحا

وسئل عن رجل اشترى من بيت المال بمصر شراء صحيحا شرعيا وبنى فتعرض له إنسان ومنعه من البناء فهل له ذلك؟

فأجاب: الحمد لله. إذا بنى في ملكه بناء لم يتعد به على الجار; لكن يخاف أن يسكن في البناء الجديد ناس آخرون فينقص كراء الأول لم يكن له منعه لأجل ذلك. بلا نزاع بين العلماء.

سئل عن رجل له ملك وهو واقع فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه

وسئل عن رجل له ملك وهو واقع فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن؟ أو لا؟

فأجاب: هذا يجب الضمان عليه في أحد قولي العلماء; لأنه مفرط في عدم إزالة هذا الضرر والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه. ووجوب الضمان في مثل هذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. والواجب نصف الدية والأرش في ما لا تقدير فيه ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن; وإلا فعليهم في أصح قولي العلماء.

وقال رحمه الله

إذا احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره ولا ضرر فله ذلك، وعنه لربها منعه، كما لو استغنى عنه، أو عن اجرائه فيها.

قال: ولو كان لرجل نهر يجري في أرض مباحة، أو بعضه، ولا ضرر فيه، إلا انتفاعه به، فأفتيت بجواز ذلك، وانه لا يحل منعه، فإن المرور في الأرض، كما أنه ينتفع به صاحب الماء, فيكون حقا له، فإنه ينتفع به صاحب الأرض أيضا، كما في حديث عمر. فهو هنا انتفع بإجراء مائه، كما أنه هناك انتفع بأرضه.

ونظيرها لو كان لرب الجدار مصلحة في وضع الجذوع عليه من غير ضرر الجذوع. وعكس مسألة إمرار الماء: لو أراد أن يجرري في أرضه من بقعة إلى بقعة، ويخرجه إلى أرض مباحة، أو إلى أرض جار راض, من غير أن يكون على رب الماء ضرر؛ لكن ينبغي أن يملك ذلك؛ لأنه يستحق شغل المكان الفارغ، فكذلك تفريغ المشغول.

والضابط أن الجار. إما أن يريد أحداث الانتفاع بمكان جاره, أو إزالة انتفاع الجار الذي ينفعه زواله، ولا يضر الآخر.

ومن أصلنا أن المجاورة توجب لكل من الحق مالا يجب للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي. فيبيح الانتفاع بملك الجار، الخالي عن ضرر الجار، ويحرم الانتفاع بملك المنتفع إذا كان فيه إضرار.

فصل وإذا قلنا: بإجراء مائه على إحدى الروايتين. فاحتاج أن يجري ماءه في طريق مياه. مثل أن يجري مياه سطوحه وغيرها في قناة لجاره، أو يسوق في قناة غدير ماء ثم يقاسمه جاز.

باب الحجر

سئل عن رجل عسفه إنسان على دين يريد حبسه وهو معسر

وسئل رحمه الله عن رجل عسفه إنسان على دين يريد حبسه وهو معسر. فهل القول قوله في أنه معسر؟ أو يلزم بإقامة البينة في ذلك؟.

فأجاب: إذا كان الدين لزمه بغير معاوضة كالضمان ولم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله مع يمينه في الإعسار. والله أعلم.

سئل عن رجل مسلم اشترى من ذمي عقارا ثم رمى نفسه عليه

وسئل الشيخ رحمه الله عن رجل مسلم اشترى من ذمي عقارا ثم رمى نفسه عليه واشترى منه قسطين والتزم يمينا شرعية الوفاء إلى شهر. فهل على أحد أن يعلمه حيلة وهو قادر؟.

فأجاب: الحمد لله. إذا كان الغريم قادرا على الوفاء لم يكن لأحد أن يلزم رب الدين بترك مطالبته ولا يطلب منه حيلة لا حقيقة لها لأجل ذلك. مثل أن يقبض منه ثم يعيد إليه غير حقيقة استيفاء. وإن كان معسرا وجب إنظاره. واليمين المطلقة محمولة على حال القدرة; لا على حال العجز. والله أعلم.

سئل عمن ترك بعد موته كرما ودارا وعليه دين

وسئل عمن ترك بعد موته كرما ودارا وعليه دين يستوعب ذلك كله وله من الورثة: زوجة وبنت والسلطان. فطلب أرباب الدين من الورثة بيع الملك فهل يلزم الورثة البيع؟ أو الحاكم؟.

فأجاب: إن باع الورثة ووفوا من الثمن جاز. وإن سلموه للغرماء فباعه الغرماء واستوفوا ديونهم جاز. وإن طلبوا من الحاكم أن يقيم لهم أمينا يتولى ذلك جاز. وإن أقاموا هم أمينا يتولى ذلك جاز. وإذا سلم الورثة ذلك إلى الغرماء لم يجب على الورثة أن يتولوا البيع. والله أعلم.

سئل عن رجل باع قماشا لإنسان تاجر وكسب وقسط عليه الثمن

وسئل عن رجل باع قماشا لإنسان تاجر وكسب فيه شيئا معينا وقسط عليه الثمن والمديون يطلب السفر ولم يقم له كافلا. فهل لصاحب المال أن يمنعه من السفر. أم لا؟.

فأجاب: إن كان الدين حالا وهو قادر على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه. وكذلك إن كان مؤجلا ومحله قبل قدوم المدين فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهن يحفظ المال أو كفيل. وإن كان الدين لا يحل إلا بعد قدوم المدين; ففيه نزاع بين العلماء. والله أعلم.

سئل عمن أعتق عبدا وهو محتاج وعليه ديون وماله جدة

وسئل رحمه الله عمن أعتق عبدا وهو محتاج وعليه ديون وماله جدة. فهل يجوز له أن يبيعه ويوفي به دينه؟.

فأجاب: إن كان حين أعتقه موسرا ليس عليه دين أو عليه دين له وفاء غير العبد: فقد عتق ولا رجوع فيه وإن كان حين أعتقه عليه دين يحيط بماله: ففي صحته نزاع بين العلماء. والله أعلم.

سئل عن رجل ادعى على غريم له عند الحاكم فاعترف له بدينه

وسئل عن رجل ادعى على غريم له عند الحاكم فاعترف له بدينه وبالقدرة والملاءة فاعتقله الحاكم وحجر عليه عقيب ذلك. ثم إن المعتقل أراد إثبات إعساره عند حاكم آخر; فهل له ذلك؟.

فأجاب: لا تقبل دعوى إعساره بعد الاعتراف بالقدرة وبعد الحجر عليه إذا لم يبين السبب الذي أزال الملاءة ويكون ذلك ممكنا في العادة كحرق الدار التي فيها متاعه ونحوه; وليس له طلب إتمام الحكم في ذلك. وأن يدعي ذلك ويثبته عند غير الحاكم الذي حبسه وحجر عليه بدون إذنه. والله أعلم.

سئل عن رجل استدان من التجار أموالا وطولب بها وامتنع من الوفاء

وسئل قدس الله روحه عن رجل استدان من التجار أموالا وطولب بها وامتنع من الوفاء مع القدرة على ذلك واعتقلوه بحكم الشرع. فهل يجوز للحاكم عقوبته حتى يوفي ما عليه؟ وماذا حكم الشرع فيه؟.

فأجاب: إذا امتنع مما يجب عليه من إظهار ماله والتمكين من توفية الناس جميع حقوقهم وكان ماله ظاهرا واحتيج إلى التوفية إلى فعل منه وامتنع منه وأصر على الحبس: فإنه يعاقب بالضرب حتى يقوم بالواجب عليه في ذلك في مذهب عامة الفقهاء. وقد صرح بذلك أصحاب مالك والشافعي من العراقيين والخراسانيين وأصحاب الإمام أحمد وغيرهم. ولا نعلم في ذلك نزاعا بل كرروا هذه المسألة في غير موضع من كتبهم ; فإنهم مع ذكرهم لها في موضعها المشهور ذكروها في غيره كما ذكروها في باب نكاح الكفار وجعلوها أصلا قاسوا عليه إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع نسوة وامتنع من الاختيار قالوا: يضرب حتى يختار; لأنه امتنع من فعل وجب عليه ويضرب حتى يقوم به كما لو امتنع من أداء الدين الواجب عليه فإنه يضرب حتى يؤديه. وقد قال النبي في الحديث المتفق عليه في الصحيحين: (مطل الغني ظلم). والظالم مستوجب للعقوبة. وفي السنن عن النبي : (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) اللي: المطل، والواجد: القادر. فقد أباح النبي من القادر الماطل عرضه. وقد اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. والمعاصي تنقسم إلى ترك مأمور وفعل محظور. فإذا كانت العقوبة على ترك الواجب - كعقوبة هذا وأمثاله من تاركي الواجب - عوقب حتى يفعله; ولهذا قال العلماء الذين ذكروا هذه المسألة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم: أنه يضرب مرة بعد أخرى. حتى يؤدي. ثم منهم من قدر ضربه في كل مرة بتسعة وثلاثين سوطا. ومنهم من لم يقدره; بناء على أن التعزير هل هو مقدر؟ أم ليس بمقدر؟ للحاكم أن يعزره على امتناعه عقوبة لما مضى وله أيضا أن يعاقبه حتى يتولى الوفاء الواجب عليه وليس على الحاكم أن يتولى هو بيع ماله ووفاء الدين. وإن كان ذلك جائزا للحاكم; لكن متى رأى أن يلزمه هو بالبيع والوفاء زجرا له ولأمثاله عن المطل أو لكون الحاكم مشغولا عن ذلك بغيره أو لمفسدة تخاف من ذلك كانت عقوبته بالضرب حتى يتولى ذلك. فإن قال: إن في بيعه بالنقد في هذا الوقت علي خسارة; ولكن أبيعه إلى أجل وأحيلكم به. وقال الغرماء: لا نحتال; لكن نحن نرضى أن يباع إلى هذا الأجل وأن يستوفي ويوفي. وما ذهب على المشتري كان من ماله. فإنه يجاب الغرماء إلى ذلك. وللحاكم أن يبيعه ويقيم من يستوفي ويوفي مع عقوبته على ترك الواجب. وللغرماء أن يطلبوا تعجيل بيع ما يمكن بيعه نقدا إذا بيع بثمن المثل. ويجب عليه الإجابة إلى ذلك. وللحاكم أن يفعله كما تقدم وأن يعاقبه على ترك الواجب. والله أعلم.

سئل عمن عليه دين فلم يوفه حتى طولب به عند الحاكم

وسئل عمن عليه دين فلم يوفه حتى طولب به عند الحاكم وغيره وغرم أجرة الرحلة. هل الغرم على المدين؟ أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله. إذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ومطله حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل; إذا غرمه على الوجه المعتاد.

سئل عمن حبس بدين وليس له وفاء إلا رهن عند الغريم

وسئل عمن حبس بدين وليس له وفاء إلا رهن عند الغريم فهل يمهل ويخرج إلى أن يبيعه؟.

فأجاب: إذا لم يكن له وفاء غير الرهن وجب على الغريم إمهاله حتى يبيعه فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه أو كان في بيعه في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ليبيعه ويضمن عليه أو يمشي (الغريم( أو وكيله (إليه).

سئل عمن حبس بدين وليس له وفاء إلا رهن عند الغريم

وسئل عن رجل عليه دين حال وله ملك لا تفضل فضلة عن نفقته ونفقة عياله وإذا أراد بيعه لم يتهيأ إلا بدون ثمن مثله. فهل يلزمه بيعه بدون ثمن مثله؟ وإذا لم يلزمه بيعه فهل يقسط الدين عليه على قدر حاله؟ أم لا؟.

فأجاب: لا يباع إلا بثمن المثل المعتاد غالبا في ذلك البلد; إلا أن تكون العادة تغيرت تغيرا مستقرا فيكون حينئذ ثمن المثل قد نقص فيباع بثمن المثل المستقر وإذا لم يجب بيعه فعلى الغريم الإنظار إلى وقت السعة أو الميسرة وله أن يطلب منه كل وقت ما يقدر عليه وهو التقسيط.

وسئل رحمه الله عن قزاز أسلمت له امرأة شقتي غزل

وسئل رحمه الله عن قزاز أسلمت له امرأة شقتي غزل فهرب وختم على دكانه فاشتكت صاحبة الشقتين على غزلها فرسم الوالي أن يفتح الدكان وكل من لقي شيئا من رحله يأخذه وبقيت الشقة الواحدة على النول فجاء إنسان موقع فذكر أن له عند القزاز قليل غزل فاشتكى إلى القاضي فرسم له أن يأخذ شقة المرأة ويقسم على أصحاب الأمانات وأنظر حال المرأة.

فأجاب: ما كان في حانوت المفلس من الأمانات مثل الثياب الذي ينسجها للناس والغزل وغير ذلك فإنها لأصحابها باتفاق المسلمين لا تعطى لغير صاحبها. وإذا كان قد أخذ للناس غزلا ولم يوجد عين الغزل لم يجز لصاحب الغزل أن يأخذ مال غيره بدلا عن ماله بل إذا أقرض فيها كانت في ذمته وكذلك ما أعطاه من الأجرة ولم يوف العمل; فإنها دين في ذمته. والديون التي في ذمته لا توفى من أعيان أموال الناس باتفاق العلماء. ومن أقام من الناس بينة بأن هذا عين ماله أخذه وإن لم يقم أحد بينة وكان الرجل خائفا قد علم أن الذي ينسجه ليس هو له وإنما هو للناس لم يوف ديونه من تلك الأموال. ولا يجوز أن يعطى بعض الغزل بدعواه دون بعض بل يجب أن يعدل في ذلك بين الغرماء. وإن أقام واحد شاهدا وحلف مع شاهده حكم له بذلك وإن تعذر ما يعرف به مال هذا ومال هذا إلا علامات مميزة; مثل اسم كل واحد على متاعه: عمل بذلك. وإن تعذر ذلك كله أقرع بين المدعين فمن خرجت قرعته على عين أخذها مع يمينه. فقد ثبت في الصحيح عن النبي : القرعة في مثل هذا. والله أعلم.

سئل عمن عليه دين ولم يكن قادرا على وفاء دينه

وسئل عمن عليه دين ولم يكن قادرا على وفاء دينه وثبت أنه ما حصل معه شيء أوفاه وله والد له مال (ولم) يوف عنه شيئا. ويريد والده أن يأخذه معه إلى الحج. فهل يسقط عنه الفرض الذي عليه بحكم الدين الذي عليه وأن ما معه شيء يحج به إلا والده؟

فأجاب: الحمد لله. نعم متى حج به أبوه من ماله جاز ذلك ويسقط عنه الفرض باتفاق العلماء. وتنازعوا: هل يجب عليه الحج إذا بذل له أبوه المال؟ والخلاف في ذلك مشهور. والفرض يسقط عنه سواء ملكه أبوه مالا أو أنفق عليه وأركبه من غير تمليك. فإن كان عليه دين فمتى أذن له الغرماء في السفر للحج فلا ريب في جواز السفر - وإن منعوه من السفر ليقيم ويعمل ويوفيهم كان لهم ذلك وكان مقامه ليكتسب ويوفي الغرماء أولى به وأوجب عليه من الحج - وكان لهم منعه من الحج ولا يحل لهم أن يطالبوه إذا علموا إعساره. ولا يمنعوه الحج. لكن إن قال الغرماء: نخاف أن يحج فلا يرجع فنريد أن يقيم كفيلا ببدنه توجه مطالبتهم بهذا فإن حقوقهم باقية ولكنه عاجز عنها. ولو كان قادرا على الوفاء والدين حال كان لهم منعه بلا ريب. وكذلك لو كان مؤجلا يحل قبل رجوعه فلهم منعه حتى يوثق برهن أو كفيل وهناك حتى يوفي أو يوثق. وأما إن كان لا يحل إلا بعد رجوعه والسفر آمن ففي منعهم له قولان معروفان هما روايتان عن أحمد. وإن كان السفر مخوفا كالجهاد فلهم منعه إذا تعين عليه وإذا تمكن الغرماء من استيفاء حقوقهم فلهم تخليته عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة: لهم ملازمته وهذا في المقام فإذا أراد المعسر أن كان فيه نزاع والله أعلم.

سئل عن رجل عليه دين وتلف ماله وله بينة عادلة تشهد له بتلف ماله

سئل عن رجل عليه دين وتلف ماله وله بينة عادلة تشهد له بتلف ماله ; لكنها لا تدري: هل تجدد له مال بعد ذلك؟ أم لا؟ فهل القول قوله مع يمينه في الإعسار؟ أم يحتاج إلى بينة؟

فأجاب: إذا قال: لم يحدث لي بعد تلف مالي شيء فالقول قوله مع يمينه في ذلك: في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والله أعلم.

وسئل عن رجل مديون ولرجل معه معاملة في بضاعة سبع سنين وصار له عنده خمسمائة درهم. أوفى منها ثلاثمائة وتحت يده دار رهنا وقد رفعه إلى الحاكم. فقال المدين: يصبر علي ثمانية أيام أوفيه فما فعل يمهله. فهل يجوز أن يحبسه؟

فأجاب: إذا كان للرجل سلعة فطلب أن يمهل حتى يبيعها ويوفيه من ثمنها: أمهل بقدر ذلك. وكذلك إن أمكنه أن يحتال لوفاء دينه باقتراض أو نحوه وطلب ألا يرسم عليه حتى يفعل ذلك; وجبت إجابته إلى ذلك ولم يجز منعه من ذلك بحبسه. والله أعلم.

سئل عن رجل عليه دين لجماعة وأعسر واتفقوا جميعهم على أنهم يمهلوه

وسئل عن رجل عليه دين لجماعة وأعسر عن المبلغ واتفقوا جميعهم على أنهم يمهلوه ويخرجوه وكان قد بقي له بقية مال على أنه يعمل فيه ويوفيهم ففعلوا ذلك; إلا رجل واحد منهم أبى أن يفعل ذلك بعد اتفاق الجماعة معه. فهل له أن يأخذ دون الجماعة الذي له؟ أم لا؟

فأجاب: ليس له بعد رضاه معهم بإنظارهم أن يختص باستيفاء ماله حالا دونهم على مذهب من يقول: إن الحال يتأجل كمالك وأحمد في قول. وعلى مذهب من يقول: لا يتأجل كالشافعي وأحمد في قول. أو من يقول يتأجل في المعاوضات دون التبرعات كأبي حنيفة وأحمد في رواية. ولا فرق في مذهب أحمد ومالك وغيرهما بين أن يكون قد اتفق معهم على التأجيل إلى أجل معين أو يقسطه أقساطا. أو اتفق معهم على أن يفعلوا ذلك فيما بعد: ليس له أن يغدر بهم ويمكر بهم; بل لو قدر أن التأجيل لم يلزم فإنهم مشتركون جميعهم في الاستيفاء من ذلك المتبقي مع الغريم.

سئل عن رجل عليه دين وله مدة في الاعتقال

وسئل عن رجل عليه دين وله مدة في الاعتقال ولا موجود له غير عمل يده. فهل يحل لأصحاب الدين ضربه أو اعتقاله أو الصبر عليه. ويأخذوا قليلا قليلا على قدر عمله؟

فأجاب: لا يحل اعتقاله ولا ضربه والحالة هذه; بل الواجب تمكينه حتى يعمل ما يوفي دينه بحسب الإمكان. والله أعلم.

سئل عن رجل عليه دين من ضمان وليس له وفاء إلا من شغله

وسئل عن رجل عليه دين من ضمان، وليس له وفاء إلا من شغله، ويريد يذهب معلمًا فيحصل شيئًا، ويقيم له ضامن وجه بحضوره. فهل يجوز حبسه؟ أم يمكن من ذلك؟

وإن ادعي الغريم أنه قادر على وفاء الضمان، وادعي هو العجز فهل القول قول الغريم؟ وهل يحتاج إلى أن يقيم بينة؟

فأجاب:

بل يجب تمكينه من إيفاء الدين على الوجه الذي يمكنه، ولا يجوز حبسه إن قام بذلك، وإذا ادعي الإعسار وعرف له مال لم تقبل دعوي الإعسار إلا ببينة. وإن لم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه دون قول غريمه. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك مذهب مالك نحو من ذلك. وقد حكاه طائفة عن أبي حنيفة.

سئل عن رجل عليه دين وادعي عليه عند الحاكم

وسئل عن رجل عليه دين، وادعي عليه عند الحاكم، ورسم عليه، فقال: اقعد في الترسيم حتي أبيع مالى، وأوفي الدين فقال الغريم: لابد من حبسك. فهل يجوز حبسه؟ أم يلزمه حتي يبيع، ويوفي دينه؟

فأجاب:

بل إذا طلب أن يمكن من بيع ما يوفي دينه وجب تمكينه من ذلك، ولم يجب حبسه العائق له عن ذلك. وهذا باتفاق المسلمين. والله أعلم.

سئل عن رجل معسر وله عائلة وخشي من صاحب الدين

وسئل عن رجل معسر وله عائلة وخشي من صاحب الدين أن يعتقله ويضيع هو وعائلته، ونوي أنه إذا وسع الله عليه أعطاه دينه، إذا أنكره في ساعة وحلف: هل عليه إثم أم لا؟

فأجاب:

لا يحل له أن يجحد حقه، ولا يحلف أنه لا شيء عليه؛ بل عليه أن يقر بحقه، ويذكر عسرته، ويستغفر الله تعالى. { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } 1. والله أعلم.

سئل عن رجل له مملوك وطلب بعض الظلمة شراءه

وسئل عن رجل له مملوك، وطلب بعض الظلمة شراءه، فخاف أنه لا يعطيه ثمنه، فقال: هذا متي بعته ثمنه على حرام، وعليه دين فهل يبيعه ويوفي ثمنه؟

فأجاب:

نعم يجوز له بيعه ويوفي الناس حقوقهم. فإن قصد بقوله: ثمنه على حرام، أن ثمنه لا يبقي عنده، بل أوفيه للغرماء فلا شيء عليه. وإن قصد تحريم الثمن. فقيل: عليه كفارة يمين؛ كمذهب أحمد وأبي حنيفة. وقيل: لا شيء عليه؛ كمذهب مالك، والشافعي. والله أعلم.

سئل عن رجل مديون وله بالقرافة ملك

وسئل عن رجل مديون، وله بالقرافة ملك، وباع منه نصفه بيع أمانة، وله بهذا بينة، وأشهره المشتري كل شهر بسعيه ونصف من تاريخ المبيع، وأن مداينًا آخر اشتكاه وضيق عليه باليد القوية حتي أخذ بقية الذي باع بها في الأول، وبقي الملك في قبضة الثاني.

فأجاب:

أما بيع الأمانة الذي مضمونه اتفاقهما على أن البائع إذا جاءه بالثمن أعاد عليه ملكه ذلك، ينتفع به المشتري بالإجارة والسكن، ونحو ذلك هو بيع باطل، باتفاق العلماء إذا كان الشرط مقترنًا بالعقد.

وإذا تنازعوا في الشرط المقدم على العقد، فالصحيح أنه باطل بكل حال، ومقصودهما إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل، ومنفعة الدراهم هي الربح. والواجب هو رد المبيع إلى صاحبه البائع، وأن يرد البائع على المشتري ما قبضه منه؛ لكن يحسب له منه ما قبضه المشتري من المال الذي سموه أجرة. والله أعلم.

سئل عن رجل في الرق يبيع ويشتري لأستاذه

وسئل عن رجل في الرق يبيع ويشتري لأستاذه، وأستاذه يبيع ويشتري باسم المملوك، وقد وجب على أستاذه دين فهل يطلب به المملوك أو المالك؟

فأجاب:

الحمد لله، الدين على السيد يوفي من ماله، وما كان بيد العبد هو من ماله يوفي به دينه، ويباع أيضا في وفاء دينه. وإن كتم العبد شيئًا من المال الذي للسيد بيده، عوقب حتي يظهره، فيوفي منه دينه. والله أعلم.

سئل عن رجل عليه دين ثم إن صاحب الدين اعتقله

وسئل عن رجل عليه دين، ثم إن صاحب الدين اعتقله، وإن المديون فقير لا مال له، وانتقلت اليه منافع بستان من جهة وقف شرعي، لا يتحصل من ريعه مقدار وفاء الدين المدة المذكورة إلى حين وفاء الدين.

فأجاب:

إن كان معسرًا لم يجز حبسه، ولا مطالبته، بل يجب إنظاره إلى الميسرة. وإذا لم يكن له ما يوفي الدين إلا منافع الوقف عليه، استوفي الدين من أجرة منافع الوقف بحسب الإمكان. فإن ظهر له مال سوي ذلك استوفي منه ما أمكن. والله أعلم.

سئل عمن عليه حق وامتنع هل يجب إقراره بالعقوبة

وسئل رحمه الله عمن عليه حق وامتنع، هل يجب إقراره بالعقوبة؟

فأجاب:

حكم الشريعة: أن من وجب عليه حق وهو قادر على أدائه، وامتنع من أدائه، فإنه يعاقب بالضرب والحبس مرة بعد مرة، حتي يؤدي، سواء كان الحق دينا عليه، أو وديعة عنده، أو مال غصب، أو عارية، أو مالا للمسلمين، أو كان الحق عملا؛ كتمكين المرأة زوجها من الاستمتاع بها، وعمل الأجير ما وجب عليه من المنفعة. وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } 2 فأباح الله سبحانه للرجل أن يضرب المرأة إذا امتنعت من الحق الواجب عليها، من المباشرة، وفراش زوجها.

وقال النبي : (مَطْلُ الغني ظلم) أخرجاه في الصحيحين. وقال: (لَي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أهل السنن. واللي: هو المطل، والواجد: هو القادر. فأخبر أن مطل الغني ظلم، وأن ذلك يحل عرضه وعقوبته، فثبت أن عقوبة المماطل مباحة.

وروي البخاري في صحيحه: أن النبي صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح، وسأل عم حيي بن أخطب عن كنزه، فقال: يا محمد، أذهبته النفقات، فقال للزبير: (دونك هذا) فأخذه الزبير فمسه بشيء من العذاب. فقال: رأيته يأتي إلى هذه الخربة، وكان في جلد ثور. لما علم النبي أن هذا الرجل الذي يعلم مكان المال الذي يستحقه النبي ، وقد أخفاه، أمر الزبير بعقوبته، حتي دلهم على المال، ومن كتم ماله أولي بالعقوبة، وقد ذكر هذه المسألة الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي، وأحمد، وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافًا. وقد ذكروا بأن الممتنع من أداء الواجب من الدين وغيره إذا أصر على الامتناع فإنه يعاقب ويضرب مرة بعد مرة حتي يؤديه، ولا يقتصر على ضربه مرة، بل يفرق عليه الضرب في أيام متعددة، حتي يؤدي.

وقد أجمع العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. والمعاصي نوعان: ترك واجب، وفعل محرم. فمن ترك أداء الواجب مع القدرة عليه فهو عاصٍ، مستحق للعقوبة، والتعزير. والله سبحانه أعلم.

سئل عن رجل أشهد شهودا على أن ابنته رشيدة

وسئل عن رجل أحضر إلى منزله شهودًا فقال: اشهدوا على أن ابنتي فلانة رشيدة جائزة التصرف لا حجر عليها، وهي ذات زوج وأولاد بحضور زوجها، وأحد إخوتها، ووالدتها، وكرر ذلك مرات.

فلما انصرف شهوده قال أخوها للشهود الرشد لا تشهدوا به، ثم بعد أيام حضر والدها وأخوها، وقال والدها: أنا قد رجعت عن ترشيدها، فهل يصح ذلك؟ أم لا؟ وهل له الرجوع بغير مستند شرعي؟

فأجاب:

ليس للشهود أن يلتفتوا إلى كلام أخيها، ولا غيره، والامتناع من الشهادة؛ بل عليهم أن يقيموا الشهادة لله، كما أمر الله ورسوله، وليس لأبيها أن يرجع عما أمر به من رشدها، بل إن ثبت أنه حدث عليها سفه يوجب الحجر عليها لم يكن الحجر عليها لأبيها، بل لولي الأمر، ولو لم يقر الأب برشدها، فمتي صارت رشيدة زال الحجر عنها، سواء رشدها أو لم يرشدها، وسواء حكم بذلك حاكم أو لم يحكم، وإن نوزعت في الرشد فشهد شاهدان أنها رشيدة، قبلت شهادتهما، ولم يلتفت إلى الأب ولا غيره. وإذا تصرفت مدة، وشهد الشاهد أنها كانت رشيدة في مدة التصرف، كان تصرفها صحيحًا، وإن كان الأب يدعي أنها كانت تحت حجره. والله أعلم.

سئل عن امرأة تحت الحجر وقد شهد لها بالرشد

وسئل عن امرأة تحت الحجر، وقد شهد لها بالرشد بينة عادلة ليسوا محارمها: هل يقبل ذلك؟ أم لا؟

فأجاب:

نعم إذا شهدت بينة عادلة برشدها حكم لها بذلك، وإن لم يكونوا أقارب؛ فإن العدالة والرشد ونحو ذلك قد تعلم بالاستفاضة، كما يعلم المسلمون رشد أمهات المؤمنين والنسوة المشهورات. والله أعلم.

سئل عن رجل له بنت أرملة شهد الشهود برشدها

وسئل عن رجل له بنت أرملة، وعقد عقدها، وتلفظ للشهود برشدها، فلما تيقنت البنت بذلك اختارت أن تكون تحت حجر أبيها، وما اختارت الرشد فهل لأبيها أن يفسخ الرشد؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، بعد أن تصير رشيدة لا يمكن أن تكون تحت الحجر، لكن لها ألا تتصرف في مالها إلا بإذن أبيها، فإن قالت: أنا لا أتصرف إلا بإذن أبي كان لها ذلك، إذا لم يكن التصرف واجبًا عليها.

سئل عن رجل خلف ولدا ذكرا وابنتين غير مرشدتين

وسئل عن رجل خلف ولدا ذكرا، وابنتين غير مرشدتين، وأن البنت الواحدة تزوجت بزوج، ووكلت زوجها في قبض ما تستحقه من إرث والدها، والتصرف فيه: فهل للأخ المذكور الولاية عليها؟ وهل يطلب الزوج بما قبضه، وما صرفه لمصلحة اليتيمة؟

فأجاب:

للأخ الولاية من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعلت ما لا يحل لها نهاها عن ذلك.

وأما الحجر عليها إن كانت سفيهة فلوصيها إن كان لها وصى الحجر عليها، وإلا فالحاكم يحجر عليها، ولأخيها أن يرفع أمرها إلى الحاكم.

سئل عن رجل له ولد عمره سبع سنين

وسئل رحمه الله عن رجل له ولد عمره سبع سنين، وأن رجلا أركبه دابة بغير إذن الوالد، ولا أعلمه، فرفست الدابة الصغير ورمته وهربت منه، فاشتكي الرجل أبا الصغير، وكتب عليه حجة غصب نحو الدابة: فهل يضمن الوالد شيئًا؟

فأجاب:

إذا لم يكن الوالد له سبب في هذه القضية لم يكن عليه شيء، ولا يلزمه شيء من الحجة التي كتبت عليه كرها، فإن صاحب الدابة هو الذي أمر الصغير بركوبها من غير سعي الوالد.

سئل عمن اشترى لليتيم من بيت المال بغبطة لبيت المال

وسئل رحمه الله عمن اشترى لليتيم من بيت المال بغبطة لبيت المال، ولم يظهر غبطة لليتيم. فهل يصح الشراء؟ وهل يضمن الوصي الزيادة؟

فأجاب:

إن اشتري لليتيم بثمن المثل، أو بزيادة للمصلحة، جاز، وإن اشتري بزيادة لا يتغابن الناس لمثلها، كان عليه ضمان ما أداه من الزيادة الفاحشة. وغبطة بيت المال لا تؤثر، فإن هذا في صورة لا حقيقة له. والله أعلم.

سئل عن رجل معتقل في سجن السلطان وطولب بدين شرعي عليه

وسئل عن رجل معتقل في سجن السلطان، وهو خائف على نفسه، وطولب بدين شرعي عليه، ثم أشهد عليه في حال اعتقاله أن جميع ما يملكه من العقار ملكا لزوجته، وصدقته على ذلك فهل يجوز إقراره بذلك؟ وينفذ في جميع ماله؟ أو يختص هذا الإقرار بالثلث؟ ويبقي الثلثان موقوفًا على إجازة الورثة، أم لا؟ وإذا كانت له ابنة صغيرة فقيرة هل ينفق عليها من ريع هذا العقار، والحالة هذه؟

فأجاب:

إذا كان عليه حقوق شرعية فتبرع بملكه بحيث لا يبقي لأهل الحقوق ما يستوفونه بهذا التمليك، فهو باطل في أحد قولي العلماء، كما هو مذهب مالك، والإمام أحمد في إحدى الروايتين: من جهة أن قضاء الدين واجب، ونفقة الولد واجبة. فيحرم عليه أن يدع الواجب، ويصرفه فيما لا يجب، فيرد هذا التمليك، ويصرفه فيما يجب عليه من قضاء دينه ونفقة ولده.

وأما إن كان الملك مستحقًا لغيره، أو فيه ما يستحقه غيره، لم يصح صرفه في حق الغير إلا بولاية أو وكالة، وإذا كان الإشهاد فيما يملكه، ملكه لزوجته، لم يدخل في ذلك ما لا يملكه.

سئل عمن ولي على مال يتامي وهو قاصر

وسئل رحمه الله عمن وُلِّي على مال يتامى وهو قاصر فما الحكم في ولايته، وأجرته؟

فأجاب:

لا يجوز أن يولي على مال اليتامى إلا من كان قويا، خبيرا بما ولي عليه، أمينا عليه.

والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به من يصلح، ولا يستحق الأجرة المسماة، لكن إذا عمل لليتامي عملا يستحق أجرة مثله كان كالعمل في سائر العقود الفاسدة.

سئل عمن زوج ابنته لرجل ولها في صحبته سنين

وسئل عمن زوج ابنته لرجل، ولها في صحبته سنين، فجاء والدها يطلب شيئًا لمصالحها، فقال الزوج: أنا محجور على، وما ذكر في الكتاب تحت الحجر؟

فأجاب:

لا يقبل بمجرد قوله في أنه محجور عليه، بل الأصل صحة التصرف، وعدم الحجر، حتي يثبت. والله أعلم.

سئل عن رجل تزوج امرأة ورزق منها ولدا

وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة، ورزق منها ولدًا، وأراد والد الزوجة المذكورة أن يضع يده على مال ابنته يتصرف فيه لنفسه، فمنعته من ذلك. فادعي أنها تحت الحجر. فهل تقبل منه هذه الدعوي. وهي لم يصدر منها سفه يحجر عليها؟ وهل لها منعه من التصرف في مالها؟

فأجاب:

ليس لأبيها أن يتصرف لنفسه، بل إذا كان متصرفًا في مالها لنفسه، كان ذلك قادحًا في أهليته، ومنع من الولاية عليها كالحجر.

وأما إن كان أهلا للولاية وإنما يتصرف لها بما فيه الحظ لها لا له، وليس له الولاية عليها إلا بشرط دوام السفه، فإنها إذا رشدت زال حجرها بغير اختياره. وإذا أقامت بينة برشدها، حكم برفع ولايته عنها، ولها عليه اليمين أنه لا يعلم رشدها إذا طلب ذلك، ولم يقم بينة. والله أعلم.

سئل عن زوجة لرجل ادعت أنها تحت الحجر

وسئل عن زوجة لرجل ادعت أنها تحت الحجر، ولم يكن الزوج يعلم بذلك، ثم طلقها وأبرأته، ثم تزوجت برجل آخر، ثم ادعي على الأول بالصداق لكونها تحت الحجر فهل يقبل ذلك؟

فأجاب رحمه الله:

لا يقبل بمجرد دعواها أنها تحت الحجر، بل إذا كانت تتصرف تصرف الرشيد فهي رشيدة نافذة البيوع، ولو كانت تحت الحجر، فإذا أقامت بينة أنها رشيدة، فقد تم تبرعها. والله أعلم.

سئل عمن اعترف بمال لأيتام وأعطى خطه

وسئل رحمه الله عمن اعترف بمال لأيتام، وأعطي خطه، ثم إن اليتيم الواحد طالبه فأنكر عند الحاكم، وحلف أنه لا يستحق عليه شيئا، ثم إنه بعد ذلك طلب من اليتيم الإبراء وهو مريض فهل يصح إبراؤه وهو مريض؟

فأجاب:

لا يصح هذا الإبراء في نفس الأمر، ما دام المدعي عليه جاحدا للحق.

سئل عمن دفع مال يتيم إلى عامل يشتري به ثمرة مضاربة

وسئل عمن دفع مال يتيم إلى عامل يشتري به ثمرة مضاربة، ومعه آخر أمينا عليه، وله النصف، ولكل منهما الربع، فخسر المال، وانفرد العامل بالعمل لتعذر الآخر، وكانت الشركة بعد تأبير الثمرة، وأفتي بعضهم بفسادها، وأن على العامل وولي اليتيم ضمان ما صرف من ماله.

فأجاب:

هذه الشركة في صحتها خلاف، والأظهر صحتها.

وسواء كانت صحيحة أو فاسدة. فإن كان ولي اليتيم فرط فيما فعله ضمن، وأما إذا فعل ما ظاهره المصلحة فلا ضمان عليه لجناية من عامله.

وأما العامل فإن خان أو فرط، فعليه الضمان، وإلا فلا ضمان عليه. ولو كان العقد فاسدًا كان ما يضمن بالعقد الصحيح يضمن بالفاسد، وما لا يضمن بالعقد الصحيح لا يضمن بالعقد الفاسد. وعلى كل منهما اليمين في نفي الجناية، والتفريط.

سئل عن أيتام تحت الحجر الشريف ثم إن التتار أسروهم

وسئل رحمه الله عن أيتام تحت الحجر الشريف. ثم إن التتار أسروهم سنة شقحب، وهم صغار، فوشي بعض الناس إلى ولاة الأمر في أخذ مالهم، ولهم وارث ذو رحم وعصبات، فلما بلغ الورثة ذلك أثبتوا محضرًا على تقدير عدمهم، وأنهم ورَّاثهم فهل يحل لأحد أن يتعرض لأخذه مع علمه ذلك، وأن ينتظر لغيبتهم؟ وهل يأثم المتخذ ذلك مع علمه بذلك؟

فأجاب:

ليس لأحد غير الورثة أن يأخذ هذا الملك؛ لكن ينفق منه النفقة الواجبة على ربه، مثل نفقة ولده، ويقضي منه ديونه. وإذا حكم بموته فهو للوارث، وفي المدة التي ينتظرون اليها نزاع بين العلماء: من العلماء من يقدرها، ومنهم من يقول: يرجعون في ذلك إلى الحاكم. ومنهم من يحدث في ذلك ليصرف المال إلى غير مستحقه، فإنه آثم في ذلك باتفاق الأئمة. والله أعلم.

سئل عمن عنده يتيم وله مال تحت يده

وسئل رحمه الله عمن عنده يتيم، وله مال تحت يده، وقد رفع كلفة اليتيم عن ماله، وينفق عليه من عنده فهل له أن يتصرف في ماله بتجارة، أو شراء عقار، مما يزيد المال وينميه بغير إذن الحاكم؟

فأجاب:

نعم يجوز له ذلك، بل ينبغي له، ولا يفتقر إلى إذن الحاكم إن كان وصيا، وإن كان غير وصى وكان الناظر في أموال اليتامي الحاكم العالم العادل يحفظه ويأمر فيه بالمصلحة، وجب استئذانه في ذلك.

وإن كان في استئذانه إضاعة المال، مثل أن يكون الحاكم أو نائبه فاسقًا، أو جاهلًا، أو عاجزًا، أو لا يحفظ أموال اليتامي، حفظه المستولي عليه، وعمل فيه المصلحة من غير استئذان الحاكم.

سئل عن رجل توفي وخلف ثلاثة أولاد

وسئل عن رجل توفي إلى رحمة الله تعالى وخلف ثلاثة أولاد، وملكا، وكان فيهم ولد كبير، وقد هدم بعض الملك، وأنشأ، وتزوج فيه، ورزق فيه أولادًا، والورثة بطالون، فلما طلبوا القسمة قصد هدم البناء.

فأجاب:

أما العرصة، فحقهم فيها باق.

وأما البناء، فإن كان بناه كله من ماله دون الأول، فله أخذه؛ ولكن عليه ضمان البناء الأول الذي كان لهم. وإن كان أعاده بالإرث الأول فهي لهم.

سئل عن كسوة الصبيان هل يجوز لولي اليتيم أن يلبسه الحرير

وسئل رحمه الله عن كسوة الصبيان في الأعياد وغيرها الحرير هل يجوز لولي اليتيم أن يلبسه الحرير؟ أم لا؟ وإذا فعل ذلك هل يأثم؟ أم لا؟ وكذلك تمويه أقباعهم بالذهب، هل يجوز؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، ليس لولي اليتيم إلباسه الحرير في أظهر قولي العلماء. كما ليس له إسقاؤه الخمر، وإطعامه الميتة. فما حرم على الرجال البالغين، فعلى الولي أن يجنبه الصبيان.

وقد مزق عمر بن الخطاب حريرا رآه على ابنِ الزبير، وقال: لا تلبسوهم الحرير. وكذلك ما يحرم على الرجال من الذهب.

وأما نسبة الولي إلى البخل فيدفع ذلك بأن يكسوه من المباح ما يحصل به التجمل في الأعياد وغيرها، كالمقاطع الإسكندرانية، وغيرها مما يحصل به التجمل والزينة، ودفع البخل من غير تحريم. ومن وضح له الحق ليس له أن يعدل عنه إلى سواه، ولا يجب على أحد أن يتبع غير الرسول في كل ما يأمر به، وينهي عنه، ويحلله، ويحرمه. والله أعلم.

سئل عن وصى له أملاك ووليه في بلاد التتار

وسئل رحمه الله عن وصى له أملاك، ووليه في بلاد التتار، وقد باع أملاكه برأي منه إلى الذي اشتري منه بغير نداء، ولا إشهاد، ولا حكم أحد فهل يصح البيع؟

فأجاب:

إذا باع قبل أن يرشد، فبيعه باطل، لاسيما إن كان قد باع بالغبن الفاحش.

فإن ادعي المشتري أنه كان رشيدًا، وقامت البينة بسفهه، حكم ببطلان البيع.. والله أعلم.

سئل عن أمير يعامل الناس ويتكل على حسابه

وسئل عن أمير يعامل الناس، ويتكل على حسابه فهل إذا أهمل ولم يكتبه يكون في ذمته؟ وأن الأمير لم يتحقق أن عليه في ذمته شيئا، لكن يتكل عي دفتر العامل؟

فأجاب:

الحمد لله، إن كان قد اجتهد في استعمال ذلك، وله كاتب وهو ثقة خبير، يجتهد في حفظ أموال الناس، لم يكن في ذمته شيء، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وإن كان قد فرط في استعمال الكاتب بأن يكون خائنا، أو عاجزًا كان عليه درك بما ذهب من حقوق الناس بتفريطه. والله أعلم.

سئل عن الوكلاء على قري الزرع

وسئل رحمه الله عن الوكلاء على قري الزرع، قد قدر لهم على كل فدان شيء من القمح وغيره. ومؤونتهم على الفلاحين، وله على الجند دراهم معلومة.

فأجاب:

إن كان الوكيل لا يأخذ لنفسه إلا أجرة عمله بالمعروف، والزيادة يأخذها المقطع، فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين. وأما الذي أخذ أجرة عمله فقد أخذ ما يستحق، فلا يحرم عليه ذلك. فإن كان الوكيل قد أعطي المقطع من الضريبة ما يزيد على أجرة مثله، ولم يأخذ لنفسه إلا أجرة عمله، جاز ذلك. والله أعلم.

باب الوكالة

سئل عن رجل وكل رجلا في قبض ديون له

سُئِلَ شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل وكل رجلا في قبض ديون له، ثم صرفه وطالبه بما بقي عليه، ثم إن الوكيل المتصرف كتب مبارأة بينه وبين من عليه الدين بغير أمر الموكل فهل يصح الإبراء؟

فأجاب:

إن لم يكن في وكالته إثبات ما يقتضي أنه مأذون له في الإبراء لم يصح إبراؤه من دين هو ثابت للموكل، وإن كان أقر بالإبراء قبل إقراره فيما وكيل فيه؛ كالتوكيل بالقبض إذا أقر بذلك. والله أعلم.

وسئل عن رجل يوكل الدلال في أن يشتري له سلعة، فيشتريها له، ويأخذ من البائع جعلا على أن باعها له بذلك الثمن.

فأجاب:

لا يجوز ذلك؛ لأنه يشتريها لموكله بأكثر من قيمتها، فيزيد البائع على الربح المعتاد إذا اشتراها بتخبير الثمن، فيكون ذلك غشًا لموكله. هذا إذا حصل مواطأة من البائع، أو عرف بذلك. وأما لو وهبه البائع ذلك من غير أن يكون قد تقدم شعوره، فهذه مذكورة في غير هذا الموضع.

سئل عن وكيل آجر أرض موكله بناقص عن شركته

وسئل عن وكيل آجر أرض موكله بناقص عن شركته.

فأجاب:

إذا أجرها بنصف أجرة المثل كان الوكيل ضامنا للنقص. وهل للمالك إبطال الإجارة؟ فيه نزاع بين العلماء.

سئل عن جماعة من الجند استأجروا وكيلا على إقطاعهم

وسئل عن جماعة من الجند استأجروا وكيلا على إقطاعهم، وأمروه أن يخرج إلى ذلك الإقطاع، ويسجل بالقيمة، فواطأ الوكيل أصحابه، ووافق المزارعين على رأيهم، وسجل بدون القيمة الجاري بها العادة فهل يجوز تصرفه فيما لم يؤذن له فيه؛ لأجل ما بيده من الوكالة الشرعية؟

فأجاب:

إذا أجر بدون أجرة المثل وسلم الأرض اليهم فهو ظالم معتد، ولأرباب الأرض أن يضمنوه تمام أجرة المثل؛ لأنه سلم أرضهم إلى من يتمتع بها.

وأما المستأجرون إن كانوا علموا أنه ظالم، وأنه حاباهم فلأصحاب الأرض تضمينهم أيضا. وإن كانوا استوفوا المنفعة فلهم منعهم من الزرع إن كانوا لم يزرعوا؛ فإن الإجارة حينئذ باطلة. وإن كانوا لم يعلموا بل المؤجر عرفهم، فهل لأصحاب الأرض تضمينهم؟ على قولين للعلماء. وإذا ضمنوهم فهل لهم الرجوع على هذا الغار بما لم يلزموا ضمانه بالعقد؟ على قولين أيضا. والثالثة في مذهب أحمد وغيره من العلماء.

وسئل عن امرأة وكلت أخاها في المطالبة بحقوقها كلها

وسئل رضي الله عنه عن امرأة وكلت أخاها في المطالبة بحقوقها كلها، والدعوي لها، وفي فسخ نكاحها من زوجها، وثبت ذلك عند الحاكم، ثم ادعي الوكيل عند الحاكم المذكور بنفقة موكلته وكسوتها على زوجها المذكور، واعترف أنه عاجز عن ذلك ومضي على ذلك مدة، وأحضره مرارًا إلى الحاكم، وهو مُصرٌّ على الاعتراف بالعجز، فطلب الوكيل من الحاكم المذكور أن يمكنه من فسخ نكاح موكلته من زوجها فمكنه من ذلك، ففسخ الوكيل نكاح موكلته من زوجها المذكور بحضور الزوج، بعد أن أمهل المهلة الشرعية قبل الفسخ فهل يصح الفسخ؟ وتقع الفرقة بين الزوجين بتمكين الحاكم الوكيل المذكور من فسخ نكاح موكلته، والحالة هذه؟ أم لا؟ أو يشترط حكم الحاكم بصحة الفسخ؟

فأجاب:

إذا فسخ الوكيل المأذون له في فسخ النكاح بعد تمكين الحاكم له من الفسخ صح فسخه، ولم يحتج بعد ذلك إلى حكمه بصحة الفسخ في مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

ولكن الحاكم نفسه إذا فعل فعلا مختلفا فيه من عقد وفسخ؛ كتزويج بلا ولي، وشراء عين غائبة ليتيم، ثم رفع إلى حاكم لا يراه، فهل له نقضه قبل أن يحكم به؟ أو يكون فعل الحاكم حكمًا؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد.

والفسخ للإعسار جائز في مذهب الثلاثة. والحاكم ليس هو فاسخًا، وإنما هو الآذن في الفسخ، والحاكم بجوازه، كما لو حكم لرجل بميراث وأذن له في التصرف، أو حكم لرجل بأنه ولي في النكاح، وأذن له في عقده، أو حكم لمشتر بأن له فسخ البيع لعيب ونحوه، ففي كل موضع حكم لشخص باستحقاق العقد أو الفسخ صح بلا نزاع في مثل هذا.

وإنما النزاع فيما إذا كان هو العاقد أو الفاسخ. ومع هذا فالصحيح أنه لا يحتاج عقده وفسخه إلى حكم حاكم فيه. وهذا كله لو رفع مثل هذا إلى حاكم حنفي لا يري الفسخ بالإعسار. فأما إن كان الحاكم الثاني ممن يري ذلك، كمن يعتقد مذهب مالك، والشافعي، والإمام أحمد، لم يكن له نقض هذا الفسخ باتفاق الأئمة.

والعلماء الذين اشترطوا في فسخ النكاح بعيب أو إعسار ونحو ذلك من صور النزاع أن يكون بحكم حاكم، وفرقوا بين ذلك وبين فسخ المعتقة تحت عبد، قالوا: لأن هذا فسخ مجمع عليه، فلا يفتقر إلى حاكم، وذلك فسخ مختلف فيه. وسببه أيضا يدخله الاجتهاد، بخلاف العتق فإنه سبب ظاهر معلوم، فاشترطوا أن يكون الفسخ بحكم حاكم، لم يشترطوا أن يكون الحاكم قد حكم بصحة الفسخ بعد وقوعه؛ إذ هذا ليس من خصائص هذه المسائل، بل كل تصرف متنازع فيه إذا حكم الحاكم بصحته لم يكن لغيره نقضه، إذا لم يخالف نصا، ولا إجماعا.

فلو كان المعتبر هنا الحكم بعده لم يحتج إلى حكم الحاكم ابتداء، بل كل مستحق له أن يفسخه. ثم حكم الحاكم يمنع غيره من إبطال الفسخ، كما لو عقد عقدًا مختلفًا فيه، وحكم الحاكم بصحته. وهذا بين لمن عرف ما قاله الفقهاء في هذا. والله أعلم.

سئل عن رجل وكل رجلا في عمارة إقطاعه ببيت

وسئل رحمه الله عن رجل وكل رجلا في عمارة إقطاعه ببيت، فسجل طينه بالقيمة العادلة على الوجه المعتاد بالناحية، ويراعي الغبطة والمصلحة لموكله، فاتفق المزارعون، وخدعوا الوكيل لكونه غريبا من الناحية، عادم الخبرة والمعرفة بمواريها وخواصها، فسجلوا منه الطين بأقل من القيمة العادلة المعتادة من نسبة الشركة المقطعين بالناحية التي بينهم الطين بالسوية، دون الفرط الكثير، والغبن الفاحش. فهل يجوز للمقطع أن يطالب المزارعين بالخراج على القيمة العادلة أسوة شركائه المقطعين بالناحية؟

فأجاب:

إذا وكله في أن يسجله وكالة مطلقة، أو قال: مسجلة أسوة أمثاله، فسواء أطلق الوكالة، أو قيدها بأسوة أمثاله، ليس له أن يسجله إلا بقيمة المثل، كنظرائه، فإن فرط الوكيل بحيث سجله بدون الأجرة المعروفة، وسلم الأرض إلى المستأجر، كان له مطالبة الوكيل بما نقص.

وإذا كان المسجل قد قال للوكيل: هذه الأجرة هي أسوة الناس، ثم تبين كذبه، فهنا يطالب المسجل بتمام الأجرة، 0 إن كان قد زرع الأرض، ولكل واحد من الوكيل والموكل أن يطالب. والله أعلم.

سئل عمن وكل وكيلا في بيع دار

وسئل رحمه الله عمن وكل وكيلا في بيع دار، وفي قبض الثمن والتسليم والمكاتبة والإشهاد على الترسيم المعتاد، فباع الوكيل الدار لشخص وقبض الثمن، وثبت التبايع، وحكم حاكم بصحته، واستمرت الدار في يد المشتري مدة، ثم وقفها وشهد، وحكم حاكم بصحة الوقف في يد المشتري أولا وآخرا ثلاث سنين، وموكل البائع عالم بذلك كله، ولم يبد فيه مطعنًا، ثم بعد هذه المدة ادعي الموكل أنه عزل الوكيل قبل صدور البيع، ولم يعلم، وأقام بذلك بينة في بلد آخر، وحكم بها حاكم من غير دعوي على المشتري، ولا وكيله، ولا من بيده شيء من ريع العين المنتفعة. فهل يصح هذا الحكم، ويبطل البيع؟ وهل يجب على المشتري أجرة المثل، أو يكون انتفاعه شبهة؟ وهل يجب على الوكيل البائع إعادة الثمن؟ وإذا أقام الوكيل البائع بينة بوصول الثمن إلى موكله هل يكون ذلك رضي منه؟ وهل يفسق الموكل في ادعاء عزل الوكيل بعد ثلاث سنين، وسكوته عن ذلك، وغروره للمشتري، ووصول الثمن اليه؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة أولًا مبنية على عزل الوكيل: هل ينعزل قبل بلوغ العزل له؟ على قولين مشهورين للعلماء:

أحدهما: لا ينعزل حتي يعلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وقول الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك بل أرجحهما. فعلى هذا تَصَرُّف الوكيل قبل العلم صحيح نافذ. وثبوت عزله قبل التصرف لا يقدح في تصرفه قبل العلم، فيصح البيع والوقف الواقع على الوجه المشروع، ولا يبطل ذلك، ولا حكم الحاكم به.

والقول الثاني: أنه ينعزل قبل العلم وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو مذهب مالك في إحدى الروايتين. فعلى هذا لا تقبل مجرد دعواه العزل بعد التصرف، وإذا أقام بذلك بينة ببلد آخر، وحكم به حاكم، كان ذلك حكمًا على الغائب، والحكم على الغائب إذا قيل بصحته فهو يصح مع بقاء كل ذي حجة على حجته، وللمحكوم عليه أن يقدح في الحكم والشهادة بما يسوغ قبوله، أما الطعن في الشهود، أو الحكم، أو غير ذلك؛ مثل أن يكون الحاكم الذي حكم بالعزل لا يري العزل قبل العلم. ولكن ليس عليه أن يقبل البينة الشاهدة بالعزل فاسقة أو متهمة بشيء يمنع قبول الشهادة.

ثم الحاكم الذي حكم بصحة البيع والوقف إن كان ممن لا يري عزل الوكيل قبل العلم، وقد بلغه ذلك، كان حكمه نافذًا، لا يجوز نقضه بحال؛ بل الحكم الناقض له مردود. وإن كان لم يعلم ذلك، أو مذهبه عدم الحكم بالصحة، إذا ثبت كان وجود حكمه كعدمه.

والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العزل قبل العلم، أو علم بذلك وهو لا يراه، أو رآه وهو لا يري نقض الحكم المتقدم. وما ذكر من علم موكل الوكيل البائع بما جري وسكوته، كان وجود حكمه كعدمه، واستيثاق الحكم في القصة وقبض الثمن من الوكيل دليل في العادة على الإذن في البيع والشراء، وبقاء الوكالة، إذا لم يعارض ذلك معارض راجح.

وأكثر العلماء يقبلون مثل هذه الحجة ويدفعون بها دعوي الموكل للعزل؛ ليبطل البيع، لاسيما مع كثرة شهود الزور. ولو حكم ببطلان الوقف لم يجب على الوكيل ولا على المشتري ضمان ما استوفاه من المنفعة؛ فإن كان الوكيل والمشتري مغرورين غرهما الموكل لعدم إعلامه بالعزل، فالتفريط جاء من جهته فلا يضمن له المنفعة.

وإذا أنكر الموكل قبض الثمن، ولم يقم عليه بينة به، فإن كان الوكيل بلا جعل قبل قوله على الموكل؛ لأنه أمينه، كما يقبل قول المودع في رد الوديعة إلى مالكها. وإن كان بجعل، ففيه قولان مشهوران للعلماء، ولكن لا يقبل قول الوكيل على المشتري. فإن كان البيع باقيًا فلا كلام، وإن كان البيع مفسوخًا فلهم أن يطالبوا الوكيل بالثمن، والوكيل يرجع على الموكل.

سئل عن رجل وكيل باع لموكله حصته من حانوت

وسئل الشيخ رحمه الله عن رجل وكيل باع لموكله حصته من حانوت، ثم إن المشتري وقف تلك الحصة. وثبت البيع والوقف، وحكم بصحة الوقف، وبعد ذلك ثبت أن الوكيل كان معزولا بتاريخ متقدم على بيعه، محكوم بصحة عزله فهل يتبين بطلان البيع والوقف؟ أم هما صحيحان؟ وإذا بان البطلان، فهل للموكل الرجوع بأجرة تلك الحصة مدة مقامها في يد المشتري الواقف لها؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع مشهور، وهو أن الوكيل إذا مات موكله، أو عزله، ولم يعلم بذلك حتي تصرف فهل ينعزل قبل العلم؟ على ثلاثة أقوال لأهل العلم في مذهب الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهما:

أحدها: أنه ينعزل قبل العلم، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وقول في مذهب مالك، فعلى هذا يتبين بطلان البيع، لكن على هذا لا ضمان على الوكيل؛ لأنه لم يفرط، وأما المشتري فهو مغرور أيضا إذا لم يعلم. وفي تضمينه نزاع في مذهب أحمد وغيره، وأحد قولي الشافعي. وهذا الغَارُّ لا ضمان عليه، ولا يضمن واحد منهما، ولم يرجع على الغار في أشهر قولي الشافعي، والإمام أحمد في رواية. فعلى هذا يضمن المشتري، ولا يرجع على أحد.

والقول الثاني: أنه ينعزل بالموت، ولا ينعزل بالعزل حتي يعلم، وهذا مذهب أبي حنيفة، والمشهور في مذهب مالك، وأحد الأقوال في مذهب الشافعي، والإمام أحمد. فعلى هذا تصرفه قبل العلم صحيح. فيصح البيع إذا لم يكن الرجل عالما بالعزل، فأما إن تصرف بعد علمه بالعزل لم يكن تصرفه لازما باتفاق المسلمين؛ بل يكون بمنزلة تصرف الفضولي، وهو مردود في مذهب الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه. وموقوف على الإجازة في مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخري عن الإمام أحمد، وحكي عن مالك. فمتي لم يجزه المستحق بطل بالإجماع.

والقول الثالث: أنه لا ينعزل في الموضعين قبل العلم، كقول الشافعي، والإمام أحمد رضي الله عنهما والحكم فيه كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

سئل عمن وكل رجلا في بيع سلعة فباعها إلى أجل

وسئل شيخ الإسلام عمن وكل رجلا في بيع سلعة، فباعها إلى أجل، وتوي بعض الثمن. فهل يطالب المالك بقيمتها حالة، أو بمثل الثمن المؤجل، وهو أكثر؟

فأجاب:

إذا لم يكن قد أذن له في البيع إلى أجل، فالمالك مخير بين أن يطالب البائع بقيمتها بنقد، وبين أن يطالب بالثمن المؤجل جميعه، ويحسب المنكسر على صاحب السلعة؛ لأن تصرفه بدون إذن كتصرف غاصب. والغاصب إذا تلفت العين عنده إلى بدل كان للمالك الخيرة بين المطالبة، وبين البدل المطلق، وهو المثل أو القيمة، وبين البدل المعين. وهذا يكون حيث لم يعرف المشتري بالغصب، فلا يثبت عليه إلا الثمن المسمي.

وإذا قلنا بوقف العقود على الإجازة إذا لم يثبت الإجازة واصطلحا على الثمن، وتراضيا به صح الصلح عن بدل المتلف بأكثر من قيمته في ضمانه. كما لو اتفقا على فرض المهر في مسألة التفويض.

سئل عن الأمراء الذين يطلبون ما يحتاجون اليه من القماش وغيره من الأسواق

وسئل رحمه الله تعالى عن الأمراء الذين يطلبون ما يحتاجون اليه من القماش وغيره من الأسواق، فيأخذون ما أعجبهم من ذلك، ويكتب الأمير لصاحبه خطا بذلك، أو ينزله ونوابه في دفتره، ويقترضون من أصحابهم دراهم، وكل ذلك بغير حجج تكتب، ولا إشهاد، وهذه عادتهم.

وإذا توفي الأمير وعلم ديوانه واستاداره بحقوق الناس. فهل يحل لهم منعهم؟ أو مطلهم؟ أم يلزمهم دفع حقوقهم التي علموها من التركة، والحالة هذه؟

فأجاب:

بل كل ما وجد بخط الأمير، أو أخبر به كاتبه، أو لفظ وكيله في ذلك، مثل كاتبه، واستاداره، فإنه يجب العمل بذلك. فإن إقرار الوكيل على موكله فيما وكله فيه مقبول؛ لأنه أمينه، وخط الميت كلفظه في الوصية والإقرار ونحوهما.

ومع ذلك لا يحتاج أصحاب الحقوق إلى بينة. وتكليفهم البينة إضاعة للحقوق، وتعذيب للأموات ببقائهم مرتهنين بالذنوب، ففيه ظلم للأموات والأحياء، لاسيما في المعاملات التي لم تجر العادة فيها بالإشهاد، فتكليف البينة في ذلك خروج عن العدل المعروف. والله أعلم.

سئل عن رجل متحدث لأمير في تحصيل أمواله

وسئل عن رجل متحدث لأمير في تحصيل أمواله. فهل يكون له العشر فيما حصله المقرر عن الوكالة عن كل ألف درهم مائة درهم؟ وهل له أن يتناول ذلك في حال حياته ومماته، وبإذنه أو غير إذنه؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، إن كان الأمير قد وكله بالعشر، أو وكله توكيلا مطلقا على الوجه المعتاد الذي يقتضي في العرف أن له العشر فله ذلك؛ فإنه يستحق العشر بشرط لفظي، أو عرفي.

والاستئجار: كاستئجار الأرض للزراعة بجزء من زرعها، وهي مسألة قفيز الطحان. ومن نقل عن النبي : أنه نهي عن قفيز الطحان، فقد غلط.

واستيفاء المال بجزء مشاع منه جائز، في أظهر قولي العلماء، وإن كان قد عمل له على أن يعطيه عوضًا؛ ولم يبين له ذلك. فله أيضا أجرة المثل الذي جرت به العادة، فإن استحق عليه شيئًا فله أن يستوفيه مطلقًا من تركته، وبدون إذنه، وإن لم يستحقه عليه لم يجز أن يأخذ شيئًا إلا بإذنه. والله أعلم.

سئل عن رجل وكل رجلا وكالة مطلقة

وسئل عن رجل وكل رجلا وكالة مطلقة؛ بناء على أنه لا يتصرف إلا بالمصلحة والغبطة، فأجر له أرضا تساوي إجارتها عشرة آلاف بخمسة آلاف. فهل تصح هذه الإجارة؟ أم لا؟ وإذا صحت هل يلزم الوكيل التفاوت؟

فأجاب:

الحمد لله، ليس له أن يؤجرها بمثل هذا الغبن، وله أن يضمن الوكيل المفرط ما فوته عليه.

وأما صحة الإجارة: فأكثر الفقهاء يقولون: إجارة باطلة، كما هو مذهب الشافعي، وأحمد في أحد القولين، لكن إذا كان المستأجر مغرورًا لم يعلم بحال الوكيل، مثل أن يظن أنه مالك عالم بالقيمة، فله أن يرجع على من غره بما يلزمه في أصح قولي العلماء. وزرعه زرع محترم، لا يجوز قطعه مجانًا؛ بل ينزل بأجرة المثل، بما لا يتغابن الناس به، فهنا هو ظالم، وزرعه زرع غاصب.

وهل للمالك قلعه مجانًا؟ على قولين مشهورين للعلماء. وهل يملكه بنفقته؟ على قولين أيضا.

وظاهر مذهب أحمد أن له تملكه بنفقته. وأما إبقاؤه بأجرة المثل فيملكه بالاتفاق. وإذا ادعي على المستأجر أنه عالم بالحال فأنكر، فالقول قوله مع يمينه.

سئل عن رجل وكل غلامه في إيجار حانوت لشخص

وسئل رحمه الله عن رجل وكل غلامه في إيجار حانوت لشخص، ثم إن المستأجر أجره لشخص فهل للوكيل أن يقبل الزيادة في أجرة الحانوت؟ أم لا؟ وهل له مطالبة المستأجر الثاني؟ أم لا؟ وإذا غصب المستأجر الثاني وأخذ منه الأجرة، فهل للمستأجر أن يستعيد منه؟ أم لا؟ وإذا كان هذا الغلام يتصرف لهذا الموكل بإيجار حوانيته، وقبض الأجرة، ويدعي بذلك عند القضاة لموكله، وسيده يعلم بذلك كله، ويقره عليه: فهل يقبل قوله أنه لم يوكله؟ وإذا أكره الموكل المستأجر الثاني على غير الإجارة الأولي. فهل تصح هذه الإجارة الثانية أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، ليس للموكل والحالة هذه أن يؤجر الحانوت لأحد لا بزيادة، ولا غير زيادة، ولا للمستأجر الأول ذلك، وليس للموكل مطالبة المستأجر الثاني، وإذا أخذ منه الأجرة غصبًا فله استرجاع ذلك منه، ولا يقبل قوله في إنكار الوكالة مع كونه يتصرف له تصرف الوكلاء، مع علمه بذلك، وكونه معروفًا بأنه وكيله بين الناس، حتي لو قدر أنه لم يوكله والحالة هذه فتفريطه وتسليطه عدوان منه يوجب الضمان. والإجارة الثانية التي أكره الموكل عليها للمستأجر الثاني باطلة. والله أعلم.

سئل عن قوم أرسلوا قوما في مصالح لهم ويعطونهم نفقة

وسئل رحمه الله عن قوم أرسلوا قومًا في مصالح لهم ويعطونهم نفقة. فهل يحل لهم أكل ذلك؟ واستدانة تمام نفقتهم ومخالطتهم؟

فأجاب:

إذا أعطاهم الذين بعثوهم ما ينفقونه جاز ذلك، وعليهم تمام نفقتهم ما داموا في حوائجهم، ويجوز مخالطتهم.

سئل عن نوبة الوكلاء لحفظ الغلال على الفلاحين

وسئل رحمه الله عن نوبة الوكلاء لحفظ الغلال على الفلاحين. هل هي حلال؟

فأجاب:

إذا كان يحفظ الزرع لصاحب الأرض والفلاح فله أجرته عليها، فإذا كانت المؤنة التي يأخذها من الفلاح بقدر حقه عليه فلا بأس بذلك. والله أعلم.

سئل عن رجل وكل رجلا في شراء ولم يوكله في الإقالة فأقال

وسئل عن رجل وكل رجلا في شراء، ولم يوكله في الإقالة، فأقال. هل تصح؟

فأجاب:

إذا وكل الإنسان وكيلا في شراء شيء ولم يوكله في الإقالة، لم يكن للوكيل الإقالة، ولا تنفذ إقالته بدون إذن الموكل، باتفاق العلماء. أعلم.

سئل عن وكيل في مبلغ لوالده يجبي الديون التي له على الناس

وسئل رحمه الله عن وكيل في مبلغ لوالده يجبي الديون التي له على الناس، فإذا جاء إلى أحد قال: إني وقعته لأبيك، ثم قال: إن أبريتني وصالحتني على شيء وقع الاتفاق بيني وبينك، ثم صالحه من جملة ألف بثلاثمائة درهم. ثم أقر بالدين بعد الصلح، وأخذ بيده الإبراء. فهل تجوز دعواه عليه بعد إقراره، والشهود على رب الدين بالإبراء؟ أم لا؟

فأجاب:

الوكيل في الاستيفاء لا يصح إبراؤه، ولا مصالحته على بعض الحق، ولو كان وكيلا في ذلك.

ثم إن الغريم إذا جحد الحق حتي صولح كان الصلح في حقه باطلا، ولم تبرأ ذمته، وإذا كان المدعي إنما صالحه خوفًا من ذهاب جميع الحق فهو مكره على ذلك، فلا يصح صلحه، وله أن يطالبه بالحق بعد ذلك، إذا أقر به، أو قامت به بينة؟

باب الشركة

سئل عن جماعة اشتركوا شركة الأبدان بغير رضا بعضهم

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن جماعة اشتركوا شركة الأبدان بغير رضا بعضهم وعملوا عملا مجتمعين فيه وعملا متفرقين فيه. فهل تصح هذه الشركة؟ وما يستحق كل منهم من أجرة ما عمل؟ وهل يجوز لمن لا عمل له أن يأخذ أجرة عن عمل غيره بغير رضا من عمل؟

فأجاب: - رضي الله عنه - شركة الأبدان التي تنازع الفقهاء فيها نوعان:

أحدهما: أن يشتركا فيما يتقبلان من العمل في ذمتهما كأهل الصناعات من الخياطة والنجارة والحياكة ونحو ذلك الذين تقدر أجرتهم بالعمل لا بالزمان - ويسمى الأجير المشترك - ويكون العمل في ذمة أحدهم بحيث يسوغ له أن يقيم غيره أن يعمل ذلك العمل والعمل دين في ذمته كديون الأعيان؛ ليس واجبا على عينه كالأجير الخاص. فهؤلاء جوز أكثر الفقهاء اشتراكهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد. وذلك عندهم بمنزلة شركة الوجوه وهو أن يشتري أحد الشريكين بجاهه شيئا له ولشريكه كما يتقبل الشريك العمل له ولشريكه. قالوا: وهذه الشركة مبناها على الوكالة فكل من الشريكين يتصرف لنفسه بالملك ولشريكه بالوكالة. ولم يجوزها الشافعي بناء على أصله وهو أن مذهبه أن الشركة لا تثبت بالعقد وإنما تكون الشركة شركة الأملاك خاصة فإذا كانا شريكين في مال كان لهما نماؤه وعليهما غرمه ولهذا لا يجوز شركة العنان مع اختلاف جنس المالين ولا يجوزها إلا مع خلط المالين ولا يجعل الربح إلا على قدر المالين. والجمهور يخالفونه في هذا ويقولون: الشركة نوعان: شركة أملاك وشركة عقود. وشركة العقود أصلا لا تفتقر إلى شركة الأملاك كما أن شركة الأملاك لا تفتقر إلى شركة العقود وإن كانا قد يجتمعان. والمضاربة شركة عقود بالإجماع ليست شركة أملاك؛ إذ المال لأحدهما والعمل للآخر وكذلك المساقاة والمزارعة وإن كان من الفقهاء من يزعم أنها من باب الإجارة؛ وأنها خلاف القياس. فالصواب أنها أصل مستقل وهي من باب المشاركة لا من باب الإجارة الخاصة وهي على وفق قياس المشاركات. ولما كان مبنى الشركة على هذا الأصل تنازعوا في الشركة في اكتساب المباحات؛ بناء على جواز التوكل فيها فجوز ذلك أحمد ومنعه أبو حنيفة. واحتج أحمد بحديث سعد وعمار وابن مسعود. وقد يقال: هذه من النوع الثاني إذا تشاركا فيما يؤجران فيه أبدانهما ودابتيهما: إجارة خاصة. ففي هذه الإجارة قولان مرويان والبطلان مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد: كأبي الخطاب والقاضي في أحد قوليه. وقال: هو قياس المذهب؛ بناء على أن شركة الأبدان لا يشترط فيها الضمان بذلك الاشتراك على كسب المباح: كالاصطياد والاحتطاب؛ لأنه لم يجب على أحدهما من العمل الذي وجب على الآخر شيء وإنما كان ذلك بمنزلة اشتراكهما في نتاج ماشيتهما وتراث بساتينهما ونحو ذلك. ومن جوزه قال: هو مثل الاشتراك في اكتساب المباحات؛ لأنه لم يثبت هناك في ذمة أحدهما عمل؛ ولكن بالشركة صار ما يعمله أحدهما عن نفسه وعن شريكه. كذلك هنا ما يشترطه أحدهما من الأجرة أو شرط له من الجعل: هو له ولشريكه. والعمل الذي يعمل عن نفسه وعن شريكه. وهذا القول أصح لا سيما على قول من يجوز شركة العنان مع عدم اختلاط المالين ومع اختلاف الجنسين. وقد قال تعالى: { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } 3 وقال النبي : (المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) وأظن هذا قول مالك. وأما اشتراك الشهود فقد يقال: من مسألة شركة الأبدان التي تنازع الفقهاء فيها؛ فإن الشهادة لا تثبت في الذمة ولا يصح التوكل فيها حتى يكون أحد الشريكين متصرفا لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والعوض في الشهادة من باب الجعالة؛ لا من باب الإجارة اللازمة؛ فإنما هي اشتراك في العقد؛ لا عقد الشركة؛ بمنزلة من يقول لجماعة: ابنوا لي هذا الحائط ولكم عشرة أو إن بنيتموه فلكم عشرة أو إن خطتم هذا الثوب فلكم عشرة. أو إن رددتم عبدي الآبق فلكم عشرة. وإن لم يقدر الجعل - وقد علم أنهم يعملون بالجعل: مثل حمالين يحملون مال تاجر متعاونين على ذلك - فهم يستحقون جعل مثلهم عند جمهور العلماء: أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كما يستحقه الطباخ الذي يطبخ بالأجرة والخباز الذي يخبز بالأجرة والنساج الذي ينسج بالأجرة والقصار الذي يقصر بالأجرة وصاحب الحمام والسفينة والعرف الذي جرت عادته بأن يستوفى منفعته بالأجر. فهؤلاء يستحقون عوض المثل عند الإطلاق. فكذلك إذا استعمل جماعة في أن يشهدوا عليه ويكتبوا خطوطهم بالشهادة يستحقون الجعل فهو بمنزلة استعماله إياهم في نحو ذلك من الأعمال إذا قيل: إنهم يستحقون الجعل فيستحقون جعل مثلهم على قدر أعمالهم فإن كانت أعمالهم ومنافعهم متساوية استحقوا الجعل بالسواء والصواب أن هذا الذي قاله هذا القائل صحيح إذا لم يتقدم منهم شركة. فأما إذا اشتركوا فيما يكتسبونه بالشهادة فهو كاشتراكهم فيما يكتسبونه بسائر الجعالات والإجارات. ثم الجعل في الشهادة قد يكون على عمل في الذمة وللشاهد أن يقيم مقامه من يشهد للجاعل. فهنا تكون شركة صحيحة عند كل من يقول بشركة الأبدان وهم الجمهور: أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم. وهو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. إلا أن يكون الجعل على أن يشهد الشاهد بعينه فيكون فيها القولان المتقدمان. والصحيح أيضا جواز الاشتراك في ذلك كما هو قول مالك في أصح القولين؛ لكن ليس لأحد الشريكين أن يدع العمل ويطلب مقاسمة الآخر؛ بل عليه أن يعمل ما أوجبه العقد لفظا أو عرفا. وأما إذا أكرههم القضاة على هذه الشركة بغير اختيارهم فهذا ليس من باب الإكراه على العقود بغير حق؛ لأن القضاة هم الذين يأذنون لهم في الارتزاق بالشهادة وذلك موقوف على تعديلهم؛ ليس بمنزلة الصناع الذين يكتسبون بدون إذن ولي الأمر وإذا كان للقضاة أمر في ذلك جاز أن يكون لهم في التشريك بينهم فإنه لا بد من قعود اثنين فصاعدا ولا بد من اشتراكهما في الشهادة؛ إذ شهادة واحد لا تحصل مقصود الشهادة. وإذا كان كذلك فالواجب أن يراعى في ذلك موجب العدل بينهم فلا يمتنع أحدهم عن عمل هو عليه ولا يختص أحدهم بشيء من الرزق الذي وقعت الشركة عليه سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين. والله سبحانه أعلم.

سئل عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان

وسئل رحمه الله عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟.

فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك؛ لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار. وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه كتاب السنة. ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة: مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته وفي بيع المقاثي جملة واحدة وبيع المعاطاة والسلم الحال واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره والتوضؤ من مس الذكر والنساء وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا أو جهرا وترك ذلك. وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه أو القول بطهارة ذلك وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك. والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم. ومن هذا الباب الشركة بالعروض وشركة الوجوه والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء؛ فإن هذه المسائل من جنس شركة الأبدان؛ بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها. ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول: إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع؛ ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره.

سئل عن رجل شارك قوما في متجر بغير رأس مال

وسئل رحمه الله عن رجل شارك قوما في متجر بغير رأس مال وقد ذكر بعض الشركاء أن المال غرم. فهل يلزم المذكور غرامة؟ أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. إذا اشتركوا على أن بعضهم يعمل ببدنه كالمضارب وبعضهم بماله أو بماله وبدنه وتلف المال أو بعضه من غير عدوان ولا تفريط من العامل ببدنه لم يكن عليه ضمان شيء من المال سواء كانت المضاربة صحيحة أو فاسدة باتفاق العلماء. والله أعلم.

سئل عن رجل عنده قماش فطلبه تاجر أن يشتري النصف مشاعا

وسئل عن رجل عنده قماش كثير فطلب رجل تاجر سفار أن يأخذ ذلك القماش على أن يشتري النصف مشاعا ويبقي النصف الآخر لصاحبه يشتركان فيه شركة عنان ويكون لهذا نصف الربح ولهذا نصف الربح وأخبره برأس المال وزاد عليه من الجانبين زيادة اتفقا عليها واتفقا على أن يسافر إلى الديار المصرية ثم يعود إلى دمشق وإذا لم يصلح له البيع بدمشق يسافر إلى العراق والعجم وكتب وثيقة بالشركة: أن المال جميعه بيد هذا المشتري يبيع ويشتري ويأخذ ويعطي. وكتبا أن الشركة كانت بدراهم ولا يمكن إلا بما ذكر ثم لما قدما إلى الإسكندرية فتشاجرا فطلب صاحب القماش منه الثمن وألزمه بأن يقسم القماش ويبيعه هنا بخسارة ويوفيه الثمن. فهل هذا البيع الذي اتفقا عليه بشرط الشركة صحيح؟ أم هو بيع فاسد؟ وهل له إذا كان شريكا أن يجعله هو الذي يقبض المال ويبيع ويشتري ويأخذ ويعطي. فإذا كان البيع فاسدا فليس له إلا عين ماله وقد عمل هذا العامل فيه على أن له نصف الربح. فهل له المطالبة بنصف الربح أم لا؟ وهل له بعد عمل هذا العامل وانتقال القماش من الشام إلى الإسكندرية أن يأخذ القماش ويذهب عمله وسعيه فيه؟ أم له المطالبة بأجرة عمله؟ أم بربح مثله؟ أفتونا.

فأجاب - رحمه الله - الحمد لله. هذه المعاملة فاسدة من وجوه: منها الجمع بين البيع والشركة؛ فإن ذلك لا يجوز. وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز أن يشرط مع البيع عقدا مثل هذا فلا يجوز أن يبيعه على أن يقرضه وكذلك لا يجوز أن يؤجره على أن يساقيه أو يشاركه على أن يقترض منه ولا أن يبيعه على أن يبتاع منه ونحو ذلك. فقد صح عن النبي أنه قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك). كذلك (نهى عن بيعتين في بيعة) وذلك أنه إذا باعه أو أجره مع القرض فإنه يحابيه في ذلك؛ لأجل القرض والقرض موجبه رد المثل فقط فمتى اشترط زيادة لم تجز بالاتفاق. وكذلك المبايعة والمشاركة مبناها على العدالة من الجانبين. ولهذا لا يجوز أن يشترط اختصاص أحدهما بربح سلعة معين ولا بمقدار من الربح ولا تخصيص أحدهما بالضمان ومتى بايعه على أن يشاركه فإنه يحابيه؛ إما في الشركة بأن يختص بالعمل وإما في البيع بزيادة الثمن ونحو ذلك فتخرج العقود عن العدل الذي مبناها عليه. وأيضا ففي اشتراط المشاركة إلزام المشتري بتصرف خاص ومنعه بما يوجبه العقد المطلق. ومثل هذا ممنوع على الإطلاق عند بعض الفقهاء وعند بعضهم إنما يسوغه في مثل اشتراط عتق المبيع أو وقفه عند من يقول به أو غير ذلك مما فيه مصلحة خالية عن مفسدة راجحة؛ بخلاف ما إذا تضمن ترك العدل؛ فإنه لا يجوز وفاقا. ومن وجه آخر: أن مثل هذه المعاملة إنما مقصودهما في العادة المضاربة بالمال على أن يكون الربح بينهما لكن قد يريد رب المال أن يجعل نصف المال في ضمان العامل وهذا لا يجوز وفاقا لأن الخراج بالضمان وإذا اجتمع البيع والشركة بطلت الشركة وفاقا فيحتال على ذلك بأن يبيع العامل نصف المال؛ ولهذا يجعل المال كله في يده ولو كان المقصود محض الشركة لصنعا كما يصنع شريكا العنان مع كون المال في أيديهما. وهذا وجه ثالث فتبطل الشركة وهو اتفاقهما على أن يكون المال بيد أحد الشريكين فقط. وأما كون هذه شركة عرض فهذا فيه نزاع؛ لكن الإقرار المكذب المخالف للواقع حرام قادح في الدين. وإذا كان كذلك فالمال باق على ملك صاحبه ولو كان شريكا لم يكن له أن يجعل الشريك الآخر هو الذي يتولى العقود والقبوض دونه فإن هذا إنما يكون في المضاربة؛ لا في شركة العنان. وإذا كان البيع فاسدا لم يكن له المطالبة بالثمن المسمى لكن إن تعذر رد العين رد القيمة وإن كان قد عمل فيها المشتري الشريك فله ربح مثله في نصيب الشريك؛ فإن الفقهاء متنازعون فيما فسد من المشاركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إذا عمل فيها العامل هل يستحق أجرة المثل؟ أو يستحق قسط مثله من الربح؟ على قولين: أظهرهما الثاني. وهو قول ابن القاسم والعوض في العقود الفاسدة هو نظير ما يجب في الصحيح عرفا وعادة كما يجب في البيع والإجارة الفاسدة ثمن المثل وأجرة المثل وفي الجعالة الفاسدة جعل المثل. ومعلوم أن الصحيح من هذه المشاركات إنما يجب فيه قسطه من الربح إن كان لا أجرة مقدرة وكذلك النصيب الذي اشتراه إن قيل: يجب رد عينه مع ارتفاع قيمته كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي والإمام أحمد. وللعامل المشتري أن يطلب إما أجرة عمله. وإما قسط مثله من الربح. على اختلاف القولين. وأما إن قيل: إنه بعد قبضه والتصرف فيه ليس عليه إلا رد القيمة - كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك - فالحكم فيه ظاهر. وبكل حال لا يجب عليه رد الزيادة التي زيدت على قيمة المثل - والحالة هذه - بالاتفاق والله أعلم.

سئل عن رجل دفع مالا مضاربة ومات

وسئل رحمه الله عن رجل دفع مالا مضاربة ومات فعمل فيه العامل بعد موته بغير إذن الورثة. فهل تنفسخ المضاربة؟ وما حكم الربح بعد موت المالك؟

فأجاب: نعم تنفسخ المضاربة بموت المالك ثم إذا علم العامل بموته وتصرف بلا إذن المالك لفظا أو عرفا ولا ولاية شرعية فهو غاصب. وقد اختلف العلماء في الربح الحاصل في هذا: هل هو للمالك فقط كنماء الأعيان؟ أو للعامل فقط؟ لأن عليه الضمان أو يتصدقان به لأنه ربح خبيث؟ أو يكون بينهما؟ على أربعة أقوال: أصحها الرابع. وهو أن الربح بينهما كما يجري به العرف في مثل ذلك وبهذا حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما أخذه بنوه من مال بيت المال فاتجروا فيه بغير استحقاق فجعله مضاربة وعليه اعتمد الفقهاء في باب المضاربة؛ لأن الربح نماء حاصل من منفعة بدن هذا ومال هذا: فكان بينهما كسائر النماء الحادث من أصلين والحق لهما لا يعدوهما ولا وجه لتحريمه عليهما ولا لتخصيص أحدهما به. وإيجاب قسط مثله من الربح أصح من قول من يوجب أجرة المثل؛ فإن المال قد لا يكون له ربح وقد تكون أجرته أضعاف ربحه وبالعكس. وليس المقصود من هذه المشاركات العمل حتى يستحق عليه أجرة ولا هي عقد إجارة؛ وإنما هي أصل مستقل وهي نوع من المشاركات لا من المؤاجرات حتى يبطل فيها ما يبطل فيها فمن أوجب فيها ما لا يجب فيها: فقد غلط. وإن كان جرى بين العامل والورثة من الكلام ما يقتضي في العرف أن يكون إبقاء لعقد المضاربة استحق المسمى له من الربح وكان ذلك مضاربة مستحقة. وإذا أقر بالربح لزمه ما أقر به. فإن ادعى بعد ذلك غلطا لا يعذر في مثله لم يقبل قوله. وإن كان يعذر في مثله ففي قبوله خلاف مشهور وليس له أن يدفع المال إلى غيره إلا بإذن المالك أو الشارع. ومتى فعل كان ضامنا للمال؛ سواء كان دفعه بعقد صحيح؛ أو فاسد. فما ضمنه بالعقد الصحيح ضمن بالفاسد. وما لم يضمن بالصحيح لم يضمن بالفاسد. وأما إن كان المال غصبا فهو ضامن بكل حال ومتى فرط العامل في المال أو اعتدى فعليه ضمانه. وكذلك العامل الثاني إذا جحد الحق أو كتم المال الواجب عليه أو طلب التزامهم إجارة لغير مسوغ شرعي أثم بذلك. وعلى ولي الأمر إيصال الحقوق إلى مستحقيها. والله أعلم.

سئل عن رجل دفع لرجل مالا على سبيل القراض

وسئل رحمه الله عن رجل دفع لرجل مالا على سبيل القراض ثم ظهر بعد ذلك على المدفوع له المال دين بتاريخ متقدم على القراض. فهل يجوز له أن يعطي لأرباب الدين شيئا من هذا المال؟ أم لا؟ وإذا ادعى أنه لم يقبض من مال القراض شيئا أو عدم أو وقع فيه تفريط بغير سبب ظاهر يقبل هذا القول؟ أم لا؟

فأجاب: لا يجوز أن يوفي من مال هذا القراض شيئا من الدين الذي يكون على العامل؛ إلا أن يختار رب المال؛ فإن ادعى ما يخالف العادة لم يقبل بمجرد قوله.

سئل عن مضارب رفعه صاحب المال إلى الحاكم

وسئل عن مضارب رفعه صاحب المال إلى الحاكم وطلب منه جميع المال وحكم عليه الحاكم بذلك فدفع إليه البعض وطلب منه الإنظار بالباقي فأنظره وضمن على وجهه فسافر المضارب عن البلد مدة. فهل تبطل الشركة برفعه إلى الحاكم وحكم الحاكم عليه بدفع المبلغ وإنظاره؟ وهل يضمن في ذمته؟

فأجاب: تنفسخ الشركة بمطالبته المذكورة ويضمن المال في ذمته بالسفر المذكور؛ بتأخير التسليم مع الإمكان عن وقت وجوبه.

سئل هل يجوز للعامل في القراض أن ينفق على نفسه من مال المقارض

وسئل رحمه الله هل يجوز للعامل في القراض أن ينفق على نفسه من مال المقارض حضرا أو سفرا؟ وإذا جاز. هل يجوز أن يبسط لذيذ الأكل. والتنعمات منه؟ أم يقتصر على كفايته المعتادة؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. إن كان بينهما شرط في النفقة جاز ذلك. وكذلك إن كان هناك عرف وعادة معروفة بينهم وأطلق العقد فإنه يحمل على تلك العادة. وأما بدون ذلك فإنه لا يجوز ومن العلماء من يقول: له النفقة مطلقا وإن لم يشترط كما يقوله أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول. والمشهور أن لا نفقة بحال ولو شرطها. وحيث كانت له النفقة فليس له النفقة إلا بالمعروف وأما البسط الخارج عن المعروف فيكون محسوبا عليه.

سئل عن اثنين اشتركا من أحدهما دابة ومن الآخر دراهم

وسئل رحمه الله عن اثنين اشتركا: من أحدهما دابة ومن الآخر دراهم. جعلا ذلك بينهما على ما قسم الله تعالى من ربح كان بينهما ثم ربحا. فما الحكم؟

فأجاب: ينظر قيمة البهيمة فتكون هي والدراهم رأس المال وذلك مشترك بينهما؛ لأن عندنا أن الشركة والقسمة تصح بالأقوال لا تفتقر إلى خلط المالين ولا إلى تمييزهما ويثبت الملك مشتركا بعقد الشركة كما يتميز بعقد القسمة والمحاسبة فما ربحا كان بينهما وإذا تقاسما بيعت الدابة واقتسما ثمنها مع جملة المال. وهذا إذا صححنا الشركة بالعروض ظاهر وأما إذا أبطلناها فحكم الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه وصحة التصرف وفساده وإنما يفترقان في الحل وفي مقدار الربح على أحد القولين. فظاهر مذهب أحمد على ما اشترطا وعلى القول الآخر يكون الربح تبعا للمال ويكون للآخر أجرة المثل والأصح في هذا أن له ربح المثل والأقوال ثلاثة.

سئل عن شريكين في فرس

وسئل عن شريكين في فرس. لا يتبايعان ولا يشتريان ولا يكون عند أحدهما مشاهرة والفرس تضيع بينهما وأن أحدهما أعارها بغير إذن شريكه فهلكت. هل تلزم الشريك الذي أعار نصيب شريكه؟ أم لا؟

فأجاب: إذا لم يتفقا أن تكون عند أحدهما ولا عند ثالث يختارانه لها ولا طلب أحدهما مفاضلة الآخر فيها: تباع جميع الفرس ويقسم ثمنها بينهما والله أعلم.

سئل عن رجلين بينهما شركة في فرس

وسئل عن رجلين بينهما شركة في فرس. فأذن أحدهما للآخر في سيره؛ لئلا يضر به الوقوف ولم يأذن له في سوقه وأركب غيره فحصل له بذلك مرض. فهل يلزمه إن مات؟ أو يلزمه أرشه بالنقص؟ وهل يلزمه ما يحتاج إليه من دواء؟ والشريك محجور عليه من جهة الحاكم وهو رشيد في تصرفه؛ غير أن المانع من ذلك بينة تشهد له وإذا كان الأمر كذلك: فهل لشريكه أن يأخذ من ماله قيمته؟

فأجاب: إذا كان الشريك قد اعتدى ففعل ما لم تأذن به الشريعة ولا المالك؛ لا لفظا ولا عرفا فهو ضامن لما تلف بجنايته وإن كان محجورا عليه فإن كانت الجناية نقصت الفرس ضمن النقص وإن وجب بتلف الفرس ضمنه جميعه.

سئل عن زيد وعمرو مشتركان في فرس

وسئل عن زيد وعمرو مشتركان في فرس وأخذ زيد الفرس وساقها غير العادة بغير إذن عمرو ثم بعد ذلك حصل للفرس ضعف فماتت تحت يد زيد؟

فأجاب: نعم إذا اعتدى الشريك عليها فتلفت بسبب عدوانه ضمن نصيب شريكه. والله أعلم.

سئل عن رجل شارك شخصا في بقرة

وسئل رحمه الله عن رجل شارك شخصا في بقرة وكانت عند أحدهما يستعملها ويعلفها وطلبها شريكه يفاضله فيها فأبى فادعى ثلثي البقرة ومنع المفاضلة؟.

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. عليه أن يفاضله فيها وإذا طلب أحد الشريكين بيعها بيعت عليهما واقتسما الثمن وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وغيرهم. وإذا كان الشريك يأخذ اللبن وكان اللبن بقدر العلف سواء فلا شيء عليه وإن كان انتفاعه بها أكثر من العلف أعطى شريكه نصيبه من الفضل. والله أعلم.

سئل عن راع كان معه غنم خلطا

وسئل عن راع كان معه غنم خلطا واحتاجت إلى نفقة فباع بعضها وأنفقه على الباقي. وكان المبيع مال بعضهم. فمنهم من لم يبق من غنمه شيء. ومنهم من بقي له قليل. ومنهم كثير. فهل يقتسمون على قدر رءوس الأموال؟ أم كل من بقي له شيء يأخذه؟

فأجاب رحمه الله: بل يقتسمون الباقي على قدر رءوس الأموال أو يغرم أرباب الباقي ما أنفق عنهم وهو قيمة ما باعه.

سئل عن شريكين بينهم خيل

وسئل رحمه الله عن شريكين بينهم خيل وكان عند أحدهما فرس فماتت بقضاء الله وقدره وعمل بموتها محضرا؟

فأجاب: إذا كان أحد الشريكين قد سلمها إلى الآخر، وتلفت تحت يده من غير تفريط منه ولا عدوان، فلا ضمان عليه.

سئل عن رجل له شريك في فرس وهي تحت يد الشريك برضاه

وسئل عن رجل له شريك في فرس، وهي تحت يد الشريك برضاه فوقع على البلد أمر من السلطنة وأخذت الفرس مع خيل أخر وقماش وقد قصد الشريك أن يضمن شريكه. فهل له ذلك؟

فأجاب: الحمد لله. إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان فلا ضمان عليه بما ذكر. والقول قوله مع يمينه في نفي التفريط والعدوان والحالة هذه.

وسئل عن رجل بينه وبين رجل شركة في بستان وأنه استأجر منه نصيبه بإجارة شرعية وأن الشريك الذي استأجر تعدى وقطع من أخشاب البستان شيئا له ثمر يغل بغير إذن المالك وهو حاضر واستعمل منها بواقي وأحطابا لغرضه. فهل عليه الرجوع بما تعدى عليه؟ وهل للمالك أن يمسك أعوانه الذين تولوا قطع الخشب أم لا؟

فأجاب: ليس له أن يأخذ نصيب شريكه مالم يستحقه بعقد الإجارة وما أخذه بذلك فعليه ضمانه لشريكه يضمن له نصيبه. وللمالك أن يطالب بالضمان من باشر الأخذ ولا أن يطالب الشريك الآمر لهم فيأخذ حقه من أيهم شاء. والله أعلم.

سئل عن جماعة شهود اشتركوا فعمل بعضهم أكثر من بعض

وسئل عن جماعة شهود اشتركوا فعمل بعضهم أكثر من بعض. فهل يستحق الجماعة الجعالة بالسوية أو يستحقونها على قدر أعمالهم؟

فأجاب: موجب عقد الشركة المطلقة التساوي في العمل والأجر. فإن عمل بعضهم أكثر تبرعا بالزيادة ساووه في الأجر وإن لم يكن متبرعا طالبهم؛ إما بما زاد في العمل وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله. وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز. والله أعلم.

سئل عن جماعة دلالين مشتركين في بيع السلع

وسئل رحمه الله: عن جماعة دلالين مشتركين في بيع السلع. هل يقدح ذلك في دينهم؟ وهل لولي الأمر - أعزه الله - منعهم من غير أن يظهر عليهم غش أو تدليس؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما إذا كان التاجر الذي يسلم ماله إلى الدلال قد علم أنه يسلمه إلى غيره من الدلالين ورضي بذلك لم يكن بذلك بأس بلا ريب؛ فإن الدلال وكيل التاجر. والوكيل له أن يوكل غيره كالموكل باتفاق العلماء. وإنما تنازعوا في جواز توكيله بلا إذن الموكل. على قولين مشهورين للعلماء. وعلى هذا تنازعوا في شركة الدلالين؛ لكونهم وكلاء. فبنوا ذلك على جواز توكيل الوكيل. وإذا كان هناك عرف معروف أن الدلال يسلم السلعة إلى من يأتمنه كان العرف المعروف كالشرط المشروط ولهذا ذهب جمهور أئمة المسلمين: كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم إلى جواز شركة الأبدان كما قال ابن مسعود: اشتركت أنا وسعد بن أبي وقاص وعمار يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء. وشركة الأبدان في مصالح المسلمين في عامة الأمصار وكثير من مصالح المسلمين لا ينتظم بدونها. كالصناع المشتركين في الحوانيت؛ من الدلالين وغيرهم؛ فإن أحدهم لا يستقل بأعمال الناس فيحتاج إلى معاون والمعاون لا يمكن أن تقدر أجرته وعمله كما لا يمكن مثله ذلك في المضاربة؛ ونحوها فيحتاجون إلى الاشتراك. وجمهور العلماء يجعلون الشركة عقدا قائما بنفسه في الشريعة يوجب لكل من الشريكين بالعقد ما لا يستحقه بدون العقد كما في المضاربة ومنهم من لا يجعل شركة إلا شركة الأملاك فقط وما يتبعها من العقود فيمنع عامة المشاركات التي يحتاج الناس إليها كالتفاضل في الربح مع التساوي في المال وشركة الوجوه والأبدان وغير ذلك؛ ولكن قول الجمهور أصح. وإذا اشترك اثنان كان كل منهما يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة. فما عقده من العقود عقده لنفسه ولشريكه. وما قبضه قبضه لنفسه ولشريكه. وإذا علم الناس أنهم شركاء ويسلمون إليهم أموالهم جعلوا ذلك إذنا لأحدهم أن يأذن لشريكه وليس لولي الأمر المنع في مثل العقود والقبوض التي يجوزها جمهور العلماء ومصالح الناس وقف عليها مع أن المنع من جميعها لا يمكن في الشرع وتخصيص بعضها بالمنع تحكم. والله أعلم.

سئل عن تخبير الشراء مرابحة ولم يبين للمشتري أنه بالنسيئة

وسئل عن تخبير الشراء مرابحة ولم يبين للمشتري أنه بالنسيئة فهل يحل ذلك؟ أم يحرم؟.

فأجاب: أما البيع بتخبير الثمن فهو جائز سواء كان مرابحة أو مواضعة أو تولية أو شركة؛ لكن لا بد أن يستوي علم البائع والمشتري في الثمن. فإذا كان البائع قد اشتراه إلى أجل فلا بد أن يعلم المشتري ذلك فإن أخبره بثمن مطلق ولم يبين له أنه اشتراه إلى أجل فهذا جائر ظالم. وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).

سئل عن رجل تاجر في حانوت

وسئل رحمه الله عن رجل تاجر في حانوت. اشترى قطعة قماش بأحد عشر وربع وبعد ما اشتراها جاءه رجل وأخبره أنه اشتراها بأحد عشر وربع وكسب نصفا فأخذها المشتري وتفارقا بالأبدان وبعد ساعة جاء المشتري وغصبه بردها وامتنع التاجر ولم يبين الفائدة فأبى المشتري فتنازعا على الفائدة. فقال المشتري: خذ مني ربعا وثمنا فقال التاجر للمشتري: ابتعني بأحد عشر ونصف فقال: عبارة نعم. فهل يجوز أن يخبر بهذا الربع الزائد على المشتري الأول؟ ويحل له ذلك في وجه من الوجوه؟.

فأجاب: ليس لصاحب السلعة أن يخبر بأنه اشتراها بذلك من غير بيان الحال؛ بل إن أراد أن يخبر بذلك فليبين أن المشتري لها أعادها إليه بنصف الربح؛ فإن هذا سواء كان بيعا أو إقالة ليس هو عند الناس بمنزلة الذي يشتري سرا مطلقا؛ لا سيما إن كان أكرهه على أخذها منه. فإن من اشترى سلعة على وجه الإكراه لم يكن له أن يخبر بالثمن من غير بيان الحال باتفاق العلماء؛ إذ هذا من نوع الخيانة. وقد تنازع العلماء فيما إذا باعها بربح ثم وجدها تباع في السوق فاشتراها هل عليه أن يسقط الأول من الثمن الثاني؟ أو يخبر بالحال؟ أو ليس عليه ذلك؟ على قولين. والأول قول أبي حنيفة وأحمد وغيرهما. فإذا كان في مثل هذه الصورة فكيف إذا قال فيها بدون الثمن؟ وكيف إذا كان كذلك على وجه الإكراه له؟ والبيع بتخبير الثمن أصله الصدق والبيان كما قال النبي : (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). فما كان من الأمور التي إذا اطلع المشتري عليها لم يشتر بذلك الثمن؛ كان كتمانه خيانة. والله أعلم.

سئل عن رجل اشترى عشرة أزواج متاع جملة واحدة

وسئل رحمه الله عن رجل اشترى عشرة أزواج متاع جملة واحدة وأخبر بزوج على حكم ما اشتراه وقسم الثمن على الأزواج لا زائد ولا ناقص. هل ذلك حلال؟ أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله. إن أخبر بالاشتراء على وجهه فيذكر أنه اشتراها مع غيرها وأنه قسط الثمن على الجميع فجاء قسط هذا كذا وهذا كذا فإن هذا حقيقة الصدق والبيان. وقد قال : (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) والله تعالى أعلم.

باب المساقاة

فصل في المساقاة والمزارعة والمضاربة نوع من الشركة

قال شيخ الإسلام رحمه الله

قد ذكرت فيما تقدم من القواعد التي فيها قواعد فقيهة ما جاء به الكتاب والسنة من قيام الناس بالقسط وتناول ذلك للمعاملات: التي هي المعاوضات والمشاركات وذكرت أن المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحو ذلك نوع من المشاركات وبينت بعض ما دخل من الغلط على من اعتقد أن ذلك من المعاوضات كالبيع والإجارة حتى حكم فيها أحكام المعاوضات. وبينت جواز المزارعة ببذر من المالك أو من العامل كما جاءت به سنة رسول الله والقياس الجلي وبينت أن حديث رافع بن خديج وغيره في النهي عن المخابرة وعن كراء الأرض أن ما معناه: ما كانوا يفعلونه من اشتراط زرع بقعة معينة لرب الأرض كما بينه رافع بن خديج في الصحيحين أيضا. ومن سمى المعاملة ببذر من المالك مزارعة ومن العامل مخابرة: فهو قول لا دليل عليه؛ بمنزلة الأسماء التي سماها هؤلاء وآباؤهم لم ينزل الله بها سلطانا. فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر (أن رسول الله عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم). والمخابرة المنهي عنها لم يكن فيها بذر من العامل. والمقصود هنا: أن النبي نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام إذا اشترط لرب الأرض فيها زرع مكان بعينه والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد - وهو في البخاري - أن الذي نهى عنه النبي شيء إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه حرام أو كما قال. وذلك لأن المشاركة والمعاملة تقتضي العدل من الجانبين فيشتركان في المغنم والمغرم بعد أن يسترجع كل منهما أصل ماله فإذا اشترط لأحدهما زرع معين كان فيه تخصيصه بذلك وقد لا يسلم غيره فيكون ظلما لأحد الشريكين وهو من الغرر والقمار أيضا. ففي معنى ذلك ما قاله العلماء وما أعلم فيه مخالفا: أنه لا يجوز أن يشترط لأحدهما ثمرة شجرة بعينها ولا مقدارا محدودا من الثمر وكذلك لا يشترط لأحدهما زرع مكان معين ولا مقدارا محدودا من نماء الزرع وكذلك لا يشترط لأحدهما ربح سلعة بعينها ولا مقدارا محدودا من الربح. فأما اشتراط عود مثل رأس المال فهو مثل اشتراط عود الشجر والأرض. وفي اشتراط عود مثل البذر كلام ذكرته في غير هذا الموضع فإذا كان هذا في تخصيص أحدهما بمعين أو مقدار من النماء حتى يكون مشاعا بينهما؛ فتخصيص أحدهما بما ليس من النماء أولى: مثل أن يشترط أحدهما على الآخر أن يزرع له أرضا أخرى أو يبضعه بضاعة يختص ربها بربحها أو يسقي له شجرة أخرى ونحو ذلك مما قد يفعله كثير من الناس. فإن العامل لحاجته قد يشترط عليه المالك نفعه في قالب آخر فيضاربه ويبضعه بضاعة أو يعامله على شجر وأرض ويستعمله في أرض أخرى أو في إعانة ماشية له أو يشترط استعارة دوابه أو غير ذلك؛ فإن هذا لا يجوز شرطه بلا نزاع أعلمه بين العلماء. فإنه في معنى اشتراط بمعين أو بقدر من الربح؛ لأنه إذا اشترط منفعته أو منفعة ماله اختص أحدهما باستيفاء هذه المنفعة وقد لا يحصل نماء أو يحصل دون ما ظنه فيكون الآخر قد أخذ منفعته بالباطل وقامره وراباه فإن فيه ربا وميسرا. فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فهو كالشرط في العقد على ما قررناه في كتاب بطلان التحليل: إن الشرط المتقدم على العقد كالمقارن له. فإن تبرع أحدهما بهدية إلى الآخر مثل أن يهدي العامل في المضاربة إلى المالك شيئا أو يهدي الفلاح غنما أو دجاجا أو غير ذلك: فهذا بمنزلة إهداء المقترض من المقرض يخير المالك فيها بين الرد وبين القبول والمكافأة عليها بالمثل وبين أن يحسبها له من نصيبه من الربح إذا تقاسما كما يحسبه من أصل القرض. وهذا ينازعنا فيه بعض الناس. ويقول متبرع بالإهداء؛ وليس كذلك؛ بل إنما أهداه لأجل المعاملة التي بينهما من القرض والمعاوضة ونحو ذلك كما قال النبي في حديث العامل الأزدي ابن اللتبية لما قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقال النبي : (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه. فينظر أيهدى إليه أم لا) وثبت عن عدد من الصحابة كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم: أنهم أمروا المقرض الذي قبل الهدية أن يحسبها من قرضه. وهذا ظاهر في الاعتبار فإنه إذا قبل الهدية قبل الاستيفاء فقد دخل معه على أن يأخذ الهدية وبدل القرض عوضا عن القرض وهذا عين الربا؛ فإن القرض لا يستحق به إلا مثله. ولو قال له وقت القرض: أنا أعطيك مثله وهذه الهدية: لم يجز بالإجماع. فإذا أعطاه قبل الوفاء الهدية التي هي من أجل القرض على أن يوفيه معها مثل القرض كان ذلك معاقدة على أخذ أكثر من الأصل؛ ولهذا لو أهدى إليه على العادة الجارية بينهما قبل القرض لم يكن كذلك. يبين ذلك أنه بقبول الهدية يريد أن ينظره لأجلها فيصير بمائة والهدية بمائة إلى أجل وهذا عين الربا؛ بخلاف المائة بمائة مثلها في الصفة. ولو شرط فيها الأجل؛ فإن هذا تبرع محض ليس بمعاوضة؛ إذ العاقل لا يبيع الشيء بما يساويه من كل وجه إلى أجل وإنما يفعل ذلك عند اختلاف الصفة كبيع الصحاح بالمكسرة ونقد بنقد آخر إلى أجل وذلك لا يجوز باتفاق المسلمين. وهكذا الأمر في المشاركة: فإنه إذا قبل هدية العامل ونفعه الذي إنما بذله لأجل المضاربة والمزارعة بلا عوض مع اشتراطه النصيب من الربح: كان هذا القبول على هذا القول معاقدة على أن يأخذ مع النصيب الشائع شيئا غيره؛ بمنزلة زرع مكان معين. وقد لا يحصل ربح فيكون العامل مقهورا مظلوما؛ ولهذا يطلب العامل بدل هديته ويحتسب بها على المالك فإن لم يعوضه عنها وإلا خانه في المال: أصله وربحه كما يجري مثل ذلك بين المزارع والفلاح؛ فإن الفلاح يخونه ويظلمه لما يزعم أن المزارع يختص به من ماله ونحوه: كأخذ الهدايا. وأكله هو ودوابه من ماله مدة بغير حق فيقرض السنبل قبل الحصاد ويترك الحب في القصب والتبن وفي عفارة البيدر ويسرق منه ويحتال على السرقة بكل وجه والمزارع يظلمه في بدنه بالضرب والاستخدام وفي ماله بالاستنفاق الذي لا يستحقه ويرى أن هذا بإزاء ما اختانه من ماله. وكذلك يجري بين مالك المال والعامل: العامل يرى أنه يأخذ نفعه وماله فإنه لا بد له من هدايا ومن بضائع معه يتجر له فيها فيخصه بالربح لأجل المضاربة فيريد أن يعتاض عن نفعه وماله فيخون في المال والربح ويكذب ويكتم والمالك يرى أن العامل يخون في المال والربح ويخرج من ماله بالإنفاق على مال له آخر أو بالإهداء إلى أصدقائه ونحو ذلك مما ليس نفعه لأجل المضاربة فيطالبه بالهدايا ونحو ذلك. حتى إن من العمال من لا يهدي إلا لعلمه بأن المالك يطلب ذلك ويؤثره فيتقي بذلك شره وظلمه. وتفضي هذه المعاملات إلى المخاصمة والعداوة والظلم في النفوس والأعراض والأموال. وسبب ذلك اختصاص أحدهما بشيء خارج عن النصيب المشاع من النماء فإن هذا خروج عن العدل الواجب في المشاركات. وقول النبي : (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه. فينظر أيهدى إليه. أم لا؟) يتناول هذه المعاني جميعها فإن الهدية إذا كانت لأجل سبب من الأسباب كانت مقبوضة بحكم ذلك السبب كسائر المقبوض به؛ فإن العقد العرفي كالعقد اللفظي. ومن أهدي له لأجل قرض أو إقراض كانت الهدية كالمال المقبوض بعقد القرض والقراض إذا لم يحصل عنها مكافأة. وهذا أصل عظيم يدخل بسبب إهماله من الظلم والفساد شيء عظيم.

فصل في أخذ رب المال مالا أو نفعا قبل الاقتسام

وكما قلنا في المقبوض: إنه قبل الوفاء ليس له أن يأخذ منه مالا ولا نفعا قبل الوفاء بغير عوض مثله؛ لما فيه من الربا فالإهداء والإعارة من نوع فكذلك في المضاربة والمزارعة؛ متى أخذ رب المال مالا أو نفعا قبل الاقتسام التام لم يجز إلا بعوض مثله: مثل استخدام العامل والفلاح في غير موجب عقد المشاركة أو الانتفاع بماله أو غير ذلك إلا أن يحتسب له ذلك كله والله سبحانه أعلم. ولهذا تنازع الفقهاء. لو أعطاه عرضا فقال: بعه وضارب بثمنه. فقيل: لا يجوز؛ لأن المالك يختص بمنفعته قبل المضاربة فهو كما لو شرط عليه بيع سلعة أخرى. وقيل: يجوز؛ لأن هذا البيع مقصوده مقصود المضاربة فأشبه البيع الحاصل بعد العقد والمال أمانة بيده في الموضعين وليس للمالك منفعة يختص بها زائدة على مقصود المضاربة. وفي المسألة نظر.

فصل في المزارعة إذا كان البذر من العامل أو من رب الأرض

وقال قدس الله روحه

وأما المزارعة: فإذا كان البذر من العامل أو من رب الأرض. أو كان من شخص أرض ومن آخر بذر ومن ثالث العمل ففي ذلك روايتان عن أحمد. والصواب أنها تصح في ذلك كله. وأما إذا كان البذر من العامل فهو أولى بالصحة مما إذا كان البذر من المالك. (فإن النبي عامل أهل خيبر على أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع) رواه البخاري وغيره. وقصة أهل خيبر هي الأصل في جواز المساقاة والمزارعة. وإنما كانوا يبذرون من أموالهم لم يكن النبي يعطيهم بذرا من عنده وهكذا خلفاؤه من بعده: مثل عمر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وغير واحد من الصحابة. كانوا يزارعون ببذر من العامل. وقد نص الإمام أحمد في رواية عامة أصحابه في أجوبة كثيرة جدا على أنه يجوز أن يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها واحتج على ذلك بقصة أهل خيبر وأن النبي عاملهم عليها ببعض الخارج منها. وهذا هو معنى إجارتها ببعض الخارج منها إذا كان البذر من العامل؛ فإن المستأجر هو الذي يبذر الأرض وفي الصورتين للمالك بعض الزرع. ولهذا قال من حقق هذا الموضع من أصحابه كأبي الخطاب وغيره: إن هذا مزارعة على أن البذر من العامل. وقالت طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره: بل يجوز هذا العقد بلفظ الإجارة ولا يجوز بلفظ المزارعة؛ لأنه نص في موضع آخر: أن المزارعة يجب أن يكون فيها البذر من المالك. وقالت طائفة ثالثة: بل يجوز هذا مزارعة ولا يجوز مؤاجرة؛ لأن الإجارة عقد لازم؛ بخلاف المزارعة في أحد الوجهين؛ ولأن هذا يشبه قفيز الطحان. وروي عن النبي : (أنه نهى عن قفيز الطحان) وهو: أن يستأجر ليطحن الحب بجزء من الدقيق. والصواب: هو الطريقة الأولى؛ فإن الاعتبار في العقود بالمعاني والمقاصد؛ لا بمجرد اللفظ. هذا أصل أحمد وجمهور العلماء وأحد الوجهين في مذهب الشافعي؛ ولكن بعض أصحاب أحمد قد يجعلون الحكم يختلف بتغاير اللفظ كما قد يذكر الشافعي ذلك في بعض المواضع وهذا كالسلم الحال في لفظ البيع والخلع بلفظ الطلاق والإجارة بلفظ البيع ونحو ذلك مما هو مبسوط في موضعه. وأما من قال: إن المزارعة يشترط فيها أن يكون البذر من المالك فليس معهم بذلك حجة شرعية ولا أثر عن الصحابة؛ ولكنهم قاسوا ذلك على المضاربة. قالوا: كما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص والمال من شخص فكذلك المساقاة والمزارعة يكون العمل من واحد والمال من واحد والبذر من رب المال. وهذا قياس فاسد؛ لأن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فنظيره الأرض أو الشجر يعود إلى صاحبه ويقتسمان الثمر والزرع وأما البذر فإنهم لا يعيدونه إلى صاحبه؛ بل يذهب بلا بدل كما يذهب عمل العامل وعمل بقره بلا بدل؛ فكان من جنس النفع لا من جنس المال وكان اشتراط كونه من العامل أقرب في القياس مع موافقة هذا المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن منهم من كان يزارع والبذر من العامل وكان عمر يزارع على أنه إن كان البذر من المالك فله كذا وإن كان من العامل فله كذا. ذكره البخاري. فجوز عمر هذا. وهذا هو الصواب. وأما الذين قالوا: لا يجوز ذلك إجارة لنهيه عن قفيز الطحان فيقال: هذا الحديث باطل لا أصل له وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا رواه إمام من الأئمة والمدينة النبوية لم يكن بها طحان يطحن بالأجرة ولا خباز يخبز بالأجرة. وأيضا فأهل المدينة لم يكن لهم على عهد النبي مكيال يسمى القفيز وإنما حدث هذا المكيال لما فتحت العراق وضرب عليهم الخراج فالعراق لم يفتح على عهد النبي . وهذا وغيره مما يبين أن هذا ليس من كلام النبي . وإنما هو من كلام بعض العراقيين الذين لا يسوغون مثل هذا؛ قولا باجتهادهم. والحديث ليس فيه نهيه عن اشتراط جزء مشاع من الدقيق؛ بل عن شيء مسمى: وهو القفيز وهو من المزارعة لو شرط لأحدهما زرعه بقعة بعينها أو شيئا مقدرا كانت المزارعة فاسدة. وهذا هو المزارعة التي نهى عنها النبي في حديث رافع بن خديج في حديثه المتفق عليه: (أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها فنهى النبي عن ذلك). وقد بسط الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع. وبين أن المزارعة أحل من المؤاجرة بأجرة مسماة. وقد تنازع المسلمون في الجميع؛ فإن المزارعة مبناها على العدل: إن حصل شيء فهو لهما وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان. وأما الإجارة فالمؤجر يقبض الأجرة والمستأجر على خطر: قد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل؛ فكانت المزارعة أبعد عن المخاطرة من الإجارة؛ وليست المزارعة مؤاجرة على عمل معين حتى يشترط فيها العمل بالأجرة؛ بل هي من جنس المشاركة: كالمضاربة ونحوها. وأحمد عنده هذا الباب هو القياس. ويجوز عنده أن يدفع الخيل والبغال والحمير والجمال إلى من يكاري عليها والكراء بين المالك والعامل وقد جاء في ذلك أحاديث في سنن أبي داود وغيره. ويجوز عنده أن يدفع ما يصطاد به: الصقر والشباك والبهائم وغيرها إلى من يصطاد بها وما حصل بينهما. ويجوز عنده أن يدفع الحنطة إلى من يطحنها وله الثلث أو الربع. وكذلك الدقيق إلى من يعجنه والغزل إلى من ينسجه والثياب إلى من يخيطها بجزء في الجميع من النماء. وكذلك الجلود إلى من يحذوها نعالا وإن حكي عنه في ذلك خلاف. وكذلك يجوز عنده - في أظهر الروايتين - أن يدفع الماشية إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها ويدفع دود القز والورق إلى من يطعمه ويخدمه وله جزء من القز. وأما قول من فرق بين المزارعة والإجارة بأن الإجارة عقد لازم؛ بخلاف المزارعة فيقال له: هذا ممنوع؛ بل إذا زارعه حولا بعينه فالمزارعة عقد لازم كما تلزم إذا كانت بلفظ الإجارة والإجارة قد لا تكون لازمة كما إذا قال: آجرتك هذه الدار كل شهر بدرهمين؛ فإنها صحيحة في ظاهر مذهب أحمد وغيره وكلما دخل شهر فله فسخ الإجارة. والجعالة في معنى الإجارة وليست عقدا لازما. فالعقد المطلق الذي لا وقت له لا يكون لازما وأما المؤقت فقد يكون لازما.

فصل في إجارة الأرض بجنس الطعام الخارج منها

وأما إجارة الأرض بجنس الطعام الخارج منها: كإجارة الأرض لمن يزرعها حنطة أو شعيرا بمقدار معين من الحنطة والشعير: فهو أيضا جائز في أظهر الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وفي الأخرى ينهى عنه كقول مالك. قالوا: لأن المقصود بالإجارة هو الطعام فهو في معنى بيعه بجنسه. وقالوا: هو من المخابرة التي نهى عنها النبي ؛ وهو في معنى المزابنة؛ لأن المقصود بيع الشيء بجنسه جزافا. والصحيح قول الجمهور؛ لأن المستحق بعقد الإجارة هو الانتفاع بالأرض؛ ولهذا إذا تمكن من الزرع ولم يزرع وجبت عليه الأجرة والطعام إنما يحصل بعمله وبذره. وبذره لم يعطه إياه المؤجر فليس هذا من الربا في شيء. ونظير هذا: أن يستأجر قوما ليستخرجوا له معدن ذهب أو فضة أو ركازا من الأرض بدراهم أو دنانير فليس هذا كبيع الدراهم بدراهم. وكذلك من استأجر من يشق الأرض ويبذر فيها ويسقيها بطعام من عنده وقد استأجره على أن يبذر له طعاما. فهذا مثل ذلك. والمخابرة التي نهى عنها النبي قد فسرها رافع راوي الحديث بأنها المزارعة التي يشترط فيها لرب الأرض زرع بقعة بعينها؛ ولكن من العلماء من جعل المزارعة كلها من المخابرة كأبي حنيفة. ومنهم من قال: المزارعة على الأرض البيضاء من المخابرة كالشافعي. ومنهم من قال: المزارعة على أن يكون البذر من العامل من المخابرة. ومنهم من قال: كراء الأرض بجنس الخارج منها من المخابرة كمالك. والصحيح أن المخابرة المنهي عنها كما فسرها به رافع بن خديج وكذلك قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله شيء إذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه محرم. وهذا مذهب عامة فقهاء الحديث: كأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم. والنبي حرم أشياء داخلة فيما حرمه الله في كتابه؛ فإن الله حرم في كتابه الربا والميسر وحرم النبي بيع الغرر فإنه من نوع الميسر وكذلك بيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع حبل الحبلة. وحرم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل وغير ذلك مما يدخل في الربا. فصار بعض أهل العلم يظنون أنه دخل في العام أو علته العامة أشياء وهي غير داخلة في ذلك. كما أدخل بعضهم ضمان البساتين حولا كاملا أو أحوالا لمن يسقيها ويخدمها حتى تثمر فظنوا أن هذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها فحرموه؛ وإنما هذا من باب الإجارة: كإجارة الأرض. فلما نهى عن بيع الحب حتى يشتد وجوز إجارة الأرض لمن يعمل عليها حتى تنبت. وكذلك نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ولم ينه أن تضمن لمن يخدمها حتى تثمر ويحصل الثمر بخدمته على ملكه وبائع الثمر والزرع عليه سقيه إلى كمال صلاحه خلاف المؤجر فإنه ليس يسقي ما للمستأجر من ثمر وزرع؛ بل سقي ذلك على الضامن المستأجر. وعمر بن الخطاب ضمن حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين وتسلف كراءها فوفى به دينا كان عليه. ونظائر هذا الباب كثيرة.

سئل هل تصح المزارعة أم لا

وسئل هل تصح المزارعة أم لا؟ وإذا فرط المزارع في نصف فدان فحلف رب الأرض بالطلاق الثلاث ليأخذن عوضه من الزرع الطيب؟

فأجاب: الحمد لله. المزارع بثلث الزرع أو ربعه أو غير ذلك من الأجزاء الشائعة: جائز بسنة رسول الله وعمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو قول محققي الفقهاء. وإذا كان العامل قد فرط حتى فات بعض المقصود فأخذ المالك مثل ذلك من أرض أخرى وجعل ذلك له بحيث لا يكون فيه عدوان لم يحنث في يمينه ولا حنث عليه. والله أعلم.

سئل عن رجل سلم أرضه إلى رجل ليزرعها ويكون الزرع بينهما بالسوية

وسئل رحمه الله عن رجل سلم أرضه إلى رجل ليزرعها ويكون الزرع بينهما بالسوية والبذر من الزارع؛ لا من رب الأرض. فهل يجوز ذلك ويكون بينهما شركة؟ أو لا يجوز؟.

فأجاب: الحمد لله. هذا جائز في أصح قولي العلماء وبه مضت سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وغيرهم من أصحابه. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها: من زرع وثمر. على أن يعمروها من أموالهم. فهذه مشاطرة فعلها رسول الله . والبذر من العامل لا من رب الأرض. وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون: مثل آل أبي بكر وآل علي بن أبي طالب ومثل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود. والذين خالفوا ذلك لهم مأخذان ضعيفان: أحدهما: أنهم ظنوا أن المزارعة مثل المؤاجرة وليست من باب المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة يقصد منها عمل العامل ويكون العمل معلوما؛ بل يشتركان هذا بمنفعة أرضه وهذا بمنفعة بدنه وبقره كسائر الشركاء. وأما ما نهى عنه النبي من المخابرة فقد جاء مفسرا في الصحيح أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة؛ فلهذا نهى عنها. ومن اشترط أن يكون البذر من المالك فإنه شبهها بالمضاربة التي يشترط أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر وظن أن البذر يكون من رب الأرض وكلاهما مال. وهذا غلط؛ فإن رأس المال يعود في هذه العقود إلى صاحبه كما يعود رأس المال في المضاربة والأرض في المزارعة والأرض والشجر في المساقاة. والعامل إذا بذر البذر وأماته فلم يأخذ مثله صار البذر يجري مجرى المنافع التي لا يرجع بمثلها ومن اشترط أن يكون البذر من المالك ولا يعود فيه فقوله في غاية الفساد؛ فإنه لو كان كرأس المال لوجب أن يرجع في نظيره كما يقول مثل ذلك في المضاربة

سئل رحمه الله عن رجل له أرض مزروعة وغيرها وجاء من يزرعها له مشاطرة

وسئل رحمه الله عن رجل له أرض مزروعة وغيرها وجاء من يزرعها له مشاطرة والبذر وسائر ما يلحق الزرع من الأجر حتى إذا أخذ الحصادون شيئا أخذ صاحب الأرض مثله ونصف التبن أيضا. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله. المزارعة على الأرض بشطر ما يخرج منها جائز سواء كان البذر من رب الأرض أو من العامل. وهذا هو الصواب الذي دلت عليه سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين. فإن (النبي عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم) وهذا مذهب أكثر الصحابة والتابعين. وجواز المزارعة على الأرض البيضاء هو مذهب الثوري وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل وأبي يوسف ومحمد والمحققين من أصحاب الشافعي العلماء بالحديث وبعض أصحاب مالك وغيرهم. وكذلك يجوز على أصح القولين في مذهب أحمد وغيره أن يكون البذر من العامل كما فعل النبي مع أهل خيبر وتشبيه ذلك بمال المضاربة فاسد؛ فإن البذر لا يعود إلى باذره كما يعود مال المالك. والذي نهى عنه النبي من المخابرة هو أنهم كانوا يعاملون ويشترطون للمالك منفعة معينة من الأرض وهذا باطل بالاتفاق. كما لو اشترط دراهم مقدرة في المضاربة أو ربح صنف بعينه من السلع. والمساقاة والمزارعة والمضاربة ليست من أنواع الإجارة التي يشترط فيها تقدير العمل والأجرة فإن تلك يكون المقصود فيها العمل؛ وإنما هي من جنس المشاركة فإنهما يشتركان بمنفعة بدن هذا ومنفعة مال هذا وهما مشتركان في المغنم والمغرم. وكان آل أبي بكر يزارعون وآل عمر يزارعون وآل ابن مسعود يزارعون وهذا عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى اليوم. وهي كانت فيهم أظهر من كراء الأرض بالدراهم والدنانير فإنها أبعد عن الظلم والغرور وأقرب إلى العدل الذي ثبتت عليه المعاملات. وأما مؤنة الحصادين فعلى من اشترطاه؛ إن اشترطا المؤنة عليهما فهي عليهما وإن شرطاها على أحدهما فهي عليه وفي الإطلاق نزاع. ولهما اقتسام الحب والتبن والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر أرضا بجزء من زرعها وتسلمها ولم يزرعها

وسئل رحمه الله عن رجل استأجر أرضا بجزء من زرعها وتسلمها ولم يزرعها. فهل للمالك عليه أجرة المثل؟.

فأجاب: الحمد لله. هذه مختلف في صحتها. وظاهر المذهب عندنا صحتها ثم سواء سميت إجارة أو مزارعة: فأحمد يصححها في غالب نصوصه وسماها إجارة وقال أبو الخطاب وغيره: هي المزارعة ببذر العامل. وأما القاضي وغيره فصححوها وأبطلوا المزارعة ببذر من العامل. وإذا كانت صحيحة ضمنت بالمسمى الصحيح. وهنا ليس هو في الذمة فينظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه. وإذا جعلناها مزارعة وصححناها فينبغي أن تضمن بمثل ذلك؛ لأن المعنى واحد وإن أفسدناها وسميناها إجارة ففي الواجب قولان: أحدهما: أجرة المثل وهو ظاهر قول أصحابنا وغيرهم. والثاني: قسط المثل وهذا هو التحقيق. وأجاب بعض الناس: أن هذه إجارة فاسدة فيجب بالقبض فيها أجرة المثل.

سئل عما إذا كان من أحدهما أرض ومن آخر حب

وسئل رضي الله عنه عما إذا كان من أحدهما أرض ومن آخر حب. إلخ؟

فأجاب: وكذلك إذا تعاملا بأن يكون من رجل أرض ومن آخر حب أو بقر أو من رجل ماء ومن رجل حب وعنب ففيه قولان هما روايتان عن أحمد. والأظهر جواز ذلك. وكذلك إذا استأجره ليطحن له طحينا بثلثه أو ربعه. أو يخبز له رغيفا بثلثه أو ربعه. أو يخيط له ثيابا بثلثها أو ربعها. أو يسقي له زرعا بثلثه أو ربعه. أو يقطف له ثمرا بثلثه أو ربعه فهذا ومثله جائز في ظاهر مذهب أحمد وغيره. وكذلك إذا أعطاه ماءه ليسقي به قطنه أو زرعه ويكون له ربعه أو ثلثه. فإن هذا جائز أيضا. سواء كان الماء من هذا. وهذا من جنس المشاركة؛ لا من جنس الإجارة وهو بمنزلة المساقاة؛ والمزارعة. والصحيح الذي عليه فقهاء الحديث: أن المزارعة جائزة سواء كان البذر من المالك أو من العامل أو منهما. وسواء كانت أرضا بيضاء أو ذات شجر وكذلك المساقاة على جميع الأشجار. ومن منع ذلك ظن أنه إجارة بعوض مجهول وليس كذلك بل هو مشاركة كالمضاربة والمضاربة على وفق القياس لا على خلافه فإنها ليست من جنس الإجارة بل من جنس المشاركات كما بسط الكلام على هذا في موضعه.

سئل عمن رابع رجلا

وسئل رحمه الله عمن رابع رجلا. صورتها: أن الأرض لواحد ومن آخر البقر والبذر ومن المرابع العمل. على أن لرب الأرض النصف ولهذين النصف للمرابع ربعه فبقي في الأرض فما نبت ونبت في العام الثاني من غير عمل؟

فأجاب: إن كان هذا من الأرض ومن الحب المشترك ففيه قولان:

أحدهما: أنه لصاحب الأرض فقط.

والثاني: يقسم بينهم على قدر منفعة الأرض والحب. وهذا أصح القولين.

سئل عن رجل له أرض أعطاها لشخص مغارسة

وسئل عن رجل له أرض أعطاها لشخص مغارسة بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل ما في الأرض من الغرس. فهل يجوز قلع المغروس؟ أم لا؟ وهل للحاكم أن يلزمهم بقلعه؟ أم لا؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. إذا لم يقوموا بما شرط عليهم كان لرب الأرض الفسخ وإذا فسخ العامل أو كانت فاسدة فلرب الأرض أن يتملك نصيب الغارس بقيمته إذا لم يتفقا على قلعه. والله أعلم.

سئل عن رجل غرس غراسا في أرض بإذن مالكها

وسئل عن رجل غرس غراسا في أرض بإذن مالكها ثم توفي مالكها عنها وخلف ورثة فوقفوا الأرض على معينين فتشاجر الموقوف عليهم وصاحب الغراس على الأجرة فماذا يلزم صاحب الأرض؟

فأجاب: الحمد لله. إذا كان الغراس قد غرس بإذن المالك بإعارة أو بإجارة وانقضت مدته أو كانت مطلقة فعلى صاحب الغراس أجرة المثل تقوم الأرض بيضاء لا غراس فيها ثم تقوم وفيها ذلك الغراس فما بلغ فهو أجرة المثل والله أعلم.

سئل عن جندي أقطع له السلطان إقطاعا

وسئل رحمه الله عن جندي أقطع له السلطان إقطاعا وهو خراج أرض وتلك الأرض كانت مقطعة لجندي - توفي إلى رحمة الله تعالى - بعد أن زرعها ببذره وبقره فحكم له الديواني السلطاني أن يأخذ شطر الزرع وورثة المتوفى شطره بعد أن يأخذ من جملة الزرع نصف العشر ثم يدفع لورثة المتوفى المزارع ربع الشطر الذي له؛ لأن السلطان يأخذ لورثة المتوفى ربع الخراج وله ثلاثة أرباعه. فهل تجوز هذه القسمة ويجوز أخذ الخراج على هذه الصورة. وإذا لم يكن ذلك جائزا فكيف يكون الحكم فيه على مقتضى الشرع الشريف؟ ثم إن أهل الديوان أمروه أن يأخذ من ورثته بذر هذه الأرض في السنة الآتية تكون عنده قرضا بحجة برسم عمارة الإقطاع ويعيده لهم على سنتين. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟

فأجاب: هذا الإقطاع ليس إقطاعا بمجرد خراج الأرض كما ظنه السائل بل هو إقطاع استغلال؛ فإن الإقطاع نوعان: إقطاع تمليك: كما يقطع الموات لمن يحييه بتملكه. وإقطاع استغلال: وهو إقطاع منفعة الأرض لمن يستغلها إن شاء أن يزرعها وإن شاء أن يؤجرها. وإن شاء أن يزارع عليها. وهذا الإقطاع هو من هذا الباب؛ فإن المقطعين لم يقطعوا مجرد خراج واجب على شيء من الأرض بيده كالخراج الشرعي الذي ضربه أمير المؤمنين عمر على بلاد العنوة وكالأحكار التي تكون في ذمة من استأجر عقارا لبيت المال فمن أقطع ذلك فقد أقطع خراجا. وأما هؤلاء فأقطعوا المنفعة. وإذا عرف هذا. فإذا انفسخ الإقطاع في أثناء الأمر؛ إما لموت المقطع وإما لغيره وأقطع لغيره: كانت المنفعة الحادثة للمقطع الثاني دون الأول؛ بحيث لو كان المقطع الأول قد أجر الأرض المقطعة ثم انفسخ إقطاعه انفسخت تلك الإجارة كما تنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين. وإذا كان كذلك فإن كان الإقطاع انتقل في نصف المدة. كان للثاني نصف المنفعة وإن كان في ريعها الماضي كان له ريع المنفعة فإن كان أهل الديوان أعطوا الثاني ثلاثة أرباع المنفعة المستحقة بالإقطاع والأول الربع؛ لكون الثاني قام بثلاثة الأرباع بمائة استحق الإقطاع. مثل أن يخدم ثلاثة أرباع المدة المستوفية للمنفعة فقد عدلوا في ذلك. ثم إن المقطع الأول لما ازدرعه بعمله وبذره وبقره وصار بعض المنفعة مستحقا لغيره صار مزدرعا في أرض الغير؛ لكن ليس هو غاصبا يجوز إتلاف زرعه؛ بل زرعه زرع محترم كالمستأجر. وأولى. فهنا للفقهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون الزرع للمزدرع وعليه أجرة المثل لمنفعة الثاني. والثاني: أن يكون الزرع لرب الأرض وعليه ما أنفقه الأول على زرعه. وهذان القولان معروفان. فمن زرع في أرض غيره بغير إذنه: هل الزرع للمزدرع؟ أو لرب الأرض يأخذه ويعطيه نفقته؟ كما في السنن عن رافع بن خديج أن النبي قال: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وعليه نفقته) على القولين. والمسألة معروفة. وهذا الثاني مذهب أحمد وغيره. والأول مذهب الشافعي وغيره. والمزدرع في صورة السؤال ليس غاصبا؛ لكن بمنزلة أنه مما يعد زرع في أرض الغير بغير إذنه فهو كما لو اتجر في مال يظنه لنفسه فبان أنه لغيره.

وفي هذه المسألة قول ثالث هو الذي حكم به أهل الديوان. وهو الذي قضى به عمر بن الخطاب في نظير ذلك وهو أصح الأقوال؛ فإنه كان قد اجتمع عند أبي موسى الأشعري مال للمسلمين يريد أن يرسله إلى عمر فمر به ابنا عمر. فقال: إني لا أستطيع أن أعطيكما شيئا؛ ولكن عندي مال أريد حمله إليه فخذاه اتجرا به وأعطوه مثل المال فتكونان قد انتفعتما والمال حصل عنده مع ضمانكما له. فاشتريا به بضاعة فلما قدما إلى عمر قال: أكل العشر أقرهم مثل ما أقركما فقالا: لا فقال ضعا الربح كله في بيت المال فسكت عبد الله. وقال له عبيد الله: أرأيت لو ذهب هذا المال أما كان علينا ضمانه؟ فقال بلى قال: فكيف يكون الربح للمسلمين والضمان علينا فوقف عمر. فقال له الصحابة: اجعله مضاربة بينهما وبين المسلمين لهما نصف الربح وللمسلمين النصف فعمل عمر بذلك. وهذا أحسن الأقوال التي تنازعها الفقهاء في مسألة التجارة بالوديعة وغيرها من مال الغير فإن فيها أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل الربح لبيت المال بناء على أنه المال؟ أو الربح للعامل؛ لأن الملك حصل له باشتراء الأعيان في الذمة ويتصدقان بالربح؛ لأنه خبيث أو يقتسما بينهما. كالمضاربة. وهذا الرابع الذي فعله عمر وعليه اعتمد من اعتمد من الفقهاء في جواز المضاربة. ومسألة المزارعة كذلك أيضا فإن هذا ازدراع في الأرض يظنها لنفسه فتبين أنها أو بعضها لغيره فجعل الزرع بينهما مزارعة. والمزارعة المطلقة تكون مشاطرة لهذا نصف الزرع ولهذا نصفه؛ فلهذا جعل للأول نصف الزرع كالعامل في المزارعة ويجعل النصف الثاني للمنفعة المقطعة. والأول قد استحق ربعها فيجعل له النصف وربع النصف؛ بناء على ما ذكر. والثاني ثلاثة أرباع النصف. وهذا أعدل الأقوال في مثل هذه المسألة؛ بل حقيقة الأمر أن المقطع الثاني مخير: إن شاء أن يطالب من ازدرع في أرضه بأجرة المثل وإن شاء أن يجعلها مزارعة كما يخير ابتداء. وأما إذا قيل: بأن له أخذ الزرع وعليه نفقة الأول فهذا أبلغ. وقد تضمن هذا الجواب أن المزارعة يجوز أن يكون البذر فيها من العامل وهذا هو الصواب المقطوع به وإن سماه بعض الفقهاء مخابرة فإنه قد ثبت في الصحيح: (أن النبي عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من الأرض من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم) وكذلك أصحاب رسول الله جوزوا ذلك كما كانوا يزارعون كآل أبي بكر وآل عمر وآل علي بن أبي طالب وغيرهم. والذي نهى عنه النبي من المخابرة إنما كانوا يعملونه وهو أن يشترطوا لرب الأرض زرع بقعة بعينها فهذا هو المنهي عنه كما جاء مفسرا في الحديث الصحيح. وأما القوة التي تجعل في الأرض فإنها ليست قرضا محضا كما يظنه بعض الناس. فإن القرض المطلق هو بما يملكه المقترض فيتصرف فيه كما شاء. وهذه القوة مشروطة على من يقبضها أن يبذرها في الأرض ليس له التصرف فيها بغير ذلك فقد جعلت قوة في الأرض ينتفع (بها) كل من يستعمل الأرض من مقطع وعامل إذ مصلحة الأرض لا تقوم إلا بها كما لو كان في الأرض صهريج ماء ينتفع به ولهذا يقال: من دخل على قوة خرج على نظيرها. وإذا كان الصهريج ملآن ماء عند دخولك فاملأه عند خروجك. وحقيقة الأمر أن للسلطان أن يشترط على المقاطعة أن يتركوا في الأرض قوة وهذا من المصلحة وإذا كان الأول قد ترك فيها قوة والثاني محتاج إليها فرأى من ولي من ولاة الأمر أن يجعل عطاءها للأول بقسطه بحسب المصلحة كان ذلك جائزا. وإذا جرت العادة بأن من دخل على قوة خرج على نظيرها ومن أعطى قوة من عنده استوفاها مؤجلة: كان إقطاع ولي الأمر بهذا الشرط وذلك جائز؛ فإن الزرع إنما ملكه بالإقطاع وأورث الأول ما استحقه قبل الموت. وأما نصف العشر المذكور فلم يذكر وجهه حتى يفتى به. وإقطاع ولي الأمر هو بمنزلة قسمته بيت مال المسلمين ليست قسمة الإمام للأموال السلطانية كالفيء بمنزلة قسمة المال بين الشركاء المعينين؛ فإن المال المشترك بين الشركاء المعينين كالميراث يقسم بينهم على صنف منه إن كان قبل القسمة وإلا بيع وقسم ثمنه عند أكثر الفقهاء. كمالك وأحمد وأبي حنيفة. وتعدل السهام بالأجزاء إن كانت الأموال متماثلة: كالمكيل والموزون. وتعدل بالتقويم إن كانت مختلفة كأجزاء الأرض. وإن كانت من المعدودات كالإبل والبقر والغنم قسمت أيضا على الصحيح وعدلت بالقسمة. وأما الدور المختلفة ففيها نزاع وليس لأحد الشريكين أن يختص بصنف وأما أموال الفيء فللإمام أن يخص طائفة بصنف وطائفة بصنف. بل وكذلك في المغانم على الصحيح ولو أعطى الإمام طائفة إبلا وطائفة غنما جاز. وهل يجوز للإمام تفضيل بعض الغانمين لزيادة منفعة؟ على قولين للعلماء: أصحهما الجواز. كما ثبت عن النبي (أنه نفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس) وثبت عنه أنه نفل سلمة بن الأكوع وغيره. وأما مال الفيء فيستحق بحسب منفعة الإنسان للمسلمين وبحسب الحاجة أيضا والمقاتلة أحق به وهل هو مختص بهم؟ على قولين. وإذا قسم بين المقاتلة فيجب أن يقسم بالعدل كما يجب العدل على كل حاكم وكل قاسم؛ لكن إذا قدر أن القاسم أو الحاكم ليس عدلا لم تبطل جميع أحكامه وقسمه على الصحيح الذي كان عليه السلف فإن هذا من الفساد الذي تفسد به أمور الناس؛ فإنه قد ثبت عن النبي من الأحاديث الصحيحة التي يأمر فيها بطاعة ولاة الأمور مع جورهم ما يبين أنهم إذا أمروا بالمعروف وجبت طاعتهم وإن كانوا ظالمين. فإذا حكم حكما عادلا وقسم قسما عادلا: كان هذا من العدل الذي تجب طاعتهم فيه. فالظالم لو قسم ميراثا بين مستحقيه بكتاب الله كان هذا عدلا بإجماع المسلمين. ولو قسم مغنما بين غانميه بالحق كان هذا عدلا بإجماع المسلمين. ولو حكم لمدع ببينة عادلة لا تعارض كان هذا عدلا. والحكم أمر ونهي وإباحة فيجب طاعته فيه. هذا إذا كانت القسمة عادلة. فأما إذا كان في القسمة ظلم؛ مثل أن يعطي بعض الناس فوق ما يستحق وبعضهم دون ما يستحق: فهذا هو الاستيثار الذي ذكره النبي . حيث قال: (على المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه ما لم يؤمر بمعصية) وفي الصحيحين عن (عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول - أو نقوم - بالحق. حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم). ومعلوم أن هذا ما زال في الإسلام من ولاة الأمور ومن دخل في هذه الأمور وإنما يستثنى في الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم. فإذا كان ذلك كذلك. فالمعطى إذا أعطي قدر حقه أو دون حقه: كان له ذلك بحكم قسمة هذا القاسم كما لو قسم الميراث وأعطى بعض الورثة حقه كان ذلك بحكم هذا القاسم وكما لو حكم لمستحق بما استحقه كان له أن يأخذ ذلك بموجب هذا الحكم. وليس لقائل أن يقول: أخذه بمجرد الاستيلاء كما لو لم يكن حاكم ولا قاسم فإنه على نفوذ هذه المقالة تبطل الأحكام والأعطية التي فعلها ولاة الأمور جميعهم؛ غير الخلفاء. وحينئذ فتسقط طاعة ولاة الأمور؛ إذ لا فرق بين حكم وقسم وبين عدمه. وفي هذا القول من الفساد في العقل والدين ما لا يخفى على ذي لب؛ فإنه لو فتح هذا الباب أفضى من الفساد إلى ما هو أعظم من ظلم الظالم ثم كان كل واحد يظن أن ما يأخذه قدر حقه وكل واحد إنما يشهد استحقاق نفسه دون استحقاق بقية الناس وهو لا يعلم مقدار الأموال المشتركة. وهل يجعل له منها بالقيمة هذا أو أقل؟ والإنسان ليس له أن يكون حاكما لنفسه ولا شاهدا لنفسه فكيف يكون قاسما لنفسه؟. ومعلوم عند كل أحد أن دخول الشركاء تحت قاسم غيرهم ودخول الخصماء تحت حاكم غيرهم ولو كان ظالما أو جاهلا أولى من أن يكون كل خصم حاكما لنفسه وكل شريك قاسما لنفسه فإن الفساد في هذا أعظم من الفساد في الأول. والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور. ولو كان على ما يظنه الجاهل لكان وجود السلطان كعدمه وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم؛ بل قد قال العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان. وما أحسن قول عبد الله بن المبارك:

لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل ** وكان أضعفنا نهبا لأقوانا.

وأصل هذه المسألة مبسوط بسطا تاما في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على قدر ما يعرف به مقصود الجواب. والله أعلم.

سئل عن قرية كانت جارية في إقطاع رجل وأخذت ثم أقطعت لاثنين

وسئل عن قرية كانت جارية في إقطاع رجل وأخذت ثم أقطعت لاثنين بعد أن زرع فلاحوها أراضيها من غلة المقطع الأول ثم طلب أحد المقطعين المستجدين أن يقسم حصته من زرعه. فهل يجوز ذلك وهل تصح القسمة؟ وهل يجب استمرار الناحية مشاعا إلى حيث يقسم المغل. ويتناول كل ذي حق حقه من جميع المغل؟ أو يقسم قبل إدراك المغل؟.

فأجاب: إن لم تنقص حصة الشركاء لا في الأرض ولا في الزرع فعليهم إجابة طالب القسمة التي ليس فيها ضرر عليهم وإن كان في ذلك ضرر بنقص قسمة أنصبائهم لم يرفع الضرر بالضرر؛ بل إن أمكن انقسام عوض المقسوم من غير ضرر فعل.

سئل عن صاحب إقطاع هل له أن يأخذ من الزرع جزءا معينا

وسئل عن صاحب إقطاع. هل له أن يأخذ من الزرع جزءا معينا؟. وهل له إذا شاطره بجزء مشاع وعلم أنهم قد حابوه أن يأخذ زائدا على ذلك؟ أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله. تجوز المزارعة بجزء شائع سواء كان أقل من النصف أو أكثر من النصف. ولا فرق عند الأئمة الأربعة ونحوهم: أن يزارع بالنصف أو الثلث أو الثلثين ونحو ذلك من الأجزاء الشائعة كثلاثة أخماس وخمسين. وقد ثبت جواز المزارعة بسنة رسول الله الصحيحة باتفاق الصحابة وهي أعدل من التسجيل وإذا شرط عليه نصف الزرع فأخذوا زائدا على ذلك فله أن يأخذ منهم بقدر الزائد.

سئل عن رجل معه دراهم حرام فدفعها إلى والده وأخذ منه عوضها

وسئل رحمه الله عن رجل معه دراهم حرام فدفعها إلى والده وأخذ منه عوضها من دراهمه الحلال واشترى منها شيئا يعود منه منفعة؛ إما نتاج الإبل والغنم وإما زرع أرض واستعملها. هل هي حرام؟ أم لا؟

فأجاب: متى اعتاض عن الحرام عوضا بقدره فحكم البدل حكم المبدل منه فإن كان قد نمى بفعله نماء من ربح أو كسب أو غير ذلك ففيه خلاف بين العلماء. وأعدل الأقوال أن يقسم النماء بين منفعة المال وبين منفعة العامل؛ بمنزلة المضاربة. كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المال الذي اتجر منه أولاده من بيت المال وهكذا كل نماء بين أصلين. إذا بيع الأصل. وأجاب أيضا: أعدل الأقوال في هذه المسألة وشبهها أن يقسط الزرع الحادث من منفعة الأرض والبذر والعامل والبقر على هذه الأصول فيكون قسط الحرام لمن يجب صرفه إليه وقسط الحلال لمن يستحقه كسائر الحادث عن الأصول المشتركة.

سئل عن رجل له إقطاع من السلطان فزرعها لفلاح مشاطرة

وسئل رحمه الله عن رجل له إقطاع من السلطان فزرعها لفلاح مشاطرة: هل يجوز الإشهاد بينهما؟ أو أن بعض العدول امتنع من الإشهاد بينهما. وهل إذا اشترط على الفلاح. مثل دجاج أو خراق أو نحو ذلك من سائر الأصناف مع رضا الفلاح بذلك. هل يجوز؟ أم لا؟

فأجاب: الحمد لله. دفع الأرض الملك والإقطاع أو غيرها إلى من يعمل فيها بشطر الزرع فيه قولان للعلماء؛ لكن الصواب المقطوع به أن ذلك جائز؛ فإن ذلك إجماع من الصحابة: آل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وهو عمل المسلمين من عهد نبيهم. والرسول لم ينه عن ذلك؛ وإنما نهى عما إذا اشترط لرب المال زرع بقعة بعينها؛ بل قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه شرط عليهم أن يعمروها من أموالهم. ولهذا كان الصواب أنها تجوز وإن كان البذر من العامل؛ بل هذه المعاملة أحل من دفع الأرض بالمؤاجرة؛ فإن كلاهما مختلف فيه والإجارة أقرب إلى الغرر؛ لأن المؤجر يأخذ الأجرة والمستأجر لا يدري: هل يحصل له مقصوده أم لا؟ بخلاف المشاطرة؛ فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم إن أنبت الله زرعا كان لهما وإن لم ينبت كان عليهما ومنفعة أرض هذا كمنفعة بذر هذا كما في المضاربة. ولا يجوز في المشاطرة أن يشترط على العامل شيء معين لا دجاج ولا غيره. وأما الشهادة على ذلك فإنها جائزة ولو كان الشاهد ممن لا يجيزها؛ لأنه عنده مختلف فيه والشاهد يشهد بما جرى؛ لا سيما والمحققون من أصحاب أبي حنيفة والشافعي على تجويزها كما هو مذهب فقهاء أهل الحديث.

سئل عن مقطع يجمع غلته من الفلاحين وفيها غلة نظيفة وغلة علثة

وسئل عن مقطع يجمع غلته من الفلاحين وفيها غلة نظيفة وغلة علثة في أيام القسم وخلطها إلى أيام البذر ثم فرقها عليهم خلال ذلك؟

فأجاب: إذا كانت حنطة بعضهم خيرا من حنطة بعض فليس له أن يخلط ذلك وإن كانت الحنطة سواء وقد احتاج إلى الخلط فلا بأس.

سئل رحمه الله عن جندي له أرض خالية

وسئل رحمه الله عن جندي له أرض خالية. فقال له فلاح: أنا أزرع لك هذه الأرض والثلثان لي والثلث لك على أن يقوم للجندي بالثلث المذكور بخراج معين وشرط له ذلك ثم إن الجندي أعطى الفلاح المذكور وسق بزر كتان يزرعه في تلك الأرض المذكورة وتوفي الجندي قبل إدراك المغل فاستولى الفلاح على جميع الزرع ومنع الورثة المبلغ المعين. فهل له ذلك؟ والشرط بغير مكتوب؟

فأجاب: ما يستحقه الجندي من خراج أو مقاسمة أو غير ذلك فإنه ينتقل إلى ورثته وسواء كان الشرط بمكتوب أو غير مكتوب. ومتى شهد شاهد عدل أو مزكى وحلف المدعي مع الشاهد حكم له بذلك.

سئل عن رجل لم يكن فلاحا ولا له عادة بزرع فهل يجوز لأحد أن يزارعه

وسئل عن رجل لم يكن فلاحا ولا له عادة بزرع. فهل يجوز لأحد أن يزارعه من غير اختياره؟ أم لا؟

فأجاب: ليس لأحد أن يكرهه على فلاحة لم تجب عليه فإن ذلك ظلم والله تعالى يقول فيما رواه عنه رسوله: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ). بل مثل هذا لا يجوز إكراهه لا في الشريعة المطهرة ولا في العادة السلطانية.

وسئل عمن يزرع في أرض مشتركة بغير إذن الشركاء ولا أعلمهم؟

فأجاب: إذا كانت العادة جارية: بأن من يزرع فيها يكون له نصيب معلوم ولرب الأرض نصيب فإنه يجعل ما زرعه في مقدار أنصباء شركائه مقاسمة بينهم على الوجه المعتاد. والله أعلم.

سئل عمن زارع بعض الشركاء في الأرض المشاعة في قدر حقه

وسئل عمن زارع بعض الشركاء في الأرض المشاعة في قدر حقه إذا امتنع الآخرون من الزرع؟

فأجاب: إذا امتنع بعض الشركاء عن الإنفاق الذي يحتاج إليه الزرع جاز لبعضهم أن يزرع في مقدار نصيبه ويختص بما زرعه في قدر نصيبه والله أعلم.

سئل عن أرض مشتركة بين اثنين

وسئل عن أرض مشتركة بين اثنين: طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه فأذن ثم تغيب فزرع الأول في أقل من حقه فطلب الأول أجرته؟

فأجاب: إذا طلب أحد الشريكين من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه وامتنع الآخر من ذلك فللأول أن يزرع في مقدار حقه ولا أجرة عليه في ذلك للشريك؛ لأنه تارك لما وجب عليه والأول مستوف لما هو حقه. وهو نظير أن يكون بينهما دار فيها بنيان فيسكن فيها أحدهما عند امتناع الأول مما وجب عليه.

سئل عن امرأة دفعت إلى إنسان مبلغ دراهم ليزرع شركة

وسئل رحمه الله عن امرأة دفعت إلى إنسان مبلغ دراهم ليزرع شركة وقد ذكر أنه زرع ثم بعد ذلك دفع إليها أربعين وذكر أنه من الكسب ورأس المال باق ثم دفع لها خمسين درهما وقال: هذا من جملة مالك وبقي من الدراهم مائة خارجا عن الكسب فطلبتها منه فقال: الأربعون من جملة المائة ولم يبق لك سوى ستين فهل لها أن تأخذ المبلغ وما تكسب شيئا؟

فأجاب: إذا دفعت إليه المال مضاربة وأعطاها شيئا وقال: هذا من الربح كان لها المطالبة بعد هذا برأس المال. ولم يقبل قوله: إن تلك الزيادة كانت من رأس المال. والله أعلم.

سئل عن قرية وقف على جهتين مشاعة بينهما

وسئل رحمه الله عن قرية وقف على جهتين مشاعة بينهما. فصرف العامل على إحدى الجهتين إلى فلاحيها قدرا معلوما من القمح وغيره برسم الزراعة. فزرعه الفلاحون في الأرض المشتركة ولم يصرفوا بجهة أخرى شيئا وقد طلب أرباب الجهة الأخرى مشاركتهم فيما حصل من البذر الذي صرفه العامل إلى الفلاحين. فهل لهم ذلك؟ أم لا؟ وهل القول قول العامل فيما صرفه وادعى أنه مختص بإحدى الجهتين؟ أم لا؟ وإذا اختص الريع بإحدى الجهتين. هل يجوز لأحد منازعتهم؟ أم لا؟

فأجاب: ليس لأرباب الجهة الأخرى مشاركة أرباب البذر كما يشاركونهم لو بذروا؛ لكن إذا لم يمكن الفلاحين البذر وحده لشيوع الأرض وامتناع الشركاء من المقاسمة والمعاونة. فالزرع كله لرب البذر إذا زرع في قدر ملكه المشاع وإن جعل ما زرع في نصيب التارك مزارعة من أرباب البذر بالمبذور من الآخر من الأرض والعمل للعامل ويقسم الزرع بينهم كما لو اشتركا في هذا على ما جرى به العرف في مثل ذلك؛ إذ العامل ليس بغاصب؛ بل مأذون له عرفا في الازدراع.

سئل عن رجل شارك في قطعة أرض ليزرعها فأخر تحضيرها

وسئل عن رجل شارك في قطعة أرض ليزرعها فأخر تحضيرها عن وقت استحقاقه تفريطا منه فنقصت بسبب ذلك مقدار النصف. فهل للشريك النقص بسبب ما فرط؟

فأجاب: إذا كان الشريك قد فرط في مال شريكه مثل أن يبذره في غير الوقت الذي يبذر مثله أو في أرض ليست على الوصف الذي اتفقا عليه ونحو ذلك. كان من ضمان شريكه وأقل ما عليه مثل رأس المال. والله أعلم

سئل عن عامل لرب الأرض فيها حب من العام الماضي

وسئل عن عامل لرب الأرض فيها حب من العام الماضي يسمى الزريع عامله على سقيه على أن يكون الثلث بينهما؟

فأجاب: أن هذه معاملة صحيحة ويستحق العامل ما شرط له إذا كان المقصود حصول الزرع بعمله سواء كان العمل قليلا أو كثيرا. والله أعلم.

سئل عمن له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها

وسئل رحمه الله عمن له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها؟

فأجاب: له قيمتها بعد الفسخ حتى يحكم بلزومها أو عدمه؛ وليس كعامل المساقاة؛ لعدم الجامع بينهما. والفرق أن المعقود عليه في المساقاة الثمرة وهي معدومة؛ لا العمل فإذا أعرض عن المعقود قبل وجوده لم يستحق منه شيئا وبهذا صرح الأصحاب: بأنه بعد وجود الثمرة على استحقاق نصيبه فيها ويلزمه تمام العمل. وفي الشركة المعقود عليه المال والعمل: فالمال لا بد من وجوده والعمل إن وجد بعضه استحق مع الفساد ولفسخ مؤجر أجرة عمله.

سئل عن رجل يزرع من كسبه على بقرة بأرض السلطان

وسئل عن رجل يزرع من كسبه على بقرة بأرض السلطان أو بأرض مقطع ويدفع العشر على الذي له والذي للمقطع. فهل يحل له أن يسرق من وراء المقطع شيئا؟ أم لا؟

فأجاب: إذا كان الفلاح مزارعا: مثل أن يعمل بالثلث أو الربع أو النصف فليس عليه أن يعشر إلا نصيبه وأما نصيب المقطع فعشره عليه. ومن قال: إن العشر جميعه على الفلاح والمقطع يستحق نصيبه من الزرع فقد خالف إجماع المسلمين؛ ولكن للعلماء في المزارعة قولان: أحدهما: أنها باطلة وأن الزرع جميعه لصاحب البذر وعليه العشر جميعه ولرب الأرض قيمة الأرض فمن كان من المقطعين يرى العشر كله على الفلاح فتمام قوله أن يعطيه الزرع كله ويطالبه بقيمة الأرض. والقول الثاني - وهو الصحيح الذي مضت به سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وعليه العمل - أن المزارعة صحيحة. فعلى هذا يكون للمقطع نصيبه وعليه زكاة نصيبه وللفلاح نصيبه وعليه زكاته. فإذا كانوا يلزمون الفلاح بالعشر الواجب على الجندي فيؤدي العشر على الجندي من مال الجندي كما يظهر ذلك. فإن هذا حق بين لا نزاع فيه بين العلماء؛ ليس حقا خفيا ولا يمكن الجندي جحده. كما قال النبي لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فإن وجوب النفقة للزوجة وللولد حق ظاهر لا يمكن أبا سفيان جحده. وهذا مثل قوله: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) وفي رواية (إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء. أفنأخذه؟ فقال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) لأن الحق هنا خفي لا يفوته الظلم. فإذا أخذ شيئا من غير استحقاق ظاهر كان خيانة. والله سبحانه أعلم.

باب الإجارة

سئل عن رجل أجر رجلا أرضا فيها شجر مثمر بأجرة معلومة

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

عن رجل أجر رجلا أرضا فيها شجر مثمر بأجرة معلومة مدة معلومة وبياضا لا تساوي الأجرة وإنما الأجرة بعضها يوازي البياض وبعضها في مقابلة الثمرة وكتبا كتاب الإجارة بعقد الإجارة على الأرض مساقاة على الشجر المثمر. فهل يصح ذلك؟ أم لا؟ وإذا صح: فهل يدخل أشجار الجوز المثمر مع كونه مثمرا جميع ما له ثمرة؟ فهل للمؤجر أن يخصص البعض دون البعض مع كونه مثمرا؟ أم لا؟ وهل إذا كان عقد المساقاة بجزء من الثمرة مما تعم به البلوى ورأى بعض الحكام جوازه فهل لغيره من الحكام إبطاله؟ أم لا؟.

فأجاب: ضمان البساتين التي فيها أرض وشجر عدة سنين هو الصحيح الذي اختاره ابن عقيل وغيره. وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة لأسيد بن الحضير بعد موته ثلاث سنين ووفى بالضمان دينه. وهذه كثيرة لا تحتمل الفتيا تقريرها. فهذه الضمانات التي لبساتين دمشق الشتوية التي فيها أرض وشجر ضمانات صحيحة وإن كان قد كتب في المكتوب إجارة الأرض والمساقاة على الشجر فالمقصود الذي اتفقا عليه هو الضمان المذكور والعبرة في العقود بالشروط التي اتفق عليها المتعاقدان والمقاصد معتبرة. فإذا العقد الذي نهى عنه النبي من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو بيع الثمر المجرد كما تباع الكروم في دمشق بحيث يكون السعي والعمل على البائع والضمانات شبيهة بالمؤاجرات.

سئل عمن أجر بياضا مبلغها أربعة أسهم من مزرعة البستان

وسئل عمن أجر بياضا مبلغها أربعة أسهم من مزرعة البستان والمقصبة المستديرة: فهل يجوز إيجاره المقصبة في إيجار بياض الأرض لحصته المذكورة؟

فأجاب: يجوز إجارة منبت القصب ليزرع فيها المستأجر قصبا وكذلك إجارة المقصبة ليقوم عليها المستأجر ويسقيها فمنبت العروق التي فيها بمنزلة من يسقي الأرض لينبت له فيها الكلأ بلا بذر.

سئل عن رجل سجل أرضا ليزرعها

وسئل عن رجل سجل أرضا ليزرعها أول سنة كتانا وثاني سنة فولا فقصد المؤجر أن يأخذ زائدا: كونه زرعها كتانا فما يجب عليه؟.

فأجاب: إن استأجرها على أن يزرع فيها نوعا من الحبوب لم يكن له أن يزرع ما هو أشد ضررا وإذا زرع ما هو أشد ضررا كان للمؤجر مطالبته بالقيمة وإن استأجرها ليزرع فيها ما شاء فله ذلك ولا شيء على المستأجر إذا زرع فيها ما شاء. والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر أرض بستان وساقاه على الشجر

وسئل عن رجل استأجر أرض بستان وساقاه على الشجر ثم إن الآخر قطع بعض الشجر الذي يثمر. فهل يجوز له أن يقطعها قبل فراغ الإجارة؟ وهل يلزم قيمة ثمرتها للمستأجر؟.

فأجاب: الحمد لله. إذا قطعها نقص من العوض المستحق بقدر ما نقص من المنفعة التي يستحقها المستأجر. وهذا وإن كان في اللفظ إجارة الأرض ومساقاة الشجر فهو في المعنى المقصود عوض عن الجميع؛ فإن المستأجر لم يبذل العوض إلا ليحصل له مع زرع الأرض ثمر الشجر. وقد تنازع العلماء في صحة هذا العقد. وسواء قيل بصحته أو فساده فما ذهب من الشجر ذهب ما يقابله من العوض سواء كان بقطع المالك أو بغير قطعه. والله أعلم.

سئل عمن استأجر أرض بستان من مشارف الأجناس مدة ثم توفي المستأجر

وسئل رحمه الله عمن استأجر أرض بستان من مشارف الأجناس مدة ثم توفي المستأجر وخلف أولادا والأجرة مقسطة: في كل سنة عشرون درهما وقد طلب من أولاد المستأجر المتوفى تعجيل الأجرة بكمالها. فهل يلزم الأولاد جميع الإجارة؟ أو يأخذ منهم على أقساطها في كل سنة؟.

فأجاب: لا يجب على أولاده تعجيل جميع الأجرة - والحال هذه - لكن إذا لم يثق أهل الأرض بذمتهم فلهم أن يطالبوهم بمن يضمن لهم الأجرة في أقساطها. وهذا على قول من يقول: إن الدين المؤجل لا يحل بموت من هو عليه ظاهر. وأما على قول من يقول: إنه يحل عليه وكذلك هنا على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن الوارث الذي ورث المنفعة عليه أجرة تلك المنفعة التي استوفاها؛ بحيث لو كان على الميت ديون لم يكن للوارث أن يختص بمنفعة ويزاحم أهل الديون بالأجرة؛ بناء على أنها من الديون التي على الميت كما لو كان الدين ثمن مبيع نافذ؛ بمنزلة أن تنتقل المنفعة إلى مشتر أو متهب مثل أن يبيع الأرض أو يهبها أو يورث فإن الأرض من حين الانتقال تلزم المشتري والمتهب والولد: في أصح قولي العلماء كما عليه عمل المسلمين؛ فإنهم يطالبون المشتري والوارث بالحكر قسطا لا يطالبون الحكر جميعه من البائع. أو تركة الميت؛ وذلك لأن المنافع لا تستقر الأجرة إلا باستيفائها فلو تلفت المنافع قبل الاستيفاء سقطت الأجرة بالاتفاق. ولهذا كان مذهب أبي حنيفة وغيره أن الأجرة لا تملك بالعقد؛ بل بالاستيفاء ولا تملك المطالبة إلا شيئا فشيئا ولهذا قال: إن الإجارة تنفسخ بالموت. والشافعي وأحمد وإن قالا: تملك بالعقد وتملك المطالبة إذا سلم العين فلا نزاع أنها لا تجب إلا باستيفاء المنفعة ولا نزاع في سقوطها بتلف المنافع قبل الاستيفاء. ولا نزاع أنها إذا كانت مؤجلة لم تطلب إلا عند محل الأجل. فإذا خلف الوارث ضامنا وتعجل الأجل الذي لم يجب إلا مؤخرا مع تأخير استيفاء حقه من المنفعة كان هذا ظلما له مخالفا للعدل الذي هو مبنى المعاوضة وإذا لم يرض الوارث بأن تجب عليه الأجرة وقال المؤجر أنا ما أسلم إليك المنفعة لتستوفي حقه منها فأوجبنا عليه أداء الأجرة حالة من التركة مع تأخر المنفعة: تبين ما في ذلك من الحيف عليه. وأما إذا كان المؤجر وقفا ونحوه. فهنا ليس للناظر تعجيل الأجرة كلها بل لو شرط ذلك لم تجز؛ لأن المنافع المستقبلة إذا لم يملكها وإنما يملك أجرتها ما يحدث في المستقبل فإذا تعجلت من غير حاجة إلى عمارة كان ذلك أخذا لما لم يستحقه الموقوف عليه الآن. وأجاب: لا يلزم تعجيل الأجرة في أصح قولي العلماء؛ لا سيما إذا كان المستأجر حبسا فإن تعجيل الأجرة في الحبس لا يجوز إلا لعمارة ونحوها؛ لأن منافع الحبس يستحقها الموقوف عليه طبقة بعد طبقة. وكل قوم يستحقون أجرة المنافع الحادثة في زمانهم فإن تسلفوا منفعة المستقبل كانوا قد أخذوا عوض ما لم يستحقوه من الوقف وهذا لا يجوز؛ لكن إذا طلب أهل المال من ورثة المستأجر ضمينا بالأجرة فلهم ذلك. ويبقى المال في ذمة الورثة مع ضامن خبير لأهل الوقف من يسكنه مع أنه لو لم يكن وقفا لم يحل بموت المدين. وكذلك على قول من يقول بحلوله في أظهر قوليهم؛ إذ يفرقون بين الإجارة وغيرها كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت أو ورثت فإن الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لهم أخذه من البائع وتركة الميت: في أظهر قوليهم.

سئل عن رجل استأجر بستانا مدة عشر سنين

وسئل عن رجل استأجر بستانا مدة عشر سنين وقام بقبض مبلغ الأجرة ثم توفي لانقضاء خمس سنين من المدة وبقي في الإجارة خمس سنين وله ورثة وأقاموا ورثة المتوفى بعد مدة سنة من وفاته. فهل يجوز للمالك فسخ الإجارة على الأيتام؟ أم لا؟.

فأجاب: ليس للمؤجر فسخ الإجارة بمجرد موت المستأجر عند جماهير العلماء؛ لكن منهم من قال: إن الأجرة على المستأجر تحل بموته وتستوفى من تركته فإن لم يكن له تركة فله فسخ الإجارة. ومنهم من يقول: لا تحل الأجرة إذا وثق الورثة برهن أو ضمين يحفظ الأجرة؛ بل يوفونه كما كان يوفيها الميت وهذا أظهر القولين. والله أعلم.

سئل عن أقوام ساكنين بقرية

وسئل رحمه الله عن أقوام ساكنين بقرية من قرى الفيوم والقرية قريبة من الجبل يرى فيها بعض السنين النصف فلما كان في هذه السنة كتب على المشايخ إجارة البلدي مدة ثلاث سنين قبل خلو الأرض من الإجارة الماضية وقبل فراغ الأرض من الزرع. فهل تصح هذه الإجارة؟.

فأجاب: أما إذا كانوا مكرهين على الإجارة بغير حق لم تصح الإجارة ولم تلزم بلا نزاع بين الأئمة. وأما لو كانوا استأجروها مختارين أو مكرهين بحق وكانت حين الإجارة في إجارة آخرين فهذه تسمى الإجارة المضافة. كما عليه المسلمون في غالب الأعصار والأمصار إذ لا محذور فيها يبطل الإجارة كعقد البيع فلا فرق بين أن تكون المنفعة على العقد أو لا تكون. وكون المستأجر لا يقبض عقيب العقد لا يضر فإن القبض يتبع موجب العقد ومقتضاه فإن اقتضى القبض عقيبه وجب قبضه عقيبه وإن اقتضى تأخر القبض وجب القبض حين أوجبه العقد؛ إذ المقبوض في العقد ليس مما أوجبه الشارع على صفة معينة؛ بل المرجع في ذلك إلى ما أوجبا في العقد. ولهذا لو باع نخلا لم تؤبر كان الثمر للبائع عند مالك والشافعي والإمام أحمد كما دلت عليه السنة وكان للبائع أن يدخل لأجل ثمره. وإن كان ذلك ينافي القبض التام: فلو باع أمة مزوجة كانت منفعة البضع على ملك الزوج لم تدخل فيما يقبضه المشتري لنفسه باتفاق الأئمة الأربعة وكذلك العين المؤجرة عند أكثر العلماء؛ فلهذا صح عند طوائف منهم استيفاء منفعة العين في البيع والهبة والوقف والعتق وغير ذلك. كما اقتضى حديث كما هو مذهب مالك وأحمد. ولهذا لو أقبض العين المؤجرة كانت في المنفعة مع خراج تصرف المستأجر فيها باقية على ضمان المؤجر فلو تلفت بآفة سماوية كانت من ضمانه باتفاق المسلمين. وكذلك يقول مالك وأحمد وغيرهما في بيع الثمار إذا أصابتها جائحة. وبالجملة فلا يحرم من العقود إلا ما حرمه نص أو إجماع أو قياس في معنى ما دل على النص أو الإجماع فكل ذلك منتف في الإجارة المضافة وإذا استأجر الأرض وفيها زرع للغير فإنه يبقى لصاحبه بأجرة المثل كما تبقى لو لم يؤجر الأرض. والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر حانوتا وقد جاء إنسان زاد عليه في الحوانيت فقدمه

وسئل عن رجل استأجر حانوتا وقد جاء إنسان زاد عليه في الحوانيت فقدمه. فهل تفسخ إجارة المستأجر الحانوت الواحد؟ أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله. إذا استأجرها من المالك أو وكيله أو وليه لم يكن لأحد أن يقبل عليه زيادة ولا يخرجه قبل انقضاء مدته وإن لم يكن بينهما كتاب ولا شهود بل من قال: اذهب اكتب عليك إجارة فأشهد عليه المستأجر بالإجارة ومكنه المؤجر من السكنى فهذه إجارة لازمة. والله أعلم.

سئل عن رجل زاد على قوم في بيت ليسكن فيه فهل يأثم بذلك

وسئل عن رجل زاد على قوم في بيت ليسكن فيه. فهل يأثم بذلك؟ وهل يجب تعزيره على ذلك؟.

فأجاب: قد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يسوم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) فإذا كان المؤجر قد ركن إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه. فكيف إذا كان ساكنا في المكان مستمرا فمن فعل ذلك استحق التعزير والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر دارا بجواره رجل سوء

وسئل عن رجل استأجر دارا بجواره رجل سوء فراح المستأجر إلى المؤجر وقال له: ما أرتضي به أن يكون جواري إما أن تنقله أو تعطيني أجرتي. فقال له: أنا أنقله في هذا النهار فحلف المستأجر بالطلاق الثلاث متى لم ينتقل الجار في هذا النهار وإلا ما أسكن الدار فلم ينقل المستأجر من الدار فطلب الإجارة فلم يعطه الإجارة؟.

فأجاب: إذا كان الأمر على ما ذكر فمثل هذا عيب في العقار وإذا لم يعلم به المستأجر حال العقد فله أن يفسخ الإجارة ولا أجرة عليه من حين الفسخ. والله أعلم.

سئل عن رجل له ملك يعطي المكترين دراهم تقوية ويزيدون في الكري

وسئل رحمه الله عن رجل له ملك يستحق كراه خمسة دراهم يعطي المكترين دراهم تقوية ويزيدون في الكري. هل يجوز ذلك؟ أم لا؟.

فأجاب: إذا أقرضه عشرة على أن يكتري منه حانوته بأجرة أكثر من المثل. لم يجز هذا باتفاق المسلمين؛ بل لو قرر بينهما من غير شرط كان ذلك باطلا منهيا عنه عند أكثر العلماء. كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) قال الترمذي: حديث صحيح. فنهى أن يبيعه ويقرضه؛ لأنه يحابيه في البيع لأجل القرض فكيف إذا شارطه مع القرض أن يستأجر ويحابيه وليس عنده وإن كان الغريم معسرا أنظر إلى ميسرة. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } 4.

سئل عن جندي له قطاع فألزمه إنسان أن يؤجره

وسئل عن جندي له قطاع فألزمه إنسان أن يؤجره فآجره على سبيل الغصب بمائتي درهم ثم أظهر أنه يساوي أربعة آلاف درهم فهل يصح هذا الإيجار؟ أم لا؟

فأجاب: الحمد لله. إن كان قد أكرهه بغير حق على الإجارة لم يصح وإن كان قد دلس عليه فله فسخ الإجارة والله أعلم.

سئل عمن جبى لإنسان دراهم كل ألف بستة دراهم

وسئل عمن جبى لإنسان دراهم كل ألف بستة دراهم وعرف الناس وعادتهم اثنا عشر درهما وقد غرم فيها بجبايتها. وهو مغرور بالشرط؟

فأجاب: إذا كان المستأجر قد دلس على المؤجر وغره حتى استأجر بدون قيمة المثل مما لا يتغابن الناس بمثله فله أن يطالبه بأجرة المثل.

سئل عن رجل أجر رجلا عقارا مدة وفي أواخر المدة زاد رجل في أجرتها

وسئل عن رجل أجر رجلا عقارا مدة وفي أواخر المدة زاد رجل في أجرتها فأجره فعارضه المستأجر الأول. وقال: هذه في إجارتي. هل له ذلك؟

فأجاب: إذا كان قد أجر المدة التي تكون بعد إجارة الأول لم يكن للأول اعتراض عليه في ذلك والله أعلم.

سئل عن رجل له حوانيت وبها أقوام ساكنون من غير إجارة من المالك

وسئل رحمه الله عن رجل له حوانيت وبها أقوام ساكنون من غير إجارة من المالك وفي هذا الوقت زاد أقوام على الساكنين بالحوانيت زيادة متضاعفة فهل يجوز للمالك إجارتهم؛ وقبول الزيادة؟

فأجاب: إن كانوا غاصبين ظالمين قد سكنوا المكان بغير إذن المالك فإخراج مثل هؤلاء لا يحتاج إلى زيادة؛ بل يجب عليهم أن يخرجوا قبل حصول الزيادة وللمالك أن يخرجهم قبل الزيادة. ولا يحل للمالك أن يطالبهم بأجرة مسماة؛ بل إنما عليهم أجرة المثل. وإن كان المؤجر ناظر وقف أو يتيم: كان بإقراره لهم مع إمكان إخراجهم ظالما معتديا. وذلك يقدح في عدالته وولايته. وأما إن سكنوا على الوجه الذي جرت به العادة في سكنى المستأجرين مثل أن يجيء إلى المالك فيقول: أجرني المكان الفلاني بكذا. فيقول: اذهب فأشهد عليك ويشهد على نفسه المستأجر دون المؤجر ويسلم إليه المكان. وإذا أراد الساكن أن يخرج لم يمكنه صاحب المكان فهذه إجارة شرعية. ومن قال: إن هذه ليست إجارة شرعية وليس للساكن أن يخرج إلا بإذن المالك والمالك يخرجه متى شاء فقد خالف إجماع المسلمين؛ فإن الإجارة إن كانت شرعية فهي لازمة من الطرفين وإن كانت باطلة فهي باطلة من الطرفين ومن جعلها لازمة من جانب المستأجر جائزة من جانب المؤجر فقد خالف إجماع المسلمين. ومتى كان المؤجر ناظر وقف أو مال يتيم يسلمه إلى الساكن وأمره أن يكتب عليه إجارة وطالبه بمكتوب الإجارة والأجرة المسماة وقال مع هذا: إني لم أؤجره إجارة شرعية: كان ذلك قادحا في عدالته وولايته فإن الفقهاء لهم في الإجارة الشرعية قولان:

أحدهما: أنها تنعقد بما يعده الناس إجارة حتى لو دفع طعامه إلى طباخ يطبخ بالأجرة أو ثيابه إلى غسال يغسل بالأجرة أو نساج أو خياط أو نحوهم من الصناع الذين جرت عادتهم أنهم يصنعون بالأجرة يستحقون أجرة المثل. وكذلك لو دخل حماما أو ركب سفينة أو دابة. كما جرت العادة بالركوب على الدواب والمراكب المعدة للكري فإنه يستحق أجرة المثل. فكيف إذا قال: أجرني بكذا؟ فقال: اذهب فاكتب إجارة فكتبها وسلم إليه المكان: فهذه إجارة شرعية عند هؤلاء. وهذا قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم.

والقول الثاني: أنه لا بد من الصفة في ذلك. كما قيل مثل ذلك في البيع. كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي فمن كان يعتقد هذا فعليه ألا يوجب أجرا إلا على هذا الوجه فمن اعتقد أن الأجرة لا تصح إلا على هذا الوجه وأجره على الوجه المعتاد وسلم المكان وطالب بالأجرة المسماة ثم عند الزيادة يدعي عدم الإجارة لم يقبل منه فإن هذا ظلم فإنه إذا التزم مذهبا كان عليه أن يلتزمه له وعليه. وأما أن يكون عند الذي له يعتقد صحة الإجارة وعند الذي عليه يعتقد فسادها فهذا غير مقبول ولا سائغ بإجماع المسلمين. ومن أصر على مثل ذلك فهو ظالم باتفاق المسلمين؛ بل هو فاسق مردود الشهادة والولاية.

سئل عن رجل مستأجر أرضا بجواره

وسئل رحمه الله عن رجل مستأجر أرضا بجواره فلما سافر اشترى إنسان الدار التي بجوار الأرض الذي هو مستأجرها فبناها وأدخلها في داره. فما يجب؟

فأجاب: ليس له أن يستولي على الأرض المستأجرة مع غيرها ولا يدخلها في داره؛ بل هو بذلك غاصب ظالم. والمستأجر بالخيار بين أن يفسخ الإجارة بهذا السبب؛ وتسقط عنه الأجرة. وبين أن يمضي في الإجارة ويطالب الغاصب بأجرة ما انتفع به من الأرض وهو مخير بين أن يبقى بناؤه فيها وبين أن ينزله إن كان مما دخل في عقد إجارته فإن لم يدخل في عقد إجارته لم يتصرف فيها إلا بإذن المالك. والله أعلم.

سئل عن رجل وكل رجلا على أنه يستأجر له

وسئل عن رجل وكل رجلا على أنه يستأجر له ويؤجر عنه ويبيع عنه ويبتاع له. فاستأجر لموكله حصة بقرية مدة معلومة إجارة صحيحة لازمة فقايله مدة الإيجار من غير أن يكون الموكل وكله في المقايلة. فهل هذه المقايلة صحيحة؟ وهل الإيجار باق على أصله الصحيح يستحقه للموكل؟ ويستحق المؤجر الإجارة والحال هذه؟

فأجاب: الحمد لله. إذا تعذر استيفاء المستأجر الأجرة التي يستحقها فله فسخ الإجارة كما إذا تعذر استيفاء المشتري الثمن إذا طلب الفسخ والحال هذه وإجارة المستأجر للوكيل قد كان فعل ما وجب عليه وليس هذا من المقايلة الجائزة التي تفتقر إلى إذن الموكل. والله أعلم.

وسئل عن جماعة بيدهم إقطاع وفي الإقطاع أرض عاطلة وأذنوا لشخص أن يؤجرها؛ فأجرها مدة ثلاثين سنة ولم يشاور الوكيل المقطعين على الثلاثين سنة فهل تجوز هذه الإجارة؟ أم لا؟

فأجاب: لا تصح هذه الإجارة إلا إذا كانت بإذن المقطعين أو ما يقتضي الإذن فيها. فأما مجرد الإذن في الإجارة مطلقا الذي يقتضي في العرف سنة أو سنتين أو نحو ذلك فلا يفهم منه الإذن في هذه المدة الطويلة فلا تصح الإجارة بمجرده.

سئل عن رجل بيده إقطاع يشهد به منشوره

وسئل عن رجل بيده إقطاع يشهد به منشوره وأنه ضمن بعض نواحي الإقطاع لمن يزرعها وينتفع بها مدة معينة ثم انتقل الإقطاع الذي بيده إلى غيره. فهل يصح الإيجار الأول؟ وهل إذا صح يصح الإيجار على المقطع الثاني أو يفسخ؟ وهل للمقطع أن يمنع المؤجرين الانتفاع؟

فأجاب: الحمد لله. نعم يصح الإيجار الأول؛ لكن إن شاء المقطع الثاني أمضاه؛ بل من حين أقطعها صارت له فإن شاء أجرها لذلك المستأجر وإن شاء لم يؤجره. فإن كان للمستأجر فيها زرع أبقاه بأجرة المثل إلى حين كماله وإن لم يكن فيها لا عين ولا منفعة فلا شيء له.

سئل عن رجل له إقطاع فحضر إليه شخص وطلب إيجار الطين

وسئل رحمه الله عن رجل له إقطاع فحضر إليه شخص وطلب إيجار الطين منه فأجره طينه للشخص المذكور من غير أن يكشف طينه وسأل عنه وكان المستأجر ذكر للآخر إن لم تؤجر طينك وإلا يبور فخشي الجندي من بوران الطين فأجره من غير أن يكشف ثم حضر شخص آخر من أهل الناحية وعرف الجندي أن المستأجر استأجر طينك بدون القيمة فإن الشركة طينهم مسجل بأكثر من هذه القيمة. فهل يجوز للجندي أن يفسخ الإجارة المكتبية؟ ويؤجر لغيره بقيمته سنة؟ أم لا؟

فأجاب: الحمد لله. إذا كان المستأجر قد دلس على المؤجر: مثل أن يكون قد أخبره عنه بما ينقص قيمته ولم يكن الأمر كذلك فللمؤجر فسخ الإجارة. وكذلك إن أخبره بأنه ليس هناك من يستأجره وكان له هناك طلاب وأمثال ذلك. والله أعلم.

سئل عن جندي استأجر طينا من أمير

وسئل رحمه الله عن جندي استأجر طينا من أمير وانتقل عن الإقطاع واختار المستأجر الفسخ عن الإجارة وجاء الأمير المستجد وطلب منه التحضير. فهل يلزمه ذلك؟

فأجاب: إذا انتقل الإقطاع إلى آخر انفسخت الإجارة من حين انتقاله؛ فإن المنفعة الحادثة بعد ذلك لم تكن ملكا للأول ولا للثاني. والمقطع إن شاء يؤجر وإن شاء لا يؤجر والمستأجر إن شاء استأجر منه وإن شاء لا يستأجر منه. ليس لواحد منهما إلزام الآخر لا بإجارة ولا له إلزامه بتحضير.

سئل عن رجل استأجر أرضا ثم حدثت مظلمة على البلد

وسئل عن رجل استأجر أرضا ثم حدثت مظلمة على البلد وطلبوا منه أن يغرم في المظلمة. فهل يلزم المستأجر شيء؟ أم لا؟

فأجاب: المظالم لا تلزم هذا ولا هذا. لكن إذا وضعت على الزرع أخذت من رب الزرع وإن وضعت على العقار أخذت من العقار إذا لم يشترط على المستأجر فإذا كان ما اشترط لم يدخل فيما اشترط على المستأجر وقد وضع على العقار دون الزرع أخذت من رب الأرض وإن وضع على الزرع أخذ من المستأجر؛ وإن وضع مطلقا رجع في ذلك إلى العادة في مثله.

سئل عن أمير دخل على بلد وهي مستأجرة لشيخها

وسئل رضي الله عنه عن أمير دخل على بلد وهي مستأجرة لشيخها وبعض الأرض مشغولة بزراعة أقصاب والأقصاب مستمرة في عقد إيجار المستأجر من قبل دخول الأمير على الإقطاع وإلى حين انفصاله. فهل إذا كانت أرض الأقصاب مستمرة في عقد إيجار المستأجر قبل الدخول وإلى حين الخروج يبطل حكم الإيجار؟ أو يستمر حكمه؟

فأجاب: إيجار المقطع للأرض يصح وله أن يؤجرها لمن يزدرعها قصبا وغير قصب. وكذلك للمستأجر منه أن يؤجرها لغيره بحكم ما استأجرها. وإذا مات ذلك المقطع أو أقطع إقطاعه فالمقطع الثاني لا يلزمه إجارة الأول وليس له أن يقلع ما للمستأجر فيها من الزرع والقصب مجانا؛ بل هو مخير إن شاء أن يبقى زرعه وقصبه بأجرة مستأنفة بمثل الأجرة الأولى أو أقل أو أكثر كما يتراضيان به؛ لكن ليس له أن يلزم المستأجر بأكثر من أجرة المثل. وإذا استأجرها صاحب القصب والزرع صحت الإجارة؛ فإنه يتمكن من الانتفاع بها؛ ولو استأجرها غيره جاز على الصحيح وقام غيره فيها مقام المؤجر إن شاء أن يبقى زرعه وقصبه بأجرة المثل وإن شاء أن يؤجره إياها برضاه. والله أعلم.

سئل عمن له قيراط في بلد فأجره لشخص

وسئل رحمه الله عمن له قيراط في بلد فأجره لشخص بمائة إردب وستين إردبا؛ بناقص عن الغير بثمانين إردبا وذلك قبل أن يشمله الري. فهل تصح الإجارة قبل شمول الري؟ وهل له أن يطلب القيمة؟

فأجاب: إذا كانت هذه البلاد مما تروى غالبا صحت إجارتها عند عامة الفقهاء قبل أن يروى؛ وإنما النزاع في مذهب الشافعي. فظاهر مذهبه جواز إجارة ذلك. كمذهب سائر الأئمة. وما يوجد في بعض كتبه من إطلاق العقد قد فسره أئمة مذهبه رضي الله عنهم. وما زالت أرض مصر تؤجر قبل شمول الري في أعصار السلف والأئمة وليس فيهم من أنكر بسبب تأخره. وإذا طلب الزيادة فليس له إلا الأجرة المسماة وإن كان غره فذاك شيء آخر ليبينه السائل حتى يجاب عنه.

سئل عن شخص أجر أرضا جارية في إقطاعه مدة

وسئل عن شخص أجر أرضا جارية في إقطاعه مدة ثم إن المستأجر تسلم الأرض وتسلم المؤجر بعض الأجرة وأخذ ما دفعه من الأجرة إلى المؤجر وقطع الإجارة ثم إنه ذكر بأنه حرث بعض الأرض فألزم المؤجر بأجرة الحراثة. فهل يستحق المؤجر مثل أجرة الحرث بمجرد قول المستأجر؟ أم لا؟ وهل يفسخ المؤجر بغير مستند شرعي؟.

فأجاب: أما إذا كان المستأجر فسخ الإجارة بعد استيلائه على الأرض فإن كانا قد تقايلا الإجارة أو فسخها بحق: فعليه من الأجرة بقدر ما استولى على الأرض وله قيمة حرثه بالمعروف.

سئل عن ناظر وقف أو مال يتيم هل يجوز له أن يسلم المكان

وسئل رحمه الله عن ناظر وقف أو مال يتيم: هل يجوز له أن يسلم المكان من الوقف أو مال اليتيم لمن يسكنه بغير إجارة شرعية؟ وإذا أشهد أحد على نفسه أنه استأجر من مباشر الوقف مكانا معينا مدة معينة بأجرة مسماة وسلم الإجارة للمباشر وتسلم منهم المكان وسكنه مدة وطالبوه بالأجرة المسلمة. فهل للناظر أن يجعل هذه الإجارة لازمة من جهة المستأجر غير لازمة من جهة نفسه ونوابه؟ يمنع بها المستأجر من الخروج إذا أراد الخروج ويطالبه بالأجرة المسماة فيها وتقبل عليه الزيادة متى حصلت ممن زاد عليه وإذا لم يكن ذلك جائزا وأصر الناظر على ذلك: هل يكون ذلك قادحا في عدالته وولايته؟ وهل يجب عليه أن يؤجر الوقف أو مال اليتيم إجارة صحيحة؟ أم لا؟.

فأجاب: ليس له تسليم الوقف ولا مال اليتيم ولا غيرهما مما يتصرف فيه بحكم الولاية إلا بإجارة شرعية لا يجوز تسليمه إليه بإجارة فاسدة؛ بل وكذلك الوكيل مع موكله ليس له أن يسلم ما وكل في إجارته إلا بإجارة شرعية وليس للناظر أن يجعل الإجارة لازمة من جهة المستأجر جائزة من جهة المؤجر فإن هذا خلاف إجماع المسلمين بل إن كان ممن يعتقد صحة الإجارة والبيع ونحوهما بما جرت به العادة - كما هو قول الجمهور - جاز له أن يسلمه بما هو إجارة في العرف وإن كان لا يرى صحة البيع والإجارة ونحوهما إلا باللفظ كان عليه ألا يسلمها إلا إذا أجرها كذلك كان عليه ألا يسلم ما باعه من مال اليتيم وغيره إلا إذا باعه بيعا شرعيا. فمن اعتقد جواز بيع المعاطاة سلمه بهذا البيع. وهذا هو القول الذي عليه جمهور الأئمة وعليه عمل المسلمين من عهد نبيهم وإلى اليوم. ومن كان يعتقد أنه لا يصح بيع وأنه لا بد من الصيغة من الجانبين: لم يكن له مع وجود هذا الاعتقاد أن يسلم مال اليتيم إلا بعقد صحيح كالإجارة والبيع ونحوهما من العقود التي يجوزها الجمهور بدون اللفظ وبعض العلماء لا يجوزها إلا باللفظ: يجب فيها على كل من اعتقد أن يعمل بموجب اعتقاده له وعليه؛ ليس لأحد أن يعتقد أحد القولين فيها له والقول الآخر فيها عليه كمن يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجار. أو إذا كان من الإخوة للأم - في المسألة المشركة الحمارية - يسقط ولد الأبوين وإذا كان هو من الإخوة للأبوين استحق مشاركة ولد الأم وإذا كان هو المدعي قضي له برد اليمين وإذا كان هو الطالب حكم له بشاهد ويمين وأمثال ذلك كثير. فليس لأحد أن يعتقد في مسألة نزاع مثل هذا باتفاق المسلمين. فإن مضمون هذا أن يحلل لنفسه ما يحرمه على مثله ويحرم على مثله ما يحلله لنفسه ويوجب على غيره - الذي هو مثله - ما لا يوجبه على نفسه ويوجب لنفسه على غيره ما لا يوجبه لمثله. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ بل ومن كل دين؛ أن هذا لا يجوز ومن اعتقد جواز هذا فهو كافر؛ بل من اعتقد صحة بيع المعاطاة ونحوه من الإجارات التي يعدها أهل العرف بيعا وإجارة: اعتقد أن هذا العقد صحيح منه ومن غيره. ومن اعتقده باطلا: اعتقده منه ومن غيره. فالمؤجر الناظر إن اعتقد أحد القولين التزمه له وعليه. فإن اعتقد بطلان هذا العقد لم يجز له أن يسلم المؤجر ولا يطالب بالأجرة المسماة ولا (يمنع) المستأجرين من الخروج. وكان بمنزلة من سلم العين إلى الغاصب فما تلف تحت يد المستولي كان عليه ضمانه كما لو سلم ماله بعقد فاسد يعتقد هو فساده وإن اعتقد صحة هذا العقد كان له تسليم العين والمطالبة بالأجرة المسماة ولم يكن له أن يقبل زيادة على المستأجر ولا يخرجه قبل انقضاء الأجرة من غير سبب شرعي يوجب الفسخ. ومتى أصر الناظر على أن يجعله فاسدا بالنسبة إلى المستأجر صحيحا بالنسبة إليه غير لازم بالنسبة إلى المستأجر؛ فإنه ظالم جائر وذلك قادح في ولايته وعدالته. وعليه أن يؤجر ما يؤجره إجارة صحيحة وليس له باتفاق المسلمين أن يؤجر إجارة يعلم أنها غير صحيحة. والله أعلم.

سئل عن رجل عليه حصة وقف وعليه دين لشخص فأجره الضيعة

وسئل رحمه الله عن رجل عليه حصة وقف وعليه دين لشخص فأجره الضيعة وقاصه بدينه المذكور عليه ثلاث سنين وهو شرط مذهب الواقف وعليه دين آخر لرجل آخر فاعتقله في حبس السياسة مدة إلى أن هلك من السجن وحلف أنه ما يخرجه حتى يضمنه الحصة فما وجد من الحبس والتهديد ضمنه الحصة المذكورة وهو ضامن حصة أخرى فاستولى عليها من أول المدة ومدة الإيجار خمس سنين ومبلغ الدين واحد. فهل يعمل بالإيجارة الأولى التي هي شرط الواقف وأغلى قيمة؟ أم بالثانية التي هي كره وإجبار ودون القيمة وغير شرط الواقف؟ وإذا كان قد أخذ منها مغلات يرجع على المستأجر الأول أم لا؟ وإذا كان قد فرغ مدة الأول لمن يكون ولاية الإيجار؟.

فأجاب: الحمد لله. إذا كان قد أجره إجارة صحيحة كانت إجارته تلك المدة أو بعضها قبل انقضاء مدة هذه الإجارة إجارة باطلة سواء كانت باختيار المؤجر أو كان قد أكره عليها وكان هذا المستأجر ظالما بوضع يده عليها واستغلالها وكان للمستأجر الأول الخيار بين أن يفسخ الإجارة وتسقط عنه الأجرة من حين الفسخ وبين أن يضمنها فيؤدي الأجرة ويطالب هذا الظالم بعوض المنفعة.

سئل عن دار وقف على صغير ورجل بالغ وقد أجرها أبو الواقف

وسئل عن دار وقف على صغير ورجل بالغ وقد أجرها أبو الواقف بالإكراه والإجبار من رجل له جاه منذ أربعين سنة. فهل تصح إجارة الأب على ابنه البالغ؟ وقد رآه مكرها وعليه الترسيم فأراد الابن خلاصه من يد الظالم الذي أكره على الإيجار فأشهد على نفسه بإمضاء الإجارة فهل يصح هذا الإشهاد؟ وهل تصح إجارة أربعين سنة؟.

فأجاب: إذا أكره على الإيجار بغير حق أو أكره بغير حق على تنفيذها: لم يصح؛ فإن المكره بغير حق لا يلزم بيعه ولا إجارته ولا إنفاذه باتفاق المسلمين. وأما إجارة الوقف هذه المدة ففيها نزاع بين العلماء كما في مذهب أبي حنيفة والشافعي.

سئل عن أيتام لهم نصيب في ملك فأجره الوصي

وسئل رحمه الله عن أيتام لهم نصيب في ملك فأجره الوصي للشركة مدة ثلاث سنين بدون قيمة المثل. فما الحكم؟.

فأجاب: الحمد لله. متى أجره الوصي بدون أجرة المثل كان ضامنا لما فوته على اليتيم ولم تكن الإجارة لازمة لليتيم بعد رشده؛ بل هي باطلة منفسخة في أحد قولي العلماء. وفي الآخر له أن يفسخها. ثم إن كان المستأجر لم يعلم تحريم ما فعله الوصي كان له أن يضمنه ما لم يلتزم ضمانه وإن علم استقر الضمان عليه؛ بل لو أجره بأجرة المثل. مثل هذه المدة التي يعلم الوصي أنه يبلغ في أثنائها؛ فأكثر العلماء يجوزون لليتيم الفسخ. والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر ثم أحدث بعد حماما بجانب الدار

وسئل عن رجل استأجر ثم أحدث بعد حماما بجانب الدار يحصل من الماء الناموس وزوجته أسقطت من رائحة الدخان. فهل يفسخ الإجارة؟.

فأجاب: إذا لم يكن المستأجر يعلم بأن هذه الحمام إذا أدير يحصل من إدارته الضرر الذي ينقص قيمة المنفعة في العادة فله فسخ الإجارة. والقول قوله في عدم العلم مع يمينه. والله أعلم.

سئل عن إقطاع مسجل تقاوي على المقطع

وسئل عن إقطاع مسجل تقاوي على المقطع كل فدان بثلاثة أرادب وثلاثة دراهم. والبقر من المستأجرين. هل يجوز ذلك؟ أم لا؟.

فأجاب: إذا كانت الضريبة ومؤجرها يؤجرها بها سواء كان الفلاح يقترض أو لم يكن. ولم يرد الضريبة لأجل القوة فهذا جائز؛ فإن القرض لم يجر به منفعة وإن كان بعض العلماء كره ذلك وجعله من القرض الذي يجر منفعة؛ إذ بالقوة يستأجرها الفلاح لكن هذه منفعة للاثنين وإذا لم يزد الأجرة لأجل القوة فقد أحسن. ولا فرق بين أن يسمى إجارة أو مسجلا فالجميع سواء.

سئل عمن استأجر أجيرا يعمل في بستان فترك العمل حتى فسد

وسئل عمن استأجر أجيرا يعمل في بستان فترك العمل حتى فسد بعض البستان. فهل يستحق الأجرة؟ أو يضمن؟ أم لا؟.

فأجاب: لا ريب أنه إذا ترك العمل المشروط عليه لم يستحق الأجرة وإن عمل بعضه أعطي من الأجرة بقدر ما عمل وإذا تلف شيء من المال بسبب تفريطه كان عليه ضمان ما تلف بتفريطه. والتفريط هو ترك ما يجب عليه من غير عذر.

سئل عن دابة أيما أفضل ينقل الناس بلا أجرة أو يأخذ الأجرة ويتصدق بها

وسئل عن دابة: أيما أفضل ينقل الناس بلا أجرة أو يأخذ الأجرة ويتصدق بها؟.

فأجاب: إن كانوا فقراء فتركه لهم أفضل وإن كانوا أغنياء وهنالك محتاج فأخذه لأجل المحتاج أفضل.

سئل عمن أجر أراضي بيت المال لأقوام معينين

وسئل رحمه الله عمن أجر أراضي بيت المال لأقوام معينين في إيجار كل واحد في إجارة قدر معلوم بدرهم معلوم وزرعت الأراضي أنشابا، وأن الأراضي المستأجرة فيها زائد مع المستأجر بخارج عما يشهد به الإيجار؛ فهل يجوز اعتبار الأراضي وإخراج الزائد لبيت المال؟.

فأجاب: ما زرعوه زائدا عما يستحقونه بالإجارة فزرعهم بأجرة المثل فمتى استعملوا الزائد كان عليهم أجرة المثل باتفاق المسلمين. وإن لم يستعملوه: فهل لرب الأرض قلعه بما أنفقوه؟ على قولين مشهورين للعلماء. وإن اختار إبقاءه والمطالبة بأجرة المثل: فله ذلك بالاتفاق.

سئل عمن استأجر مكانا من مباشريه مدة معينة

وسئل رحمه الله عمن استأجر مكانا من مباشريه مدة معينة، بأجرة معينة، ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة. فهل لهم أن يقبلوا عليه زيادة قبل أن تنقضي مدة الإجارة؟

فأجاب:

إن كانت صحيحة فهي لازمة من الطرفين باتفاق المسلمين، وليس للمؤجر أن يخرج المستأجر؛ لأجل زيادة حصلت عليه، والحال هذه، ولا يقبل عليه زيادة والحال هذه، باتفاق الأئمة.

وإن كانت الإجارة فاسدة لم يجز لناظر الوقف أن يمكن المستأجر من تسلم المكان بمثل هذه الإجارة، ولا له أن يمنعه من الخروج إذا أراد، ولا يملك أن يطالبه بالأجرة المسماة في العقد، وكان دخول الناظر في مثل ذلك قادحا في عدالته وولايته؛ فإنه يجب عليه باتفاق الأئمة ألا يؤجر المكان إلا إجارة صحيحة في الشرع، ويجب عليه باتفاق الأئمة إذا أجره كذلك ألا يقبل عليه الزيادة على المستأجر، ولا يخرجه لأجلها.

وأما الذي زاد على المستأجر، فلو زاد عليه بعد ركون المؤجر إلى إجارته، لكان قد سام على سوم أخيه، ولو زاد عليه بعد العقد وإمكان الفسخ، فهو مثل الذي يبيع على بيع أخيه. وكلاهما حرام بنص رسول الله ، وهو مذهب الأئمة الأربعة. فكيف إذا زاد عليه مع وجود الإجارة الشرعية؟ فإن هذا الزائد عاص آثم ظالم، مستحق للتعزير والعقوبة، ومن أعانه على ذلك فقد أعانه على الإثم والعدوان، وإشهاد المستأجر على نفسه دون إشهاد المؤجر لا أثر له في ذلك، فإن العقد لا يفتقر إلى إشهاد، بل يصح بدون الشهادة.

وقول الناظر له: أشهد على نفسك مع إشهاد المستأجر، هو إجارة شرعية، بل بعد قول الناظر له: أشهد على نفسك، ليس لأحد أن يزيد عليه، وعلى الناظر ألا يؤجرها حتي يغلب على ظنه أنه ليس هناك من يزيد عليه، وعليه أن يشهر المكان عند أهل الرغبات الذين جرت العادة باستئجارهم مثل ذلك المكان. فإذا فعل ذلك فقد آجره المثل، وهي الإجارة الشرعية.

فإن حاباه بعض أصدقائه، أو بعض من له عنده يد، أو غيرهم، فأجره بدون أجرة المثل، كان ظالما ضامنا لما نقص أهل الوقف من أجرة المثل. ولو تغيرت أسعار العقار بعد الإجارة الشرعية لم يملك الفسخ بذلك، فإن هذا لا ينضبط، ولا يدخل في التكليف. والمنفعة بالنسبة إلى الزمان قد تكون مختلفة، لا مماثلة؛ فتكون قيمتها في الشتاء أكثر من قيمتها في الصيف، وبالعكس.

ومن استأجره حولا فإنه يحتمل الزيادة في زمان بعض الكري لأجل ما يحصل من ارتفاعه في الزمان الآخر، فليس لأحد أن يزيد عليه من ارتفاع سعر ذلك المكان، ولو قدر أن الإجارة انفسخت في بعض الأزمنة لبسطت القيمة في مثل ذلك بالقيمة، لا بأجزاء الزمان. فيقال: كم قيمته في وقت الصيف؟ ويقسم الأجرة على وقت القيمة، ويحسب لكل زمان من الأجرة بقدر قيمته.

والواجب على الناظر أن يفعل مصلحة الوقف في إجارة المكان مسانهة، أو مشاهرة، أو موايمة. فإن كانت المصلحة أن يؤجره يوما فيوما، وكلما مضي يوم تمكن المستأجر من الإخلاء، والمؤجر من أمره به فعل ذلك. وإن كانت المصلحة أن يؤجره مشاهرة وعند رأس الشهر يتمكن المستأجر من الإخلاء، والمؤجر من أمره به فعل ذلك. وأما إن كانت المصلحة مسانهة، فقد فعل ما عليه، وليس له أن يخرجه قبل انقضاء مدة الإجارة؛ لأجل الزيادة. وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي والإمام أحمد من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث، أو أقل، فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة؛ لا الشافعي، ولا أحمد، ولا غيرهما، لا في الوقف ولا في غيره.

سئل عمن استأجر حانوتا من مباشري الأوقاف

وسئل رحمه الله عمن استأجر حانوتا من مباشري الأوقاف مدة معينة، بأجرة معينة، وتسلم الحانوت، وانتفع به، وقبضوا منه ما استحق لهم من الأجرة، ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة. فهل لهم أن يقبلوا عليه زيادة ممن زاد عليه قبل أن تنقضي مدة إجارته؟ أم لا؟

فأجاب:

ليس لهم أن يقبلوا الزيادة عليه والحال هذه سواء كان هذا وقفا، أو ملك يتيم، أو غير ذلك.

ومن استجاز أن يقبل الزيادة، ولا يمكن المستأجر الخروج إذا أراد، فقد خالف إجماع المسلمين؛ فإن الإجارة إن كانت فاسدة، أو غير جائزة، كان لكل من المؤجر والمستأجر تركها. وإن كانت صحيحة لازمة، لم يكن لواحد منهما فسخها بغير سبب يوجب ذلك؛ لأجل الزيادة ونحوها. فأما أن تجعل جائزة من جانب المؤجر، لازمة من جانب المستأجر، فهذا خلاف إجماع المسلمين.

وأيضا، فإن زعم الناظر أنه لم يؤجر هذا المكان، أو أجره إجارة فاسدة، كان ذلك قادحا في نظره، وعدالته؛ لأنه إقرار منه بأنه يسلم العين الموقوفة إلى من لا يجوز تسليمها اليه، وتمكينه بغير أجرة مسماة؛ ولا نزاع أن الناظر ليس له ذلك.

وأيضا، فإن هذا إقرار منه بأن المستأجر لا تجب عليه الأجرة المسماة؛ وإنما يجب عليه أجرة المثل. وأجرة المثل كثيرا ما تكون دون المسماة، فيكون ذلك إقرارا على نفسه بأنه ضامن لما فوته على أهل الوقف. ولو ادعي الناظر أن الإجارة كانت فاسدة، وادعي المستأجر أنها صحيحة لكان القول قول من يدعي الصحة؛ إذ الأصل في عقود المسلمين الصحة. والله أعلم.

سئل عن رجل وزان بالقبان

وسئل رضي الله عنه عن رجل وزان بالقبان، ويأخذ أجرته ممن يزن له. فهل يجوز له ذلك؟ وهل الأجرة حلال أم حرام؟

فأجاب:

الحمد لله، الوزن بالقبان الصحيح كالوزن بسائر الموازين، إذا وزن الوازن بهذه الآلات الصحيحة بالقسط جاز وزنه، وإن كانت الآلة فاسدة، والوازن باخسا كان من الظالمين المعتدين، وإذا وزن بالعدل، وأخذ أجرته ممن عليه الوزن، جاز ذلك.

سئل عن رجل يختم القماش وهو ساكن عنده رجل

وسئل عن رجل يختم القماش، وهو ساكن عنده رجل، فإذا ادعي الرجل أن الأجرة من غير كسبه. هل يجوز أن يأخذها؟

فأجاب:

أما إذا كان له جهة أخرى حلال، وذكر أنه يعطي الأجرة منها، وغلب على الظن صدقه أن يأخذ، وإن لم يغلب على الظن كذبه، جاز تصديقه في ذلك، إذا لم يعرف كذبه.

سئل عن أجرة الحجام هل هي حرام

وسئل رحمه الله عن أجرة الحجام. هل هي حرام؟ وهل ينجس ما يصنعه بيده للمأكل؟ وهل النبي أعطي الحجام أجره؟ وما جاء فيه من التحريم؟ وهل ورد في الحديث عن النبي أنه قال: (شفاء أمتي في ثلاث: آية من كتاب الله، أو لعقة من عسل، أو كأس من حجام)، فكيف حرم هذا، ووصف بالتداوي هنا، وجعله شفاء؟

فأجاب:

الحمد لله، أما يده إذا لم يكن فيها نجاسة، فهي كسائر أيدي المسلمين، ولا يضرها تلويثها بالدم إذا غسلها، كما لا يضرها تلوثها بالخبث حال الاستنجاء إذا غسلها بعد ذلك.

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله ، وأعطي الحجام أجره. ولو كان سحتا لم يعطه إياه. وفي الصحيحين عن أنس

سئل عن كسب الحجام

وسئل عن كسب الحجام قال: احتجم رسول الله ، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فخففوا عنه. ولا ريب أن الحجام إذا حجم يستحق أجرة حجمه، عند جماهير العلماء، وإن كان فيه قول ضعيف بخلاف ذلك.

وقد أرخص النبي له أن يعلفه ناضحه، ويطعمه رقيقه، كما في حديث محصن أن أباه استأذن رسول الله في خراج الحجام، فأبى أن يأذن له، فلم يزل به حتي قال: (أطعمه رقيقك، واعلفه ناضحك) رواه أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، وغيره.

واحتج بهذا أكثر العلماء أنه لا يحرم، وإنما يكره للحر تنزيها. قالوا: لو كان حراما لما أمره أن يطعمه رقيقه ؛ لأنهم متعبدون، ومن المحال أن يأذن النبي أن يطعم رقيقه حراما.

ومنهم من قال: بل يحرم؛ لما روي مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج رضي الله عنهما أن رسول الله قال: (كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث) وفي الصحيحين عن ابن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك؟ فقال: إن رسول الله نهى عن ثمن الدم. قال هؤلاء: فتسميته خبيثا يقتضي تحريمه، كتحريم مهر البغي، وحلوان الكاهن.

قال الأولون: قد ثبت عنه أنه قال: (من أكل من هذين الشجرتين الخبيثتين، فلا يقربن مسجدنا) فسماهما خبيثتين، بخبث ريحهما، وليستا حرامًا. وقال: (لا يصلين أحدكم، وهو يدافع الأخبثين) أي: البول، والغائط. فيكون تسميته خبيثًا لملاقاة صاحبه النجاسة؛ لا لتحريمه؛ بدليل أنه أعطي الحجَّام أجره، وأذن له أن يطعمه الرقيق، والبهائم. ومهر البغي، وحلوان الكاهن، لا يستحقه، ولا يطعم منه رقيق، ولا بهيمة. وبكل حال فحال المحتاج اليه ليست كحال المستغني عنه، كما قال السلف: كسب فيه بعض الدناءة خير من مسألة الناس.

ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونحوه، كان فيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد، وغيره: أعدلها أنه يباح للمحتاج. قال أحمد: أجرة التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان.

وأصول الشريعة كلها مبنية على هذا الأصل: أنه يفرق في المنهيات بين المحتاج وغيره، كما في المأمورات؛ ولهذا أبيحت المحرمات عند الضرورة، لاسيما إذا قدر أنه يعدل عن ذلك إلى سؤال الناس. فالمسألة أشد تحريما؛ ولهذا قال العلماء: يجب أداء الواجبات، وإن لم تحصل إلا بالشبهات، كما ذكر أبو طالب، وأبو حامد: أن الإمام أحمد سأله رجل، قال: إن ابنا لي مات، وعليه دين، وله ديون أكره تقاضيها. فقال له الإمام أحمد: أتدع ذمة ابنك مرتهنة؟ يقول: قضاء الدين واجب، وترك الشبهة لأداء الواجب هو المأمور.

ولهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة، وتنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة، وأصل ذلك في كتاب الله في قوله في ولي اليتيم: { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } 5 فهكذا يقال في نظائر هذا؛ إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين، وإن حصل أدناهما. وقد جاء في الحجامة أحاديث كثيرة. وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: (شفاء أمتي في ثلاث: شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي) والتداوي بالحجامة جائز بالسنة المتواترة وباتفاق العلماء.

سئل عن امرأة منقطعة أرملة ولها مصاغ قليل تكريه وتأكل كراه

وسئل عن امرأة منقطعة أرملة، ولها مصاغ قليل تكريه، وتأكل كراه. فهل هو حلال؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذا جائز عند أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما من أهل العلم. وقد كرهه مالك وأحمد، وأصحاب مالك، وكثير من أصحاب أحمد. وهذه كراهة تنزيه، لا كراهة تحريم.

وهذا إذا كانت بجنسه، وأما بغير جنسه فلا بأس. فهذه المرأة إذا أكرته وأكلت كراه لحاجتها لم تنه عن ذلك، لكن عليها الزكاة عند أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، والإمام أحمد.

وهذا إن أكرته لمن تزين لزوجها، أو سيدها، أو لمن يحضر به حضورا مباحا، مثل أن يحضر عرسا يجوز حضوره.

فأما إن أكرته لمن تزين به للرجال الأجانب، فهذا لا يجوز. وأما إن أكرته لمن تزين به لفعل الفاحشة، فهذا أعظم من أن تسأل عنه. قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } 6.

ولا يجوز أن يعان أحد على الفاحشة، ولا غيرها من المعاصي؛ لا بحلية، ولا لباس، ولا مسكن، ولا دابة، ولا غير ذلك؛ لا بكري، ولا بغيره. والله أعلم.

سئل عن الشماعين الذين يكرون الشمع

وسئل رحمه الله عن الشماعين الذين يكرون الشمع، ثم إنهم يزنونه أولا، فإذا رجع وزنوه ثانيا، وأخذوا نقصه. فهل يكره ذلك؟ وإذا كسر الشمع، فهل يلزم الذي اكتراه؟ أم لا؟

فأجاب:

أما الشمع إذا أعطاه لمن يوقده، وقال: كلما نقص منه أوقية بكذا، فإن هذا جائز. وليس هذا من

باب الإجارات، ولا

باب البيع اللازم؛ فإن البيع اللازم لابد أن يكون المبيع فيه معلوما؛ بل هذا معاوضة جائزة، لا لازمة، كما لو قال: اسكن في هذه الدار كل يوم بدرهم، ولم يوقف أجلا، فإن هذا جائز في أظهر قولي العلماء.

فمسألة الأعيان نظير هذه المسألة في المنافع، وهو إذن في الإتلاف على وجه الانتفاع بعوض، كما لو قال: ألق متاعك في البحر وعلى ثمنه؛ فإن هذا جائز بلا ريب؛ لأن ذلك مما ينتفع به ملتزم الثمن للتخفيف، كما ينتفع بلزوم الثمن هنا، فإيقاد الشمع بالكراء جائز إذا علم توقيده؛ لكن لابد أن يكون الإيقاد في أمر مباح، لا محظور.

سئل عن زركشي استعمل عنده منديل

وسئل رحمه الله عن زركشي استعمل عنده منديل، فلما فرغ أذنوا له في غسله، فعدت عليه أمة الصانع في صقل الذهب، فتقرض المنديل. فهل يجب عليه غرامة المنديل؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا كانت الأمة قد جنت على المنديل، فالجناية تتعلق برقبتها، فعلى مالكها إما أرش الجناية، وإما تسليمها لتستوفي الجناية من رقبتها، وسواء كانت الجناية منها، أو من سيدها، أو غيرهما، فليس على الجاني ما أنفقوا على المنديل، وليس به هذا القرض، ويقوم به بعد حصوله، فيضمنون ما نقصت القيمة، وإن تراضوا بأن يأخذ الصانع المنديل، ويعطيهم قيمته التي تساوي في السوق قبل القرض جاز ذلك، وليس عليه أن يعطيهم جديدا خيرا منه.

سئل عن إجارة الجواميس

وسئل رحمه الله عن إجارة الجواميس، يستأجرها عاما واحدا مطلقا، وغرضه لبنها، ويستعملها لذلك. وإنما جعلوه مطلقا أنه يستعملها والقصد اللبن. والغنم أيضا هل تجوز إجارتها للبن؟ وهل يجوز أن تعطي لمن يرعاها بصوفها ولبنها؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والعلماء، وكذلك في اشتراء اللبن مدة، مقدارا معينا من ذلك اللبن، يأخذه أقساطا من هذه الماشية. والمنع من ذلك هو المعروف في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.

قال هؤلاء: هذا بيع ما لم ير، ولم يوصف، بل بيع معدوم لم يوجد. والإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان، وهذه أعيان.

وقال هؤلاء: إجارة الظئر للرضاع على خلاف القياس، جازت للحاجة. وتنازع هؤلاء في هذه الإجارة. فقيل: إن المعقود عليه هو الخدمة، والرضاع تابع، وهذا قول ابن عقيل وغيره. وقيل: بل المعقود عليه هو المقصود بالعقد، وهو اللبن. وهو قول القاضي أبي يعلى، وغيره.

وأما الرخصة في ذلك في الجملة، فهو مذهب مالك، وغيره. وهؤلاء قد يسمون إجارة الظئر للرضاع تبعا للبن؛ لأن الظئر تبع اللبن الذي لم يخلق بعد؛ بناء على أنه عقد على الأعيان، والعقد على العين هو من باب البيوع. والنزاع في ذلك لفظي؛ فإنها داخلة في مسمي البيع العام، المتناول للأعيان والمنافع، والموجود والمعدوم، وليست داخلة في مسمي البيع الخاص، الذي يختص بالموجود من الأعيان.

وكذلك السلف تنازعوا: هل هو من البيع؟ على القولين. وهل يكون بلفظ البيع سلفا؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره. حتي قال من لم يجعله بيعا: إن السلف الحال يجوز بلفظ البيع، دون لفظ السلم. والصحيح أن العقود إنما يعتبر فيها معانيها لا بمجرد اللفظ.

والصواب: أن الإجارة المسؤول عنها جائزة؛ فإن الأدلة الشرعية الدالة على الجواز بعوضها ومقايستها تتناول هذه الإجارة، وليس من الأدلة ما ينفي ذلك؛ فإن قول القائل: إن إجارة الظئر على خلاف القياس؛ كلام فاسد. فإنه ليس في كتاب الله إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا هذه الإجارة، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } 7، وقال: { وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } 8، والسنة وإجماع الأمة دلا على جوازها وإنما تكون مخالفة للقياس لو عارضها قياس نص آخر، وليس في سائر النصوص وأقيستها ما يناقض هذه.

وقول القائل: الإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان، ليس هو قول لله، ولا لرسوله، ولا الصحابة، ولا الأئمة؛ وإنما هو قول قالته طائفة من الناس.

فيقال لهؤلاء: لا نسلم أن الإجارة لا تكون إلا على المنافع فقط؛ بل الإجارة تكون على ما يتجدد ويحدث ويستخلف بدله، مع بقاء العين، كمياه البئر، وغير ذلك، سواء كان عينا أو منفعة، كما أن الموقوف يكون ما يتجدد، وما تحدث فائدته شيئا بعد شيء، سواء كانت الفائدة منفعة، أو عينا؛ كالتمر واللبن، والماء النابع.

وكذلك العارية. وهو عما يكون الانتفاع بما يحدث، ويستخلف بدله. يقال: أفقر الظهر، وأعري النخلة، ومنح الناقة، فإذا منحه الناقة يشرب لبنها ثم يردها، أو أعراه نخلة يأكل ثمرها، ثم يردها، وهو مثل أن يفقره ظهرا يركبه، ثم يرده.

وكذلك إكراء المرأة أو طير، أو ناقة، أو بقرة، أو شاة يشرب لبنها مدة معلومة، فهو مثل أن يكون دابة يركب ظهرها مدة معلومة.

وإذا تغيرت العادة في ذلك، كان تغير العادة في المنفعة يملك المستأجر؛ إما الفسخ، وإما الأرش. وكذلك إذا أكراه حديقة يستعملها حولا، أو حولين، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين، وأخذ المال وقضي به دينا كان عليه.

وإذا كان المستأجر هو الذي يقوم على هذه الدواب، فهو إجارة، وهو أولي بالجواز من إجارة الظئر.

وأما إذا كان صاحب الماشية هو الذي يعلفها ويسقيها ويؤويها، وطالب اللبن لا يعرف إلا لبنها، وقد استأجرها ترضع سخالا له، فهو مثل إجارة الظئر. وإذا كان ليأخذ اللبن هو فهو يشبه إجارة الظئر، للرضاع المطلق، لا لإرضاع طفل معين. وهذا قد يسمي بيعا، ويسمي إجارة. وهو نزاع لفظي.

وإذا قيل: هو بيع معدوم. قيل: نعم، وليس في أصول الشرع ما ينهي عن بيع كل معدوم، بل المعدوم الذي يحتاج إلى بيعه، وهو معروف في العادة، يجوز بيعه، كما يجوز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها؛ فإن ذلك يصح عند جمهور العلماء، كما دلت عليه السنة، مع أن الأجزاء التي تخلق بعد معدومة، وقد دخلت في العقد. وكذلك يجوز بيع المقاثي وغيرها على هذا القول. والله أعلم. والحمد لله.

سئل عن مريض طلب من رجل أن يطببه وينفق عليه

وسئل عن مريض طلب من رجل أن يطببه، وينفق عليه ففعل. فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة؟

فأجاب:

إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا، أو عرفا، فله المطالبة بالعوض. والله أعلم.

سئل عن رجل ضرير كتبت عليه إجارة فهل تصح إجارته

وسئل عن رجل ضرير كتبت عليه إجارة. فهل تصح إجارته؟

فأجاب:

يصح استئجار الأعمى، واشتراؤه عند جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد في المشهور عنه. ولابد أن يوصف له المبيع، والمستأجر. فإن وجده بخلاف الصفة، فله الفسخ.

سئل عن رجل ليس له ما يكفيه وهو يصلي بالأجرة

وسئل رحمه الله عن رجل ليس له ما يكفيه، وهو يصلي بالأجرة. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟

فأجاب:

الاستئجار على الإمامة لا يجوز في المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، والإمام أحمد.

وقيل: يجوز، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وقول في مذهب مالك. والخلاف في الأذان أيضا، لكن المشهور من مذهب مالك أن الاستئجار يجوز على الأذان وعلى الإمامة معه، لا منفردة. وفي الاستئجار على هذا ونحوه كالتعليم، قول ثالث في مذهب أحمد، وغيره: أنه يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة. والله أعلم.

سئل عن رجل توفي وأوصى أن يصلى عنه بدراهم

وسئل رحمه الله عن رجل توفي وأوصى أن يصلى عنه بدراهم؟

فأجاب:

صلاة الفرض لا يفعلها أحد عن أحد لا بأجرة، ولا بغير أجرة، باتفاق الأئمة، بل لا يجوز أن يستأجر أحدا ليصلي عنه نافلة باتفاق الأئمة؛ لا في حياته، ولا في مماته. فكيف من يستأجر ليصلي عنه فريضة.

وإنما تنازع العلماء فيما إذا صلى نافلة بلا أجرة، وأهدي ثوابها إلى الميت. هل ينفعه ذلك؟ فيه قولان للعلماء.

ولو نذر الميت أن يصلي فمات. فهل تفعل عنه الصلاة المنذورة؟ على قولين، هما روايتان عن الإمام أحمد.

لكن هذه الدراهم التي أوصى بها يتصدق بها عنه، ويخص بالصدقة أهل الصلاة، فيكون للميت أجر. وكل صلاة يصلونها، ويستعينون عليها بصدقته، يكون له منها نصيب من غير أن ينقص من أجر المصلي شيء، كما قال النبي : (من فطر صائما فله مثل أجره)، وقال: (من جهز غازيا فقد غزا).

سئل عن رجل من أهل العلم قصد لأن يقرأ عليه شيء من الأحاديث

وسئل رحمه الله عن رجل من أهل العلم، قصد لأن يقرأ عليه شيء من أحاديث رسول الله ، وغيرها من العلوم الشرعية، فامتنع من إقرائها إلا بأجرة. فقيل له: قد روي من هدي السلف وأئمة الهدي تعليم العلم ابتغاء لوجه الله الكريم ما لا خفاء به على عاقل، وهذا مما لا ينبغي. فقال: أقرئ العلم بغير أجرة؟ يحرم على ذلك، فكلامه صحيح؟ أم باطل؟ وهل هو جاهل بقوله: إنه معذور. وهل يجوز له أخذ الأجرة على تعليم العلم النافع؟ أم يكره له ذلك؟

فأجاب:

الحمد لله، أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا مما يخفي على أحد ممن نشأ بديار الإسلام. والصحابة والتابعون وتابعو التابعين، وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه، إنما كانوا يعلمون بغير أجرة، ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلا.

(فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر). والأنبياء صلوات الله عليهم إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة، كما قال نوح عليه السلام: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا على رَبِّ الْعَالَمِينَ } 9، وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم. وكذلك قال خاتم الرسل: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } 10، وقال: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا } 11.

وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنه عمل صالح، فضلا عن أن يكون جائزا، بل هو من فروض الكفاية؛ فإن تعليم العلم الذي بينه فرض على الكفاية، كما قال النبي في الحديث الصحيح: (بلغوا عني ولو آية) وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب).

وإنما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن، والحديث والفقه. على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد.

إحداهما وهو مذهب أبي حنيفة وغيره: أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك.

والثانية وهو قول الشافعي: أنه يجوز الاستئجار.

وفيها قول ثالث في مذهب أحمد: أنه يجوز مع الحاجة؛ دون الغني، كما قال تعالى في ولي اليتيم: { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } 12.

ويجوز أن يعطي هؤلاء من مال المسلمين على التعليم، كما يعطي الأئمة والمؤذنون والقضاة، وذلك جائز مع الحاجة.

وهل يجوز الارتزاق مع الغنى؟ على قولين للعلماء. فلم يقل أحد من المسلمين: إن عمل هذه الأعمال بغير أجر لا يجوز.

ومن قال: إن ذلك لا يجوز؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لكن إن أراد أنه فقير متي عَلَّم بغير أجر عجز عن الكسب لعياله، والكسب لعياله واجب عليه، متعين، فلا يجوز له ترك الواجب المتعين، لغير متعين، واعتقد مع ذلك جواز التعليم بالأجرة مع الحاجة، أو مطلقا؛ فهذا متأول في قوله، لا يكفر بذلك، ولا يفسق باتفاق الأئمة؛ بل إما أن يكون مصيبا أو مخطئا.

ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع: أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن، والحديث، والفقه، والإمامة، والأذان؛ لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إلا مسلم، بخلاف النفع الذي يفعله المسلم والكافر؛ كالبناء، والخياط، والنسج، ونحو ذلك. وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقي مستحقا بالعوض، معمولا لأجله. والعمل إذا عمل للعوض لم يبق عبادة؛ كالصناعات التي تعمل بالأجرة.

فمن قال: لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال، قال: إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله، كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله، والاستئجار يخرجها عن ذلك.

ومن جوز ذلك قال: إنه نفع يصل إلى المستأجر، فجاز أخذ الأجرة عليه؛ كسائر المنافع. قال: وإذا كانت العبادة في هذه الحال، لا تقع على وجه العبادة، فيجوز إيقاعها على وجه العبادة، وغير وجه العبادة؛ لما فيها من النفع.

ومن فرق بين المحتاج وغيره وهو أقرب قال: المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة؛ فإن الكسب على العيال واجب أيضا، فيؤدي الواجبات بهذا؛ بخلاف الغني؛ لأنه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله؛ بل إذا كان الله قد أغناه، وهذا فرض على الكفاية، كان هو مخاطبا به، وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا. والله أعلم.

سئل عمن اكترى دارا لمرضاة نفسه هل يجوز له أن يكري

وسئل رحمه الله عمن اكترى دارا لمرضاة نفسه. هل يجوز له أن يكري؟

فأجاب:

إن اكترى منفعة لفعل محرم؛ مثل الغناء والزنا وشهادة الزور، وقتل المعصوم، كان كراه محرما. وكذلك إن أكراها لفعل ما وجب عليه، مثل أن يتعين عليه شهادة بحق، أو فتيا في مسألة، أو قضاء في حكومة، أو جهاد متعين، فإن هذا الكري لا يجوز. وإن كان لفعل يختص بأهل القربات؛ كالكري لإقراء القرآن، والعلم، والإمامة، والأذان، والحج عن غيره والجهاد الذي لم يتعين، فهذا فيه خلاف بين العلماء. وإن كان الكري لعمل؛ كالخياطة، والنجارة، والبناء، جاز بالاتفاق.

فصل في الاستئجار على منفعة محرمة

وقال رحمه الله:

الاستئجار على منفعة محرمة؛ كالزنا، واللواط، والغناء، وحمل الخمر، وغير ذلك، باطل، لكن إذا استوفي تلك المنفعة ومنع العامل أجرته كان غدرا وظلما أيضا.

وقد استوفيت مسألة الاستئجار لحمل الخمر في كتاب (الصراط المستقيم) وبينت أن الصواب منصوص أحمد: أنه يقضي له بالأجرة، وأنها لا تطيب له؛ إما كراهة تنزيه، أو تحريم، لكن هذه المسألة فيما كان جنسه مباحا؛ كالحمل، بخلاف الزنا. ولا ريب أن مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، والحاكم يقضي بعقوبة المستأجر المستوفي للمنفعة المحرمة فتكون عقوبته له عوضا عن الأجر.

فأما فيما بينه وبين الله، فهل ينبغي له أن يعطيه ذلك؟ وإن كان لا يحل الأخذ لحق الله. فهذا متقوم. وإن لم يجب عليه ذلك كان في ذلك درك لحاجته؛ أنه يفعل المحرم، ويعذر، ولا يعاقبه في الآخرة إلا على فعل المحرم، لا على الغدر والظلم.

وهذا البحث يتصل بالبحث في أحكام سائر العقود الفاسدة، وقبوضها.

سئل عمن استعمل كتابا مذهبا مكتوبا

وسئل رحمه الله عمن استعمل كتابا مذهبا مكتوبا، وأعطي أجرته، وتسلمه الذي استعمله وجلده، وغاب به أربعين يوما، ثم أتي به إلى الصانع الذي تولي كتابته وتذهيبه، وقال له: أعطني ما تسلمته مني من الأجرة، فإني واسطة. فهل يجوز له أن يكرهه على رده؟ وإعادة ما أعطاه من الأجرة؟

فأجاب:

إذا استأجره لعمل من الأعمال التي تجوز الإجارة عليها، وأعطاه أجرته، مع توفية المستأجر عمله، لم يجب عليه أن يرد عليه الأجرة، بل إن لم يسم موكله في عقد الإجارة كان ضامنا للأجرة بلا ريب. وإن سماه، فهل يكون ضامنا للأجرة؟ على قولين، هما روايتان عن الإمام أحمد.

فلو لم يعطه الأجرة كان للأجير أن يطالبه بها، فكيف إذا أعطاه إياها؟ بل إن كان أعطي الأجرة من مال موكله، وإلا فللوكيل مطالبة الموكل بالأجرة التي أداها عنه. والله أعلم.

سئل عن إنسان جاءه سائل في صورة مشبب

وسئل رحمه الله عن إنسان جاءه سائل في صورة مشبب، فشبب، فأعطاه شيئا، فكان إنسان حاضرا فقال للمعطي: تحرم عليه هذه العطية على هذه الصورة؛ لكون الشبابة وسيلة. فقال: ما أعطيته إلا لكونه فقيرا. وبعد هذا لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا؛ فإنه قد أباح بعضهم سماع الشبابة، واستدل على ذلك بأن النبي عبر على راع، ومعه ابن عباس، أو غيره، وكان الراعي يشبب، فسد النبي أذنيه بأصبعيه، وصار يسأل الذي كان معه: (هل تسمع صوت الشبابة؟) فما زال كذلك، حتي أخبره أنه لم يسمعها، ففتح أذنيه. وقال: لو كان سماع الشبابة حراما ؛ لأمر النبي لمن كان معه بسد أذنيه، كما فعل، أو نهي الراعي عن التشبيب، وهذا دليل الإباحة في حق غير الأنبياء. فهل هذا الخبر صحيح؟ وهل هذا الدليل موافق للسنة أم لا؟

فأجاب:

أما نقل هذا الخبر عن ابن عباس فباطل، لكن قد رواه أبو داود في السنن أنه كان مع ابن عمر، فمر براع معه زمارة، فجعل يقول: أتسمع يا نافع؟ فلما أخبره أنه لا يسمع رفع أصبعيه من أذنيه، وأخبره أنه كان مع النبي ، ففعل مثل ذلك، وقال أبو داود لما روي هذا الحديث: هذا حديث منكر. وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة، يصدق بعضها بعضا.

فإن كان ثابتا فلا حجة فيه لمن أباح الشبابة، لاسيما ومذهب الأئمة الأربعة أن الشبابة حرام. ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة إلا متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي؛ فإنهم ذكروا فيها وجهين. وأما العراقيون وهم أعلم بمذهبه فقطعوا بالتحريم، كما قطع به سائر المذاهب. وبكل حال فهذا وجه ضعيف في مذهبه. وقد قال الشافعي: الغناء مكروه، يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وقال أيضا: خلفت في بغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن. وآلات الملاهي لا يجوز اتخاذها، ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة.

فهذا الحديث إن كان ثابتا فلا حجة فيه على إباحة الشبابة، بل هو على النهي عنها أولي من وجوه:

أحدها: أن المحرم هو الاستماع لا السماع، فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازا بطريق، فسمع ذلك لم يأثم بذلك، باتفاق المسلمين. ولو جلس واستمع إلى ذلك، ولم ينكره لا بقلبه، ولا بلسانه، ولا يده، كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالى { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } 13، وقال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } 14، فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل.

ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب. وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها. فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه؛ لقول النبي : (من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

فلو كان الرجل مارًا فسمع القرآن من غير أن يستمع إليه لم يؤجر على ذلك؛ وإنما يؤجر على الاستماع الذي يقصد، كما قال تعالى: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 15، وقال لموسي: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } 16.

فإذا عرف أن الأمر والنهى والوعد والوعيد يتعلق بالاستماع، لا بالسماع، فالنبي وابن عمر كان مارًا مجتازًا لم يكن مستمعًا، وكذلك كان ابن عمر مع النبي ، ونافع مع ابن عمر، كان سامعا لا مستمعا، فلم يكن عليه سد أذنه.

الوجه الثاني: أنه إنما سد النبي أذنيه مبالغة في التحفظ، حتى لا يسمع أصلا. فتبين بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع، وإن لم يكن في السماع إثم، ولو كان الصوت مباحا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح؛ بل سد أذنيه لئلا يسمعه، وإن لم يكن السماع محرمًا دل على أن الامتناع من الاستماع أولى. فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الإذن فيه.

الوجه الثالث: أنه لو قدر أن الاستماع لا يجوز، فلو سد هو ورفيقه آذانهما لم يعرفا متي ينقطع الصوت، فيترك المتبوع سد أذنيه.

الرابع: أنه لم يعلم أن الرفيق كان بالغا، أو كان صغيرا دون البلوغ. والصبيان يرخص لهم في اللعب، ما لا يرخص فيه للبالغ.

الخامس: أن زمارة الراعي ليست مطربة؛ كالشبابة التي يصنع غير الراعي، فلو قدر الإذن فيها لم يلزم الإذن في الموصوف، وما يتبعه من الأصوات التي تفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس

السادس: أنه قد ذكر ابن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجارة الغناء، والنوح، فقال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة، والمغنية، كره ذلك الشعبي، والنخعي، ومالك. وقال أبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد: لا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح، وبه نقول.

فإذا كان قد ذكر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم على إبطال إجارة النائحة، والمغنية. والغناء للنساء في العرس والفرح جائز. وهو للرجل؛ إما محرم، وإما مكروه. وقد رخص فيه بعضهم، فكيف بالشبابة التي لم يبحها أحد من العلماء؛ لا للرجال، ولا للنساء؛ لا في العرس ولا في غيره؟ وإنما يبيحها من ليس من الأئمة المتبوعين المشهورين بالإمامة في الدين.

فقول القائل: لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا. قول باطل، مخالف لمذاهب أئمة المسلمين، لو كان التشبيب من الباطل المباح، فكيف وهو من الباطل المنهى عنه، وهذا يظهر بالوجه السابع:

وهو أنه ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه. ألا تري أن في الحديث المشهور عن النبي أنه قال: (لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل) فقد نهى عن السبق في غير هذه الثلاثة. ومع هذا فالمصارعة قد تجوز، كما صارع النبي ركانة بن عبد يزيد. وتجوز المسابقة بالأقدام، كما سابق النبي عائشة، وكما أذن لسلمة بن الأكوع في المسابقة في غزوة الغابة، وذي قرد. وقد قال النبي : (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبة امرأته، فإنهن من الحق) وهذا اللهو الباطل من أكل المال به كان أكلا بالباطل، ومع هذا فيرخص فيه كما يرخص للصغار في اللعب، وكما كان صغيرتان من الأنصار تغنيان أيام العيد في بيت عائشة، والنبي ؟ لا يستمع إليهن، ولا ينهاهن. ولما قال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله قال النبي : (دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدًا، وإن هذا عيدنا) فدل بذلك على أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، وإن كان الرجال لا يفعلون ذلك. ولا يبذل المال في الباطل.

فقد تبين أن المستدل بهذا الحديث على جواز ذلك، وجواز إعطاء الأجرة عليه مخطئ من هذه الوجوه، لو كان الحديث صحيحا، فكيف وفيه ما فيه؟

فصل إذا آجر الأرض أو الرباع

وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

وإذا آجر الأرض أو الرباع؛ كالدور، والحوانيت، والفنادق، وغيرها. كانت إيجارة لازمة من الطرفين، لا تكون لازمة من أحد الطرفين، جائزة من الطرف الآخر، بل إما أن تكون لازمة منهما، أو تكون جائزة غير لازمة منهما، عند كثير من العلماء.

كما لو استكراه كل يوم بدرهم، ولم يوقت أجلا، فهذه الإجارة جائزة غير لازمة، في أحد قولي العلماء. فكلما سكن يومًا لزمته أجرته، وله أن يسكن اليوم الثاني، وللمؤجر أن يمنعه سكني اليوم الثاني.

وكذلك إذا كان أجر الشهر بكذا، أو كل سنة بكذا، ولم يؤجلا أجلاً.

وأما إذا كانت لازمة من الطرفين، فإذا كان المستأجر لا يمكنه الخروج قبل انقضاء المدة، لم يكن للمؤجر أن يخرجه قبل انقضاء المدة، لا لأجل زيادة حصلت عليه في أثناء المدة، ولا لغير زيادة، سواء كانت العين وقفًا، أو طلقا. وسواء كانت ليتيم أو لغير يتيم. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم من أئمة المسلمين، لم يقل أحد من الأئمة: إن الإجارة المطلقة تكون لازمة من جانب المستأجر، غير لازمة من جانب المؤجر؛ في وقف، أو مال يتيم، ولا غيرهما. وإن شذ بعض المتأخرين فحكى نزاعا في بعض ذلك، فذلك مسبوق باتفاق الأئمة قبله. والله تعالى قد أمر بالوفاء بالعقود، وأمر بالوفاء بالعهد، وقال النبي : (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته) وقال: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

وإذا قال الناظر للطالب: اكتب عليك إجارة، واسكن، فقد أجره. فإن لم يكن أجره لم يحل له أن يسلم إليه العين، فإنه يكون قد سلم الوقف ومال اليتيم إلى ما لا يجوز تسليمه، فيكون ظالمًا ضامنا. ولو لم يستأجر لكان له أن يخرج إذا شاء، ولكان غاصبا لا تجب عليه الأجرة المسماة، بل أجرة المثل لما انتفع به في أحد قولي العلماء. وعلى قول من لا يضمن منافع الغصب لا يجب عليه شيء.

وغاية ما يقال: إنه قبضها بإجارة فاسدة، ولو كان كذلك لكان له أن يخرج إذا شاء، بل كان يجب عليه أن يرد العين على المؤجر؛ كالمقبوض بالعقد الفاسد، بل يجب عليه المسمي، أو أجرة المثل، في أحد قولي العلماء. وفي الآخر يجب أقل الأمرين من المسمي أو أجرة المثل. فلا يجوز قبول الزيادة، لا في وقف، أو مال يتيم، وغيرهما، إلا حيث لا تكون الإجارة لازمة، وذلك حيث يكون المستأجر متمكنا من الخروج، ورد العقار إليهم إذا شاء، وهو الذي يسميه العامة الإخلاء، والإغلاق.

فإذا كان متمكنا من الإخلاء والإغلاق، كان المؤجر أيضا متمكنًا من أن يخرجه، ويؤجره لغيره، وإن لم يقع عليه زيادة، ويجب أن يعمل ما يراه من المصلحة.

سئل عن ضمان البساتين والأرض التي فيها النخل

وسئل رحمه الله عن ضمان البساتين والأرض التي فيها النخل، أو الشجر غير النخل، قبل أن يبدو صلاحه. هل يجوز ضمان السنة، أو السنتين؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال؛ بناء على أن هذا داخل فيما نهى عنه رسول الله من بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فلا يجوز كما لا يجوز في غير الضمان؛ مثل أن يشتري ثمرة مجردة بعد ظهورها، وقبل بدو صلاحها؛ بحيث يكون على البائع مؤنة سقيها وخدمتها إلى كمال الصلاح. وهذا القول هو المعروف في مذهب الشافعي، وأحمد، وهو منقول عن نصه. ومذهب أبي حنيفة في ذلك أشد منعا.

وتنازع أصحاب هذا القول. هل يجوز الاحتيال على ذلك بأن يؤجر الأرض، ويساقي على الشجر بجزء يسير؟ على قولين. فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز. وذكر القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال الحيل: أنه يجوز. وهو المعروف عند أصحاب الشافعي. وهذه الحيلة قد تعذرت على أصل مصححي الحيل، وهي باطلة من وجوه:

منها: أن الأمكنة كثيرا منها ما يكون وقفا، أو يكون ليتيم، ونحوه ممن يتصرف في ماله بحكم الولاية، والمساقاة على ذلك بجزء يسير لا يجوز، واشتراط أحد العقدين من الآخر لا يصح.

ومنها: أن الفساد الذي من أجله نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، مثل كون ذلك غررًا من جنس القمار، وأنه يفضي إلى الخصومات، والعداوات التي هي من المفاسد، التي حرم القمار لأجلها، ونحو ذلك يوجد في مثل هذه المعاملات أكثر مما يوجد عند مجرد بيع الثمر قبل بدو صلاحه؛ فإنه قد علم أن المتقبل لذلك لم يبذل ماله إلا بإزاء ما يحصل له من منفعة الأرض والشجر، لا سيما إذا كانت منفعة الشجر هي الأغلب؛ كالحدائق والبساتين التي يكون غالبها شجرًا، أو بياضها قليلا. فهنا إذا منع الله الثمرة، وطولب الضامن بجميع الأجرة كان في ذلك من أكل المال بالباطل، ومن الخصومات والشر ما لا خفاء به.

ومنها: أن استئجار الأرض التي تساوي مائة درهم بألف درهم، هو من أفعال السفهاء المستحقين للحجر، وكذلك المساقاة على الشجر بجزء من ألف جزء لريها، هو من أفعال السفهاء التي يستحق عليها الحجر. فمن فعل ذلك وجب على ولاة الأمر الحجر عليه، فضلا عن إمضاء العقد، والحكم بصحته.

ولو قيل: إن له محاباة في هذا العقد، لما يحصل من محاباة الآخر له في العقد. قيل له: إن كان هذا مستحقا لزم أن يكون أحد العقدين شرطا في الآخر، وإن لم يكن مستحقا كان محابيا في هذا العقد، وليس محاباة للآخر في ذلك العقد. وهذا إنما ينفع إذا حصل التقابض، فلو حابي رجلا في سلعة وحاباه آخر في أخري، وتقابضا، فقد يقال: إن الغرض يحصل بذلك؛ إما في مثل هذا، وإما في مثل هذا، والثمر قد يحصل وقد لا يحصل، وذاك له أن يطالبه بجميع الأجرة، وإن لم يحصل الثمر فليس هذا من أفعال الرشد، بل من أفعال السفهاء المستحقين للحجر؛ لا سيما إن كان المتصرف من لا يملك التبرع؛ كناظر الوقف واليتيم؛ فإنه يقول له: إنه يجب على مطالبتك بجميع الأجرة، حصلت الثمرة أو لم تحصل. فهل يدخل رشيد في مثل هذا، فيبذل ألف درهم في قيمة أرض تساوي مائة درهم؛ طمعا في أن يسلم الثمرة، وتحصل له، والأجرة عليه، حصلت الثمرة أو لم تحصل؟ ولو فعل هذا. فهل هذا إلا دخول في نفس ما نهى عنه النبي .

فإن في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي : أنه نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري. وهذا المستأجر إذا بذل ماله لتحصل له الثمرة هو في معني المشتري الذي نهاه رسول الله على قولهم، فكيف يبذل ماله في مثل ذلك. والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة، قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.

وليس الفقيه من عمد إلى ما نهى عنه النبي دفعا لفساد يحصل لهم، فعدل عنه إلى فساد أشد منه، فإن هذا بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار.

وهذا يعلم من قاعدة إبطال الحيل، فإن كثيرًا منها يتضمن من الفساد والضرر أكثر مما في إتيان المنهى عنه ظاهرًا، كما قال أيوب السختياني: يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون على.

ولهذا يوجد في نكاح التحليل من الفساد أعظم مما يوجد في نكاح المتعة؛ إذ المتمتع قاصد للنكاح إلى وقت، والمحلل لا غرض له في ذلك، فكل فساد نهى عنه المتمتع فهو في التحليل، وزيادة؛ ولهذا تنكر قلوب الناس التحليل أعظم مما تنكر المتعة. والمتعة أبيحت أول الإسلام، وتنازع السلف في بقاء الحل. ونكاح التحليل لم يبح قط، ولا تنازع السلف في تحريمه.

ومن شنع على الشيعة باباحة المتعة مع إباحته للتحليل، فقد سلطهم على القدح في السنة، كما تسلطت النصارى على القدح في الإسلام بمثل إباحة التحليل. حتى قالوا: إن هؤلاء قال لهم نبيهم: إذا طلق أحدكم امرأته لم تحل له حتى تزني. وذلك أن نكاح التحليل سفاح، كما سماه الصحابة بذلك.

والقول الثاني: في أصل المسألة أنه إن كان منفعة الأرض هو المقصود، والشجر تبع جاز أن تؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجر تبعا. وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث. وصاحب هذا القول يجوز بيع الثمر قبل بدو الصلاح، ما يدخل ضمنا وتبعا، كما جاز إذا ابتاع ثمرة بعد أن تؤبر أن يشترط المبتاع ثمرتها، كما ثبت في الصحيحين عن النبي . والمبتاع هنا قد اشتري الثمر قبل بدو صلاحه؛ لكن تبعا للأصل. وهذا جائز باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعا في الإجارة على ما كان تبعا في البيع.

والقول الثالث: أنه يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا، وإن كان الشجر أكثر. وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فإنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وأخذ القبالة فوفي بها دينه. روي ذلك حرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في مسائله المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي، وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة يغلب عليها الشجر.

وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلاف الإجماع، وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب؛ فإن عمر فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظنة الاشتهار، ولم ينقل عن أحد أنه أنكرها، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر، كما أنكر عليه عمران ابن حصين وغيره ما فعله من متعة الحج؛ وإنما هذه القضية بمنزلة توريث عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التي بتها في مرض موته، وأمثال هذه القضية. والذي فعله عمر بن الخطاب هو الصواب. وإذا تدبر الفقيه أصول الشريعة تبين له أن مثل هذا الضمان ليس داخلا فيما نهى عنه النبي ، وهذا يظهر بأمور:

أحدها: أن يقال: معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة، ويمكن فيها بيع حبها قبل أن يشتد. ثم النبي لما نهى عن بيع الحب حتى يشتد، لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض، وإن كان مقصود المستأجر هو الحب ؛ فإن المستأجر هو الذي يعمل في الأرض حتى يحصل له الحب؛ بخلاف المشتري، فإنه يشتري حبا مجردا، وعلى البائع تمام خدمته، حتى يتحصل، فكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود ليس نهيا عمن يأخذ الشجر، فيقوم عليها، ويسقيها حتى تثمر؛ وإنما النهى لمن اشتري عنبا مجردا، وعلى البائع خدمته حتى يكمل صلاحه، كما يفعله المشترون للأعناب التي تسمي الكروم؛ ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها؛ بخلاف التضمين.

الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائز عند فقهاء الحديث؛ كالإمام أحمد وغيره، مثل ابن خزيمة، وابن المنذر. وعند ابن أبي ليلي، وأبي يوسف، ومحمد، وعند الليث بن سعد، وغيرهم من الأئمة جائزة، كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله ، وإجماع أصحابه من بعده، والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارة بعوض مجهول، وذلك لا يجوز. وأبو حنيفة طرد قياسه فلم يجوزها بحال. وأما الشافعي فاستثني ما تدعو إليه الحاجة؛ كالبياض إذا دخل تبعا للشجر في المساقاة، وكذلك مالك؛ لكن يراعي القلة والكثرة على أصله.

وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس، ظنا أنها من باب الإجارة بعوض مجهول، وأنها جوزت للحاجة؛ لأن صاحب النقد لا يمكنه إجارتها.

والتحقيق: أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات. والمزارعة مشاركة؛ هذا يشارك بنفع بدنه، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان؛ ولهذا ليس العمل فيها مقصودا، ولا معلوما، كما يقصد ويعلم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجب أن يكون العمل فيها معلوماً، لكن إذا قيل: هي جعالة، كان أشبه؛ فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوماً، وكذلك هي عقد جائز غير لازم، ولكن ليست جعالة أيضا؛ فإن الجعالة يكون المقصود لأحدهما من غير جنس مقصود الآخر؛ هذا يقصد رد آبقه، أو بناء حائطه، وهذا يقصد الجعل المشروط. والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود، وهو الربح، مستويان في المغنم والمغرم، إن أخذ هذا أخذ هذا، وإن حرم هذا حرم هذا.

ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح، من جنس المشروط للآخر، وأنه لا يجوز أن يكون مقدراً معلوماً، فعلم أنها من باب المشاركة، كما في شركة العنان، فإنهما يشتركان في الربح، ولو شرط مال مقدر من الربح، أو غيره، لم يجز. وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله من المخابرة، كما جاء ذلك مفسراً في صحيح مسلم، وغيره، عن رافع بن خديج، أنهم كانوا يكرون الأرض، ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما تنبت الماذيانات، والجداول، فربما سلم هذا، ولم يسلم هذا.

ولهذا قال الليث بن سعد: إن الذي نهى عنه النبي من المخابرة أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. وهذا من فقه الليث الذي قال فيه الشافعي: كان الليث أفقه من مالك؛ فإنه بين أن الذي نهى عنه النبي موافق لقياس الأصول؛ لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح. والشركة حقها العدل بين الشريكين، فيما لهما من المغنم، وعليهما من المغرم، فإذا خرجت كان ظلمًا محرمًا. وأين من يجعل ما جاءت به السنة موافقا للأصول إلى من يجعل ما جاءت به السنة مخالفًا للأصول.

ومن أعطي النظر حقه علم أن ما جاءت به السنة من النهي عن هذه المخابرة، ومن معاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع بدون هذا الشرط، وما عمل به الصحابة من المضاربة، كل ذلك على وفق القياس، وأن هذا من جنس المشاركات، لا من جنس المؤجرات. وإذا كان كذلك فنقول:

معلوم أنه إذا ساقاه على الشجر بجزء من الثمرة كان كما إذا زارعه على الأرض بجزء من الزرع، وضاربه على النقد بجزء من الربح، فقد جعلت الثمرة من باب النماء، والفائدة الحاصلة ببدن هذا ومال هذا. والذي نهى عنه النبي من بيع الثمرة، ليس للمشتري عمل في حصوله أصلا، بل العمل كله على البائع، فإذا استأجر الأرض والشجر حتي حصل له ثمر وزرع، كان كما إذا استأجر الأرض حتي يحصل له الزرع.

الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجري المنافع، والفوائد في الوقف، والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بثمرها، كما يقف الأرض لينتفعوا بمغلها، ويجوز إعراء الشجر، كما يجوز إفقار الظهر، وعارية الدار، ومنيحة اللبن. وهذا كله تبرع بنماء المال، وفائدته؛ فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه كان بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها، وبمنزلة من دفع شجره إلى من يستثمرها، وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها، وبمنزلة من دفع الناقة والشاة إلى من يشرب لبنها. فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع، سواء كان الأصل محبسا؛ كالوقف، أو غير محبس. وتدخل أيضا في عقود المشاركات، فكذلك تدخل في عقود المعاوضات.

فإن قيل: إن هذا يقتضي أن الأعيان معقود عليها في الإجارة، والإجارة إنما هي عقد على المنافع، لا على الأعيان، وإنما جازت إجارة الظئر على خلاف القياس. قيل: الجواب من وجهين.

أحدهما: أن تقبيل الأرض والشجر ليس هو عقدًا على عين، وإنما هو بمنزلة إجارة الأرض للازدراع، فالعين هي مقصود المستأجر؛ فإنه إنما استأجر الأرض ليحصل له الزرع؛ لكن العقد ورد على المنافع التي هي شبه هذه الأعيان.

الوجه الثاني: أن يقال: لا نسلم أن إجارة الظئر على خلاف القياس، وكيف يقال: وليس في القرآن إجارة منصوصة في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } 17 ؟

وإنما ظن من ظن أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة، وليس الأمر كذلك، بل الإجارة تكون على كل ما يستوفي مع بقاء أصله، سواء كانت عينا أو منفعة. فلما كان لبن الظئر يستوفي مع بقاء الأصل، ونقع البئر يستوفي مع بقاء الأصل، جازت الإجارة عليه، كما جازت على المنفعة؛ فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شيء، وأصلها باق، كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء، وأصلها باق؛ ولهذا جاز وقف هذه الأصول لاستثناء هذه الفوائد أعيانها، ومنافعها.

فإن قيل: فهذا يقتضي جواز إجارة الحيوان لشرب لبنه. قيل: وفي هذه المسألة نزاع بين الفقهاء أيضا. والمزارعة إنما تكون بدليل شرعي نص أو إجماع أو قياس، ونحوه. وأما مسائل النزاع إذا عورض فنجيب عنها بجواب عام: وهو إن كان ما ذكرناه من الدليل موجبًا لصحة هذه الإجارة، لزم طرد الدليل، والعمل لذلك. وإن لم يكن موجبًا لم يكن نقضًا. والدليل الذي يقال: إنه مفسد لهذه الإجارة. إن أمكن الجمع بينه وبين ما ذكر من الدليل، فلا منافاة، وإلا فما ذكرناه راجح؛ إذ المنافع إنما يستند منعها إلى جنس ما يذكره في مورد النزاع هنا.

فإن قيل: إن ابن عقيل جوز إجارة الأرض، والشجر جميعًا؛ لأجل الحاجة، وأنه سلك مسلك مالك، لكن مالك اعتبر القلة في الشجر، وابن عقيل عمم، فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر، وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر، فجوز دخولها في الإجارة، كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعًا في باب المساقاة.

ومن حجة ابن عقيل: أن غاية ما في ذلك جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعا لغيره؛ لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا باع شجرا وعليها ثمر باد بما يشترطه المبتاع، فإنه اشتري شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه، وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس وأنه جائز بدون الحاجة، حتي مع الانفراد.

قيل: هذا زيادة توكيد؛ فإن هذه المسألة لها مأخذان:

أحدهما: أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره.

والثاني: أن يمنع هذا ويقال: لا نسلم أن الأصل يقتضي المنع، بل الدليل لا يتناول مثل هذه الصورة؛ لا لفظا ولا معني. أما لفظا فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها، ولو كان قد باع لكان عليه مؤنة التوفية، كما لو باعها بعد بدو صلاحها، فإن مؤنة التوفية عليه أيضا، فإن المسلمين اتفقوا على ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضرب الخراج على السواد وغيره من الأرض التي فتحت عنوة، سواء قيل: إنه يجب في الأرض التي فتحت عنوة، أو تجعل فيئا كما قاله مالك، وهو رواية عن أحمد. أو قيل: إنه يجب قسمتها بين الغانمين، كما قاله الشافعي، وهو رواية عن الإمام. أو قيل: يخير الإمام فيها بين هذا وهذا، كما هو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأبي عبيد، ونحوهم. وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد.

فإن الشافعي يقول: إن عمر استطاب أنفس الغانمين حتي جعلها فيئا، وضرب الخراج عليها، فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضع الخراج على أرض العنوة جائز، إذا لم يكن فيه ظلم للغانمين.

ثم الخراج عند أكثرهم أجرة الأرض، وأنه لم يقدر مدة الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضريبة على الأرض التي فيها شجر، والأرض البيضاء. وضرب على جريب النخل مقدارا، وعلى جريب الكرم مقدارا. وهذا بعينه إجارة للأرض مع الشجر؛ فإن كان جواز هذا على وفق القياس فهو المطلوب. وإن كان جواز ذلك لحاجة داعية إلى ذلك؛ فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن. ولها أجور وافرة، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاة ومزارعة، تعطلت منفعة المساكن عليها، كما في أرض دمشق ونحوها. ثم قد يكون وقفًا أو ليتيم ونحو ذلك. فكيف يجوز تعطيل منفعة المسكن المبنية في تلك الحدائق؟

وقد تكون منفعة المسكن هي أكثر المنفعة، ومنفعة الشجر والأرض تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يمكن أن تؤجر دون منفعة الأرض والشجر؛ فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرر هذا، وهذا تضرر ببناء المساكن، ويبقي ممنوعا من الانتفاع بالثمر والزرع هو وعياله، مع كونه عندهم، ويتضررون بدخول العامل عليهم في دارهم، والعامل أيضا لا يبقي مطمئنا إلى سلامة ثمره وزرعه، بل يخاف عليها في مغيبه. وما كل ساكن أمينا، ولو كان أمينا لم تؤمن الضيفان، والصبيان، والنسوان. وكل هذا معلوم.

فإذا كان النبي نهى عن المزابنة، وهي بيع الرطب بالتمر؛ لما في ذلك من بيع الربوي بجنسه مجازفة وباب الربا أشد من باب الميسر ثم إنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها؛ لأجل الحاجة، وأمر رجلا أن يبيع شجرة له في ملك الغير لتضرره بذلك، لدخوله عليه، أو يهبها له، فلما لم يفعل أمر بقلعها. فأوجب عليه المعاوضة لرفع الضرر عن مالك العقار، كما أوجب للشريك أن يأخذ الشقص بثمنه رفعًا لضرر المشاركة والمقاسمة. فكيف إذا كان الضرر ما ذكر؟

ومعلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما، وبدفع شر الشرين باحتمال أدناهما. والفساد في ذلك أعظم مما ذكرنا من حصول ضرر ما لأحد المتعوضين، فإن هذا ضرر كثير محقق، وذاك إن حصل فيه ضرر فهو قليل مشكوك فيه.

وأيضا، فالمساقاة والمزارعة تعتمد أمانة العامل، وقد يتعذر ذلك كثيرا فيحتاج الناس إلى المؤاجرة التي فيها مال مضمون في الذمة؛ ولهذا يعدل كثير من الناس في كثير من الأمكنة والأزمنة عن المزارعة إلى المؤاجرة؛ لأجل ذلك. ومعلوم أن الشريعة توجب ما توجبه بحسب الإمكان، وتشترط في العبادات والعقود ما تشترطه بحسب الإمكان؛ ولهذا جاز أن ينفذ من ولي الأمر مع فجوره من ولايته وقسمته وحكمه ما يسوغ، وإن كان ولي الأمر يجب فيه أن يكون عدلا إذا أمكن ذلك بلا مفسدة راجحة.

وكذلك أئمة الصلاة إذا لم تمكن الصلاة إلا خلف الفاجر. فإذا لم يمكن دفع الأرض إلا إلى فاجر، وائتمانه عليها يوجب الفساد، احتيج إلى أن تدفع اليه مؤاجرة. فهذا وجه من وجوه جواز المؤاجرة.

وأيضا، فقد لا يتفق من يأخذها مشاركة؛ كالمساقاة، أو المزارعة؛ فإن لم تدفع مؤاجرة، وإلا تعطلت وتضرر أهلها، وإن كانوا فقراء وليس في هذا من الفساد إلا إمكان نقص الثمر عن الوجه المعتاد، فيبقي ذلك مخاطرة. وهذا القدر ينجبر بما يجعل للمستأجر من جبران ذلك، كما أن الإجارة الجائزة إذا تلفت فيها المنفعة سقطت الأجرة التي تقابلها، وكذلك لو نقصت على الصحيح فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فقد ثبت في الصحيح: أن النبي أمر بوضع الجوائح، وقال: (إذا بعت من أخيك بيعا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟) وهذا مذهب مالك وأحمد، وغيرهما.

وذلك لأن الثمرة قبضت، ولم تقبض قبضًا تاما، بحيث يتمكن القابض من جذاذها، كما أن المستأجر إذا قبض العين لم يحصل القبض التام الذي يتمكن به من استيفاء جميع المنفعة، فإذا تلفت المنفعة قبل تمكنه من استيفائها سقطت الأجرة، فكذلك إذا تلفت الثمرة قبل التمكن من الجذاذ سقط الثمن.

فهنا المستأجر للبستان إذا قدر أنه حصلت آفة منعت الأرض عن المنفعة المعتادة كما لو نقص ماء المطر والأنهار، حتي نقصت المنفعة عن الوجه المعتاد؛ لأن المعقود عليه لابد أن يبقي على الذي يمكن استيفاء المنفعة المقصودة منه، فإذا خرج عن هذا الحال كان للمتسأجر إما الفسخ، وإما الأرش، وليس من باب وضع الجائحة في الممتنع؛ كما في الثمر المشتري، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد، أو فواتها.

وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض، سواء بسواء. إنما يتسلم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتي يشتد الزرع، ويبدو صلاح الثمر، كما يقوم على ذلك العامل في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: إن هذا مشتر للثمرة، فليقل: إن المستأجر مشتر للزرع، وأن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء، فإذا كان هذا لا يدخل في مسمي البيع، امتنع شمول العموم له لفظًا، ويمتنع إلحاقه من جهة القياس، أو شمول العموم المعنوي له؛ لأن الفرق بينهما في غاية الظهور؛ فإن إلحاق هذه الإجارة للأرض، لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة، وفي المضاربة والوقف، وغير ذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم الآخر، أولي من إلحاقها بالبيع، كما تقدم.

وكل من نظر في هذا نظرًا صحيحًا سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تسمي الضمانات، كما تسميه العامة ضمانا، وكما سماه السلف قبالة؛ ليس هو من باب المبايعات. وأحكام البيع منتفية في هذا من كون مؤنة التوفية على البائع، وكل ما نهى عنه النبي من بيع المعدومات؛ مثل نهيه عن بيع الملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة، وهو بيع ما في أصلاب الفحول، وأرحام الإناث، ونتاج النتاج. ونهيه عن بيع السنين؛ وهو المعاومة، وأمثال ذلك، إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم تخلق بعد، وأصولها يقوم عليها البائع، فهو الذي يستنتجها ويستثمرها، ويسلم إلى المشتري ما يحصل من النتاج والثمرة، وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه.

وهذا على تفسير الجمهور في حبل الحبلة أنه بيع نتاج النتاج، فإنه يكون إبطاله لجهالة الأجل، وهذه البيوع التي نهى عنها النبي ، هي من باب القمار الذي هو ميسر، وذلك أكل مال بالباطل، وأصحاب هذه الأصول يمكنهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار، والأولاد، وإنما يفعلون هذا مخاطرة ومباختة.

والتجارات بضمان البستان لمن يقوم عليه؛ كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيزدرعها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها، ويغرس فيها ونحو ذلك.

وقد اتفق العلماء على المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها، فإنه لا تجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من الانتفاع، وكذلك المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه؛ مثل أن يشتري قفيزا من صبرة، فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز، كان ذلك من ضمان البائع بلا نزاع، لكن تنازعوا في تلفه بعد التمكن من القبض، وقبل القبض؛ كمن اشتري معيبًا، ومكن من قبضه. وفيه قولان مشهوران.

أحدهما: أنه لا يضمنه، كقول مالك، وأحمد في المشهور عنه؛ لقول ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا، فهو من مال المشتري.

والثاني: يضمنه؛ كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار. ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبض، كقول أحمد في إحدى الروايتين. فيتقارب مذهبه ومذهب مالك وأحمد: أن ما يتلف من ضمان البائع ؛لما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟).

ومذهب الشافعي المشهور عنه، يكون من ضمان المشتري، إذا تلف بعد القبض. وأما أبو حنيفة فمذهبه أن التبقية ليست من مقتضي العقد، ولا يجوز اشتراطها. والأولون يقولون: قبض هذا بمنزلة قبض المنفعة في الإجارات، وذلك ليس بقبض تام ينقل الضمان؛ لأن القابض لم يتمكن من استيفاء المقصود. وهذا طرد أصلهم في أن المعتبر هو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون: لو أن المشتري فرط في قبض الثمرة بعد كمال صلاحها حتي تلفت كانت من ضمانه، كما لو فرط في قبض المعين حتي تلف.

وهذا ظاهر في المناسبة والتأثير؛ فإن البائع إذا لم يكن منه تفريط فيما يجب عليه، وإنما التفريط من المشتري، كان إحالة الضمان على المفرط أولي من إحالته على من قام بما يجب عليه ولم يفرط؛ ولهذا اتفقوا على مثل ذلك في الإجارة؛ فإن المستأجر لو فرط في استيفاء المنافع حتي تلفت، كانت من ضمانه. ولو تلفت بغير تفريط كانت من ضمان المؤجر. وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت، لم تكن عليه الأجرة. وإنْ نَبَتَ الزرع ثم حصلت آفة سماوية قبل التمكن من حصاده، ففيه نزاع.

ومن فرق بينه وبين الثمر والمنفعة قال: الثمرة هي المعقود عليها، وكذلك المنفعة. وهنا الزرع ليس بمعقود عليه، بل المعقود عليه المنفعة، وقد استوفاها. ومن سوي بينهما قال: المقصود بالإجارة هو الزرع، فإذا حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كان قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه، والمؤجر وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها من حصول الزرع، فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها، بل تلفت قبل التمكن من الانتفاع. ولا فرق بين تعطل منفعة الأرض في أول المدة، أو في آخرها، إذا لم يتمكن من استيفائها بشيء من المنفعة.

ومعلوم أن الآفة السماوية إذا فقد الزرع مطلقا، بحيث لا يمكن الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها. وعلى هذا تنبني مسألة ضمان الحدائق. والله أعلم.

سئل عن تضمين البساتين قبل إدراك الثمرة

وسئل رحمه الله عن تضمين البساتين قبل إدراك الثمرة. هل يجوز أم لا؟

فأجاب:

أما تضمين حديقته أو بستانه الذي فيه النخيل والأعناب وغير ذلك من الأشجار لمن يقوم عليها ويزرع أرضها بعوض معلوم، فمن العلماء من نهى عن ذلك، وأعتقد أنه داخل في نهي النبي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها.

ثم من هؤلاء من جوز ذلك، إذا كان البياض هو المقصود، والشجر تابع، كما يذكر عن مالك. ومن هؤلاء من يجوز الاحتيال على ذلك؛ بأن يؤجر الأرض ويساقي على الشجر بجزء من الخارج منه، ولكن هذا إن شرط فيه أحد العقدين في الآخر لم يصح، وإن لم يشترطا كان لرب البستان أن يلزمه بالأجرة عن الأرض بدون المساقاة. وأكثر مقصود الضامن هو الثمر، وهي جزء كبير من مقصوده. وقد يكون المكان وقفا، ومال يتيم، فلا تجوز المحاباة في مساقاته.

وهذه الحيلة وإن كان القاضي أبو يعلى ذكرها في كتاب إبطال الحيل موافقة لغيره، فالمنصوص عن أحمد أنها باطلة. وقد بينا بطلان الحيل التي يكون ظاهرها مخالفا لباطنها، ويكون المقصود بها فعل ما حرم الله ورسوله؛ كالحيل على الربا، وعلى إسقاط الشفعة، وغير ذلك بالأدلة الكثيرة في غير هذا الموضع.

ومن العلماء من جوز الضمان للأرض والشجر مطلقا، وإن كان الشجر مقصودًا، كما ذكر ذلك ابن عقيل، وهذا القول أصح، وله مأخذان:

أحدهما: أنه إذا اجتمع الأرض والشجر، فتجوز الإجارة لهما جميعا؛ لتعذر التفريق بينهما في العادة.

والمأخذ الثاني: أن هذه الصورة لم تدخل في نهي النبي ، فإن رب الأرض لم يبع ثمره بلا أجر أصلا، والفرق بينهما من وجوه:

أحدها: أنه لو استأجر الأرض جاز، ولو اشترى الزرع قبل اشتداد الحب بشرط البقاء لم يجز، فكذلك يفرق في الشجر.

الثاني: أن البائع عليه السقي وغيره مما فيه صلاح الثمرة حتي يكمل صلاحها، وليس على المشتري شيء من ذلك. وأما الضامن والمستأجر فإنه هو الذي يقوم بالسقي والعمل حتي تحصل الثمرة والزرع، فاشتراء الثمرة اشتراء للعنب والرطب، فإن البائع عليه تمام العمل حتي يصلح، بخلاف من دفع اليه الحديقة، وكان هو القائم عليها.

الثالث: أنه لو دفع البستان إلى من يعمل عليه بنصف ثمره وزرعه، كان هذا مساقاة ومزارعة، فاستحق نصف الثمر، والزرع بعمله، وليس هذا اشتراء للحب والثمرة.

الرابع: أنه لو أعار أرضه لمن يزرعها، أو أعطي شجرته لمن يستغلها ثم يدفعها اليه كان هذا من جنس العارية؛ لا من جنس هبة الأعيان.

الخامس: أن ثمرة الشجر من مغل الوقف؛ كمنفعة الأرض، ولبن الظئر. واستئجار الظئر جائز بالكتاب والسنة والإجماع. واللبن لما كان يحدث شيئًا بعد شيء صح عقد الإجارة عليه، كما يصح على المنافع وإن كانت أعيانا؛ ولهذا يجوز للمالك إجارة الماشية للبنها، فإجارة البستان لمن يستغله بعمله هو من هذا الباب، ليس هو من باب الشراء.

وإذا قيل: إن في ذلك غررا. قيل: هو كالغرر في الإجارة؛ فإنه إذا استأجر أرضا ليزرعها، فإنما مقصوده الزرع، وقد يحصل، وقد لا يحصل، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير بعد موته ثلاث سنين، وأخذ الضمان فصرفه في دينه، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة.

وأيضا، فإن أرض العنوة لما فتحها المسلمون دفعها عمر اليهم، وفيها النخيل والأعناب لمن يعمل عليها بالخراج، وهذه إجارة عند أكثر العلماء.

سئل عن ضمان بساتين وهل توضع فيها الجائحة إذا حال العدو

وسئل عن ضمان بساتين، وأنهم لما سمعوا بقدوم العدو المخذول دخلوا إلى المدينة، وغلقت أبواب المدينة، ولم يبق لهم سبيل إلى البساتين، ونهب زرعهم وغلتهم. فهل لهم الإجاحة في ذلك؟

فأجاب:

الخوف العام الذي يمنع من الانتفاع هو من الآفات السماوية، وإذا تلفت الزروع بآفة سماوية، فهل توضع الجائحة فيه كما توضع في الثمرة؟ كما نص النبي في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، حيث قال النبي : (إذا بعت أخاك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟) اختلفوا في الزرع إذا تلف قبل تمكن المستأجر من حصاده. هل توضع فيه الجائحة؟ على قولين. أشبههما بالمنصوص والأصول أنها توضع. والله أعلم.

سئل عن ضمان الإقطاع هل هو صحيح أم لا

وسئل عن ضمان الإقطاع. هل هو صحيح؟ أم لا ؟

فأجاب:

ضمان الإقطاع صحيح، لا نعلم أحدًا من علماء المسلمين الذين يفتي بقولهم قال: إنه باطل. ولا نعلم أحدًا من العلماء المنصفين قال: إنه باطل. إلا ما بلغنا عن بعض الناس حكي فيه خلافا: قول بالجواز، وقول بالمنع، وقول أنه يجوز سنة فقط.

ومازال المسلمون يضمنونه، ولم يفتِ أحد بتحريمه إلا بعض أهل هذا الزمان لشبهة عرضت لهم؛ لكونهم اعتقدوا أن المقطع بمنزلة المستعير، وغفلوا عن كون المنافع مستحقة لأهل الإقطاع، لا مبذولة؛ بمنزلة استحقاق أهل البطون للوقف. وإن جاز انفساخ الإجارة بموت الموقوف عليه، عند من يقول به. والسلطان قاسم لا معير، وقسمته للمنافع كقسمة الأموال. وغفلوا عن كون السلطان المقطع أذن في الانتفاع بالمقطع استغلالًا، وإيجارًا. ولو أذن المعير في الإجارة جازت وفاقا، فكيف الإقطاع؟ والله أعلم.

سئل عن رجل مستأجر نصف بستان مشاعا غير مقسوم

وسئل رحمه الله عن رجل مستأجر نصف بستان مشاعًا غير مقسوم، وقد تهدمت الحيطان فاتفق المستأجر للنصف، وصاحب النصف الآخر على العمارة، وتقاسما الحيطان ليبني كل منهما ما اقتسماه، فعمر المستأجر نصيبه، وامتنع الآخر حتي سرق أكثر الثمرة. وامتنع من السقي أيضا حتي تلف أكثر الثمرة؟

فأجاب:

الحمد لله، نعم، إذا لم يفعل ما اتفقا عليه حتي تلف شيء من الثمرة بسبب إهمال ذلك، فعليه ضمان ما تلف من نصيب شريكه.

وأما إذا امتنع ابتداء من العمارة والسقي معه، فإنه يجبر على ذلك في أصح قولي العلماء. وفي الآخر لا يجبر؛ لكن للآخر أن يعمر ويسقي.

ويمنع من لم يعمر ويسقي أن ينتفع بما يحصل من ماله. ومن أصر على ترك الواجب قدح ذلك في عدالته.

سئل عن إجارة الوقف هل تجوز سنين وكل سنة بذاتها

وسئل عن إجارة الوقف. هل تجوز سنين؟ وكل سنة بذاتها؟ وإذا قطع المستأجر من الوقف أشجارًا هل تلزمه القيمة ؟ أم لا؟ وإذا شري الوقف بدون القيمة، ما يجب عليه؟

فأجاب:

إن كان الوقف على جهة عامة، جازت إجارته بحسب المصلحة، ولا يتوقت ذلك بعدد عند أكثر العلماء.

وما قطعه المستأجر فعليه ضمانه، ولا يجوز للموقوف عليه بيع الوقف؛ بل عليه رد الثمن على المشتري، والوقف على حاله.

سئل عن أمير دخل على إقطاع وجد فيه فلاحا مستأجرا إقطاعه بأجرة

وسئل رحمه الله عن أمير دخل على إقطاع وجد فيه فلاحًا مستأجرًا إقطاعه بأجرة، واستقر الفلاح المذكور مستأجرًا إقطاعه إلى حين انقضائه، ثم انتقل الإقطاع الى غيره، فوجد المقطع المستجد للفلاح بور بعض الأرض المستأجرة عليه، فطالب المقطع المن

فصل بخراج البور، وادعي أن الإيجار المكتتب على الفلاح أجير إبطال بحكم أن بعض الأرض كانت مشغولة هل يبطل حكم الإيجار؟ أو يصح؟ وهل يلزم البور للمستأجر؟ أم لا؟

فأجاب:

ليس للمقطع الثاني أن يطالب المقطع المنفصل بما بور، كما ليس له أن يطالبه بما زرع، فإن حقه على المستأجر الذي أوجر الأرض وسلمت اليه، سواء زرع الأرض، أو لم يزرعها.

ولكن المقطع مخير إن شاء طالبه بالأجرة التي رضي بها الأول، وإن شاء طالبه بأجرة المثل لما تسلمه من المنفعة، وإجارة الأرض لمن يزرع فيها زرعًا وقصبا جائزة، لكن المقطع الثاني له أن يمضيها، وله ألا يمضيها، ولو قدر أن الأول آجره إياها إجارة فاسدة، وسلم اليه الأرض قبل إقطاع الثاني، لكان على المستأجر ضمان الأرض كلها للمقطع الثاني الذي يستحق منفعة الأرض، سواء زرعها أو لم يزرعها؛ لأن ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض في العقد الفاسد، كما لو قبض المبيع قبضا فاسدًا، فإن عليه ضمانه. والله أعلم.

سئل عن أجناد لهم أرض فآجروها لقوم فلاحين بغلة معينة

وسئل عن أجناد لهم أرض. فآجروها لقوم فلاحين بغلة معينة، ودراهم معينة، وصيافة ليزرعوها، أو ينتفعوا بها مدة سنة كاملة، وأن الأجناد قبل انقضاء السنة عدوا على أغنام الفلاحين، وأخذوا عن المراعي جملة دراهم قبل انقضاء مدة الإجارة، غصبًا باليد القوية. فهل ما يناله الأجناد حلال؟ أم حرام؟

فأجاب:

إن كان بينهما إجارة شرط فيها شروط سائغة: مثل أن يشترط المستأجر أن ينتفع بجميع ما في الأرض، حتي في الكلأ المباح، وأعقاب الزرع، وغير ذلك، فهذا شرط لازم يجب العمل به، وكذلك إن لم يذكر هذا في الإجارة؛ لكن كانت الإجارة مطلقة. وهذه هي العادة؛ فإن الإجارة المطلقة، تحمل على المنفعة المعتادة. فإذا كانت المنفعة تتناول ذلك تناولته الإجارة المطلقة، فما تناوله لفظ الإجارة، أو العرف المعتاد، كان للمستأجر.

وأما إن كانت العادة أن الإجارة المطلقة لا تتناول الكلأ المباح، لم تدخل في الإجارة المطلقة. والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر لرجل أرضا ثم إن المستأجر له توفي

وسئل رحمه الله عن رجل استأجر لرجل أرضا بطريق شرعية، مدة معينة، ثم إن المستأجر له توفي، وأن الوكيل لما استأجر هذه المدة قدم للمؤجر حق سنة على يد وكيله، وأن صاحب الأرض ادعي على وارث المستأجر له، فطلبوا منه تثبيت وكالة المستأجر الوكيل. فهل يجب على المدعي إثبات الوكالة بعد القبض منه حق سنة، وأنه هو الذي استغل هذه الأرض المستأجرة دون الوكيل؟

فأجاب:

إذا كان الذي ادعي عليه أن الأرض استؤجرت له، وقد استغل الأرض، فقد وجب ضمان المنفعة التي استوفاها، سواء استؤجرت أو لم تستأجر، وإذا لم يعترف أنه استوفاها بطريق الإجارة، ولا بإذن المالك والحالة هذه، فهو غاصب يستحق تعزيره وعقوبته، تعزيرًا يمنعه وأمثاله من المعتدين عن ظلم الخلق، وجحد الحق.

وهذا كله إذا لم يكن مما ذكر، وما لم يذكر على ما يدل على الإجارة، حتي لو ادعي المزدرع أنه إنما زرع بطريق العارية. وقال رب الأرض: بل بطريق الإجارة، فالقول قول رب الأرض، كما نص عليه الأئمة مالك وأحمد، والشافعي، وغيرهم.

وللشافعي قول في مسألة الدابة إذا تنازعا، فقال: أعرتني، وقال المالك: بل أكريتك، فقال في هذه المسألة: القول قول الراكب. فمن أصحابه من سوي بين الصورتين. والمذهب فيهما أن القول قول المالك. ومنهم من فرق، وقال: الدابة يسمح في العادة بأن تعار، بخلاف الأرض، ولهذا قال مالك في رواية: إن القول قول المالك. إلا أن يكون مثله لا يكري الدواب، وكذلك قال أبو حنيفة في الدابة: القول قول الراكب. وهو قول في مذهب الإمام أحمد.

وبالجملة: فالصواب الذي عليه الجمهور في مسألة الأرض، أن القول قول المالك، فيستحق المطالبة بالأجرة في هذه الصورة؛ لكن هل يطالب بالأجرة التي ادعاها، أو بأجرة المثل؟ أو بالأقل منهما؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.

سئل عن فلاح حرث أرضا ولم يزرعها ثم زرعها غيره

وسئل عن فلاح حرث أرضا، ولم يزرعها، ثم زرعها غيره. فهل يستحق الإجارة والمقاسمة؟ أم لا؟

فأجاب:

إذا كانت الأرض مقاسمة: لرب الأرض سهم، وللفلاح سهم، فإنه يقسم نصيب الفلاح بين الحارث والزارع، على مقدار ما بذلاه من نفع ومال. والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر من ثلاثة نفر قطعة أرض وبئر ماء

وسئل عن رجل استأجر من ثلاثة نفر قطعة أرض وبئر ماء معين بأجرة معلومة، وزرعها أنشابًا، ثم إنه باع النصف من الأنشاب المذكور لأحد المؤجرين، وبقي على ملكه النصف من الأنشاب المذكور، ودفع الأجرة للآخرين المذكورين عن حصتهما خاصة، ولم يدفع للمشتري من الأجرة المذكورة. وعند وفاته أشهد أن جميع ما يخص المشتري من الأجرة المذكورة باق في ذمته على حكمه، ولم يخلف سوي نصف الأنشاب، وعليه الأجرة المذكورة، وعليه صداق زوجته، فهل له أن يأخذ أسوة الشركاء، أو يحاصصهم. ينظر ماله بحكم غيره؟ أفتونا.

فأجاب:

الأجرة التي كان يستحقها أحد المؤجرين على المستأجر باقية في ذمته؛ ولو لم يقر ببقائها. فإذا أقر ببقائها: كان هذا مؤكدًا؛ لكن لغرمائه عليه اليمين أنه لم يبرأ المستأجر من هذه الأجرة، لا بوفاء، ولا إبراء، ولا غير ذلك؛ لكن من حين انتقلت لإنسان فلشركته مطالبته بحقهم من الأجرة، من حين انتقلت إليه. وهذه الأجرة دين من الديون يحاص بها سائر الغرماء.

سئل عن رجل أقطع فدان طين وتركه بديوان الأحباس فزرعه ثم مات الجندي

وسئل عن رجل أقطع فدان طين، وتركه بديوان الأحباس، فزرعه، ثم مات الجندي، فترك عليه غيره، فمنع من ذلك، فأخذ توقيع السلطان المطلق له بأن يجري على عادته، فمنعه، وقد زرعه. فهل له أجرة الأرض؟ أم الزرع؟

فأجاب:

الحمد لله. إذا كان المقطع أعطاه إياه من إقطاعه، وخرج من ديوان الإقطاع إلى ديوان الأحباس الذي لا يقطع، وأمضي ذلك، فليس للمقطع الثاني انتزاعه.

وأما إن كان المقطع الأول تبرع له به من إقطاعه، وللمقطع الثاني أن يتبرع، وألا يتبرع: فالأمر موكول للثاني، والزرع لمن زرعه، ولصاحب الأرض أجرة المثل، من حين أقطع إلى حين كمال الانتفاع. وأما قبل إقطاعه فالمنفعة كانت للأول المتبرع؛ لا للثاني. والله أعلم.

سئل عن راعي أبقار سرح بالأبقار ليسقيها فلحق إحدى الأبقار مرض

وسئل رحمه الله عن راعي أبقار سرح بالأبقار؛ ليسقيها من مورد جرت العادة بسقي الأبقار منها، فعند فراغ سقي الأبقار، لحق إحدى الأبقار مرض من جهة الله تعالى، فسقطت في الماء، فتسبب الناس في إقامتها، فلم تقم، فجروها إلى البر لتقوم فلم تقم، ولم يكن بها ضرب ولا غيره، فحضر وكيل مالكها، وجماعة من الناس، وشاهدوا ما أصابها، ورأوا ذبحها مصلحة فذبحوها: فهل يلزم الراعي قيمتها؟

فأجاب:

لا يلزم الراعي شيء إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان؛ بل إن كان الأمر كما ذكروا لا يلزم أيضا من ذبحها شيء، فإنهم قد أحسنوا فيما فعلوا؛ فإن ذبحها خير من تركها حتي تموت. وقد فعل مثل هذا راعٍ على عهد النبي ، ولم ينكر النبي ذلك، ولا بين أنه ضامن.

وهو نظير خرق صاحب موسى السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة؛ فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية، ومثل هذا لو رأي الرجل مال أخيه المسلم يتلف بمثل هذا، فأصلحه بحسب الإمكان، كان مأجورًا عليه، وإن نقصت قيمته، فناقص خير من تالف، فكيف إذا كان مؤتمنا، كالراعي ونحوه؟

سئل عن رجل يكون راعي إبل أو غنم ثم إن بعض الماشية تمرض

وسئل عن رجل يكون راعي إبل أو غنم، ثم إن بعض الماشية تمرض، أو يتسبب لها أمر، فيدركه الموت أو غير راعي ثم إنه يذكي تلك الدابة، خشية الهلاك على صاحبها فهل يضمن ذلك؟ أم لا؟

فأجاب:

إذا أدركها الموت فينبغي للراعي أن يذكيها، ويحسن في ذلك، فإن ذلك خير من أن تموت حتف أنفها، ولا ضمان عليه في ذلك. والله أعلم.

سئل عن راعي غنم تسلم غنما وسلمها لصبيه

وسئل عن راعي غنم تسلم غنما وسلمها لصبيه، وهو عمره اثنتا عشرة سنة، فسرح الغنم، فذهب منها رأسان. فهل تلزم الصبي الأجير؟ أم الراعي الأصلي؟

فأجاب:

يجب ذلك على الذي يسلمها إلى الصبي، بغير إذن أصحابها.

سئل عن ضمان بساتين بدمشق

وسئل عن ضمان بساتين بدمشق، وأن الجيش المنصور لما كسر العدو، وقدم إلى دمشق ونزل في البساتين، رعي زرعهم، وغلالهم، فاستهلكت الغلال بسبب ذلك. فهل لهم الإجاحة في ذلك؟

فأجاب:

إتلاف الجيش الذي لا يمكن تضمينه هو من الآفات السماوية كالجراد. وإذا تلف الزرع بآفة سماوية قبل تمكن الآخر من حصاده، فهل توضع فيه الجائحة، كما توضع في الثمر المشتري؟ على قولين للعلماء. أصحهما وأشبههما بالكتاب والسنة والعدل وضع الجائحة.

سئل عمن قال أضمنه بكذا وإن أكله الجراد مثلا

وسئل رحمه الله عمن قال: أضمنه بكذا، وإن أكله الجراد مثلا ؟

فأجاب:

إن هذا الشرط فاسد. فإنه شرط غرر وقمار، وإذا كان مع الشرط قد ضمنه بعوض، كان ذلك دون عوض المثل، إذا خلا من الشرط.

وحينئذ، يفرق بين صحة العقد وفساده على المشهور. فإذا كان العقد فاسدًا كان الواجب رد المقبوض به، أو قيمته. وإن كان صحيحا زيد على نصيب الباقي من المسمى بقدر قيمته، ما بين القيمة مع الشرط، والقيمة مع عدمه.

فإذا كان المسمي مثلا ألفا، والباقي ثلث الثمرة، كان نصيبه ثلث ما بقي من الألف، فينظر قيمة الجميع بالشرط، فيأخذ تسعمائة.. ألف ومائتان، فيزاد على المسمي، ونصيبه ثلثه. والله أعلم.

سئل عمن استأجر أرضا فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع

وسئل رحمه الله عمن استأجر أرضا، فلم يأتها المطر المعتاد، فتلف الزرع. هل توضع الجائحة؟

فأجاب:

أما إذا استأجر أرضا للزرع فلم يأت المطر المعتاد، فله الفسخ باتفاق العلماء؛ بل إن تعطلت بطلت الإجارة بلا فسخ، في الأظهر.

وأما إذا نقصت المنفعة، فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة، نص على هذا أحمد بن حنبل، وغيره. فيقال: كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد؟ فيقال: ألف درهم. ويقال: كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص؟ فيقال: خمسمائة درهم. فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة، فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها، فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.

وكذلك لو أصاب الأرض جراد، أو نار أو جائحة، أتلف بعض الزرع، فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.

وأما ما تلف من الزرع فهو من ضمان مالكه، لا يضمنه له رب الأرض باتفاق العلماء. ولما رأي بعض العلماء اتفاق العلماء على هذا ظن أنهم متفقون على أنه لا ينقص من الأجرة المسماة بقدر ما نقص من المنفعة، ولم يميز بين كون المنفعة مضمونة على المؤجر، حتي تنقضي المدة؛ بخلاف الزرع نفسه. فإنه ليس مضمونًا عليه.

وقد اتفق العلماء على أنه لو نقصت المنفعة المستحقة بالعقد كان للمستأجر الفسخ، كما لو استأجر طاحونًا، أو حمامًا، أو بستانًا له ماء معلوم، فنقص ذلك الماء نقصا فاحشا، عما جرت به العادة، بخلاف الجائحة في بيع الثمار، فإن فيها نزاعا مشهورًا. فلو اشتري ثمرًا قبل بدو صلاحه، فأصابته جائحة كان من ضمان البائع؛ في مذهب مالك، وأحمد. وهو قول الشافعي، الذي علقه على صحة الخبر، وقد صح الخبر في صحيح مسلم عن النبي أنه قال: (إن بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟).

واشترط مالك أن يكون كثيره فوق الثلث، وهو رواية عن أحمد. وظاهر مذهبه وضع القليل والكثير. والمسألة لا تجيء على قول أبي حنيفة؛ فإنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وما بعده؛ بل يوجب العقد عند القطع في الحال مطلقا، ولو شرط التبقية ولو بعد بدو الصلاح لم يجز. والثلاثة يفرقون بين ما قبل بدو الصلاح، وما بعده. كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.

وأما ضمان البساتين عامًا، أو أعوامًا، ليستغلها الضامن بسقيه وعمله كالإجارة، ففيها نزاع.

وكذلك إذا بدا الصلاح في جنس من الثمر كالتوت، فهل يباع جميع البستان؟ فيه نزاع. والأظهر جواز هذا وهذا. كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

سئل عن الرجل يكتري أرضا للزرع فتصيبه آفة فيهلك فهل فيه جائحة

وسئل رحمه الله عن الرجل يكتري أرضا للزرع، فتصيبه آفة، فيهلك. فهل فيه جائحة؟ أم لا؟

فأجاب:

أما إذا اكتري أرضًا للزرع، فأصابته آفة. فهذه مسألة وضع الجوائح في الثمر، فإن اشتري ثمرًا قد بدا صلاحه، فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه، فإنه يتلف من ضمان البائع عند فقهاء المدينة؛ كمالك، وغيره. وفقهاء الحديث كأحمد وغيره. وهو قول معلق للشافعي؛ فإن الشافعي علق القول بصحة الحديث. والحديث قد ثبت في صحيح مسلم عن النبي قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا. بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟).

والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المبيع تلف قبل تمكن المشتري من قبضه، فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها. فإذا قيل: هذه الثمرة تلفت بعد القبض قبل قبض الثمرة التي لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع؛ فإن المقصود إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح؛ ولهذا إذا شرع المشتري في قبضها بعد كمال الصلاح، كانت من ضمانه.

وقد تنازع الفقهاء: هل يجوز له أن يبيعها قبل الجذاذ؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: لا يجوز؛ لأنه بيع للمبيع قبل قبضه؛ إذ لو كانت مقبوضة لكانت من ضمانه.

والثاني: يجوز بيعها، وهو الصحيح؛ لأنه قبضها القبض المبيح للتصرف، وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان كقبض العين المؤجرة، فإنه إذا قبضها، جاز له التصرف في المنافع، وإن كانت إذا تلفت، تكون من ضمان المؤجر؛ لكن تنازع الفقهاء: هل له أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد. قيل: يجوز؛ كقول الشافعي. وقيل: لا يجوز؛ كقول أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه ربح فيما لم يضمن؛ لأن المنافع لم يضمنها. وقيل: إن أحدث فيها عمارة جاز، وإلا فلا. والأول أصح؛ لأنها مضمونة عليه بالقبض، بمعني أنه إذا لم يستوفها، تلفت من ضمانه، لا من ضمان المؤجر، كما لو تلف الثمر بعد بدو صلاحه، والتمكن من جذاذه؛ ولكن إذا تلفت العين المؤجرة، كانت المنافع تالفة من ضمان المؤجر؛ لأن المستأجر لم يتمكن من استيفائها، فيفرق بين ما قبل التمكن وبعده.

فصل في من استأجر أرضا للازدراع فأصابتها آفة

وأما إذا استأجر أرضا للازدراع، فأصابتها آفة، فإذا تلف الزرع بعد تمكن المستأجر من أخذه، مثل أن يكون في البيدر، فيسرقه اللص، أو يؤخر حصاده عن الوقت حتي يتلف. فهنا يجب على المستأجر الأجرة.

وأما إذا كانت الآفة مانعة من الزرع، فهنا لا أجرة عليه بلا نزاع.

وأما إذا نبت الزرع، ولكن الآفة منعته من تمام صلاحه، مثل نار أو ريح أو برد، أو غير ذلك، مما يفسده، بحيث لو كان هناك زرع غيره لأتلفته. فهنا فيه قولان:

أظهرهما: أن يكون من ضمان المؤجر؛ لأن هذه الآفة أتلفت المنفعة المقصودة بالعقد؛ لأن المقصود بالعقد المنفعة التي يثبت بها الزرع حتي يتمكن من حصاده، فإذا حصل للأرض ما يمنع هذه المنفعة مطلقا، بطل المقصود بالعقد قبل التمكن من استيفائه.

ومثل هذا لو كانت الأرض سبخة فتلف الزرع، أو كانت إلى جانب بحر، أو نهر، فأتلف الماء تلك الأرض، قبل كمال الزرع، ونحو ذلك. ففي هذه الصور كلها تتلف من ضمان المؤجر. وليس على المستأجر أجرة ما تعطل الانتفاع به. كما لو ماتت الدابة المستأجرة، أو انقطع الماء، ولم يمكن الانتفاع بها في شيء من المنفعة المقصودة بالعقد، وأمثال هذه الصور. وليس هذا مثل أن يسرق ماله، أو يحترق من الدار؛ فإن المنفعة المقصودة بالعقد لم تتغير، فإنه يمكن أن ينتفع بها هو وغيره؛ بأن يحفظها من اللص أو الحريق.

ونظير ذلك أن يتلف المال الذي اكتري الدابة لحمله؛ فإن الأجرة عليه؛ بخلاف ما إذا كانت الآفة مانعة من الانتفاع مطلقا له ولغيره؛ فإن هذا بمنزلة موت الدابة، واحتراق الدار المؤجرة. ونظير سرقة متاعه من الدار: أن يسرق سارق زرعه. وأما إذا جاء جيش عام، فأفسد الزرع، فهذه آفة سماوية؛ فإن هذا لا يمكن تضمينه؛ ولا الاحتراز منه. ونظيره أن يجيء جيش عام فيخرج الناس من مساكنهم التي يسكنونها.

فصل في وضع الجوائح

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله تسليما.

فصل في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة اليه. وذلك داخل في قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه.

قال الله تعالى في كتابه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } 18، وقال تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } 19، وقال تعالى فيما ذم به بني إسرائيل: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } إلى قوله: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } 20.

ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر؛ لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض، فكل من العاقدين يطلب من الآخر تسليم ما عقد عليه؛ ولهذا قال تعالى: { وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ } 21، أي تتعاهدون، وتتعاقدون، وهذا هو موجب العقود ومقتضاها؛ لأن كلا من المتعاقدين أوجب على نفسه بالعقد ما طلبه الآخر، وسأله منه.

فالعقود موجبة للقبوض، والقبوض هي المسؤولة المقصودة المطلوبة؛ ولهذا تتم العقود بالتقابض من الطرفين، حتي لو أسلم الكافران بعد التقابض في العقود التي يعتقدون صحتها، أو تحاكما الينا، لم نتعرض لذلك؛ لانقضاء العقود بموجباتها؛ ولهذا نهي عن بيع الكالئ بالكالئ؛ لأنه عقد وإيجاب على النفوس، بلا حصول مقصود لأحد الطرفين ولا لهما؛ ولهذا حرم الله الميسر الذي منه بيع الغرر. ومن الغرر ما يمكنه قبضه، وعدم قبضه؛ كالدواب الشاردة؛ لأن مقصود العقد وهو القبض غير مقدور عليه.

ولهذا تنازع العلماء في بيع الدين على الغير، وفيه عن أحمد روايتان، وإن كان المشهور عند أصحابه منعه.

وبهذا وقع التعليل في بيع الثمار قبل بدو صلاحها، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك: أن رسول الله نهي عن بيع الثمار حتي تزهي قيل: وما تزهي؟ قال: حتي تحمر، قال رسول الله : (أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟). وفي لفظ أنه: نهي عن بيع الثمرة حتي يبدو صلاحها، وعن النخل حتي يزهو قيل: وما يزهو؟ قال: يحمار ويصفار. وفي لفظ: أن النبي نهي عن بيع الثمر حتي تزهو فقلت لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمر، بم تستحل مال أخيك؟. وهذه ألفاظ البخاري. وعند مسلم: نهي عن بيع ثمر النخل حتي يزهو، وعنده أن النبي قال: (إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟) قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي . أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط. وفيما قاله أبو مسعود نظر.

وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين، ليس فيه نزاع، وهو من الأحكام التي يجب اتفاق الأمم والملل فيها في الجملة؛ فإن مبني ذلك على العدل والقسط الذي تقوم به السماء والأرض، وبه أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } 22

وذلك أن المعاوضة كالمبايعة، والمؤاجرة مبناها على المعادلة. والمساواة من الجانبين، لم يبذل أحدهما ما بذله إلا ليحصل له ما طلبه. فكل منهما آخذ معط، طالب مطلوب. فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه مثل تلف العين المؤجرة، قبل التمكن من قبضها، وتلف ما بيع بكيل، أو وزن قبل تمييزه بذلك، وإقباضه ونحو ذلك لم يجب على المؤجر أو المشتري أداء الأجرة أو الثمن.

ثم إن كان التلف على وجه لا يمكن ضمانه وهو التلف بأمر سماوي بطل العقد، ووجب رد الثمن إلى المشتري إن كان قبض منه، وبرئ منه، إن لم يكن قبض. وإن كان على وجه يمكن فيه الضمان، وهو أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه، فللمشتري الفسخ لأجل تلفه قبل التمكن من قبضه، وله الإمضاء لإمكان مطالبة المتلف. فإن فسخ كانت مطالبة المتلف للبائع، وكان للمشتري مطالبة البائع بالثمن إن كان قبضه، وإن لم يفسخ، كان عليه الثمن، وله مطالبة المتلف؛ لكن المتلف لا يطالب إلا بالبدل الواجب بالإتلاف، والمشتري لا يطالب إلا بالمسمي الواجب بالعقد.

ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن المتلف إما أن يكون هو البائع، أو المشتري، أو ثالثا، أو يكون بأمر سماوي، فإن كان هو المشتري، فإتلافه كقبضه يستقر به العوض. وإن كان بأمر سماوي انفسخ العقد. وإن كان ثالثا، فالمشتري بالخيار. وإن كان المتلف هو البائع فأشهر الوجهين أنه كإتلاف الأجنبي. والثاني أنه كالتلف السماوي.

وهذا الأصل مستقر في جميع المعاوضات، إذا تلف المعقود عليه قبل التمكن من القبض تلفا لا ضمان فيه، انفسخ العقد، وإن كان فيه الضمان، كان في العقد الخيار. وكذلك سائر الوجوه التي يتعذر فيها حصول المقصود بالعقد من غير إياس؛ مثل أن يغصب المبيع أو المستأجر غاصب، أو يفلس البائع بالثمن، أو يتعذر فيها ما تستحقه الزوجة من النفقة، والمتعة، والقسم، أو ما يستحقه الزوج من المتعة ونحوها، ولا ينتقض هذا بموت أحد الزوجين؛ لأن ذلك تمام العقد ونهايته، ولا بالطلاق قبل الدخول؛ لأن نفس حصول الصلة بين الزوجين، أحد مقصودي العقد؛ ولهذا ثبتت به حرمة المصاهرة في غير الربيبة.

فصل في تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه

والأصل في أن تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه ينفسخ به العقد: من السنة: ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : (لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) وفي رواية أخري: إن رسول الله أمر بوضع الجوائح.

فقد بين النبي في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمرًا، فأصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا. ثم بين سبب ذلك وعلته فقال: (بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) وهذا دلالة على ما ذكره الله في كتابه من تحريم أكل المال بالباطل، وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ ماله بغير حق؛ بل بالباطل، وقد حرم الله أكل المال بالباطل؛ لأنه من الظلم المخالف للقسط الذي تقوم به السماء والأرض. وهذا الحديث أصل في هذا الباب.

والعلماء وإن تنازعوا في حكم هذا الحديث كما سنذكره، واتفقوا على أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد، ويحرم أخذ الثمن فلست أعلم عن النبي حديثا صحيحا صريحا في هذه القاعدة وهي: أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد، غير هذا الحديث.

وهذا له نظائر متعددة، قد ينص النبي نصا يوجب قاعدة، ويخفي النص على بعض العلماء حتي يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة، ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص، مثل اتفاقهم على المضاربة، ومنازعتهم في المساقاة، والمزارعة. وهما ثابتان بالنص، والمضاربة ليس فيها نص، وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم.

ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلا بالنص، ويفرعون عليه لا ينازعون في الأصل المنصوص، ويوافقون فيما لا نص فيه ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه؛ لهيبة الاتفاق في القلوب، وأنه ليس لأحد خلافه.

وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص. وقد يكون حكمه أقوي من المتفق عليه. وإن خفي مدركه على بعض العلماء، فليس ذلك بمانع من قوته في نفس الأمر، حتي يقطع به من ظهر له مدركه.

ووضع الجوائح من هذا الباب، فإنها ثابتة بالنص، وبالعمل القديم الذي لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين، وبالقياس الجلي والقواعد المقررة؛ بل عند التأمل الصحيح ليس في العلماء من يخالف هذا الحديث على التحقيق.

وذلك أن القول به هو مذهب أهل المدينة قديمًا، وحديثًا، وعليه العمل عندهم، من لدن رسول الله إلى زمن مالك وغيره، وهو مشهور عن علمائهم؛ كالقاسم بن محمد، ويحيي بن سعيد القاضي، ومالك وأصحابه، وهو مذهب فقهاء الحديث؛ كالإمام أحمد وأصحابه، وأبي عبيد، والشافعي في قوله القديم. وأما في القول الجديد، فإنه علق القول به على ثبوته؛ لأنه لم يعلم صحته، فقال رضي الله عنه: لم يثبت عندي أن رسول الله أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير.

فقد أخبر أنه إنما لم يجزم به؛ لأنه لم يعلم صحته. وعلق القول به على ثبوته، فقال: لو ثبت لم أعده. والحديث ثابت عند أهل الحديث لم يقدح فيه أحد من علماء الحديث؛ بل صححوه، ورووه في الصحاح والسنن، رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد. فظهر وجوب القول به على أصل الشافعي أصلا.

وأما أبو حنيفة، فإنه لا يتصور الخلاف معه في هذا الأصل على الحقيقة؛ لأن من أصله: أنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وبعده، ومطلق العقد عنده وجوب القطع في الحال. ولو شرط التبقية بعد بدو الصلاح، لم يصح عنده؛ بناء على ما رآه من أن العقد موجب التقابض في الحال، فلا يجوز تأخيره؛ لأنه شرط يخالف مقتضي العقد، فإذا تلف الثمر عنده بعد البيع والتخلية، فقد تلف بعد وجوب قطعه، كما لو تلف عند غيره بعد كمال صلاحه. وطرد أصله في الإجارة، فعنده لا يملك المنافع فيها إلا بالقبض شيئًا فشيئًا، لا تملك بمجرد العقد وقبض العين؛ ولهذا يفسخها بالموت وغيره.

ومعلوم أن الأحاديث عن النبي متواترة في التفريق بين ما بعد بدو الصلاح، وقبل بدوه، كما عليه جماهير العلماء، حيث نهي النبي عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها، وذلك ثابت في الصحاح من حديث ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبي هريرة. فلو كان أبو حنيفة ممن يقول ببيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح، ظهر النزاع معه.

والذين ينازعون في وضع الجوائح لا ينازعون في أن المبيع إذا تلف قبل التمكن من القبض، يكون من ضمان البائع؛ بل الشافعي أشد الناس في ذلك قولا؛ فإنه يقول: إذا تلف قبل القبض، كان من ضمان البائع في كل مبيع، ويطرد ذلك في غير البيع. وأبو حنيفة يقول به في كل منقول. ومالك وأحمد القائلان بوضع الجوائح يفرقان بين ما أمكن قبضه كالعين الحاضرة، وما لم يمكن قبضه؛ لما روي البخاري من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبًا مجموعًا فهو من مال المشتري.

وأما النزاع في أن تلف الثمر قبل كمال صلاحه تلف قبل التمكن من القبض أم لا؟ فإنهم يقولون: هذا تلف بعد قبضه؛ لأن قبضه حصل بالتخلية بين المشتري وبينه؛ فإن هذا قبض العقار وما يتصل به بالاتفاق؛ ولأن المشتري يجوز تصرفه فيه بالبيع وغيره، وجواز التصرف يدل على حصول القبض؛ لأن التصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز، فهذا سر قولهم.

وقد احتجوا بظاهر من أحاديث معتضدين بها؛ مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله : (تصدقوا عليه)، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) ومثل ما روي في الصحيحين أن امرأة أتت النبي فقالت: إن ابني اشتري ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتالي ألا يفعل. فقال النبي : (تالي ألا يفعل خيرا).

ولا دلالة في واحد من الحديثين.

أما الأول: فكلام مجمل، فإنه حكي أن رجلا اشتري ثمارًا، فكثرت ديونه، فيمكن أن السعر كان رخيصا، فكثر دينه لذلك. ويحتمل أنها تلفت أو بعضها بعد كمال الصلاح أو حوزها إلى الجرين، أو إلى البيت، أو السوق. ويحتمل أن يكون هذا قبل نهيه أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها. ولو فرض أن هذا كان مخالفا لكان منوسخا؛ لأنه باق على حكم الأصل، وذاك ناقل عنه، وفيه سنة جديدة، فلو خولفت لوقع التغيير مرتين.

وأما الحديث الثاني: فليس فيه إلا قول النبي : (تالي ألا يفعل خيرًا) والخير قد يكون واجبا، وقد يكون مستحبا، ولم يحكم عليه؛ لعدم مطالبة الخصم، وحضور البينة، أو الإقرار، ولعل التلف كان بعد كمال الصلاح.

وقد اعترض بعضهم على حديث الجوائح بأنه محمول على بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما في حديث أنس. وهذا باطل لعدة أوجه:

أحدها: أن النبي قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة) والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح.

والثاني: أنه أطلق بيع الثمرة، ولم يقل قبل بدو صلاحا. فأما تقييده ببيعها قبل بدو صلاحها، فلا وجه له.

الثالث: أنه قيد ذلك بحال الجائحة، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، لا يجب فيه ثمن بحال.

الرابع: أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون، فلو كان الثمر على الشجر مقبوضا، لوجب أن يكون مضمونا على المشتري في العقد الفاسد. وهذا الوجه يوجب أن يحتج بحديث أنس على وضع الجوائح في البيع الصحيح، كما توضع في البيع الفاسد؛ لأن ما ضمن في الصحيح ضمن في الفاسد، وما لا يضمن في الصحيح، لا يضمن في الفاسد.

وأما قولهم: إنه تلف بعد القبض، فممنوع، بل نقول: ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله؛ بل وقبل التمكن من القبض؛ لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر، حتي لو ترك ذلك، لكان مفرطا، ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية؛ فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد. فقد وجد التسليم دون تمام التسلم. وذلك أحد طرفي القبض. ولم يقدر المشتري إلا على ذلك. وإنما على المشتري أن يقبض المبيع على الوجه المعروف المعتاد الذي اقتضاه العقد، سواء كان القبض مستعقبا للعقد، أو مستأخرًا. وسواء كان جملة، أو شيئًا فشيئا.

ونحن نطرد هذا الأصل في جميع العقود، فليس من شرط القبض أن يستعقب العقد؛ بل القبض يجب وقوعه على حسب ما اقتضاه العقد، لفظا، وعرفا؛ ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معينة، وإن تأخر بها القبض على الصحيح، كما يجوز بيع العين المؤجرة، ويجوز بيع الشجر، واستثناء ثمره للبائع، وإن تأخر معه كمال القبض. ويجوز عقد الإجارة لمدة لا تلي العقد.

وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد، فيجب في ذلك ما أوجبه العاقدان بحسب قصدهما الذي يظهر بلفظهما وعرفهما؛ ولهذا قلنا: إن شرطا تعجيل القطع جاز إذا لم يكن فيه فساد يحظره الشرع، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا. وإن أطلقا، فالعرف تأخير الجذاذ والحصاد إلى كمال الصلاح.

وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية، فالقبض مرجعه إلى عرف الناس، حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع. وقبض ثمر الشجر لابد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح؛ بخلاف قبض مجرد الأصول. وتخلية كل شيء بحسبه. ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة.

وأما استدلالهم بجواز التصرف فيه بالبيع. فعن أحمد في هذه المسألة روايتان:

إحداهما: لا يجوز بيعه ما دام مضمونا على البائع؛ لأنه بيع ما لم يقبض، فلا يجوز. وعلى هذا يمنع الحكم في الأصل.

والرواية الثانية: يجوز التصرف. وعلى هذه الرواية، فذلك بمنزلة منافع الإجارة بأنها لو تلفت قبل الاستيفاء، كانت من ضمان المؤجر بالاتفاق، ومع هذا، فيجوز التصرف فيها قبل القبض؛ وذلك لأنه في الموضعين حصل الإقباض الممكن، فجاز التصرف فيه باعتبار التمكن، ولم يدخل في الضمان؛ لانتفاء كماله وتمامه الذي به يقدر المشتري والمستأجر على الاستيفاء، وعلى هذا فعندنا لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان؛ بل يجوز التصرف بلا ضمان كما هنا. وقد يحصل الضمان بلا جواز تصرف، كما في المقبوض قبضا فاسدا، كما لو اشتري قفيزا من صبرة، فقبض الصبرة كلها، وكما في الصبرة قبل نقلها على إحدى الروايتين. اختارها الخرقي. وقد يحصلان جميعا. وقد لا يحصلان جميعا.

ولنا في جواز إيجار العين المؤجرة بأكثر من أجرتها روايتان؛ لما في ذلك من ربح ما لم يضمن. ورواية ثالثة: إن زاد فيها عمارة جازت زيادة الأجرة، فتكون الزيادة في مقابلة الزيادة. فالروايتان في بيع الثمار المشتراة نظير الروايتين في إيجار العين المؤجرة. ولو قيل في الثمار: إنما يمنع من الزيادة على الثمن، كرواية المنع في الإجارة لتوجه ذلك.

وبهذا الكلام يظهر المعني في المسألة، وأن ذلك تلف قبل التمكن من القبض المقصود بالعقد، فيكون مضمونا على البائع، كتلف المنافع قبل التمكن من قبضها؛ وذلك لأن التخلية ليست مقصودة لذاتها، وإنما مقصودها تمكن المشتري من قبض المبيع، والثمر على الشجر ليس بمحرز ولا مقبوض؛ ولهذا لا قطع فيه. ولا المقصود بالعقد كونه على الشجر؛ وإنما المقصود حصاده وجذاذه؛ ولهذا وجب على البائع ما به يتمكن من جذاذه وسقيه، والأجزاء الحادثة بعد البيع داخلة فيه، وإن كانت معدومة، كما تدخل المنافع في الإجارة، وإن كانت معدومة. فكيف يكون المعدوم مقبوضًا قبضًا مستقرًا موجبا لانتقال الضمان؟

فصل الجائحة هي الآفات السماوية

وعلى هذا الأصل تتفرع المسائل. فالجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد مثل: الريح والبرد والحر والمطر، والجليد والصاعقة، ونحو ذلك، كما لو تلف بها غير هذا المبيع. فإن أتلفها آدمي يمكن تضمينه، أو غصبها غاصب، فقال أصحابنا كالقاضي وغيره: هي بمنزلة إتلاف المبيع قبل التمكن من قبضه، يخير المشتري بين الإمضاء والفسخ كما تقدم. وإن أتلفها من الآدميين من لا يمكن ضمانه كالجيوش التي تنهبها، واللصوص الذين يخربونها، فخرجوا فيه وجهين:

أحدهما: ليست جائحة، لأنها من فعل آدمي.

والثاني: وهو قياس أصول المذهب أنها جائحة، وهو مذهب مالك. كما قلنا مثل ذلك في منافع الإجارة؛ لأن المأخذ إنما هو إمكان الضمان؛ ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار، أو أهل الحرب، كان ذلك كالآفة السماوية. والجيوش واللصوص وإن فعلوا ذلك ظلما، ولم يمكن تضمينهم: فهم بمنزلة البرد في المعني. ولو كانت الجائحة قد عيبته ولم تتلفه، فهو كالعيب الحادث قبل التمكن من القبض، وهو كالعيب القديم يملك به، أو الأرش حيث يقول به.

وإذا كان ذلك بمنزلة تلف المبيع قبل التمكن من قبضه، فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين. وهي قول الشافعي، وأبي عبيدة وغيرهما من فقهاء الحديث؛ لعموم الحديث والمعني.

والثانية: أن الجائحة الثلث فما زاد، كقول مالك؛ لأنه لابد من تلف بعض الثمر في العادة، فيحتاج إلى تقدير الجائحة، فتقدر بالثلث، كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك؛ لأن النبي قال: (الثلث، والثلث كثير).

وعلى الرواية الأولي يقال: الفرق مرجعه إلى العادة، فما جرت العادة بسقوطه، أو أكل الطير أو غيره له، فهو مشروط في العقد، والجائحة مازاد على ذلك؛ وإذا زادت على العادة وضعت جميعها، وكذلك إذا زادت على الثلث، وقلنا بتقديره، فإنها توضع جميعها. وهل الثلث مقدر بثلث القيمة، أو ثلث المقدار؟ على وجهين. وهما قولان في مذهب مالك.

فصل الجوائح موضوعة في جميع الشجر

والجوائح موضوعة في جميع الشجر عند أصحابنا، وهو مذهب مالك. وقد نقل عن أحمد أنه قال: إنما الجوائح في النخل، وقد تأوله القاضي على أنه أراد إخراج الزرع والخضر من ذلك، ويمكن أنه أراد أن لفظ الجوائح الذي جاء به الحديث هو في النخل، وباقي الشجر ثابتة بالقياس، لا بالنص؛ فإن شجر المدينة كان النخل. وأما الجوائح فيما يبتاع من الزرع ففيه وجهان ذكرهما القاضي وغيره.

أحدهما: لا جائحة فيها. قال القاضي: وهذا أشبه؛ لأنها لا تباع إلا بعد تكامل صلاحها وأوان جذاذها، بخلاف الثمرة، فإن بيعها جائز بمجرد بدو الصلاح، ومدته تطول. وعلى هذا الوجه حمل القاضي كلام أحمد: إنما الجوائح في النخل يعني لما كان ببغداد وقد سئل عن جوائح الزرع فقال: إنما الجوائح في النخل. وكذلك مذهب مالك أنه لا جائحة في الثمرة إذا يبست، والزرع لا جائحة فيه كذلك؛ لأنه إنما يباع يابسًا، وهذا قول من لا يضع الجوائح في الثمر. كأبي حنيفة والشافعي في القول الجديد المعلق.

والوجه الثاني: فيها الجائحة كالثمرة. وهذا هو الذي قطع به غير واحد من أصحابنا؛ كأبي محمد، لم يذكروا فيه خلافًا، ولم يفرقوا بين ذلك وبين الثمرة؛ لأن النبي نهي عن بيع العنب حتي يسود، وبيع الحب حتي يشتد. فبيع هذا بعد اسوداده كبيع هذا بعد اشتداده. ومن حين يشتد إلى حين يستحصد مدة قد تصيبه فيها جائحة.

ومن أصحابنا من قال: ما تكرر حمله كالقثاء، والخيار، ونحوهما من الخضر والبقول، وغيرهما فهو كالشجر، وثمره كثمره في ذلك؛ لصحة بيع أصوله، صغارًا كانت أو كبارًا، مثمرة أو غير مثمرة.

فصل إن ترك الجائحة إلى حين الجذاذ فتلفت

هذا إذا تلفت قبل كمال صلاحها ووقت جذاذها. فإن تركها إلى حين الجذاذ فتلفت حينئذ، فكذلك عند أصحابنا. ونقل عن مالك أنها تكون من ضمان المشتري. وللشافعي قولان؛ وذلك لأنه لم يبق على البائع شيء من التسليم، والمشتري لم يحصل منه تفريط، لا خاص ولا عام، فإن تأخيرها إلى هذا الحين من موجب العقد. فأصحابنا راعوا عدم تمكن المشتري، وعدم تفريطه، والمنازع راعي تسليم البائع وتمكينه.

وأما إن تركها حتي تجاوز وقت نقلها وتكامل بلوغها، ثم تلفت: ففيها لأصحابنا ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون من ضمان البائع أيضًا؛ لعدم كمال قبض المشتري، وهو الذي قطع به القاضي في المجرد، وابن عقيل، وأكثر الأصحاب، وهو مذهب مالك والشافعي، لكن القاضي في المجرد علله بما إذا لم يكن له عذر؛ دون ما إذا عاقه مرض أو مانع. وأما غيره فذهبوا إلى الوجه الثالث، وهو عدم اعتبار إمكان الرفع والجد. قال ابن عقيل: هذا هو الذي يقتضيه مذهبنا. وهو كما قال؛ فإن هذه الثمرة بمنزلة المنفعة في الإجارة. ولو حال بين المستأجر وبينها حائل يخصه، مثل مرضه ونحوه لم تسقط عنه الأجرة؛ بخلاف العام، فإنه يسقط أجرة ما ذهب به من المنفعة.

فصل إن اشتري الأصل بعد ظهور الثمر أو قبل التأبير

هذا إذا اشترى الثمرة والزرع، فإن اشتري الأصل بعد ظهور الثمر أو قبل التأبير، واشترط الثمر فلا جائحة في ذلك عند أصحابنا ومالك وغيرهما. ولذلك احترز الخرقي من هذه الصورة، فقال: وإذا اشتري الثمرة دون الأصل، فتلفت بجائحة من السماء، رجع بها على البائع؛ وذلك لأنه هنا حصل القبض الكامل بقبض الأصل؛ ولهذا لا يجب على البائع سقي ولا مؤونة أصلا؛ فإن المبيع عقار، والعقار قبض بالتخلية، والثمر دخل ضمنًا وتبعا، فإذا جاز بيعه قبل صلاحه، جاز هنا بيعا. ولو بيع مقصودًا، لم يجز بيعه قبل صلاحه.

فصل في الضمان والقبالة

هذا الكلام في البيع المحض للثمر والزرع. وأما الضمان والقبالة، وهو أن يضمن الأرض والشجر جميعا بعوض واحد لمن يقوم على الشجر والأرض، ويكون الثمر والزرع له: فهذا العقد فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه باطل، وهذا القول منصوص عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ بناء على أنه في ذلك تبعًا للثمر قبل بدو صلاحه.

والثاني: يجوز إذا كانت الأرض هي المقصودة، والشجر تابع لها؛ بأن يكون شجرا قليلا. وهذا قول مالك.

والثالث: جواز ذلك مطلقا، قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، منهم ابن عقيل. وهذا هو الصواب؛ لأن إجارة الأرض جائزة، ولا يمكن ذلك إلا بإدخال الشجر في العقد، فجاز للحاجة تبعا، وإن كان في ذلك بيع ثمر قبل بدو صلاحه إذا بيع مع الأصل؛ ولأن ذلك ليس ببيع للثمر؛ لأن الضامن هنا هو الذي يسقي الشجر، ويزرع الأرض، فهو في الشجر بمنزلة المستأجر في الأرض. والمبتاع للثمر بمنزلة المشتري للزرع، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر؛ ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين بعد موته، وأخذ القبالة فوفي بها دينه. رواه حرب الكرماني في مسائله، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه بإسناد صحيح. ولأن عمر بن الخطاب ضرب الخراج باتفاق الصحابة على الأرض التي فيها شجر نخل وعنب، وجعل للأرض قسطا، وللشجر قسطا. وذلك إجارة عند أكثر من ينازعنا في هذه المسألة، وهو ضمان لأرض وشجر. وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في القواعد الفقهية.

والغرض هنا: مسألة وضع الجوائح، فإذا قلنا: لا يصح هذا العقد فكيف الطريق في المعاملة؟ قيل: إنه يؤجر الأرض، ويساقي على الشجر فيها، وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم. وهو قول القاضي أبي يعلى في كتاب إبطال الحيل والمنصوص عن أحمد إبطال هذه الحيلة، وهو الصواب، كما قررنا في كتاب إبطال الحيل، فساد ذلك من وجوه كثيرة:

منها: أنه إن جعل أحد العقدين شرطا في الآخر، لم يصح، وإن عقدهما عقدين مفردين، لم تجز له هذه المحاباة في مال موليه؛ كالوقف ومال اليتيم، ونحوهما، ولا مال موكله الغائب ونحوه.

ومنها: أنه قد علم أن إعطاء العوض العظيم من الضامن لم يكن لأجل منفعة الأرض التي قد لا تساوي عشر العوض، وإنما هو لأجل الثمرة، وكذلك المالك قد علم أنه لم يشترط لنفسه من الثمرة شيئًا، وهو لا يطالب بذلك القدر النزر الذي لا قيمة له، وإنما جعل الثمرة جميعها للضامن.

وفي الجملة: فهذا العقد إما أن يصح على الوجه المعروف بين الناس، وإما ألا يصح بحال، لكن الثاني فيه فساد عظيم لا تحتمله الشريعة، فتعين الأول. وأما هذه الحيلة فيعرف بطلانا بأدني نظر.

فعلى هذا إذا حصلت جائحة في هذا الضمان، فإن قلنا: العقد فاسد، فيكون قد اشتري ثمرة قبل بدو صلاحها، وقد خلي بينه وبينها، وتلفت قبل كمال الصلاح، أو لم تطلع. وقد تقدم أن النبي إنما نهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه لقوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أو قال: (أرأيت إن لم يثمرها الله، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟)، وإذا أصابتها جائحة منعت كمال صلاحها، وأفسدتها: فقد منع الله الثمرة، فيجب ألا يأخذ مال أخيه بغير حق.

ومن قال: إن الثمرة تضمن بالقبض في العقد الصحيح، فيلزمه أن يقول: إنها تضمن بالقبض في العقد الفاسد، فإذا تلفت هنا تكون من ضمانه؛ لأن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على المشتري؛ لكن يجب أن يضمنوا قيمتها حين تلفت، وقد يكون تلفها في أوئل ظهورها وقيمتها قليلة، وقد يكون بعد بدو صلاحها وهذا مما يلزمهم فيه إلزاما قويا، وهو أنه إذا اشتراها بعد بدو صلاحها مستحقة التبقية، فكثير من أجزائها وصفاتها لم يخلق بعد، فإذا تلفت بجائحة ولم نضع عنه الجائحة، فيجب ألا يضمن إلا ما قبضه دون ما لم يخلق بعد ولم يقبضه، فيجب أن ينظر قيمتها حين أصابتها الجائحة، فينسب ذلك إلى قيمتها، وقت بدو الصلاح، فيضمن من الثمن بقدر ذلك، بمنزلة من قبض بعض المبيع وبعض منفعة الإجارة دون بعض، فإنه يضمن ما قبضه دون ما لم يقبضه بعد.

فإما أن يجعل الأجزاء والصفات المعدومة التي لم تخلق بعد من ضمانه، وهي لم توجد، فهذا خلاف أصول الإسلام، وهو ظلم بين لا وجه له. ومن قاله، فعليه أن يقول: إنه إذا اشتري الثمرة قبل بدو صلاحها، وقبض أصلها، ولم يخلق منها شيء لآفة منعت الطلع، أن يضمن الثمن جميعه للبائع، وهذا خلاف النص والإجماع. ويلزمه أن يقول: إنه لو بدا صلاحها في العقد الفاسد، وتلفت بآفة سماوية أن يضمن جميع الثمرة، كما يضمنها عنده بالعقد الصحيح، فإن ما ضمن بالقبض في أحدهما، ضمن بالقبض في الآخر، إلا أنه يضمن هنا بالمسمي وهناك بالبدل. وهذه حجة قوية لا محيص عنها، فإنه إن جعل ما لم يخلق من الأجزاء مقبوضا، لزمه أن يضمن في العقد الفاسد، وإن جعله غير مقبوض، لزمه ألا يضمن في العقد الصحيح. والأول باطل قطعًا، مخالف للنص والإجماع.

ومن قال من الكوفيين: إن المعقود عليه هو ما وجد فقط، وهو المقبوض، فقد سلم من هذا التناقض؛ لكن لزمه مخالفة النصوص المستفيضة، ومخالفة عمل المسلمين قديما وحديثا، ومخالفة الأصول المستقرة، ومخالفة العدل الذي به تقوم السماء والأرض، كما هو مقرر في موضعه.

وهذا كالحجج القاطعة على وجوب وضع الجوائح في العقود الصحيحة والفاسدة، ووضعها في العقد الفاسد أقوي. وأما إذا جعلنا الضمان صحيحا، فإنا نقول بوضع الجوائح فيه. كما نقوله في الشراء، وأولي أيضا. وأما من يصحح هذه الحيلة ويري العقد صحيحا، فقد يقول: أنت مساق، والمساقاة ليس فيها جائحة، فيبني هذا على وضع الجوائح في المساقاة

فصل الجوائح في الإجارة

وأما الجوائح في الإجارة، فنقول: لا نزاع بين الأئمة أن منافع الإجارة إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة، لم يتنازعوا في ذلك كما تنازعوا في تلف الثمرة المبيعة؛ لأن الثمرة هناك قد يقولون: قبضت بالتخلية، وأما المنفعة التي لم توجد فلم تقبض بحال. ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها، بطلت الإجارة، وكذلك إذا تلفت عقب قبضها وقبل التمكن من الانتفاع؛ إلا خلافا شاذًا حكوه عن أبي ثور؛ لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه، فأشبه تلف المبيع بعد القبض، جعلا لقبض العين قبضًا للمنفعة.

وقد يقال: هو قياس قول من يقول بعدم وضع الجوائح؛ لكن يقولون: المعقود عليه هنا المنافع، وهي معدومة لم تقبض؛ وإنما قبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها؛ وإنما جعل قبض العين قبضًا لها في انتقال الملك، والاستحقاق، وجواز التصرف. فإذا تلفت العين، فقد تلفت قبل التمكن من استيفاء المنفعة، فتبطل الإجارة.

وهذا يلزمهم مثله في الثمرة باعتبار ما لم يوجد من أجزائها. والأصول في الثمرة كالعين في المنفعة، وعدم التمكن من استيفاء المقصود بالعقد موجود في الموضعين. فأبو ثور طرد القياس الفاسد، كما طرد الجمهور القياس الصحيح في وضع الجوائح وإبطال الإجارة.

وإن تلفت العين في أثناء المدة، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، دون ما مضي. وفي انفساخها في الماضي خلاف شاذ. وتعطل بعض الأعيان المستأجرة يسقط نصيبه من الأجرة، كتلف بعض الأعيان المبيعة؛ مثل موت بعض الدواب المستأجرة، وانهدام بعض الدور.

وتعطل المنفعة يكون بوجهين:

أحدهما: تلف العين كموت العبد، والدابة المستأجرة.

والثاني: زوال نفعها بأن يحدث عليها ما يمنع نفعها، كدار انهدمت وأرض للزرع غرقت، أو انقطع ماؤها. فهذه إذا لم يبق فيها نفع فهي كالتالفة سواء، لا فرق بينهما عند أحد من العلماء. وإن زال بعض نفعها المقصود، وبقي بعضه، مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء ويكون زرعا ناقصا، وكان الماء ينحسر عن الأرض التي غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة، أو نشوء الزرع: ملك فسخ الإجارة؛ فإن ذلك كالعيب في البيع ولم تبطل به الإجارة. وفي إمساكه بالأرش قولان في المذهب. وإن تعطل نفعها بعض المدة، لزمه من الأجرة بقدر ما انتفع به كما قال الخرقي.

فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه. وإذا بقي من المنفعة ما ليس هو المقصود بالعقد، مثل أن ينقطع الماء عن الأرض المستأجرة للزرع، ويمكن الانتفاع بها بوضع حطب ونصب خيمة، وكذلك الدار المتهدمة يمكن نصب خيمة فيها، والأرض التي غرقت يمكن صيد السمك منها: فهل تبطل الإجارة هنا؟ أو يكون هذا كالنقص الذي يملك به الفسخ؟ على وجهين:

أحدهما: تبطل. وهو قول أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة ومالك والشافعي في صورة الهدم؛ لأن هذه المنفعة لما لم تكن هي المقصودة بالعقد كان وجودها وعدمها سواء.

والثاني: يملك الفسخ. وهو نص الشافعي في صورة انقطاع الماء. وقد اختاره القاضي وابن عقيل في بعض المواضع. والأول اختاره غيرهما من الأصحاب.

فصل إذا استأجر أرض للزرع وانقطع الماء عنها أو غرقت قبل الزرع

إذا تبين هذا فإذا استأجر أرض للزرع، فقد ينقطع الماء عنها، أو تغرق قبل الزرع. وقد ينقطع الماء عنها أو تغرق أو يصيب الزرع آفة بعد زرعها، وقبل وقت الحصاد، فما الحكم في هذه المسائل؟

المنصوص عن أحمد والأصحاب وغيرهم في انقطاع الماء: أن انقطاعه بعد الزرع كانقطاعه قبله، إن حصل معه بعض المنفعة، وجب من الأجرة بقسط ذلك وإن تعطلت المنفعة كلها، فلا أجرة. قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله عن رجل اكتري أرضًا يزرعها وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر ما لم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. فصرح بأن انقطاع الماء بعد الزرع يوجب أن يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، وعلى هذا أصحابنا من غير خلاف أعلمه.

وذكر القاضي وغيره أنه إذا اكتري أرضا للزرع فزرعها. ثم أصابها غرق آفة من غير الشرب، فلم ينبت، لزمه الكراء، وذكر أن أحمد نص على ذلك، وأنها لو غرقت في وقت زرعها فلم يمكنه الزراعة لم تلزمه الأجرة لتعذر التسليم، وكذلك ذكر صاحب التفريع، مذهب مالك في الصورتين. فالقاضي يفرق بين الصورتين، كالنصين المفترقين: يفرق بين انقطاع الماء، وبين حدوث الغرق وغيره من الآفات، بأن انقطاع الماء فوات نفس المنفعة المعقود عليها؛ لأن المعقود عليه أرض لها ماء، فانقطاع الماء المعتاد بمنزلة عدم التسليم المستحق، كموت الدابة. والأجرة إنما تستحق بدوام التسليم المستحق. وأما الغرق وغيره من الآفات التي تفسد الزرع، فهو إتلاف لعين ملك المستأجر، فهو كما لو استأجر دارًا فتلف له فيها ثوب.

وحقيقة الفرق: أنه مع انقطاع الماء لم تسلم المنفعة، ومع تلف الزرع تسلم المنفعة، لكن حصل ما أتلف ملك المستأجر، فهو كما لو تلف بعد الحصاد.

وسوي طائفة من أصحابنا كالشيخ أبي محمد في الإجارة بين انقطاع الماء وحدوث الغرق الذي يمنع الزرع، أو يضر الزرع؛ بأن ذلك إن عطل المنفعة أسقط الأجرة، وإن أمكن الانتفاع معه على تعب من القصور: مثل أن يكون الغرق يمنع بعض الزراعة، أو يسوء الزرع ثبت به الفسخ، وإن كان ذلك لا يضر كغرق بماء ينحسر في قرب من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره، وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر اليها الماء من مكان آخر، وكان انقطاعه في زمن لا يحتاج اليه فيه لم يكن له الفسخ.

وعلى هذه الطريقة ينقل جواب أحمد من مسألة انقطاع الماء إلى مسألة غرق الزرع، ومن مسألة غرق الزرع إلى مسألة انقطاع الماء؛ لأن المعني في الجميع واحد. وذلك أن غرق الزرع الحادث قبل الزرع إذا منع من الزرع فالحادث بعده يمنع من نبات الزرع، كما أن انقطاع الماء يمنع من نبات الزرع، والمعقود عليه المقصود بالعقد هو التمكن من الانتفاع إلى حين الحصاد ليس إلقاء البذر هو جميع المعقود عليه، ولو كان ذلك وحده هو المعقود عليه لوجب إذا انقطع الماء بعد ذلك ألا يملك الفسخ. ولا يسقط شيء من الأجرة، ولم يقولوا به، ولا يجوز أن يقال به؛ لأنا نعلم يقينا أن مقصود المستأجر الذي عقد عليه العقد هو تمكنه من الانتفاع بتربة الأرض، وهوائها، ومائها، وشمسها إلى أن يكمل صلاح زرعه، فمتي زالت منفعة التراب أو الماء أو الهواء أو الشمس لم ينبت الزرع، ولم يستوف المنفعة المقصودة بالعقد، كما لو استأجر دارًا للسكني فتعذرت السكني بها لبعض الأسباب، مثل خراب حائط، أو انقطاع ماء، أو انهدام سقف، ونحو ذلك.

ولا خلاف بين الأمة أن تعطل المنفعة بأمر سماوي يوجب سقوط الأجرة، أو نقصها، أو الفسخ، وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع كموت الدابة. وانهدام الدار، وانقطاع ماء السماء، فكذلك حدوث الغرق، وغيره من الآفات المانعة من كمال الانتفاع بالزرع.

يوضح ذلك أن المقصود المعقود عليه ليس هو مجرد فعل المستأجر الذي هو شق الأرض، وإلقاء البذر، حتي يقال: إذا تمكن من ذلك فقد تمكن من المنفعة جميعها، وإن حصل بعده ما يفسد الزرع، ويمنع الانتفاع به؛ لأن ذلك منتقض بانقطاع الماء بعد ذلك؛ ولأن المعقود عليه نفس منفعة الأرض، وانتفاعه بها ليس هو فعله؛ فإن فعله ليس هو منفعة له، ولا فيه انتفاع له، بل هو كلفة عليه وتعب ونصب يذهب فيه نفعه وماله. وهذا بخلاف سكني الدار، وركوب الدابة؛ فإن نفس السكني والركوب انتفاع، وبذلك قد نفعته العين المؤجرة.

وأما شق الأرض فتعب ونصب، وإلقاء البذر إخراج مال، وإنما يفعل ذلك لما يرجوه من انتفاعه بالنفع الذي يخلقه الله في الأرض من الإنبات، كما قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } 23، وقال: { يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ } 24، وقال: { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } 25.

وليس لقائل أن يقول: إن إنبات الأرض ليس مقدورًا للمستأجر، ولا للمؤجر، والمعقود عليه يجب أن يكون مقدورًا عليه؛لأن هذا خلاف إجماع المسلمين، بل وسائر العقلاء؛ فإن المعقود عليه المقصود بالإجارة لا يجب أن يكون من فعل أحد المتآجرين، بل يجوز أن يجعل غيرهما من حيوان أو جماد، وإن كانا عاجزين عن تلك المنفعة، مثل أن يؤجره عبدًا أو دابة، ونفعها هو باختيارها، ومثل أن يؤجره دارًا للسكني، ونفس الانتفاع بها هو بما خلق الله فيها من البقاء على تلك الصورة، ليس ذلك من فعل المؤجر. وكذلك جريان الماء من السماء ونبعه من الأرض هو داخل في المعقود عليه، وليس هو من مقدور أحدهما.

وكذلك إذا آجره منقولا من سلاح أو كتب أو ثياب أو آلة صناعة أو غير ذلك؛ فإن المنفعة التي فيه ليست من فعل المؤجر. ونظائر ذلك كثيرة. فكذلك نفع الأرض الذي يخلقه الله فيها حتي ينبت الزرع بترابها ومائها وهوائها وشمسها، وإن كان أكثره لا يدخل في مقدور البشر هو المعقود عليه المقصود بالعقد، فإذا تلف هذا المعقود عليه بطل العقد، وإن بطل بعضه كان كما لو تعطل منفعة غيره من الأعيان المؤجرة، بل بطلان الإجارة أو نقص الأجرة هنا أولي منه في جوائح الثمر.

فإن الذين تنازعوا هناك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي حجتهم أن الثمرة تلفت بعد القبض، فهو كما لو تلفت بعد الجذاذ، أو بعد وقته. وأما هنا فقد اتفق الأئمة على أن المنفعة إنما تقبض القبض المضمون على المستأجر شيئًا فشيئًا. ولهذا اتفقوا على أنه إذا تلفت العين، أو تعطلت المنفعة، أو بعضها في أثناء المدة سقطت الأجرة أو بعضها، أو ملك الفسخ.

وإنما دخلت الشبهة على من دخلت عليه، حيث ظن أن المنفعة المقصودة بالعقد إثارة الأرض، والبذر فيها. وظن أن تلف الزرع بعد ذلك بغرق أو غيره بمنزلة تلف زرع الزارع بعد الحصاد، وبمنزلة تلف ثوب له في الدار المستأجرة. وهذه غفلة بينة لمن تدبر؛ ولهذا ينكر كل ذي فطرة سليمة ذلك، حتي من لم يمارس علم الفقه من الفلاحين، وشذاذ المتفقهة، ونحوهم. فإنهم يعلمون أن المعقود عليه هو انتفاع المستأجر منفعة العين المؤجرة؛ لا مجرد تعبه ونفقته الذي هو طريق إلى الانتفاع؛ فإن ذلك بمنزلة إسراجه وإلجامه واقتياده للفرس المستأجرة، وذلك طريق إلى الانتفاع بالركوب؛ لا أنه المعقود عليه، وإن كان داخلا فيه. وكذلك شد الأحمال، وعقد الحبال، ونحو ذلك هو طريق إلى الانتفاع بالحمل على الدابة، وهو داخل في المعقود عليه بطريق التبع. وإلا فالمعقود عليه المقصود هو نفس حمل الدابة للحمل، والركوب، وإن كان الحمل نفع الدابة والإسراج والشد فعل المستأجر، فكذلك هنا الشق والبذر، وإن كان فعله فهو داخل في الإجارة بطريق التبع؛ لأنه طريق إلى النفع المعقود عليه المقصود بالعقد، وهو نفع الأرض بما يخلقه فيها من ماء وهواء وشمس.

فمن ظن أن مجرد فعله هو المعقود عليه فقد غلط غلطًا بينا باليقين الذي لا شبهة فيه. وسبب غلطه كون فعله أمرًا محسوسًا لحركته، وكون نفع الأرض أمرا معقولا لعدم حركتها، فالذهن لما أدرك الحركة المحسوسة توهم أنها هي المعقود عليه. وهذا غلط منقوض بسائر صور الإجارة؛ فإن المعقود عليه هو نفع الأعيان المؤجرة، سواء كانت جامدة كالأرض والدار والثياب، أو متحركة كالأناسي والدواب، لا عمل الشخص المستأجر، وإنما عمل الشخص المستأجر طريق إلى استيفاء المنفعة. فتارة يقترن به الاستيفاء كالركوب واللبس، وتارة يتأخر عنه الاستيفاء كالبناء والغراس والزرع.

فإن المعقود عليه حصول منفعة الأرض للبناء والغراس والزرع، لا مجرد عمل الباني الغارس الزارع الذي هو حق نفسه، كيف يكون حق نفسه هو الذي بذل الأجرة في مقابلته؟ وإنما يبذل الأجرة فيما يصل اليه من منفعة العين المؤجرة، لا فيما هو له من عمل نفسه؛ فإن شراء حقه بحقه محال. ومن تصور هذه قطع بما ذكرناه، ولم يبق عنده فيه شبهة إن شاء الله.

وإذا كان المعقود عليه نفس منفعة العين من أول المدة إلى آخرها، فأي وقت نقصت فيه هذه المنفعة؛ بنقص ماء وانقطاعه، أو بزيادته وتغريقه، أو حدوث جراد، أو برد، أو حر، أو ثلج، ونحو ذلك مما يكون خارجا عن العادة ومانعا من المنفعة المعتادة فإن ذلك يمنع المنفعة المستحقة المعقود عليها. فيجب أن يملك الفسخ، أو يسقط من الأجرة بقدر ما فات من المنفعة؛ كانقطاع الماء، وليس بين انقطاع الماء، وزيادته، وسائر الموانع فرق يصلح لافتراق الحكم.

فصل فيما عليه من الأجرة بقدر ما حصل له من المنفعة

إذا تبين ذلك فقد تقدم نص أحمد والخرقي وغيرهما على أنه عليه من الأجرة بقدر ما حصل له من المنفعة. وهذا نوعان:

أحدهما: حصول المنفعة في بعض زمن الإجارة، أو بعض أجزاء العين المستأجرة، فهذا تقسط فيه الأجرة على قدر ذلك، ويجب بقسط ما حصل من المنفعة، وتكون الأجرة مقسومة على قدر قيمة الأمكنة، والأزمنة؛ فإن كلا منهما قد يكون متماثلا، وقد يكون مختلفا؛ بأن يكون بعض الأرض خيرًا من بعض وكري بعض فصول السنة أغلي من بعض. وقد صرح بذلك أصحابنا، وغيرهم.

والثاني: نقص المنفعة في نفس المكان الواحد والزمان الواحد؛ مثل أن يقل ماء السماء عن الوجه المعتاد، أو يحصل غرق ينقص الزرع، ونحو ذلك، فهنا لأصحابنا وجهان:

أحدهما: أنه لا يملك إلا الفسخ.

والثاني: وهو مقتضي المنصوص، وقياس المذهب: أنه يخير بين الفسخ وبين الأرش، كالبيع، بل هو في الإجارة أوكد؛ لأنه في البيع يمكنه الرد، والمطالبة بالثمن. وهنا لا يمكنه رد جميع المنفعة، فإنه لا يردها إلا متغيرة.

فلو قيل هنا: إنه ليس له إلا المطالبة بالأرش؛ كما نقول على إحدى الروايتين: إن تعيب المبيع عند المشتري يمنع الرد بالعيب القديم، ويوجب الأرش لكان ذلك أوجه، وأقيس من قول من يقول: ليس له إذا تعقب المنفعة إلا الرد دون المطالبة بالأرش. فهذا قول ضعيف جدًا، بعيد عن أصول الشريعة، وقواعد المذهب، وخلاف ما نص عليه أحمد، وأئمة أصحابه؛ وإن كان القاضي قد يقوله في المجرد ويتبعه عليه ابن عقيل أو غيره، فالقاضي رضي الله عنه صنف المجرد قديما، بعد أن صنف شرح المذهب، وقبل أن يحكم التعليق والجامع الكبير، وهو يأخذ المسائل التي وضعها الناس وأجابوا فيها على أصولهم، فيجيب فيها بما نص عليه أحمد وأصحابه، وبما تقتضيه أصوله عنده، فربما حصل في بعض المسائل التي تتفرع وتتشعب ذهول للمفرع في بعض فروعها عن رعاية الأصول والنصوص في نحو ذلك.

وعلى هذا، فإذا حصل من الضرر كالبرد الشديد، والغرق، والهواء المؤذي، والجراد، والجليد، والفأر، ونحو ذلك ما نقص المنفعة المقصودة المعتادة المستحقة بالعقد، فيصنع في ذلك كما يصنع في أرش المبيع المعيب؛ تنظر قيمة الأرض بدون تلك الآفة، وقيمتها مع تلك الآفة، وينسب النقص إلى القيمة الكاملة، ويحط من الأجرة المسماة بقدر النقص، كأن تكون أجرتها مع السلامة تساوي ألفا، ومع الآفة تساوي ثمانمائة، فالآفة قد نقصت خمس القيمة، فيحط خمس الأجرة المسماة، وكذلك في جائحة الثمر؛ ينظر كم نقصته الجائحة؟ هل نقصته ثلث قيمته، أو ربعها، أو خمسها؟ يحط عنه من الثمن بقدره. وكذلك لو تغير الثمر وعاب نظر كم نقصه ذلك العيب من قيمته؟ وحط من الثمن بنسبته.

وأما ما قد يتوهمه بعض الناس أن جائحة الزرع في الأرض المستأجرة توضع من رب الأرض، أو يوضع من رب الأرض بعض الزرع، قياسًا على جائحة المبيع في الثمر والزرع فهذا غلط؛ فإن المشتري للثمر والزرع ملك بالعقد نفس الثمر والزرع. فإذا تلفت قبل التمكن من القبض تلفت من ملك البائع. وأما المستأجر فإنما استحق بالعقد الانتفاع بالأرض. وأما الزرع نفسه فهو ملكه الحادث على ملكه، لم يملكه بعقد الإجارة، وإنما ملك بعقد الإجارة المنفعة التي تنبته إلى حين كمال صلاحه.

فيجب الفرق بين جائحة الزرع والثمر المشتري، وبين الجائحة في منفعة الأرض المستأجرة المزروعة؛ فإن هذا مَزَلَّة أقدام؛ وَمَضَلَّة أفهام. غلط فيها خلائق من الحكام والمقومين، والمجيحين، والملاك، والمستأجرين، حتي إن بعضهم يظنون أن جائحة الإجارة للأرض المزروعة بمنزلة جائحة الزرع المشتري. وبعض المتفقهة يظن أن الأرض المزروعة إذا حصل بها آفة منعت من كمال الزرع لم تنقص المنفعة، ولم يتلف شيء منها، وكلا الأمرين غلط لمن تدبر.

ونظير الأرض المستأجرة للازدراع الأرض المستأجرة للغراس، والبناء؛ فإن المؤجر لا يضمن قيمة الغراس والبناء إذا تلف، ولكن لو حصلت آفة منعت كمال المنفعة المستحقة بالعقد، مثل أن يستولي عدو يمنع الانتفاع بالغراس والبناء، أو تحصل آفة من جراد أو آفة تفسد الشجر المغروس، أو حصل ريح بهدم الأبنية، ونحو ذلك، فهنا نقصت المنفعة المستحقة بالعقد، نظير نقص المنفعة في الأرض المزروعة.

ولما كان كثير من الناس يتوهم أن المستأجر توضع عنه الجائحة في نفس الزرع والبناء والغراس كالمشتري، نفي ذلك العلماء، ويشبه أن يكون هذا معني ما نص عليه أحمد، ونقله أصحابنا؛ كالقاضي، وأبي محمد، حيث قالوا واللفظ لأبي محمد: إذا استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع فلا شيء على المؤجر. نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم تتلف، إنما تلف مال المستأجر فيها، فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا فتلفت الثياب فيها.

فهذا الكلام يقتضي أن المؤجر لا يضمن شيئًا من زرع المستأجر، كما يضمن البائع بزرع المشتري، ولذلك ذكر ذلك في باب جوائح الأعيان، وعلل ذلك بأن التالف إنما هو عين ملك المستأجر لا المنفعة. وهذا حسن في نفي ضمان نفس الزرع. ويظهر ذلك فيما إذا تلف الزرع بعد كماله. وقد بينا فيما تقدم أن نفس المنفعة المعقود عليها تنقص وتتعطل بما يصيب الزرع من الآفة، فيحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.

فما نفي فيه الشيخ الخلاف ضمان نقص العين، ولم يذكر ضمان نقص المنفعة هنا، لكن ذكره في كتاب الإجارة. والموضع موضع اشتباه، وفي كلام أكثر العلماء فيها إجمال. وبما حققناه يتضح الصواب. والله سبحانه وتعالى أعلم.

سئل عن رجل استأجر أرضا مقيلا ومراحا ثم إن الأرض المذكورة شمل الماء بعضها

وسئل رحمه الله عن رجل استأجر أرضًا مقيلا ومراحا، وللزراعة إن أمكن أيضا؛ لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثلها، ثم إن الأرض المذكورة شمل الماء بعضها، وترك بعضها. فهل تصح الإجارة بذلك؟ وهل يلزم المستأجر خراج الأرض كاملا، ولم ينتفع ببعضها؟ وهل القول قول المستأجر في الانتفاع أو لا؟

والرجل يستأجر أرضا أو دارًا أو حانوتًا أو غير ذلك من ناظر وقف، أو ولي يتيم، ثم كان غبطة وزيادة لليتيم، والوقف. فهل يفسخ حكم الإجارة؟ ويقبل زيادة ما جري؟

فأجاب:

أما إجارة أرض تصلح للزراعة فجائز، سواء كان قد شملها الري، أو لم يكن يشملها، إذا كانت الأرض مما جرت العادة بأن الري يشملها. كما تكري الأرض التي جرت عادتها أن تشرب من الماء قبل أن ينزل المطر عليها، وهذا مذهب أئمة المسلمين؛ كمالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد. وهو أيضا مذهب الشافعي الصحيح في مذهبه.

ولكن بعض أصحابه غلط في معرفة مذهبه، فلم يفرق بين الأرض التي ينالها الماء في أغلب الأوقات. والأرض التي لا ينالها الماء إلا نادرًا؛ كالأراضي التي تشرب في غير الأوقات. ثم هذه الأرض التي صحت إجارتها إن شملها الري، وأمكن الزرع المعتاد وجبت الأجرة. وإن لم يرو منها لم يجب على المستأجر شيء من الأجرة. وإن روي بعضها دون بعض وجب من الأجرة بقدر ما روي. ومن ألزم المستأجر بالإجارة، وطالبه بالأجرة إذا لم ترو الأرض، فقد خالف إجماع المسلمين.

فإذا كان كذلك، فقول القائل: أجرتكها مقيلا ومراحا لا حاجة اليه، ولا فائدة فيه. وإنما فعل ذلك من ظن أنه لا تجوز الإجارة قبل ري الأرض، والذي فعلوه من إجارتها مقيلا ومراحا باطل بإجماع المسلمين لوجهين:

أحدهما: أن هذه الأرض لا تصلح مقيلا ومراحا؛ فإن الماشية لا تروح وتقيل إلا بأرض تقيم بها في العادة؛ مثل أن تكون بقرب ما ترعاه، وتشرب منه، فأما التي ليس فيها ماء، ولا زرع، ولا عمارة، فلا تصلح مقيلا ومراحا، وإجارة العين بمنفعة ليست فيها إجارة باطلة.

الثاني: أن هذه المنفعة إن كانت حاصلة، فهي منفعة غير متقومة في مثل هذه الأرض، بل البرية كلها تشارك هذه الأرض، في كونها مقيلا ومراحا، والمنفعة التي لا قيمة لها في العادة، بمنزلة الأعيان التي لا قيمة لها، لا يصح أن يرد على هذه عقد إجارة، ولا على هذه عقد بيع بالاتفاق؛ كالاستظلال، والاستضاءة من بعد.

وأما إجارة الأرض لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثلها فجائز.

وأما قوله: استأجر مقيلا ومراحا، وللزراعة إن أمكن أيضا؛ لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثلها فالإجارة صحيحة، لكن قوله: مقيلا ومراحا كلام لغو لا فائدة فيه، وإذا لم يمكن الانتفاع بها سقطت الأجرة. وإن أمكن الانتفاع ببعضها وجبت الأجرة بقدر ذلك.

وأما إذا تنازعا في إمكان الانتفاع، رجع في ذلك إلى غيرهما؛ فإن الناس يعلمون: هل رويت؟ أم لم ترو؟

سئل عن رجل استأجر أرضا وصرح في الإجارة أنه كان عاينها ولم يعاينها

وسئل رحمه الله عن رجل استأجر أرضا، وصرح في الإجارة أنه كان عاينها، ولم يعاينها قبل إيجارها، ووصفها المؤجر بأنها تروي كل عام، ولم يسلم المؤجر للمستأجرين، وصرح أن فيها مقيلا ومراحا، وظهر فيها بقدر ربعها شراقي. فهل تصح هذه الإجارة إذا لم يعاينها المستأجرون؟ وهل يلزمهم القيام بما روي من الأرض المذكورة خاصة؟ أو يلزمهم القيام بما شرق فلم ينتفعوا به، ولم يعاينوه؟

فأجاب:

إذا لم يرها ولم توصف له لم تصح الإجارة عند جمهور العلماء، ومن صححها أثبت لهم الخيار خيار الرؤية، وإن وصفت بوصف بأنها تروي كل عام، فلم ترو، فلهم فسخ الإجارة إذا وجدت بخلاف الصفة والشرط الذي شرط لهم. ولو أجرهم إجارة مطلقة فروي بعضها، ولم يرو بعض، لم تجب عليهم الأجرة ما لم يرو. ولو ذكر في الإجارة أنها مقيل ومراح، فإن إجارة هذه الأرض التي لا تروي للمقيل والمراح باطلة بين العلماء؛ لأن ما لا يروي لا ينتفع به مقيلا ومراحا، فإنها كسائر البرية التي لا زرع فيها، ولا ماء، ومثل هذه المنفعة لا تتقوم، ولا قدر لها لو كانت موجودة، فكيف وهي منتفية؟

والإجارة إنما تصح على منفعة مقصودة. وإذا كان ما لا نفع فيه، أو لا قيمة لنفعه لم يصح، فكذلك إجارة ما لا نفع فيه لما استؤجر له، ولا قيمة لتلك المنفعة. وهذا على قول من صحح الحيل، وليس يبطلها؛ فإن الأمر عنده ظاهر، فإنه علم أن المقصود بالعقد إنما هو الانتفاع بالزرع، وإظهار ما سوي ذلك كذب وخداع.

وإجارة الأرض التي تروي غالبًا قبل الري جائزة عند الأئمة، وأما ما تروي أحيانًا ففيه نزاع.

سئل عن رجل استأجر أرضا قبالة بلا معرفة مساحتها مقيلا ومراحا

وسئل رحمه الله عن رجل استأجر أرضا قبالة بلا معرفة مساحتها مقيلا ومراحا، ومرعي ومزرعًا؛ لينتفع بها مدة سبع سنين، وأن الأرض المذكورة غرقت وتبحرت، وعدم الانتفاع بها، وعندما غرقت قصد الإقالة منها، وقد بقي في الإجارة لما غرقت وعدم الآخر من الانتفاع. فهل يجب عليه في سنة غرقها وتبحرها خراج أم لا؟ وهل يجوز أن يقال؟

فأجاب:

إجارة الأرض المعينة جائزة، وإن لم يعلم ذرعاتها، كما يجوز بيعها، وبيع سائر المعينات، وإن لم يعلم مقدارها، فإن بيع العين جزافًا جائز بالسنة والإجماع. كما ثبت عن النبي أنه أجاز بيع الشرك في الأرض الربعة، والحائط، وبيع الثمر على الشجر بعد بدو صلاحه. وأقرهم على بيع الطعام جزافا.

ثم إذا تعطلت منفعتها بغرق أو غيره، لم يجب عليه أجرة ما تعطل من المنفعة، باتفاق المسلمين.

سئل عن رجل استأجر قرية وغلب على أرضها الماء بسبب أنه انكسر عليه نهر

وسئل عن رجل استأجر قرية، وغلب على أرضها الماء بسبب أنه انكسر عليه نهر، وعجزوا عن رده. فهل يسقط عنهم من الأجرة بقدر ما غرق أم لا؟ وإذا حكم عليه حاكم بلزوم جميع الأجرة، فهل ينفذ حكمه أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله. له أن يفسخ الإجارة، وله أن يحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، ومن حكم بلزوم العقد وجميع الأجرة فقد حكم بخلاف الإجماع، ولا ينفذ حكمه.

سئل إذا تعطل بعض منافع الدار فهل يسقط من الأجرة بقدر ذلك

وسئل رحمه الله إذا تعطل بعض منافع الدار. فهل يسقط من الأجرة بقدر ذلك؟

فأجاب:

نعم يسقط عنه من الأجرة بقدر ما تعطل من المنفعة المستحقة بالعقد.

سئل عمن استأجر بستانا فيه أرض بياض وشجره أكثر

وسئل رحمه الله عمن استأجر بستانًا فيه أرض بياض، وشجره أكثر، استأجره سنتين، وصورة الأرض بياض، وساقاه على الشجر بجزء من ألف جزء، وجعلوا المساقاة حيلة لبيع الثمر قبل حله، فأتلف الجراد أكثر الثمر. فهل يسقط عن المستأجر ما أتلفه الجراد؟

فأجاب:

هذه المعاملات الواقعة على البساتين المسماة بالضمان، سواء كانت قبل ظهور الثمرة، وقبل بدو صلاحها، أو بعدهما، أو بينهما. وسواء سميت ضمانًا، أو سميت للتحيل مساقاة، وإجارة؛ فإنه إذا تلف الثمر بجراد أو نحوه من الآفات السماوية كنهب الجيوش، وغير ذلك، فإنه يجب وضع الجائحة عن المستأجر المشتري، فيحط عنه من العوض بقدر ما تلف من العوض، سواء كان العقد فاسدًا أو صحيحا. وعلى كلا الصورتين نص رسول الله في الصحيح من حديث أنس، وجابر. وهو قول جماهير العلماء في العقد الصحيح. فكيف في العقد الفاسد، أو المختلف فيه، أو المتحيل على صحته؟ والله أعلم.

سئل عن قوم عليهم لأصحاب القرية دراهم وتقاوي

وسئل رحمه الله عن قوم عليهم لأصحاب القرية دراهم، وتقاوي، وأن التقاوي جميعها بذروها في القرية المذكورة، وقد جاء بَرْدٌ أهلك الزرع بعد إقباله. فهل يلزم الفلاحين المذكورين القيام بجميع التقاوي التي قبضوها أم لا؟

فأجاب:

إن كانت التقاوي من الملاك بذرًا في الأرض في زراعة صحيحة، أو فاسدة، فلا ضمان على الفلاحين، إذا فعلوا بها ما أمروا به، وإن سميت مع ذلك باسم القرض الفاسد؛ فإن المقصود بها مزارعة، وإذا بذر المالك فيها بذرًا يرجع به.

وأما إن كانت قرضًا مطلقا في الذمة يتصرف فيه المقترض بأشياء، فهي في ذمة المقترض، وإن تلف زرعه والدراهم.

سئل عن رجل استأجر أملاكا موقوفة وقلت الرغبات في سكانها

وسئل عن رجل استأجر أملاكًا موقوفة، وقلت الرغبات في سكانها، وعمل بذلك محضرًا بأرباب الخبرة. فهل يضع عنه شيئًا إذا رأي في ذلك مصلحة للوقف؟ وإذا حط عنه هل يرجع عليه إذا انقضت مدة الإجارة؟ وهل لمستحقي ريع الوقف التعرض على الناظر بسبب ذلك؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا استأجر ما تكون منفعة إيجاره للناس. مثل الحمام، والفندق، والقيسارية، ونحو ذلك، فنقصت المنفعة المعروفة؛ مثل أن ينتقل جيران المكان، ويقل الزبون لخوف أو خراب، أو تحويل ذي سلطان لهم، ونحو ذلك فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة المعروفة؛ سواء رضي الناظر، وأهل الوقف، أو سخطوا. ولا يرجع على المستأجر بما وضع عنه، إذا لم توضع إلا قدر ما نقص من المنفعة المعروفة. والله أعلم.

سئل عن رجل استأجر من رجل إقطاعه لينتفع بذلك

وسئل رحمه الله عن رجل استأجر من رجل إقطاعه، وهو قيراط واحد ونصف قيراط من الناحية، إجارة شرعية؛ لينتفع المستأجر بذلك بالزراعة كيف شاء على الوجه المشروع، ولم يكن في الإجارة المذكورة مراحا ولا مقيلا. وقد سرق بعض ما في الناحية المذكورة، ولم ينتفع به. فهل يلزم المستأجر المذكور أجرة ما تعطل أم لا؟

فأجاب:

ما لم يشمله الري من الأرض، فإنه يسقط بقدره من الأجرة باتفاق العلماء. وإن قال في الإجارة: مقيلا ومراحا، أو أطلق، ولو لم يرو شيء من الأرض، لم يجب عليه شيء من الأجرة باتفاق العلماء. وإن قال في الإجارة. مقيلا ومراحا. والله أعلم.

باب العارية

سئل عمن استعار من رجل فرسا ليركبها إلى باب النصر

سُئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن استعار من رجل فرسًا ليركبها إلى باب النصر، واشترط المستعير على ألا يسير بالفرس سوى إلى باب النصر، ويجيء من ساعته، فسار بها إلى بركة الحجاج، ولم يجئ إلا بعد العصر، فانتكب الفرس، وباعها صاحبها بنصف قيمتها. فهل يجب على المستعير نصف نقص القيمة؟

فأجاب:

نعم، إذا كان قد زاد في الاستعمال على ما أذن له صاحبها فهو ظالم، ضامن ما يتلف بعدوانه، فما نقص من قيمة الفرس بهذا الظلم كان ضامنًا له باتفاق الأئمة.

سئل عن رجل أعار فرسا وهي شركة بغير إذن شريكه

وسئل رحمه الله عن رجل أعار فرسًا وهي شركة بغير إذن شريكه، فماتت الفرس عند الذي أعارها شريكه، فمن يضمن حصة الشريك؟

فأجاب:

إذا أعار نصيب الشريك بغير إذنه وتلفت الفرس، كان له مطالبة المعير المعتدي بقيمة نصيبه، وله مطالبة المستعير أيضا. والله أعلم.

سئل عن امرأة استعارت زوجي حلق وعدموا منها

وسئل رحمه الله عن امرأة استعارت زوجي حلق، وقد عدموا منها. فهل يلزمها قيمة الحلق؟

فأجاب:

إن كانت فرطت في حفظها لزمها غرامتها باتفاق العلماء. وإن لم تفرط ففي ذلك نزاع مشهور بينهم. ففي مذهب أبي حنيفة لا ضمان عليها، وفي مذهب الشافعي وأحمد عليها الضمان، وعند مالك إذا تلفت بسبب معلوم فلا ضمان عليها، وإذا ادعت التلف بسبب خفي لم يقبل منها. والله أعلم.

سئل عن رجل سافر وانتهي به الطريق إلى قرية

وسئل رحمه الله عن رجل سافر، وانتهي به الطريق إلى قرية، فعزم عليه رجل فبات عنده، وطلب منه دابة، فلما وصل إلى الفندق ماتت؟

فأجاب:

هذه المسألة فيها قولان للعلماء:

أحدهما: لا ضمان عليه إذا تلفت بغير تفريطه، ولا عدوانه. وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، وبعض أصحاب الإمام أحمد.

والقول الثاني: عليه الضمان، وهو مذهب الشافعي، وأحمد. والله أعلم.

سئل عمن استعار من رجل شيئا فأعاره وهو لا يشك في أنه عمر

وسئل عمن استعار من رجل شيئًا فأعاره، وهو لا يشك في أنه عمر، وقطع بأنه ذلك الشخص، وطلب ما أعاره، فأنكر فحلف بالطلاق الثلاث أنه هو المستعير، فطلع خلاف ما ظنه، وجاء بالعارية. فهل يقع عليه الطلاق والحالة هذه أم لا؟

فأجاب:

إذا كان الأمر على ما ذكر، من أنه يعتقد صدق نفسه، فما حلف عليه لم يقع به الطلاق، وإن تبين له فيما بعد أنه أخطأ، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

سئل عن رجلين عند أمير

وسئل رحمه الله عن رجلين عند أمير فقال الأمير لأحدهما: اطلب سيف رفيقك على سبيل العارية، فأجاب، وأخذه الأمير فعدم عنده. هل تلزم المطالبة للأمير، أو للرسول الذي استعاره؟

فأجاب:

إذا كان الرسول لم يكذب، ولم يتعد، فلا ضمان عليه، بل الضمان على المستعير، إن كان فرط أو اعتدي، باتفاق العلماء، وإلا ففي ضمانه نزاع. والله أعلم.

باب الغصب

سئل عمن غصب زرع رجل وحصده هل يباح للفقراء اللقاط المتساقط

سُئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن غصب زرع رجل، وحصده. هل يباح للفقراء اللقاط المتساقط؟

فأجاب:

نعم يباح اللقاط، كما كان يباح لو حصدها المالك، كما يباح رعي الكلأ في الأرض المغصوبة، نص الإمام أحمد على هذه المسألة الثانية؛ وذلك لأن ما يباح من الكلأ واللقاط لا يختلف بالغصب وعدمه، ولا يمنعه حق المالك.

سئل عن رجل له أرض ملك

وسئل عن رجل له أرض ملك، وهي بيده ثلاثون سنة، فجاء رجل جذ زرعه منها، ثم زرعها في ثاني سنة. فما يجب عليه؟

فأجاب:

ليس لأحد أن يستولي عليه بغير حق، بل له أن يطالب من زرع في ملكه بأجرة المثل، وله أن يأخذ الزرع إذا كان قائما، ويعطيه نفقته. والله أعلم.

سئل عمن سرق كيل غلة وبذره ولم يعرف مالكه فهل يحل له الزرع كله

وسئل عمن سرق كيل غلة. وبذره، ولم يعرف مالكه. فهل يحل له الزرع كله؟

فأجاب:

أما مقدار البذر فيتصدق به بلا ريب، وأما الزيادة ففيها نزاع. وأعدل الأقوال أن يجعل ذلك مزارعة، فيأخذ نصيبه، ونصيب صاحب البذر يتصدق به عنه. والله أعلم.

سئل عن رجل غصب عينا فباعها من رجل عالم بالغصب فجاء صاحب العين

وسئل عن رجل غصب عينًا، فباعها من رجل عالم بالغصب، فجاء صاحب العين فأخذها من يد المشتري. فهل للمشتري أن يرجع على الغاصب الذي اشتراها منه مع علمه بالغصب بالثمن الذي بذله له؟ أم المشتري لا يرجع على الغاصب بشيء، والذي نقده للغاصب يروح مجانًا؟ فكيف الحكم في ذلك؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، بل للمشتري أن يرجع على الغاصب بالثمن الذي قبضه منه، سواء كان عالمًا بالغصب أو لم يكن عالمًا؛ فإن الثمن قبضه بغير حق، ولو كان برضاه.

فإنهما لو تبايعا ما لا يحل بيعه؛ من خمر أو خنزير برضاهما لوجب أن يرد المبيع، فيتلف الخمر والخنزير، ويرد على المشتري الثمن فكيف إذا باعه مال الغير؟ وبأي وجه بقي الثمن في يد الغاصب فلا حق له فيه، وإنما هو ملك المشتري. والله أعلم.

سئل عن رجل غرس نوي في أرض الغير

وسئل رضي الله عنه عن رجل غرس نوي في أرض الغير؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا غرس نخلة تملكها في أرض الغير ابنه، لم يكن لورثة ابنه فيها حق، بل الحق فيها له، ولأهل الأرض، فالنخلة له وعليه أجرة الأرض لأهلها إذا أبقوها في أرضهم. والله أعلم.

سئل عن رجل كسب بعيرا وجاب البعير بعيرا فهل في نتاجها رخصة

وسئل عن رجل كسب بعيرًا، وجاب البعير بعيرًا. فهل في نتاجها رخصة في الأربع مذاهب؟

فأجاب:

نتاج الدابة لمالكها، ولا يحل للغاصب، لكن إذا كان النتاج مستولدا من عمل المستولي. فمن الناس من يجعل النماء بين المالك والعامل كالمضاربة، ونحوها. والله أعلم.

سئل عن رجل له بهائم حلال وأنزي عليها فحل حرام فهل في نتاجهم شبهة

وسئل عن رجل له بهائم حلال، وأنزي عليها فحل حرام. فهل في نتاجهم شبهة؟

فأجاب:

إذا أنزي على بهائمه فحل غيره فالنتاج له، ولكن إذا كان ظالما في الإنزاء؛ بحيث يضر بالفحل المنزي فعليه ضمان ما نقص لصاحبه، فإن لم يعرف صاحبه تصدق بقيمة نقصه. وأما إن كان لا يضره فلا قيمة له، فإن النبي نهي عن عَسْب الفَحْل. والله أعلم.

سئل عن رجل اشتري بهيمة بثمن بعضه حلال وبعضه حرام

وسئل رحمه الله عن رجل اشتري بهيمة بثمن بعضه حلال وبعضه حرام، فأي شيء يحكم به الشرع؟

فأجاب:

إذا كان اشتراها بثمن بعضه له، وبعضه مغصوب، فنصفها ملكه، والنصف الآخر لا يستحقه، بل يدفعه إلى صاحبه إن أمكن، وإلا تصدق به عنه، فإن حصل من ذلك نماء كان حكمه حكم الأصل؛ نصفه له ونصفه للجهة الأخري. والله أعلم.

سئل عن جارية لسيدة تطلب لنفسها زركشا على لسان سيدتها

وسئل عن جارية لسيدة تطلب لنفسها زركشًا على لسان سيدتها، ثم إن الجارية طلبت على لسان سيدتها خاتما، وأنكرت السيدة والجارية معترفة؟

فأجاب:

إذا كانت طلبت على لسان سيدتها ولم تكن أذنت لها كانت الجارية غاصبة، قابضة لذلك بغير حق، فإذا تلف في يدها فضمانه في رقبة الجارية، وسيدتها بالخيار بين أن تفتديها فتؤدي قيمة ما أخذته وبين أن تسلمها لتباع، ويؤخذ من ثمنها ذلك. والله أعلم.

سئل عن الأموال التي تقبض بطريق المناهب التي تجري بين الأعراب

وسئل قدس الله روحه عن الأموال التي تقبض بطريق المناهب التي تجري بين الأعراب، إذا كان فيها حيوان تناسل، وعين حصل فيها ربح، أو شجر أثمر. هل النسل والربح للغاصب؛ لكونه هو الذي يرعي الحيوان، ويتجر في العين، ويسقي الشجر؟ أم للمالك المغصوب منه؟ والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب. هل تزكي؟ أم لا؟ وإذا تاب الغاصب وقد جهل المالك؟ ما حكمه؟ هل يتصدق بالجميع أو البعض؟ وهل تصح التوبة من الزنا والسرقة. ونحو ذلك؟ وفي أقوام من الأحمدية وغيرهم ممن يحضر سماع الغناء والملاهي، ويمسكون الحيات، ويدخلون النار ولا يحترقون. وإذا لم يعطوا من الزكاة غضبوا وتوجهوا على المانع لهم، ويقولون: هذه في إبلك، هذه في غنمك، في كذا... ويموت بعض الإبل والغنم، فيقولون: هذه بخواطرنا. فهل يجوز إعطاء هؤلاء من الزكاة خوفًا منهم؟ أو لغير ذلك؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، أما المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتي حصل منه نماء؛ ففيه أقوال للعلماء: هل النماء للمالك وحده؟ أو يتصدقان به؟ أو يكون بينهما كما يكون بينهما إذا عمل فيه بطريق المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، وكما يدفع الحيوان إلى من يعمل عليه بجزء من دره، ونسله، أو يكون للعامل أجرة مثله إن كانت عادتهم جارية بمثل ذلك، كما فعل عمر بن الخطاب لما أقرض أبو موسي الأشعري ابنيه من مال الفيء مائتي ألف درهم، وخصهما بها دون سائر المسلمين، ورأي عمر بن الخطاب أن ذلك محاباة لهما لا تجوز، وكان المال قد ربح ربحًا كثيرا، بلغ به المال ثمانمائة ألف درهم، فأمرهما أن يدفعا المال وربحه إلى بيت المال، وأنه لا شيء لهما من الربح، لكونهما قبضا المال بغير حق. فقال له ابنه عبد الله: إن هذا لا يحل لك؛ فإن المال لو خسر وتلف كان ذلك من ضماننا، فلماذا تجعل علينا الضمان، ولا تجعل لنا الربح؟ فتوقف عمر. فقال له بعض الصحابة: نجعله مضاربة بينهم وبين المسلمين: لهما نصف الربح، وللمسلمين نصف الربح، فعمل عمر بذلك.

وهذا مما اعتمد عليه الفقهاء في المضاربة وهو الذي استقر عليه قضاء عمر بن الخطاب، ووافقه عليه أصحاب رسول الله ، وهو العدل؛ فإن النماء حصل بمال هذا، وعمل هذا، فلا يختص أحدهما بالربح، ولا تجب عليهم الصدقة بالنماء؛ فإن الحق لهما لا يعدوهما، بل يجعل الربح بينهما، كما لو كانا مشتركين شركة مضاربة.

وهكذا الذي يعمل على ماشية غيره أو بستانه أو أرضه، حتي يحصل بمزروع أو در، أو نسل، لكن من العلماء من لا يجوز العمل هنا بجزء من النماء، وإنما تجوز عنده الإجارة. وأصح قولي العلماء: أنها تجوز المساقاة، وتجوز المزارعة، سواء كان البذر من المالك، أو من العامل، أو منهما، كما عامل النبي أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه.

وكذلك أصحاب رسول الله كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما كانوا يدفعون إلى من يزرعها ليبذر من عنده، والزرع بينهما، وكان عامة بيوت المهاجرين، والأنصار مزارعون.

والنبي نهي عن المخابرة التي كانوا يفعلونها، وهو أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وهذا الذي نهي عنه النبي محرم باتفاق العلماء، كما لو شرط في المضاربة أن يكون لأحدهما دراهم مقدرة. وإنما العدل أن يشتركا فيما يرزقه الله من النماء؛ لهذا جزء شائع ولهذا جزء شائع، فيشتركان في المغنم، ويشتركان في المغرم، فإن لم يحصل شيء ذهب نفع مال هذا ونفع بدن هذا.

فصل في زكاة الأموال التي بأيدي الأعراب المتناهبين

والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين، فإنه يخرج زكاتها، فإنها إن كانت ملكا لمن هي في يده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكا له، ومالكها مجهول لا يعرف، فإنه يتصدق بها كلها، فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيرًا من ألا يتصدق بشيء منها. فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير.

وإذا كان ينهب بعضهم بعضًا فإن كان النهب بين طائفتين معروفتين، فإنه ينظر قدر ما أخذته كل طائفة من الأخري، فإن كانوا سواء تقاضيا، وأقر كل قوم على ما بأيديهم، وإن لم يعرف عين المنهوب منه. كما لو تقاتلوا قتال جاهلية وقتل هؤلاء بعض هؤلاء، وهؤلاء بعض هؤلاء، وأتلف هؤلاء بعض أموال هؤلاء، فإن الواجب القصاص بين الطائفتين، فتقابل النفوس بالنفوس، والأموال بالأموال، فإن فضل لإحدي الطائفتين على الأخرى شيء طالبتها بذلك.

وعلى ذلك يدل قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } 26، قال غير واحد من السلف: نزلت هذه الآية في قبيلتين من العرب كان بينهما قتال، فأمر الله تعالى أن يقاص من القتلي؛ الحر من هؤلاء بالحر من هؤلاء، والعبد بالعبد، والأنثي بالأنثي. ثم قال: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } 27. يقول: إن فضل لأحدهما على الآخر شيء فليؤده اليهم بمعروف، والتتبعة الأخري أن يطالبهم به بإحسان والإتباع هو المطالبة، كما قال النبي : (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع).

وهذا لأن الطوائف الممتنعة التي يعين بعضها بعضًا في القتال، ثم يكون الضمان فيها على الذي يباشر القتال والأخذ والإتلاف، وعلى الردء الذي يعينه عند جمهور العلماء.

ولهذا كان في مذهب الجمهور: أن قطاع الطريق يقتل منهم الردء، والمباشر. وعمر ابن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين، وهو الناظر الذي ينظر لهم الطريق. فالمتعاونون على الظلم والعدوان تجب عليهم العقوبة بالضمان وغيره؛ ولهذا قال عامة الفقهاء: إن الطائفتين المقتتلتين على عصبية ورياسة تضمن كل طائفة ما أتلفت للأخري؛ من نفس ومال. فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعرف عين المتلف.

وإن كان قدر المنهوب مجهولًا لا يعرف ما نهب هؤلاء من هؤلاء، ولا قدر ما نهب هؤلاء من هؤلاء، فإنه يحمل الأمر على التساوي؛ كمن اختلط في ماله حلال وحرام، ولم يعرف أيهما أكثر، فإنه يخرج نصف ماله، والنصف الباقي له حلال كما فعل عمر ابن الخطاب بالعمال على الأموال؛ فإنه شاطرهم. فأخذ نصف أموال عماله على الشام ومصر والعراق. فإنه رأي أنه اختلط بأموالهم شيء من أموال المسلمين، ولم يعرف لا أعيان المملوك، ولا مقدار ما أخذه هؤلاء من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، بل يجوز أن يكون مع الواحد أقل من حقه، وأكثر، ففي مثل هذا يقر كل واحد على ما في يده إذا تاب من التعاون على الإثم والعدوان، فإن المجهول كالمعدوم يسقط التكليف به، ويزكي ذلك المال كما يزكيه المالك.

وإن عرف أن في ماله حلالًا مملوكًا، وحرامًا لا يعرف مالكه، وعرف قدره، فإنه يقسم المال على قدر الحلال والحرام، فيأخذ قدر الحلال، وأما الحرام فيتصدق به عن أصحابه، كما يفعل من عنده أموال مجهولة الملاك: من غصوب وعواري وودائع؛ فإن جمهور العلماء، كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: إنه يتصدق بها. وهذا هو المأثور في مثل ذلك عن أصحاب رسول الله .

وإن لم يعرف مقدار الحلال والحرام فإنه يجعل المال نصفين، يأخذ لنفسه نصفه، والنصف الثاني يوصله إلى أصحابه إن عرفهم، وإلا تصدق به.

وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فيعطي منه من يستحق الزكاة، ويقري منه الضيف، ويعان فيه الحاج، وينفق في الجهاد، وفي أبواب البر التي يحبها الله ورسوله، كما يفعل بسائر الأموال المجهولة، وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه.

وسئل عن وال جميع ما بيده أخذه من أموال الناس

وسئل رحمه الله عن وال وضع يده على عشرين ألف درهم لإنسان، وثبت عليه عند حاكم، وهم يعلمون أن جميع موجوده حرامًا، نهب أموال الناس. فهل يجوز لهم أن يأخذوا من هذا المال عوض ما أخذه لهم لأنهم يعلمون أن جميع ماله حرام؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، إن كان جميع ما بيده أخذه من الناس بغير حق. مثل أن يأخذ من اللصوص، وقطاع الطريق بعض ما يأخذونه من أموال الناس، ومثل أن يطلب ظلم أقوام فيعطوه ما ينكف به عن ظلمهم، ومثل أن يحمي بعض الناس عن مساواة نظرائهم فيما يطلب منهم ليعطوه رشوة، ومثل أن يظلم في حكمه، أو يعدل برشوة يأخذها، ومثل أن يغصب مال قوم بافتراء عليهم، ومثل أن يهدر دماء المقتولين برشوة من القاتلين. فهذه الأموال ونحوها هي مستحقة لأصحابها كاللص الذي يسرق أموالًا، ويخلط بعضها ببعض، فإن ذلك لا يحرمها على أصحابها، بل يقتسمون الأموال بينهم على قدر حقوقهم، وإن جهل عين مال الرجل لكونه باعه، ونحو ذلك فعوضه يقوم مقامه. ومن اكتسب بهذه الأموال بتجارة ونحوها فقيل: الربح لأرباب الأموال. وقيل له: إذا اشتري في ذمته. وقيل: بل يتصدقان به؛ لأنه ربح خبيث. وقيل: بل يقسم الربح بينه وبين أرباب الأموال كالمضاربة. كما فعل عمر بن الخطاب في المال الذي أقرضه أبو موسي الأشعري لابنيه دون العسكر. وهذا أعدل الأقوال.

وإذا كان كذلك، فأهل الأموال يقتسمون ما وجدوه على قدر حقوقهم؛ فإن ذلك إما عين أموالهم، وإما وفاء ديونهم الثابتة في ذمته، بل الحق أن حقوقهم متعلقة بالأمرين جميعًا بذمته، وبالأموال. فأما إذا لم يعرف مقدار ما غصبه، ولا أعيان الغرماء كلهم، فمن أخذ منهم من هذه الأموال قدر حقه، لم يحكم بأن ذلك حرام، لاسيما إذا كان قد اتجر في الأموال التي بيده، فإنه يستحق حينئذ أكثر من قدر حقه، لكن يخاف أن تكون الأموال التي بيده تضيق عن حقوق جميع المستحقين، لكن المجهول منهم الذي لا يعلم صار كالمعدوم، فإن كان الذي يأخذ قدر حقه له، ولم يظلم سائر الغرماء المعروفين، لم نحكم بتحريم ما أخذه، لكن إن ظهر فيما بعد غرماء، ولهم قسط من ماله كان لهم المطالبة بقدر حقوقهم، فمن استولي على المال يؤخذ من كل واحد بقدر ما استولي. والله أعلم.

سئل عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال ثم ردت عليهم

وقال رحمه الله:

سئلت عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال، ثم ردت عليهم أو بعضها، وقد اشتبه ملك بعضهم ببعض؟

فأجبتهم:

إنه إن عرف قدر المال تحقيقًا قسم الموجود بينهم على قدره، وإن لم يعرف إلا عدده قسم على العدد؛ لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهما، وإن كان يدفع لكل منهم عن ماله ما كان للآخر؛ لأن الاختلاط جعلهم شركاء، لاسيما على أصلنا أن الشركة تصح بالعقد، مع امتياز المالين، لكن الاشتباه في الغنم ونحوها يقوم مقام الاختلاط في المائعات.

وعلى هذا فينبغي أنه إذا اشتركا فيما يتشابه من الحيوان والثياب أنه يصح، كما لو كان رأس المال دراهم، إذا صححناها بالعروض، وإذا كانوا شركاء بالاختلاط والاشتباه فعند القسمة يقسم على قدر المالين، فإن كان المردود جميع ما لهم فظاهر، وإن كان بعضه فذلك البعض هو بعض المشترك، كما لو رد بعض الدراهم المختلطة.

يبقي إن كان حيوانًا، فهل يجب قسمته أعيانًا عند طلب بعضهم قولًا واحدًا، أو يخرج على القولين في الحيوان المشترك؟ فالأشبه خروجه على الخلاف؛ لأنه إذا كان لأحدهما عشرة رؤوس، وللآخر عشرون، فما وجد فلأحدهما ثلثله، وللآخر ثلثلاه كذلك،، لكن المحذور في هذه المسألة أن مال كل منهما إن عرف قيمته فظاهر، وإن لم يعرف إلا عدده مع أن غنم أحدهما قد تكون خيرًا من غنم الآخر فالواجب عند تعذر معرفة رجحان أحدهما على الآخر التسوية؛ لأن الضرورة تلجئ إلى التسوية. وعلى هذا فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمدًا أو خطأ، يقسم المالان على العدد إن لم يعرف الرجحان. وإن عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن وأسقط الزائد المشكوك فيه؛ لأن الأصل عدمه.

سئل هل يجوز له أن يخرق ثوبه كما يخرق ثوبه

وسئل رحمه الله: هل يجوز له أن يخرق ثوبه كما يخرق ثوبه؟

فأجاب:

وأما القصاص في إتلاف الأموال مثل أن يخرق ثوبه، فيخرق ثوبه المماثل له، أو يهدم داره فيهدم داره، ونحو ذلك. فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: أن ذلك غير مشروع؛ لأنه إفساد، ولأن العقار والثياب غير مماثلة.

والثاني: أن ذلك مشروع؛ لأن الأنفس والأطراف أعظم قدرًا من الأموال، وإذا جاز إتلافها على سبيل القصاص؛ لأجل استيفاء المظلوم، فالأموال أولي. ولهذا يجوز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب، إذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر المثمر.

وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة، فهذا فيه نزاع؛ فإنه إذا أتلف له ثيابًا أو حيوانًا أو عقارًا ونحو ذلك: فهل يضمنه بالقيمة؟ أو يضمنه بجنسه مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء. وهما قولان في مذهب الشافعي، وأحمد. فإن الشافعي قد نص على أنه إذا هدم داره بناها كما كانت، فضمنه بالمثل. وقد روي عنه في الحيوان نحو ذلك، وكذلك أحمد يضمن أولاد المغرور بجنسهم في المشهور عنه، وإذا اقترض حيوانًا رد مثله في المنصوص عنه.

وقصة داود وسليمان هي من هذا الباب؛فإن داود عليه السلام قد ضمن أهل الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم بالقيمة، وأعطاهم الماشية مكان القيمة. وسليمان عليه السلام أمرهم أن يعمروا الحرث حتي يعود كما كان، وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم من منفعة الحرث. وبهذا أفتي الزهري لعمر بن عبد العزيز لما كان قد اعتدي بعض بني أمية على بستان له فقلعوه، وسألوه ما يجب في ذلك؟ فقال: يغرسه كما كان. فقيل له: إن ربيعة وأبا الزناد قالا: تجب القيمة، فتكلم الزهري فيهما بكلام مضمونه: أنهما خالفا السنة.

ولا ريب أن ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير مع اعتبار القيمة؛ فإن القيمة معتبرة في الموضعين، والجنس مختص بأحدهما، ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس، وإلا فمن له غرض في كتاب أو فرس أو بستان ما يصنع بالدراهم؟ فإن قيل: يشتري بها مثله، قيل: الظالم الذي فوته ماله هو أحق بأن يضمن له مثل ما فوته إياه، أو نظير ما أفسده من ماله.

سئل عن تجار أخذهم حرامية ثم ردوا عليهم من المال شيئا

وسئل عن تجار أخذهم حرامية، ثم ردوا عليهم من المال شيئًا. فهل من عرف شيئًا من ماله يأخذه؟ أو يقسم على رؤوس الأموال المأخوذة بالسوية... إلخ؟

فأجاب:

الحمد لله أما من وجد ماله بعينه، فهو أحق به، وأما الذين عدمت أموالهم فيتقاسمون ما غرمه الحرامية لهم على قدر أموالهم، لا على عدد الرؤوس. والله أعلم.

سئل عن عسكر نزلوا مكانا باتوا فيه فجاء أناس سرقوا لهم قماشا

وسئل عن عسكر نزلوا مكانًا باتوا فيه، فجاء أناس سرقوا لهم قماشًا، فلحقوا السارق، فضربه أحدهم بالسيف، ثم حمل إلى مقدم العسكر، ثم مات بعد ذلك؟

فأجاب:

إذا كان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق لم يلزم الضارب شيء. وقد روي ابن عمر: أن لصًا دخل داره، فقام اليه بالسيف، فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف. وفي الصحيحين: (من قتل دون ماله فهو شهيد).

سئل عما قدمه للسلطان من المغصوب

وسئل عما قدمه للسلطان من المغصوب... إلخ؟

فأجاب:

أما ما قدمه للسلطان من المغصوب، وأعطاه ما أعطاه، فليتصدق بقدر ذلك المغصوب عن صاحبه، إن لم يعرفه، وكذلك ما أهداه للأمير وعوضه عنه.

سئل عن رجل يطحن في طواحين السلطان يستأجرها

وسئل رحمه الله عن رجل يطحن في طواحين السلطان يستأجرها، وهو يعلم أن بعضها ما هو غصب، وفي رجل يعمل في زرع السلطان هل نصيبه منه حلال وما يكسبه الأول من الطاحون؟

فأجاب:

أما الأراضي السلطانية، والطواحين السلطانية التي لم يعلم أنها مغصوبة، فيجوز للإنسان أن يعمل فيها مزارعة، بنصيب من الزرع. ويجوز أن يستأجرها، ويجوز أن يعمل فيها بأجرته مع الضمان.

وأما إذا علم أنها مغصوبة، ولم يعرف لها مالك معين، فهذه فيها نزاع. والأظهر أنه يجوز العمل فيها إذا كان العامل لا يأخذ إلا أجرة عمله، فإنه حينئذ لا يكون قد ظلم أحدًا شيئًا، فالعمل فيها خير من تعطيلها على كل تقدير. وهذا إن أمكن أن ترد إلى أصحابها، وإلا صرفت في مصالح المسلمين، والمجهول كالمعدوم.

وأما إذا عرف أن للأرض مالكًا معينًا، وقد أخذت منه بغير حق، فلا يعمل فيها بغير إذنه، أو إذن وليه، أو وكيله. والله أعلم.

سئل عمن يطلب منهم كلف يجمعونها من أهل البلد

وسئل عمن يطلب منهم كلف يجمعونها من أهل البلد، فإذا كانوا سووا بين الناس فيما طلب منهم، وهم مغصوبون في ذلك. فهل عليهم إثم؟

فأجاب:

بل هذه الكلف التي تطلب من الناس بحق، أو بغير حق، يجب العدل فيها، ويحرم أن يوفر فيها بعض الناس، ويجعل قسطه على غيره، ومن قام فيها بنية العدل، وتخفيف الظلم مهما أمكن، وإعانة الضعيف لئلا يتكرر الظلم عليه بلا نية إعانة الظالم، كان كالمجاهد في سبيل الله، إذا تحري العدل، وابتغي وجه الله.

وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه بمنه وكرمه:

الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا.

فصل في المظالم المشتركة

في المظالم المشتركة التي تطلب من الشركاء، مثل المشتركين في قرية، أو مدينة، إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رؤوسهم: مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم؛ إما على عدد رؤوسهم، أو عدد دوابهم، أو عدد أشجارهم، أو على قدر أموالهم، كما يؤخذ منهم أكثر من الزكوات الواجبة بالشرع، أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية، كما يوضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة، وغير ذلك، يؤخذ منهم إذا باعوا. ويؤخذ ذلك تارة من البائعين. وتارة من المشترين، وإن كان قد قيل: إن بعض ذلك وضع بتأويل وجوب الجهاد عليهم بأموالهم، واحتياج الجهاد إلى تلك الأموال، كما ذكره صاحب غياث الأمم وغيره، مع ما دخل في ذلك من الظلم الذي لا مساغ له عند العلماء.

ومثل الجبايات التي يجبيها بعض الملوك من أهل بلده، كل مدة. ويقول: إنها مساعدة له على ما يريد، ومثل ما يطلبه الولاة أحيانًا من غير أن يكون راتبًا؛ إما لكونهم جيشًا قادمين يجمعون ما يجمعونه لجيشهم، وإما لكونهم يجمعون لبعض العوارض. كقدوم السلطان، أو حدوث ولد له، ونحو ذلك، وإما أن ترمي عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها، وتسمى الحطائط. ومثل القافلة الذين يسيرون حجاجًا، أو تجارًا، أو غير ذلك. فيطلب منهم على عدد رؤوسهم أو دوابهم أو قدر أموالهم، أو يطلب مطلقًا منهم كلهم، سواء كان الطالب ذا السلطان في بعض المدائن والقري، كالذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن، فيأخذون ما يأخذونه. أو كان الآخذون قطاع طريق؛ كالأعراب، والأكراد والترك الذين يأخذون مكوسًا من أبناء السبيل، ولا يمكنونهم من العبور حتي يعطوهم ما يطلبون.

فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل فيما يطلب منهم، وليس لبعضهم أن يظلم بعضًا فيما يطلب منهم، بل عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بغير حق، كما عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق، فإن هذه الكلف التي أخذت منهم بسبب نفوسهم، وأموالهم، هي بمنزلة غيرها بالنسبة اليهم. وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الأخذ، فقد يكون أخذًا بحق، وقد يكون أخذًا بباطل.

وأما المطالبون بها فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم، فليس لبعضهم أن يظلم بعضًا في ذلك، بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح شيء منه بحال، حتي إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله تعالى: { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } 28. والمؤمنون كانوا يعادون الكفار بأمر الله فقال تعالى: لا يحملكم بغضكم للكفار على ألا تعدلوا عليهم، بل اعدلوا عليهم فإنه أقرب للتقوي.

وحينئذ، فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره، بل إما أن يؤدي قسطه فيكون عادلًا، وإما أن يؤدي زائدًا على قسطه، فيعين شركاءه بما أخذ منهم فيكون محسنًا. وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء، فيتضاعف الظلم عليهم؛فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة، وامتنع بجاه أو رشوة أو غيرهما، كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذي يخصه، وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره؛ فإن هذا جائز؛ مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه فلا يؤخذ ذلك منه، ولا من غيره.

وهذا كالوظائف السلطانية التي توضع على القري مثل أن يوضع عليهم عشرة آلاف درهم، فيطلب من له جاه بإمرة أو مشيخة أو رشوة أو غير ذلك ألا يؤخذ منه شيء، وهم لابد لهم من أخذ جميع المال، وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من سائر الشركاء، فيمتنع من أداء ما ينوبه، ويؤخذ من سائر الشركاء، فإن هذا ظلم منه لشركائه؛ لأن هذا لم يدفع الظلم عن نفسه إلا بظلم شركائه، وهذا لا يجوز. وليس له أن يقول: أنا لم أظلمهم، بل ظلمهم من أخذ منهم الحصتين؛ لأنه يقال:

أولًا: هذا الطالب قد يكون مأمورًا ممن فوقه أن يأخذ ذلك المال، فلا يسقط عن بعضهم نصيبه إلا أخذه من نصيب ذلك الآخر، فيكون أمره بألا يأخذ أمرًا بالظلم.

الثاني: أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى، فعليه أن يعدل بينهم فيما يطلبه منهم، وإن كان أصل الطلب ظلمًا فعليه أن يعدل في هذا الظلم، ولا يظلم فيه ظلمًا ثانيًا فيبقي ظلمًا مكررًا، فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين، كان قد ظلم ظلمًا مكررًا، بخلاف ما إذا أخذ من كل قسطه؛ ولأن النفوس ترضي بالعدل بينها في الحرمان، وفيما يؤخذ منها ظلمًا، ولا ترضي بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء.

ولهذا جاءت الشريعة بأن المريض له أن يوصي بثلث ماله لغير وارث، ولا يخص الوارث بزيادة على حقه من ذلك الثلث، وإن كان له أن يعطيه كله للأجنبي. وكذلك في عطية الأولاد: هو مأمور أن يسوي بينهم في العطاء، أو الحرمان، ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك؛ لحديث النعمان بن بشير وغيره.

الثالث: أنه إذا طلب من القاهر ألا يأخذ منه، وهو يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقد أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره، وليس للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره، وإن كان هو لم يأمره بالظلم، كمن يولي شخصًا، ويأمره ألا يظلم، وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه، وكذلك من وكل وكيلًا، وأمره ألا يظلم، وهو يعلم أنه يظلم، وكذلك من طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال، وهو يعلم أنه لا يوفيه إلا مما ظلمه من الناس. وكذلك هذا طلب منه أن يعفيه من الظلم، وهو يعلم أنه لا يعفيه إلا بظلم غيره، فليس له أن يطلب منه ذلك.

الرابع: أن هذا يفضي إلى أن الضعفاء الذين لا ناصر لهم يؤخذ منهم جميع ذلك المال، والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء من وظائف الأملاك، مع أن أملاكهم أكثر، وهذا يستلزم من الفساد والشر ما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما هو الواقع.

الخامس: أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الاشتراك في ذلك، وإن كان الكفار يأخذونه بغير حق، فلأن يشتركوا فيما يأخذه الظلمة من المسلمين أولى وأحرى.

فصل إذا تغيب بعض الشركاء أو امتنع من الأداء

وعلى هذا، فإذا تغيب بعض الشركاء، أو امتنع من الأداء فلم يؤخذ منه وأخذ من غيره حصته، كان عليه أن يؤدي قدر نصيبه إلى من أدي عنه في أظهر قولي العلماء، كما يؤدي ما عليه من الحقوق الواجبة ويلزم بذلك ويعاقب على أدائه، كما يعاقب على أداء سائر الحقوق الواجبة عليه؛ كالعامل في الزكاة إذا طلب من أحد الشريكين أكثر من الواجب وأخذه بتأويل، فللمأخوذ منه أن يرجع إلى الآخر بقسطه. وإن كان بغير تأويل فعلى قولين:

أظهرهما أن له أن يرجع أيضًا؛ كناظر الوقف، وولي اليتيم، والمضارب، والشريك، والوكيل، وسائر من تصرف لغيره بولاية أو وكالة إذا طلب منه ما ينوب ذلك المال من الكلف، مثل ما إذا أخذت منه الكلف السلطانية عن الأملاك، أو أخذ من التجار في الطرق والقري ما ينوب الأموال التي معهم؛ فإن لهم أن يؤدوا ذلك من نفس المال، بل يجب عليهم إذا خافوا إن لم يؤدوه أن يؤخذ أكثر منه. وإذا قدر أن المال صار غائبًا، فاقترضوا عليه وأدوا عنه أو أدوا من مال لهم عن مال الموكل، والمولي عليه، كان لهم الرجوع بقدر ذلك من ماله. وعلى هذا عمل المسلمين في جميع الأعصار والأمصار.

ومن لم يقل بذلك فإنه يلزم قوله من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد؛ فإن الكلف التي تؤخذ من الأموال على وجه الظلم كثيرة جدًا. فلو كان ما يؤديه المؤتمن على مال غيره عنه من تلك الكلف التي تؤخذ منه قهرًا بغير حق تحسب عليه، إذا لم يؤدها من غير مال المؤتمن لزم من ذلك ذهاب كثير من أموال الأمناء، ولزم ألا يدخل الأمناء في مثل ذلك لئلا تذهب أموالهم.

وحينئذ، يدخل في ذلك الخونة الفجار الذين لا يتقون الله، بل يأخذون من الأموال ما قدروا عليه، ويدعون نقص المقبوض المستخرج أو زيادة المصروف المؤدي، كما هو المعروف من حال كثير من المؤتمنين على الأموال السلطانية، لكن هؤلاء قد يدخل في بعض ما يفعلونه تأويل، بخلاف الوكيل والشريك والمضارب وولي اليتيم وناظر الوقف، ونحوهم.

وإذا كان كذلك، فالمؤتمن على المال المشترك بينه وبين شريكه إذا كان يعتد له بما أخذ منه، من هذه الكلف، فما قبضه عمال الزكاة باسم الزكاة أولي أن يعتد له به، وإن قبضوا فوق الواجب بلا تأويل، لا سيما وهذا هو الواقع كثيرا أو غالبًا في هذه الأزمان، فإن عمال الزكاة يأخذون من زكوات الماشية أكثر من الواجب بكثير، وكذلك من زكوات التجارات، ويأخذون من كل من كان المال بيده، سواء كان مالكًا أو وكيلًا أو شريكًا أو مضاربًا، أو غيرهم. فلو لم يعتد للأمناء بما أخذ منهم ظلمًا لزم من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.

وأيضًا، فذلك الإعطاء قد يكون واجبًا للمصلحة؛ فإنه لو لم يؤده لأخذ الظلمة أكثر منه، ومعلوم أن المؤتمن على مال غيره إذا لم يمكنه دفع الظلم الكثير إلا بأداء بعض المطلوب وجب ذلك عليه؛ فإن حفظ المال واجب. فإذا لم يمكن إلا بذلك وجب، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وأيضًا، فالمنازع يسلم أنهم لو أكرهوا المؤتمن على أخذ غير المال لم يكن ضامنًا، وأن العامل الظالم إذا أخذ من المال المشترك أكثر من الواجب لم يكن ضامنًا، وإنما وقعت لهم الشبهة إذا أكره المؤدي على الأداء عنه، كيف كان، فأدي عنه مما اقترض عليه، أو من مال إنسان ليرجع عليه. فيقال لهم: أي فرق بين أن يكرهه على الأداء عنه من مال نفسه، أو من مال الغائب. ومعلوم أن إلزامه بالأداء عن الغائب والممتنع أعظم ضررًا عليه من الأداء من عين مال الغائب والممتنع؛ فإن أداء ما يطلب من الغائب أهون عليه من أداء ذلك من مال نفسه، فإذا عذر فيما يؤديه من مال الغائب لكونه مكرهًا على الأداء، فلأن يعذر إذا أكره على الأداء عنه أولى وأحرى.

فإن قال المنازع: لأن المؤدي هناك عين مال المكره المؤدي فهو المظلوم. فيقال لهم: بل كلاهما مظلوم؛ هذا مظلوم بالأداء عن ذاك، وذاك مظلوم بطلب ماله. فكيف يحمل كله على المؤدي، والمقصود بالقصد الأول هو طلب المال من المؤدي عنه؟ وإنما الأعمال بالنيات، والطالب الظالم إنما قصده أخذ مال ذلك لا مال هذا، وإنما طلب من هذا الأداء عن ذاك.

وأيضًا، فهذا المكره على الأداء عن الغائب مظلوم محض، بسبب نفسه وماله، وذاك مظلوم بسبب ماله فكيف يجعل مال هذا وقاية لمال ذاك لظلم هذا الظالم الذي أكرهه، أو يكون صاحب المال القليل قد أخذ منه أضعاف ما يخصه، وصاحب المال الكثير لم يؤخذ منه شيء؟

وغاية هذا أن يشبه بغصب المشاع؛ فإن الغاصب إذا قبض من العين المشتركة نصيب أحد الشريكين كان ذلك من مال ذلك الشريك في أظهر قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لأنه إنما قصد أخذ مال أحد الشريكين.

ولو أقر أحد الابنين بأخ ثالث وكذبه أخوه، لزم المقر أن يدفع إلى المقر به ما فضل عن حقه، وهو السدس في مذهب مالك وأحمد بن حنبل. وكذلك ظاهر مذهب الشافعي، وهو قول جمهور السلف. جعلوا ما غصبه الأخ المنكر من مال المقر به خاصة؛ لأنه لم يقصد أن يأخذ شيئًا من حق المقر.

ولكن أبو حنيفة قال في غصب المشاع: إن ما قبضه الغاصب يكون من الشريكين جميعًا، باعتبار صورة القبض من غير اعتبار نية. وكذلك قال في الأخ المنكر: إن ما غصبه يكون منهما جميعًا فيدفع المقر إلى المقر به نصف ما في يده وهو الربع، ويكون النصف الذي غصبه المنكر منهما جميعًا. وهذا قول في مذهب أحمد والشافعي. وقول الجمهور هو الصواب لأجل النية. وكذلك هنا إنما قبض الظالم عن ذلك المطلوب، لم يقصد أخذ مال الدافع.

فإن قيل: فلو غلط الظالم، مثل أن يقصد القطاع أخذ مال شخص فيأخذون غيره، ظنًا أنه الأول. فهل يضمن الأول مال هذا الذي ظنوه الأول؟ قيل: باب الغلط فيه تفصيل ليس هذا موضعه، ولكن الفرق بينهما معلوم، وليس هذا مثل هذا؛ فإن الظالم الغالط الذي أخذ مال هذا لم يأخذه عن غيره، ولكنه ظنه مال زيد فظهر أنه مال عمرو، فقد قصد أن يأخذ مال زيد، فأخذ مال عمرو، كمن طلب قتل معصوم فقتل معصومًا آخر ظنًا منه أنه الأول.

وهذا بخلاف من قصد مال زيد بعينه، وأن يأخذ من الشركاء ما يقسم بينهم بالعدل، وأخذ من بعضهم عن بعض؛ فإن هذا لم يغلط، بل فعل ما أراده قصد أخذ مال شخص، وطلب المال من المستولي على ماله من شريك أو وكيل، ونحو ذلك، ليؤديه عنه. أو طلبوا من أحد الشركاء مالًا عن الأمور المشتركة تؤخذ من الشركاء كلهم، لم يغلطوا في ظنهم. فإذا كانوا إنما قصدوا الأخذ من واحد، بل قصدوا العدل بينه وبين شركائه، ولكن إنما قدروا على الأخذ من شريكه، فكيف يظلم هذا الشريك مرتين؟

ونظير هذا أن يحتاج ولي بيت المال إلى إعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين؛ كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم، أو إعطاء الكفار إذا احتاج والعياذ بالله إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من الناس أموالًا أداها، فهل يقول عاقل: إن تلك الأموال تذهب من ضمان من أخذت منه، ولا يرجع على بيت المال بشيء؛ لأن المقبوض كان عين أموالهم، لا عين أموال بيت المال؟ وقد كان النبي وأصحابه يعطون ما يعطونه؛ تارة من عين المال. وتارة مما يستسلفونه. فكان النبي يستسلف على الصدقة، وعلى الفيء، فيصرفه في المصارف الشرعية؛ من إعطاء المؤلفة قلوبهم، وغيرهم. وكان في الآخذين من لا يحل له الأخذ، بل كان النبي يقول: (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا). قالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: (يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البخل).

ولا يقول عاقل: إن ذلك المال يذهب من عين من اقترض منه، بل هو بمنزلة ما إذا كان عين مال الصدقة والفيء؛ لأن المعطي جاز له الإعطاء، وإن لم يجز للآخذ الأخذ. هذا وهو يعطيه باختياره، فكيف بمن أكره على الإعطاء وجاز له الإعطاء، أو وجب عليه؟ ولا يقال: ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم؛ لأنه يقال: إنما اقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذي طلب أخذ أموال المسلمين، فأدي عنهم ما اقترضه ليدفع به عنهم الضرر، وعليه أن يوفي ذلك من أموالهم المشتركة مال الصدقات والفيء ولا يقال: لا يحل له صرف أموالهم؛ فإن الذي أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم، بل إعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم وأموالهم واجب.

وإذا كان الإعطاء واجبًا لدفع ضرر هو ضرر أعظم منه، فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما: أن كل من أدي عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعًا بذلك، وإن أداه بغير إذنه؛ مثل من قضي دين غيره بغير إذنه. سواء كان قد ضمنه بغير إذنه، وأداه بغير إذنه، أو أداه عنه بلا ضمان.

وكذلك من أفتك أسيرًا من الأسر بغير إذنه يرجع عليه بما أفتكه به. وكذلك من أدي عن غيره نفقة واجبة عليه؛ مثل أن ينفق على ابنه أو زوجته أو بهائمه، لا سيما إذا كان للمنفق فيها حق؛ مثل أن يكون مرتهنًا أو مستأجرًا. أو كان مؤتمنًا عليها؛ مثل المودع، ومثل راد العبد الآبق، ومثل إنفاق أحد الشريكين على البهائم المشتركة. وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } 29، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد إرضاعهن، ولم يشترط عقد استئجار، ولا إذن الأب لها في أن ترضع بالأجر، بل لما كان إرضاع الطفل واجبًا على أبيه، فإن أرضعته المرأة استحقت الأجر بمجرد إرضاعها. وهذا في الأم المطلقة قول أكثر الفقهاء، يقولون: إنها تستحق الأجر بمجرد الإرضاع. وأبو حنيفة يقول بذلك في الأم، وإن كان لا يقول برجوع المؤدي للدين، وخالفه صاحباه.

والمفرق يقول: الأم أحق برضاع ابنها من غيرها، حتي لو طلبت الإرضاع بالأجر لقدمت على المتبرعة. قيل: فكذلك من له حق في بهائم الغير؛ كالمستأجر، والمرتهن، يستحق مطالبة المالك بالنفقة على بهائمه، فذلك أحق من الأم بالإرضاع.

وأيضًا، فلا يلزم من كونه يستحق ذلك بعقد المعاوضة أن يستحقه بدون عقد، إلا أن يكون الإرضاع واجبًا على الأب، وإذا كان إنما أداه لكونه واجبًا عليه، فهكذا جميع الواجبات عليه أن يؤديها إلى من أدي عنه وأحسن اليه بالأداء عنه. وهذا إذا كان المعطي مختارًا، فكيف إذا أكره على أداء ما يجب عليه؟ فإن الظالم القادر إذا لم يعطه المطلوب الذي طلبه منه ضره ضررًا عظيمًا؛ إما بعقوبة بدنية، وإما بأخذ أكثر منه. وحينئذ يجب عليه دفع ما يندفع به أعظم الضررين بالتزام أدناهما، فلو أدي الغير عنه بغير إكراه لكان له أن يرجع عليه بما أداه عنه، فكيف إذا أكره على الأداء عنه؟

وأيضًا، فإذا كان الطلب من الشركاء كلهم فقد تقدم أنه ليس لبعضهم أن يمتنع مما عليه امتناعًا يستلزم تكثير الظلم على غيره. وحينئذ فيكون الأداء واجبًا على جميع الشركاء؛ كل يؤدي قسطه الذي ينوبه إذا قسم المطلوب بينهم بالعدل. ومن أدي عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع به عليه، وكان محسنًا اليه في الأداء عنه، ومباشرة الظالمين دونه؛ فإن المباشر يحصل له ضرر في نفسه وماله، والغالب إنما يحصل له الضرر في ماله فقط، فإذا أدي عنه لئلا يحضر كان محسنا اليه في ذلك، فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه، كما يوفي المقرض المحسن؛ فإن جزاء القرض الوفاء والحمد، ومن غاب ولم يؤد حتي أدي عنه الحاضرون لزمه أن يعطيهم قدر ما أدوه عنه، ويلزم بذلك، ويعاقب إن امتنع عن أدائه، ويطيب لمن أدي عنه أن يأخذ نظير ذلك من ماله، كما يأخذ المقرض من المقترض نظير ما أقرضه. ومن قبض ذلك من ذلك المؤدي عنه، وأداه إلى هذا المؤدي جاز له أخذه، سواء كان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره.

ولهذا له أن يدعي بما أداه عنه عند حكام العدل، وعليهم أن يحكموا على هذا بأن يعطيه ما أداه عنه، كما يحكم عليه بأداء بدل القرض ولا شبهة على الآخذ في أخذ بدل ماله. ولا يقال: إنه أخذ أموال الناس؛ فإنه إنما أخذ منهم ما أداه عنهم، وبدل ما أقرضهم إياه من مال، وبدل ما وجب عليهم أداؤه، فإنه ليس لأحد الشركاء أن يمتنع عن أداء ما ينوبه إذا علم أن ذلك يؤخذ من سائر الشركاء، كما تقدم. وإذا لم يكن له هذا الامتناع كان الأداء واجبًا عليه، فمن أدي عنه ناويًا للرجوع فله الرجوع إذا أداه طوعًا؛ لإحسانه اليه بالأداء عنه. فكيف إذا أكره على الأداء عنه؟ ولو لم يكن الأداء واجبًا عليه، بل قد أكره ذلك الرجل على الأداء عنه رجع عليه، فإنه بسببه أكره ذاك، وأخذ ماله. وهذا كمن صودر على مال فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوا عنه، ويرجعوا عليه، فلهم الرجوع؛ فإن أموالهم إنما أخذت بسببه، وبسبب الدفع عنه.

فإن الآخذ منه إما أن يأخذ لاعتقاده أنه ظالم، كما يصادر ولاة الأمور بعض نوابهم، ويقولون: إنهم أخذوا من الأموال أكثر مما صودروا عليه؛وإما أن يكون صاحب مال كثير، فيطلب منه الطالب ما يقول: أنه ينوب ماله. فأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وغيرهم ممن أخذ ماله بسبب مال هذا أو بسبب أعماله إنما ظلموا لأجله، وأخذت أموالهم لأجل ماله وصيانة لماله، والطالب إنما مقصوده ماله لا أموال أولئك، وشبهته وإرادته إنما هي متعلقة بماله دون أموالهم. فكيف تذهب أموالهم هدرًا من غير سبب منهم، ويبقي مال هذا محفوظًا، وهو الذي طولبوا لأجله؟ ولو لم يستحق هؤلاء المؤدون عن غيرهم الرجوع لحصل فساد كثير في النفوس والأموال؛ فإن النفوس والأموال قد يعتريها من الضرر والفساد ما لا يندفع إلا بأداء مال عنهم، فلو علم المؤدون أنهم لا يستحقون الرجوع بما أدوه إلا إذا أذن ذلك الشخص لم يؤدوا، وهو قد لا يأذن، إما لتغيبه، أو لحبسه، أو غير ذلك، وإما لظلمه نفسه وتماديه على ما يضر نفسه وماله سفها منه، وظلمًا حرمه الشارع عليه.

ومعلوم أن الناس تحت أمر الله ورسوله، فليس لأحد أن يضر نفسه وماله ضررًا نهاه الله عنه، ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه، فقد أحسن اليه، وفي فطر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو ظالم معتد، وما عده المسلمون ظلمًا فهو ظلم. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح.

وأصل هذا: اعتبار المقاصد والنيات في التصرفات، وهذا الأصل قد قرر وبسط في كتاب: بيان الدليل على بطلان التحليل، وقد قال النبي في ابن اللتبية العامل الذي قبل الهدايا لما استعمله على الصدقات، فأهدي اليه هدايا فلما رجع حاسبه النبي على ما أخذ وأعطي، وهو الذي يسميه أهل الديوان الاستيفاء، كما يحاسب الإنسان وكيله وشريكه على مقبوضه ومصروفه، وهو الذي يسميه أهل الديوان المستخرج والمصروف، فقال ابن اللتبية: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال النبي : (ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدي اليه؟ أم لا؟ والذي نفسي بيده، ما من رجل نستعمله على العمل فيغل منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر). ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال: (ألا هل بلغت؟) أو كما قال ، والحديث متفق على صحته.

فلما كان المعطون المهدون إنما أعطوه وأهدوا اليه لأجل ولايته، جعل ذلك من جملة المال المستحق لأهل الصدقات؛ لأنه بسبب أموالهم قبض، ولم يخص به العامل الذي قبضه، فكذلك ما قبض بسبب أموال بعض الناس فعنها يحسب، وهو من توابعها، فكما أنه أعطي لأجلها، فهو مغنم ونماء لها، لا لمن أخذه، فما أخذ لأجلها فهو مغرم ونقص منها لا على من أعطاه.

وكذلك من خلص مال غيره من التلف بما أداه عنه يرجع به عليه؛ مثل من خلص مالًا من قطاع أو عسكر ظالم أو متول ظالم، ولم يخلصه إلا بما أدي عنه، فإنه يرجع بذلك، وهو محسن اليه بذلك، وإن لم يكن مؤتمنًا على ذلك المال، ولا مكرهًا على الأداء عنه، فإنه محسن اليه بذلك، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف أداها عنه كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه في تخليص المال إحسانًا اليه لم يجزه به. هذا أصوب قولي العلماء.

ومن جعله في مثل هذا متبرعًا ولم يعطه شيئًا، فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وقد قابل الإحسان بالإساءة.

ومن قال: هذا هو الشرع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله غير الحق؛ لكنه قول بعض العلماء، وقد خالفهم آخرون. ونسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظن كثير من الناس في الشرع وفرارهم منه، والقدح في أصحابه. فإن من العلماء من قال قولًا برأيه، وخالفه فيه آخرون، وليس معه شرع منزل من عند الله، بل الأدلة الشرعية قد تدل على نقيض قوله، وقد يتفق أن من يحكم بذلك يزيد ذلك ظلمًا بجهله وظلمه، ويتفق أن كل أهل ظلم وشر يزيدون الشر شرًا، وينسبون هذا الظلم كله إلى شرع من نزهه الله عن الظلم وبعثه بالعدل والحكمة والرحمة، وجعل العدل المحض الذي لا ظلم فيه هو شرعه.

ولهذا كان العدل وشرعه متلازمين. قال الله تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } 30، وقال تعالى: { فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } 31، وقال تعالى: { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } 32.

فما أنزل عليه والقسط متلازمان، فليس فيما أنزل الله عليه ظلم قط، بل قد قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } 33، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

سئل عن رجل متول ولايات وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة

وسئل الشيخ قدس الله روحه عن رجل مُتَولٍّ ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولي غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء، بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها، وهو عاجز عن ذلك، لا يمكنه ردها. فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه؟ وقد عرفت نيته، واجتهاده، وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم، بل يبقي ويزداد. فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم. فهل يطالب على ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة. وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم. فهل الأولي له أن يوافق الرعية؟ أم يرفع يده. والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقي ويزداد برفع يده.

فأجاب:

الحمد لله، نعم إذا كان مجتهدًا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر؛ فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه.

وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه. فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم.

وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطلب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالًا لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع اليهم أعطوا تلك الإقطاعات، والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده، ولا يخففه، كان أخذ تلك الوظائف ودفعها اليهم خيرًا للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره، ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان.

وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك، وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم؛ فإنه محسن في ذلك غير مسيء، وذلك مثل ما يعطي هؤلاء المكاسين وغيرهم في الطرقات، والأشوال، والأموال التي ائتمنوا؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما يباع ويشتري؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلابد أن يؤدي هذه الوظائف، فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم.

والذي ينهي عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليم، فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطريق، فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم. فمن قال لتلك القافلة: لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئًا من الأموال التي معكم للناس، فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذي ينهي عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير، وسلبوا مع ذلك، فهذا مما لا يشير به عاقل، فضلًا أن تأتي به الشرائع، فإن الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.

فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف، ويصرف إلى من نسبه مستقرًا على ولايته وإقطاعه ظلمًا وشرًا كثيرًا عن المسلمين أعظم من ذلك، ولا يمكنه دفعه إلا بذلك، إذا رفع يده تولي من يقره ولا ينقص منه شيئًا، هو مثاب على ذلك، ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة.

وهذا بمنزلة وصى اليتيم، وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية، إذا رفع يده تولي من يجور ويريد الظلم، فولايته جائزة، ولا إثم عليه فيما يدفعه، بل قد تجب عليه هذه الولاية.

وكذلك الجندي المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده، ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف، وهذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد، فإذا قيل له: لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من هذا، بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع، فتركه وأخذه من يريد الظلم، ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئًا جاهلًا بحقائق الدين، بل بقاء الجند من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم، وأنفع للمسلمين، وأقرب للعدل على إقطاعهم، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعًا وأكثر ظلمًا.

والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان، يجزيه الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك -كان ترك ذلك يوجب شرًا أعظم منه. والله أعلم.

سئل عن رجل أخذ ماله ظلما بغير حق وانتهك عرضه فلم يقتص في الدنيا

وسئل شيخُ الإسلام عن رجل أخذ ماله ظلما بغير حق، وانتهك عرضه، أو نيل منه في بدنه، فلم يقتص في الدنيا، وعلم أن ما عند الله خير وأبقي. فهل يكون عفوه عن ظالمه مسقطا عند الله؟ أم نقصا له؟ أم لا يكون؟ أو يكون أجره باقيا كاملا موفرًا؟ وأيما أولي مطالبة هذا الظالم والانتقام منه يوم القيامة وتعذيب الله له. أو العفو عنه وقبول الحوالة على الله تعالى؟

فأجاب:

لا يكون العفو عن الظالم، ولا قليله مسقطا لأجر المظلوم عند الله، ولا منقصا له، بل العفو عن الظالم يصير أجره على الله تعالى؛ فإنه إذا لم يعف كان حقه على الظالم، فله أن يقتص منه بقدر مظلمته، وإذا عفا وأصلح فأجره على الله. وأجره الذي هو على الله خير وأبقي. قال تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } 34

فقد أخبر أن جزاء السيئة سيئة مثلها بلا عدوان، وهذا هو القصاص في الدماء، والأموال، والأعراض، ونحو ذلك. ثم قال: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }، وقد ذكر عن الإمام أحمد لما ظلم في محنته المشهورة أنه لم يخرج حتي حلل من ظلمه. وقال: ذكرت حديثا ذكر عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة نادي مناد: ألا ليقم من وجب أجره على فلا يقوم إلا من عفا وأصلح.

وقد قال تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } 35، وأباح لهم سبحانه وتعالى إذا عاقبوا الظالم أن يعاقبوه بمثل ما عاقب به، ثم قال: { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }، فعلم أن الصبر عن عقوبته بالمثل خير من عقوبته. فكيف يكون مسقطا للأجر أو منقصًا له؟

وقد قال تعالى: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } 36. فجعل الصدقة بالقصاص الواجب على الظالم وهو العفو عن القصاص كفارة للعافي، والاقتصاص ليس بكفارة له، فعلم أن العفو خير له من الاقتصاص. وهذا لأن ما أصابه من المصائب مكفر للذنوب، ويؤجر العبد على صبره عليها، ويرفع درجته برضاه بما يقضيه الله عليه منها. قال الله تعالى: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } 37، قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضي ويسلم، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا هَمّ ولا حَزَن ولا غَمّ ولا أذي حتي الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه).

وفي المسند: أنه لما نزل قوله تعالى: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } 38، قال أبو بكر: يارسول الله، نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا ؟ فقال: (يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء. فذلك ما تجزون به) وفيه أيضا: (المصائب حطة تحط الخطايا عن صاحبها، كما تحط الشجرة القائمة ورقها).

والدلائل على أن المصائب كفارات كثيرة، إذا صبر عليها أثيب على صبره، فالثواب والجزاء إنما يكون على العمل وهو الصبر وأما نفس المصيبة فهي من فعل الله، لا من فعل العبد، وهي من جزاء الله للعبد على ذنبه، وتكفيره ذنبه بها. وفي المسند: أنهم دخلوا على أبي عبيدة بن الجراح وهو مريض، فذكروا أنه يؤجر على مرضه، فقال: مالى من الأجر ولا مثل هذه. ولكن المصائب حطة. فبين لهم أبو عبيدة رضي الله عنه أن نفس المرض لا يؤجر عليه، بل يكفر به عن خطاياه.

وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، فيكون فيه أجر بهذا الاعتبار. ومن الناس من يقول: لابد فيه من التعويض والأجر والامتنان، وقد يحصل له ثواب بغير عمل، كما يفعل عنه من أعمال البر.

وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم، قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } 39 فالرجل إذا ظلم بجرح ونحوه فتصدق به، كان الجرح مصيبة يكفر بها عنه، ويؤجر على صبره، وعلى إحسانه إلى الظالم بالعفو عنه؛ فإن الإحسان يكون بجلب منفعة، وبدفع مضرة؛ ولهذا سماه الله صدقة.

وقد قال تعالى: { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } 40 فذكر: أنه يحب المحسنين، والعافين عن الناس. وتبين بهذا أن هذا من الإحسان. والإحسان ضد الإساءة، وهو فعل الحسن، سواء كان لازمًا لصاحبه، أو متعديا إلى الغير، ومنه قوله: { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } 41. فالكاظم للغيظ، والعافي عن الناس، قد أحسن إلى نفسه، وإلى الناس؛ فإن ذلك عمل حسنة مع نفسه، ومع الناس، ومن أحسن إلى الناس فإلى نفسه. كما يروي عن بعض السلف أنه قال: ما أحسنت إلى أحد، وما أسأت إلى أحد، وإنما أحسنت إلى نفسي، وأسأت إلى نفسي، قال تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } 42، وقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } 43.

ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانًا إلى المحسن، يعود نفعه عليه، لكان فاعلا إثمًا أو ضررًا؛ فإن العمل الذي لا يعود نفعه على فاعله، إما حيث لم يكن فيه فائدة، وإما شر من العبث؛ إذا ضر فاعله. والعفو عن الظالم أحد نوعي الصدقة؛ المعروف، والإحسان إلى الناس. وجماع ذلك الزكاة.

والله سبحانه دائمًا يأمر بالصلاة، والزكاة، وهي الصدقة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي من غير وجه أنه قال: (كل معروف صدقة)، وذلك نوعان:

أحدهما: اتصال نفع اليه.

الثاني: دفع ضرر عنه. فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم، ونفسه تدعوه اليه، فكف نفسه عن ذلك، ودفع عنه ما يدعوه اليه من إضراره، فهذا إحسان منه اليه، وصدقة عليه، والله تعالى يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين. فكيف يسقط أجر العافي؟

وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ولهذا إذا ذكر الله في كتابه حقوق العباد، وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان، فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان، كما قال تعالى: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 44. فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره.

وقال تعالى: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } 45، فسمي إسقاط الدية صدقة. وقال تعالى: { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } 46، فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوي من استيفائه. وعفو المرأة إسقاط نصف الصداق باتفاق الأمة.

وأما عفو الذي بيده عقدة النكاح، فقيل: هو عفو الزوج، وأنه تكميل للصداق للمرأة، وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو، فهذا العفو إعطاء الجميع، وذلك العفو إسقاط الجميع. والذي حمل من قال هذا القول عليه؛ أنهم رأوا أن غير المرأة لا تملك إسقاط حقها الواجب، كما لا تملك إسقاط سائر ديونها. وقيل: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها؛ كالأب للبكر الصغيرة، وكالسيد للأمة، وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد. ولهذا لم يقل: إلا أن يعفون، أو يعفوهم، والخطاب في الآية للأزواج.

وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } 47، وقال تعالى: { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } 48.

فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال: { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } 49، وهنا ذكر الصبر والعفو، فقال: { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وذكر ذلك بعد قوله: { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }، فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة، في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم؛ وهم: العادل، والظالم، والمحسن.

فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل، فلم يكن بذلك ممدوحا، ولكن لم يكن بذلك مذمومًا. وذكر الظالم بقوله: { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }، فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة، والاقتصاص. وذكر المحسنين فقال: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }. والقرآن فيه جوامع الكلم.

وهذا كما ذكر في آخر البقرة أصناف الناس في المعاملات، التي تكون باختيار المتعاملين، وهم ثلاثة: محسن، وظالم، وعادل. فالمحسن: هو المتصدق. والظالم: هو المربي. والعادل: هو البائع. فذكر هنا حكم الصدقات، وحكم الربا، وحكم المبايعات، والمداينات.

وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص، غالط جاهل ضال، بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل، ويحصل للظالم عز واستطالة عليه، فهو غالط في ذلك. كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي أنه قال: (ثلاث إن كنتُ لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد للّه إلا رفعه الله). فبين الصادق المصدوق: أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزًا، وأنه لا تنقص صدقة من مال، وأنه ما تواضع أحد للّه إلا رفعه الله. وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن، وما تهوي الأنفس، من أن العفو يذله، والصدقة تنقص ماله، والتواضع يخفضه.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ماضرب رسول الله خادمًا له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء. حتي ينتقم للّه. وخُلُق رسول الله القرآن أكمل الأخلاق، وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه، وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتي ينتقم للّه، فيعفو عن حقه، ويستوفي حق ربه.

والناس في الباب أربعة أقسام:

منهم: من ينتصر لنفسه ولربه، وهو الذي يكون فيه دين وغضب.

ومنهم: من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه، وهو الذي فيه جهل وضعف دين.

ومنهم: من ينتقم لنفسه لا لربه، وهم شر الأقسام.

وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق الله، ويعفو عن حقه. كما قال أنس بن مالك: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط. وما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: (دعوه لو قضي شيء لكان). فهذا في العفو عما يتعلق بحقوقه وأما في حدود الله، فلما شفع عنده أسامة بن زيد وهو الحب ابن الحب، وكان هو أحب اليه من أنس، وأعز عنده في امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها. غضب، وقال: (يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها). فغضب على أسامة لما شفع في حد للّه، وعفا عن أنس في حقه. وكذلك لما أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال: لا إله إلا الله. قال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله)، فما زال يكررها حتي قلت: ليته سكت.

والأحاديث والآثار في استحباب العفو عن الظالم، وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدًا. وهذا من العلم المستقر في فطر الآدميين. وقد قال تعالى لنبيه: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } 50، فأمره أن يأخذ العفو في أخلاق الناس، وهو ما يقر من ذلك. قال ابن الزبير: أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس، وهذا كقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } 51، من أموالهم. هذا من العفو، ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين. وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير ما يحب، أو ما يكره. فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به، ولا يطالبهم بزيادة. وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم، وأما هو فيأمرهم بالمعروف. وهذا باب واسع.

سئل عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده

وسئل رَحمه الله عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده، أو يغصبه شيئًا. ثم يصيب له مالًا من جنس ماله. فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه؟

فأجاب:

وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين. فهل يأخذه أو نظيره، بغير إذنه؟ فهذا نوعان:

أحدهما: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب؛ كما ثبت في الصحيحين أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت: يارسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني، وبَنِي. فقال: (خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف)، فأذن لها أن تأخذ نفقتها بالمعروف بدون إذن وليه.

وهكذا من علم أنه غصب منه ماله غصبا ظاهرا يعرفه الناس، فأخذ المغصوب، أو نظيره من مال الغاصب. وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله، فأخذ من ماله بقدره، ونحو ذلك.

والثاني: ألا يكون سبب الاستحقاق ظاهرا، مثل أن يكون قد جحد دينه، أو جحد الغصب، ولا بينة للمدعي. فهذا فيه قولان:

أحدهما: ليس له أن يأخذ وهو مذهب مالك، وأحمد.

والثاني: له أن يأخذ، وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيسوغ الأخذ من جنس الحق؛ لأنه استيفاء، ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس؛ لأنه معاوضة فلا يجوز إلا برضا الغريم.

والمجوزون يقولون: إذا امتنع من أداء الواجب عليه ثبتت المعاوضة بدون إذنه للحاجة، لكن من منع الأخذ مع عدم ظهور الحق استدل بما في السنن عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، وفي المسند عن بشير بن الخصاصية أنه قال: يارسول الله، إن لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة، ولا فاذة، إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: (لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). وفي السنن عن النبي أنه قيل له: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ قال: (لا). رواه أبو داود وغيره.

فهذه الأحاديث تبين أن حق المظلوم في نفس الأمر إذا كان سببه ليس ظاهرا، أخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه، لكنه خان الذي ائتمنه، فإنه لما سلم اليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه، والاستحقاق ليس ظاهرا كان خائنا. وإذا قال: أنا مستحق لما أخذته في نفس الأمر، لم يكن ما ادعاه ظاهرا معلوما. وصار كما لو تزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك. ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها، وكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يطأها لما هو الأمر عليه في الباطن.

فإن قيل: لا ريب أن هذا يمنع منه ظاهرًا، وليس له أن يظهر ذلك قدام الناس؛ لأنهم مأمورون بإنكار ذلك؛ لأنه حرام في الظاهر، لكن الشأن إذا كان يعلم سرا فيما بينه وبين الله؟

قيل: فعل ذلك سرا يقتضي مفاسد كثيرة منهي عنها، فإن فعل ذلك في مظنة الظهور والشهرة، وفيه ألا يتشبه به من ليس حاله كحاله في الباطن، فقد يظن الإنسان خفاء ذلك، فيظهر مفاسد كثيرة، ويفتح أيضا باب التأويل. وصار هذا كالمظلوم الذي لا يمكنه الانتصار إلا بالظلم؛ كالمقتص الذي لا يمكنه الاقتصاص إلا بعدوان، فإنه لا يجوز له الاقتصاص. وذلك أن نفس الخيانة محرمة الجنس. فلا يجوز استيفاء الحق بها، كما لو جرعه خمرا، أو تلوط به، أو شهد عليه بالزور، لم يكن له أن يفعل ذلك؛ فإن هذا محرم الجنس. والخيانة من جنس الكذب.

فإن قيل: هذا ليس بخيانة، بل هو استيفاء حق. والنبي نهي عن خيانة من خان، وهو أن يأخذ من ماله مالا يستحق نظيره. قيل هذا ضعيف لوجوه:

أحدها: أن الحديث فيه أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها. أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون؟ فقال: (لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك. ولا تخن من خانك). وكذلك قوله في حديث الزكاة: أفنكتم من أموالنا بقدر ما يأخذون منا؟ فقال: (لا).

الثاني: أنه قال: (ولا تخن من خانك). ولو أراد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، لا يحتاج إلى بيان وسؤال. وقد قال: (ولا تخن من خانك) فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته، فتفعل به مثل ما فعل بك. فإذا أودع الرجل مالًا فخانه في بعضه، ثم أودع الأول نظيره ففعل به مثل ما فعل، فهذا هو المراد بقوله: (ولا تخن من خانك).

الثالث: أن كون هذا خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص؛ فإن الأمور منها ما يباح فيه القصاص كالقتل، وقطع الطريق، وأخذ المال. ومنها مالا يباح فيه القصاص؛كالفواحش، والكذب، ونحو ذلك. قال تعالى في الأول: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } 52، وقال: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } 53، وقال: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } 54. فأباح العقوبة والاعتداء بالمثل. فلما قال ههنا: (ولا تخن من خانك) علم أن هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل.

سئل عن رجل مديون وله عند صاحب الدين بضاعة

وسئل رَحمه الله عن رجل مديون وله عند صاحب الدين بضاعة، والثمن سبعون درهما، ومقدار البضاعة تسعون درهما، وقد توفي المديون، واحتاط على موجوده، فأراد صاحب الدين أن يطلع الورثة على البضاعة، فاختشي أن يأخذوها، ولم يوصوله إلى حقه، وإن أخفاها فيبقي إثم فرطها عليه، ويخاف أن يطالبه بغير البضاعة؟

فأجاب:

يبيعها ويستوفي من الثمن ما له في ذمة الميت من الأجرة والثمن، وما بقي يوصله إلى مستحق تركته. وإذا حلفوه فله أن يحلف أنه ليس له عندي غير هذا، وإن أحب أن يشتري بضاعة مثل تلك البضاعة، ويحلف أنه لا يستحق عنده إلا هذا. بشرط أن تكون البضاعة مثل تلك، أو خيرًا منها.

سئل عن رجل له مال غصب ثم مات فهل تكون المطالبة له في الآخرة

وسئل عن رجل له مال غصب، أو مطل في دين، ثم مات، فهل تكون المطالبة له في الآخرة؟ أم للورثة؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب:

أما من غصب له مال، أو مطل به، فالمطالبة في الآخرة له. كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم أو مال أو عرض، فليستحلل من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه، ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فألقيت عليه).

فبين النبي أن الظلامة إذا كانت في المال طالب المظلوم بها ظالمه، ولم يجعل المطالبة لورثته، وذلك أن الورثة يخلفونه في الدنيا، فما أمكن استيفاؤه في الدنيا كان للورثة، وما لم يمكن استيفاؤه في الدنيا، فالطالب به في الآخرة المظلوم نفسه. والله أعلم.

سئل عن قوم دخل في زرعهم جاموسان فعرقبوهما فماتا

وسئل عن قوم دخل في زرعهم جاموسان، فعرقبوهما فماتا، وقد يمكن دفعهما بدون ذلك، فما يجب عليهم؟ وما يجب على أرباب المواشي من حفظها؟ وعلى أرباب الزرع من حفظه؟

فأجاب:

ليس لهم دفع البهائم الداخلة إلى زرعهم إلا بالأسهل، فالأسهل. فإذا أمكن إخراجهما بدون العرقبة فعرقبوهما عزروا على تعذيب الحيوان بغير حق. وعلى العدوان على أموال الناس بما يردعهم عن ذلك، وضمنوا للمالك بدلهما.

وعلى أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل، كما قال بذلك النبي .

سئل عن المال المغصوب من الإبل وغيرها إذا نمت عند الغاصب ثم تاب

وسئل عن المال المغصوب من الإبل وغيرها إذا نمت عند الغاصب ثم تاب، كيف يتخلص من المال. وهل هو حرام أم لا؟

فأجاب:

أعدل الأقوال في ذلك: أن يجعل نماء المال بين المالك والعامل، كما لو دفعه إلى من يقوم عليه بجزء من نمائه، ثم إن الأصل: ونصيب المالك إذا تعذر دفعه إلى مالكه، صرفه في مصالح المسلمين.

سئل عمن غصب شاة ثم تراضي هو ومالكها هل يجوز أكلها

وسئل عمن غصب شاة، ثم تراضي هو ومالكها. هل يجوز أكلها؟

فأجاب:

نعم إذا تراضي هو ومالكها جاز أكلها.

سئل عن غلام في يده فرس فطلعت نعامة من إصطبل وهجمت على الخيل

وسئل رَحمه الله عن غلام في يده فرس فطلعت نعامة من إصطبل، وهجمت على الخيل، والغلام ماسك الفرس، واثنان قعود، فرفس أحدهما وتوفي، فما يجب على الغلام؟ وما يجب على صاحب الفرس؟

فأجاب:

إذا رفسته برجلها فلا ضمان على الغلام، ولا على صاحب الفرس، بل الفرس باق على ملك صاحبه، وهذا مذهب جمهور الأئمة؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد وغيرهم.

وفي السنن عن النبي أنه قال: (الرِّجْل جُبَار)، وقال الشافعي: يضمن ما ضربه برجله إذا كان على الفرس راكب، أو قائد، أو سائق، كما وافقه أحمد وغيره على ذلك في اليد. وأما إذا لم يفرط الغلام الذي هو ممسك للفرس، فلا ضمان عليه باتفاق العلماء، مثل أن تجفل الفرس، ويحذر القريب منها. فيقول: حاذروا. فإذا قال ذلك فمن رفست منهما كان هو المفرط، ولم يكن على أحد ضمان باتفاق الأئمة، والله أعلم.

سئل عن جمل كبير مربوط على الربيع

وسئل رَحمه الله عن جمل كبير مربوط على الربيع، وإلى جانبه قعود صغير لآخر غير صاحب الجمل الكبير، ثم غابوا أصحاب الجملين، فانقلب الكبير على الصغير فقتله. فما حكمه؟

فأجاب:

إذا كان صاحب الجمل الكبير لم يفرط في منعه فلا ضمان عليه، مثل أن يكون قيده القيد الذي يمنعه. وأما إذا كان قد فرط بأن قيده قيدًا خفيفًا، لا يمنعه، فعليه ضمان ما أتلفه. والله أعلم.

باب الشفعة

فصل في ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار كالقرية، والبستان، ونحو ذلك. وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار؛ وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي. هل تثبت فيه الشفعة؟ على قولين:

أحدهما: تثبت، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره بعض أصحاب الشافعي؛ كابن سريج. وطائفة من أصحاب أحمد؛ كأبي الوفاء بن عقيل. وهي رواية المهذب عن مالك. وهذا القول هو الصواب، كما سنبينه إن شاء الله.

والثاني: لا تثبت فيه الشفعة، وهو قول الشافعي نفسه، واختيار كثير من أصحاب أحمد. وهذا القول له حجتان:

أحدهما: قولهم: إن الشفعة إنما شرعت لرفع ضرر مؤنة القسمة، وما لا تجب قسمته ليس فيه هذا الضرر.

والثاني: أنه لو وجبت فيه الشفعة لتضرر الشريك؛ فإنه إن باعه لم يرغب الناس في الشراء؛ لخوفهم من انتزاعه بالشفعة. وإن طلب القسمة لم تجب إجابته، فلا يمكنه البيع ولا القسمة، فلا يقدر أن يتخلص من ضرر شريكه. فلو أثبتنا فيه الشفعة لرفع ضرر الشريك الذي لم يبع لزم إضرار الشريك البائع. والضرر لا يزال بالضرر.

والقول الأول أصح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (من كان له شريك في أرض، أو ربعة، أو حائط. فلا يحل له أن يبيع حتي يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك. فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به). ولم يشترط النبي في الأرض، والربعة، والحائط، أن يكون مما يقبل القسمة. فلا يجوز تقييد كلام الرسول بغير دلالة من كلامه، لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة.

وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا. ففي الصحيحين عن النبي أنه قضي بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة. فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود، وصرف الطرق، وهذا الحديث في الصحيح عن جابر. وفي السنن عنه عن النبي أنه قال: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا)، فإذا قضي بها للاشتراك في الطريق؛ فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى.

وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال. أعدلها هذا القول: أنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا.

وأيضا، فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي الشفعة فيما يقبل القسمة، فما لا يقبل القسمة أولي بثبوت الشفعة فيه؛ فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة، وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد.

وظن من ظن أنها تثبت لرفع المقاسمة، لا لضرر المشاركة، كلام ظاهر البطلان؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها، وجبت إجابته إلى المقاسمة، ولو كان ضرر المشاركة أقوي لم يرفع أدني الضررين بالتزام أعلاهما، ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل؛ فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا.

وأما قولهم: هذا يستلزم ضرر الشريك البائع. فجوابه: أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين؛ فإن العين تباع، ويجبر الممتنع على البيع، ويقسم الثمن بينهما. وهذا مذهب جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل.

وذكر بعض المالكية أن هذا إجماع. وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: (من أعتق شركا له في غلام، وكان له من المال ما يبلغ ثمن الغلام، قوم عليه قيمة عدل، لا وَكْس، ولا شَطَط، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)، فدل هذا الحديث على أن حق الشريك في نصف قيمة الجميع، لا في قيمة نصف الجميع؛ فإنه إذا بيع العبد كله ساوي ألف درهم مثلا، وإذا بيع نصفه ساوي أقل من خمسمائة درهم، وحق الشريك نصف الألف.

فهكذا في العقار الذي لا يقسم يستحق نصف قيمته جميعه، فيباع جميع العقار، ويعطي حصته من الثمن إذا طلب ذلك، وبهذا يرتفع عنه الضرر، وبهذا يتبين كمال محاسن الشريعة وما فيها من مصالح العباد في المعاش، والمعاد. والحمد لله وحده.

سئل عن رجل له ملك وله شركة فيه فاحتاج إلى بيعه

وسئل عن رجل له ملك، وله شركة فيه فاحتاج إلى بيعه، فأعطاه إنسان فيه شيئا معلوما، فباعه. فقال: زن لي ما قلت، فنقصه عن المثل. فهل يجب عليه أداؤه؟ أم لا؟ وهل يصح للشريك شفعة؟ أم لا؟

فأجاب:

إذا باعه بثمن معلوم، كان على المشتري أداء ذلك الثمن. وإن كان البيع فاسدًا، وقد فات، كان عليه قيمة مثله. وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة. والله أعلم.

سئل عن رجل اشترى شقصا مشفوعا

وسئل رحمه الله عن رجل اشتري شقصًا مشفوعًا، وكلما طلبه الشفيع أظهر صورة أن البيع كان بدون الرؤية المعتبرة، ففسخه الحاكم، وأقر المشتري ببراءة البائع مما كان قبضه، ووقف الشقص على المشتري، كل ذلك دفعًا للشفعة. فهل يكون ذلك مسقطًا للشفعة؟ وهل تكون هذه التصرفات صحيحة؟

فأجاب:

الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق، وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها، وبعد انعقاد السبب وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع، مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل. وما ذكر من إظهار صورة انفساخ المبيع، وعود الشقص إلى البائع، ثم إظهار براءة البائع ووقفه، فكل ذلك باطل، والشقص باق على ملك المشتري، وحق الشفيع ثابت فيه، إلا أن يترك تركا يسقط الشفعة. والله أعلم.

سئل عن شقص مشفوع ثبت وقفه

وسئل عن شقص مشفوع ثبت وقفه، وثبت أن حاكما حكم بالشفعة فيه للشريك، ولم يثبت الشريك أخذها؟

فأجاب:

لا يبطل الوقف إلا إذا أثبت أن الشريك يملك الشقص المشفوع الموقوف، على ما في تملكه من اختلاف العلماء.

وأما مجرد حكم الحاكم باستحقاق الشفعة فلا ينقض الوقف المتقدم قبل ذلك، كما لا يزيل ملك المشتري، بل يبقي الأمر موقوفًا، فإن أخذ الشريك الشقص بالشفعة بطل التصرف الموجود فيه قبل ذلك عند من يقول به، وإلا فلا.

سئل عن رجل اشترى نصف حوش والنصف الآخر اشتراه رجل آخر

وسئل رحمه الله عن رجل اشتري نصف حوش، والنصف الآخر اشتراه رجل آخر، وأوقف حصته قبل طلب الشريك الأول، وأن الشريك الأول قال: أنا آخذه بالشفعة. فهل له ذلك؟

فأجاب:

إذا كان الأمر كذلك فلا شفعة له؛ فإن المشتري الثاني وقفه فلا شفعة فيه، وشفعة الأول بطلت؛ لكونه أخر الطلب بعد علمه حتي خرجت عن ملك المشتري بوقف أو غيره، فلا شفعة.

وإن كان قد أخرجه من ملكه بالبيع قبل علمه بالبيع فله الشفعة. وأما الوقف والهبة ففيه نزاع. والله أعلم.

سئل عن رجل له حصة مع شاهد ثم باع الشريك حصته لشاهد آخر بزيادة

وسئل رحمه الله عن رجل له حصة مع شاهد، ثم باع الشريك حصته لشاهد آخر بزيادة كثيرة على ثمن المثل في الظاهر، وتواطآ بينهما في الباطن على ثمن المثل، دفعًا للشفعة. فهل تسقط الشفعة؟ أم لا؟

فأجاب:

لا يحل الكذب والاحتيال على إسقاط حق المسلم، ويجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن، إذا طلب الشريك ذلك، وأن منعه ذلك قدح في دينه. وعلى الحاكم أن يحكم بالشفعة إذا تبين حقيقة الأمر.

باب الوديعة

سئل عن دلال أعطاه إنسان قماشا ليختمه ويبيعه

سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن دلال أعطاه إنسان قماشا ليختمه ويبيعه، فما وجد الختام، فأودعه عند رجل خياط أمين عادتهم يودعون عنده، فحضر صاحب القماش هو ودلال آخر، وأخذوا القماش من عنده، ولم يكن الذي أودعه حاضرا، فادعي صاحب القماش أنه عدم له منهم ثوب، وأنكر ذلك الدلال فهل يلزم الدلال الذي كانت عنده الوديعة شيء؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، إذا ادعوا عدم قبض الوديعة، وأنكر ذلك الدلال، فالقول قوله مع يمينه، ما لم تقم حجة شرعية على تصديق دعواهم. وإما إذا عدم منها شيء، فإن كان الدلال فرط بحيث فعل ما لم يؤذن فيه لفظًا ولا عرفا ضمن، فإذا كان من عادتهم الإيداع عند هذا الأمين، وأصحاب القماش يعلمون ذلك، ويقرونه عليه فلا ضمان على الدلالين. والله أعلم.

سئل عن رجل مات وترك بنتين وزوجة وإحدي البنتين غائبة

وسئل رضي الله عنه عن رجل مات وترك بنتين وزوجة، وإحدي البنتين غائبة. فهل يجوز لمن له النظر على هذه التركة أن يودع مال الغائبة، بحيث لا يعلم هل يحفظه المودع عنده أم يتصرف فيه لنفسه؟ وإذا حدث مظلمة على جملة التركة، هل يختص باستدفاعها عن التركة مال الغائبة، أو يعم جميع المال المتروك؟ وإذا استودع عنده قد يحفظه وقد يتصرف لمصلحة نفسه، فهل للمستحق له مطالبة من وضع يده عليه، أو من أودعه حيث لا يؤمن عليه، وقد مات الناظر والمودع، وطلب من تركة المودع فلم يوجد ولم يعلم هل غصب أم لا؟ وهل الإبراء لذمة المستودع عنده أن يترك مع احتمال أن يكون قد وضع عين يده عليه، أو يدفع عنه وليه من ورثته ذلك القدر عنه من صدقاته التي هي غير معينة بجهة مخصوصة؟

فأجاب:

الحمد لله، هذا المال صار تحت يده أمانة، فعليه أن يحفظه حفظ الأمانات، ولا يودعه إلا لحاجة. فإن أودعه عند من يغلب على الظن حفظه له؛ كالحاكم العادل إن وجد، أو غيره بحيث لا يكون في إيداعه تفريطًا، فلا ضمان عليه. وإن فرط في إيداعه فأودعه لخائن أو عاجز مع إمكان ألا يفعل ذلك فهو مفرط ضامن.

وأما المودع إذا لم يعلم أنه وديعة عنده، ففي تضمينه قولان لأهل العلم في مذهب أحمد، وغيره.

أظهرهما أنه لا ضمان عليه، وما حصل بسبب المال المشترك من المغارم التي تؤخذ ظلما، أو غير ظلم، فهي على المال جميعه لا يختص بها بعضه، وإذا غصب الوديعة غاصب فلناظر المودع أن يطالبه. وللمودع أيضا أن يطالبه في غيبة المودع.

وأما المستحق المالك فله أن يطالب الغاصب، وله أن يطالب الناظر أو المودع، إن حصل منه تفريط. فأما بدون التفريط والعدوان فليس له المطالبة.

وإذا مات هذا المودع ولم يعلم حال الوديعة: هل أخذت منه، أو أخذها، أو تلفت، فإنها تكون دينا على تركته عند جماهير العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو ظاهر نص الشافعي، وأحد القولين في مذهبه.

وإذا كانت دينًا عليه وجب وفاؤها من ماله، فإن كان له مال غير الوقف وفيت منه، وإن لم يكن له مال غير الوقف ففي الوقف على المدين الذي أحاط الدين بماله نزاع مشهور بين أهل العلم.

وكذلك الوقف الذي لم يخرج عن يده حتي مات، فإنه يبطل في أحد قولي العلماء. كمالك، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وأحمد. وأما إن كان الوقف قد صح ولزم، وله مستحقون، ولم يكن صاحب الدين ممن تناوله الوقف، لم يكن وفاء الدين من ذلك، لكن إن كان ممن تناوله الوقف مثل أن يكون على الفقراء، وصاحب الدين فقير، فلا ريب أن الصرف إلى هذا الفقير الذي له دين على الواقف أولي من الصرف إلى غيره. والله أعلم.

سئل عن رجل استودع مالا على أنه يوصله إن مات المودع لأولاده

وسئل رحمه الله عن رجل استودع مالا على أنه يوصله إن مات المودع لأولاده، فمات وترك ورثة غير أولاده وهم زوجتان، ومن إحداهما ابنان وبنتان من غيرها، وادعي ذو السلطان أن أم الابنين جارية له تحت رقه، وأخذها وأولادها، ثم مات أحد الولدين، ثم ماتت أمه. فهل يكون الأولاد مختصين بجميع المال؟ أو هو لجميع الورثة؟ وإذا لم تصح دعوي من ادعي أن أم الولدين مملوكة، هل له أن يوصل اليه جميع ما يخص الولدين وأمهم؟ أو له أن يبقي نصيبهم للولد رجاء في رفع الملك عنه، أو يفديه من الرق. وهل له أن يتجر في المال إن أبقاه لئلا تفنيه الزكاة؟

فأجاب:

إذا كان هذا المال للمودع وجب أن يوصل إلى كل وارث حقه منه، سواء خص به المالك أولاده، أو لم يخصهم. وليس لهذا المستودع أن يخص بعض الورثة إلا بإجازة الباقين؛ فإن النبي قال: (إن الله قد أعطي كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).

ولو صرح الوصي بتخصيص بعض الورثة بالمال لم يجز ذلك بدون إجازة الباقين باتفاق الأئمة.

وأما المدعي المستولدة فلا يحكم له بمجرد دعواه باتفاق المسلمين، لا سيما إن اعترف أنه أعطاه الجارية؛ فإن هذا إقرار منه بالتمليك، بل الأمة أم الولد، وأولاده منها أحرار. ولو فرض أنها أمة المدعي في نفس الأمر، وكان الواطئ يعتقد أنها أمته، فأولاده أحرار باتفاق الأئمة. وهذا المودع يحفظ نصيب هؤلاء الصغار. فإن كان في البلد حاكم عالم عادل قادر يحفظ هذا المال لهم سلمه اليه، وإن لم يجد من يحفظ المال لهم أبقاه بيده، وليتجر فيه بالمعروف، والربح لليتيم، وأجره على الله. وأم الولد لا ترث من سيدها شيئًا، لكن إذا مات أحد بنيها. والله أعلم.

سئل عن رجل تحت يده بعير وديعة فسرق من جملة إبله

وسئل عن رجل تحت يده بعير وديعة، فسرق من جملة إبله، ثم لحق السارق وأخذ منه الإبل، وامتنع من دفع ذلك البعير المودع، حتي يحلف أنه كان البعير على ملكه. فحلف بالله العظيم أنه على ملكه، وقصد بذلك ملك الحفظ؟

فأجاب:

أما إذا ملك قبضه، والاستيلاء عليه، فلا حنث عليه في ذلك، ولا إثم، وإن قصد أنه ملكه الملك المعروف، فهذا كذب، لكنه إذا اعتقد جواز هذا لدفع الظلم، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وليستغفر الله من ذلك، ويتوب اليه، ولا كفارة عليه. والله أعلم.

سئل عن الاقتراض من الوديعة بلا إذنه

وسئل عن الاقتراض من الوديعة بلا إذنه.

فأجاب:

وأما الاقتراض من مال المودع، فإن علم المودع علما اطمأن اليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك. وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منزلتك عنده، كما نقل مثل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي يفعل في بيوت بعض أصحابه، وكما بايع عن عثمان رضي الله عنه وهو غائب، ومتي وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض.

وَقَالَ:

إذا اشتري إنسان سلعة؛ جملا، أو غيره، وهو مودع، فأودعه المشتري عند المودع، ثم باعه الآخر، كان البيع الثاني باطلا. وإذا سلمه المودع إلى المشتري الثاني كان لمالكه وهو المشتري الأول أن يطالب به المودع الذي سلمه، ويطالب به المشتري الذي تسلمه.

سئل عن قوم لهم عند راهب في دير وديعة وادعى عدمها

وسئل رَحمه الله عن قوم لهم عند راهب في دير وديعة، وادعي عدمها مع ما كان في الدير، ثم ظهر الذي ادعى أن ما عدم من الدير قد باعه. فهل يلزم بالمال؟ أم لا؟ وهل القول قوله؟ ودير هذا الراهب على ساحل البحر المالح، وله أخ حرامي في البحر يأوي اليه، والحرامية أيضا. فما يجب على ولاة الأمور فيه؟ وهل يجوز قتله وخراب ديره؟ وكان أهل المال طلبوا مالهم منه فلم يسلمه لهم، ولهم شهود نصارى يشهدون بذلك؟

فأجاب:

الحمد للّه، إذا ظهر أن المال الذي للمودع لم يذهب، فادعي أن الوديعة ذهبت دون ماله، فهنا يكون ضامنا للوديعة في أحد قولي العلماء؛ كقول مالك، وأحمد، في إحدى الروايتين؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن أنس بن مالك وديعة ادعي أنها ذهبت دون ماله.

وأما إذا ادعي أنه ذهب جميع المال ثم ظهر كذبه، فهنا وجوب الضمان عليه أوكد. فإذا ادعي المودع صاحب الوديعة أنه طلب الوديعة منه فلم يسلمها اليه، أو أنه خان في الوديعة ولم تتلف، كان قبول قوله مع يمينه أقوي وأوكد، بل يستحق في مثل هذه الصورة التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله عن الكذب. وهذا مع كونه من أهل الذمة.

وإذا شهد عليه من أهل دينه المقبولين عندهم قبلت شهادتهم في أحد قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. وقبول شهادتهم عليه هنا أوكد. ومن لم يقبل شهادتهم فإنه يحكم بيمين المدعي عليه في مثل هذه الصورة؛ لظهور رجحان قول المدعي في أحد قوليه أيضا.

وأما من كان من أهل الذمة يؤوي أهل الحرب، أو يعاونهم على المسلمين، فإنه قد انتقض عهده، وحل دمه وماله، والواجب على ولاة الأمور ألا يتركوا مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون على المسلمين في موضع يخاف ضررهم على المسلمين، أو ينقل اليهم أولاد المسلمين؛ فإنه قد انتقض عهده، وحل دمه وماله.

سئل عن وديعة في كيس مختوم ولم يعلم ما فيه ولا عاينه

وسئل عن وديعة في كيس مختوم، ولم يعلم ما فيه، ولا عاينه. وذكر المودع أنها ألف وخمسمائة وثلاث تفاصيل، وعدمت الوديعة في جملة قماش. ولما عدمت قال صاحب الوديعة: إن ما فيها شيء يساوي سبعة آلاف. فهل يلزم المودع غرامة ما ذكره في الأول؟ أم يلزمه ما ذكر في الآخر؟

فأجاب:

إن تلفت بغير تفريط منه ولا عدوان لم يلزمه ضمان. وإذا ذهبت مع ماله كان أبلغ، وإذا ادعي ذلك بسبب ظاهر معلوم، كلف البينة وقبل قوله.

مَا تَقُول السَّادة الفقهَاء في إنسان يضع في بيت إنسان وديعة بيده من مدة تزيد على عشر سنين، تزيد وتنقص في صندوق غير مقفول بقفل، وهو يعلم ذلك، فمرض المودع مرضا بلغ فيه الموت، وصاحبها حاضر عنده يبيت ويصبح، فسأله مرارًا كثيرة أن يأخذ وديعته، أو يقفل عليها بقفل، فلم يفعل، فعدمت الوديعة من حرزه بغير تفريط وحدها، ولم يعلم هل عدمت في المرض، أو في الصحة. فهل يجب على المودع والحالة هذه ضمانها؟ أم لا؟ وهل يجوز لصاحبها إلزام المودع بها وعسفه بالولاية؟ أم محرم عليه طلب ذلك بالولاية؟ وهل إذا أصر على ذلك يجب على ولي الأمر وفقه الله ردعه وزجره عن ذلك؟ أم لا؟ أفتونا مأجورين، إن شاء الله تعالى.

فأجاب:

الحمد للّه، إذا كان الأمر على ما وصف، وعدمت بغير تفريط ولا عدوان من المودع، وعدمت مع ماله، لم يضمنها باتفاق الأئمة. وكذلك إذا عدمت بتفريط صاحبها كما ذكر، فإنه لا ضمان على المودع سواء ضاعت وحدها، أو ضاعت مع ماله.

باب إحياء الموات

سئل عن حكم البناء في طريق المسلمين الواسع إذا كان البناء لا يضر بالمارة

وسئل شيخ الإِسلام رَحِمهُ الله عن حكم البناء في طريق المسلمين الواسع، إذا كان البناء لا يضر بالمارة ؟

فأجاب:

إن ذلك نوعان:

أحدهما: أن يبني لنفسه، فهذا لا يجوز في المشهور من مذهب أحمد. وجوزه بعضهم بإذن الإمام. وقد ذكره القاضي أبو يعلى، ومن خطه نقلته، أن هذه المسألة حدثت في أيامه، واختلف فيها جواب المفتين، فذكر في مسألة حادثة في الطريق الواسع: هل يجوز للإمام أن يأذن في حيازة بعضه، بينا أن بعضهم أفتي بالجواز، وبعضهم أفتي بالمنع واختاره القاضي، وذكر أنه كلام أحمد؛ فإنه قال في رواية ابن القاسم: إذا كان الطريق قد سلكه الناس فصار طريقا. فليس لأحد أن يأخذ منه شيئًا قليلا، ولا كثيرًا. قيل له: وإن كان واسعا مثل الشوارع ؟ قال: وإن كان واسعا. قال: وهو أشد ممن أخذ حدًا بينه وبين شريكه؛ لأن هذا يأخذ من واحد، وهذا يأخذ من جماعة المسلمين.

قلت: وقد صنف أبو عبد الله بن بطة مصنفا فيمن أخذ شيئًا من طريق المسلمين، وذكر في ذلك آثارا عن أحمد، وغيره من السلف، وقد ذكر هذه المسألة غير واحد من المتقدمين، والمتأخرين من أصحاب أحمد، منهم الشيخ أبو محمد المقدسي. قال في المغني: وما كان من الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران، فليس لأحد إحياؤه، سواء كان واسعا، أو ضيقا، وسواء ضيق على الناس بذلك، أو لم يضيق؛ لأن ذلك يشترك فيه المسلمون، وتتعلق به مصلحتهم، فأشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع مع ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد، ولا يضر بالمارة؛ لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار، فلم يمنع كالاجتياز.

قال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق: دعوه فهو له إلى الليل، وكان هذا في سوق المدينة فيما مضي، وقد قال النبي : (منى مناخ من سبق). وله أن يظلل على نفسه بمالا ضرر فيه من بارية، وتابوت، وكساء، ونحوه؛ لأن الحاجة تدعو اليه من غير مضرة فيه، وليس له البناء؛ لا دكة ولا غيرها؛ لأنه يضيق على الناس، وتعثر به المارة بالليل والضرير بالليل والنهار، ويبقي على الدوام، فربما ادعي ملكه بسبب ذلك، والسابق أحق به ما دام فيه.

قلت: هذا كله فيما إذا بني الدكة لنفسه، كما يدل عليه أول الكلام وآخره؛ ولهذا علل بأنه قد يدعي أنها ملكه بسبب ذلك، مع أن تعليله هذه المسألة يقتضي أن المنع إنما يكون في مظنة الضرر، فإذا قدر أن البناء يحاذي ما على يمينه وشماله، ولا يضر بالمارة أصلا، فهذه العلة منتفية فيه، وموجب هذا التعليل الجواز إذا انتفت العلة، كأحد القولين اللذين ذكرهما القاضي.

وفي الجملة في جواز البناء المختص بالباني الذي لا ضرر فيه أصلا بإذن الإمام قولان.

ونظير هذا إذا أخرج روشنا أو ميزابا، إلى الطريق النافذ، ولا مضرة فيه. فهل يجوز بإذن الإمام ؟ على قولين في مذهب أحمد:

أحدهما: يجوز كما اختاره ابن عقيل، وأبو البركات.

والثاني: لا يجوز، كما اختاره غير واحد، والمشهور عن أحمد تحريما أو تنزيها، وذكر أبو بكر المروزي في كتاب الورع آثارا في ذلك. منها ما نقله المروزي عن أحمد أنه سقف له دارا، وجعل ميزابها إلى الطريق، فلما أصبح قال: ادع لي النجار حتي يحول الماء إلى الدار. فدعوته له فحوله، وقال: إن يحيي القطان كانت مياهه في الطريق، فعزم عليها، وصيرها إلى الدار. وذكر عن أحمد أنه ذكر ورع شعيب بن حرب، وأنه قال: ليس لك أن تطين الحائط؛ لئلا يخرج إلى الطريق. وسأله المروزي عن الرجل يحتفر في فنائه البئر، أو المحرم للعلو قال: لا، هذا طريق المسلمين، قال المروزي: قلت: إنما هو بئر يحفر ويسد رأسها، قال: أليس هي في طريق المسلمين ؟ وسأله ابن الحكم عن الرجل يخرج إلى طريق المسلمين الكَنِيف، أو الاصطوانة، هل يكون عدلا؟ قال: لا يكون عدلا، ولا تجوز شهادته. وروي أحمد بإسناده عن على: أنه كان يأمر بالمثاعب، والكُنُف تقطع عن طريق المسلمين. وعن عائذ بن عمرو المزني قال: لأن يصب طيني في حجلتي، أحب إلى من أن يصب في طريق المسلمين. قال: وبلغنا أنه لم يكن يخرج من داره إلى الطريق ماء السماء، قال: فرؤي له أنه من أهل الجنة، قيل له: بم ذلك؟ قال: بكف أذاه عن المسلمين.

ومن جوز ذلك احتج بحديث ميزاب العباس.

النوع الثاني: أن يبني في الطريق الواسع مالا يضر المارة لمصلحة المسلمين، مثل بناء مسجد يحتاج اليه الناس، أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه، أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد؛ مثل حانوت ينتفع به المسجد، فهذا النوع يجوز في مذهب أحمد المعروف. وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة، ولكن هل يفتقر إلى إذن ولي الأمر؟ على روايتين عن أحمد. ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعا في جواز هذا النوع. ومنهم من ذكر رواية ثالثة بالمنع مطلقا.

والمسألة في كتب أصحاب أحمد القديمة والحديثة، من زمن أصحابه، وأصحاب أصحابه، إلى زمن متأخري المصنفين منهم، كأبي البركات، وابن تميم، وابن حمدان، وغيرهم.

وألفاظ أحمد في جامع الخلال والشافي لأبي بكر عبد العزيز، وزاد المسافر والمترجم لأبي إسحاق الجوزجاني، وغير ذلك. قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين عنه غني، وبهم إلى أن يكون مسجدا حاجة، هل يجوز أن يبني هناك مسجد؟ قال: لا بأس إذا لم يضر بالطريق.

ومسائل إسماعيل بن سعيد هذا من أجل مسائل أحمد، وقد شرحها أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم، وكان خطيبا بجامع دمشق هنا، وله عن أحمد مسائل، وكان يقرأ كتب أحمد اليه على منبر جامع دمشق، فأحمد أجاز البناء هنا مطلقا، ولم يشترط إذن الإمام. وقال له محمد بن الحكم: تكره الصلاة في المسجد الذي يؤخذ من الطريق. فقال: أكره الصلاة فيه إلا أن يكون بإذن الإمام، فهنا اشترط في الجواز إذن الإمام.

ومسائل إسماعيل عن أحمد بعد مسائل ابن الحكم؛ فإن ابن الحكم صحب أحمد قديما، ومات قبل موته بنحو عشرين سنة. وأما إسماعيل فإنه كان على مذهب أهل الرأي، ثم انتقل إلى مذهب أهل الحديث، وسأل أحمد متأخرا، وسأل معه سليمان بن داود الهاشمي، وغيره من علماء أهل الحديث. وسليمان كان يقرن بأحمد حتي قال الشافعي: ما رأيت ببغداد أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي.

وأما الذين جعلوا في المسألة رواية ثالثة، فأخذوها من قوله في رواية المروزي، حكم هذه المساجد التي قد بنيت في الطريق أن تهدم. وقال محمد بن يحيي الكحال: قلت لأحمد: الرجل يزيد في المسجد من الطريق؟ قال: لا يصلي فيه. ومن لم يثبت رواية ثالثة، فإنه يقول: هذا إشارة من أحمد إلى مساجد ضيقت الطريق، وأضرت بالمسلمين، وهذه لا يجوز بناؤها بلا ريب؛ فإن في هذا جمعا بين نصوصه، فهو أولي من التناقض بينها.

وأبلغ من ذلك أن أحمد يجوز إبدال المسجد بغيره للمصلحة، كما فعل ذلك الصحابة. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: المسجد يخرب ويذهب أهله: تري أن يحول إلى مكان آخر؟ قال: إذا كان يريد منفعة الناس فنعم؛ وإلا فلا. قال: وابن مسعود قد حول المسجد الجامع من التمارين، فإذا كان على المنفعة فلا بأس، وإلا فلا. وقد سألت أبي عن رجل بني مسجدا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر، قال: إن كان الذي بني المسجد يريد أن يحوله خوفا من لصوص، أو يكون موضعه موضعا قذرا، فلا بأس. قال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله بن مسعود إلى بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر، قال: فنقب بيت المال، فأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن اقطع الرجل، وانقل المسجد واجعل بيت المال في قبلة المسجد؛ فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال صالح: قال أبي: يقال: إن بيت المال نقب في مسجد الكوفة، فحول عبد الله بن مسعود المسجد موضع التمارين اليوم، في موضع المسجد العتيق. يعني أحمد: أن المسجد الذي بناه ابن مسعود كان موضع التمارين في زمان أحمد، وهذا المسجد هو المسجد العتيق، ثم غير مسجد الكوفة مرة ثالثة.

وقال أبو الخطاب: سئل أبو عبد الله: يحول المسجد؟ قال: إذا كان ضيقا لا يسع أهله، فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. وجوز أحمد أن يرفع المسجد الذي على الأرض، ويبني تحته سقاية لمصلحة، وإن تنازع الجيران. فقال بعضهم: نحن شيوخ لا نصعد في الدرج، واختار بعضهم بناءه. فقال أحمد: ينظر إلى ما يختار الأكثر. وقد تأول بعض أصحابه هذا على أنه ابتدأ البناء، ومحققوا أصحابه يعلمون أن هذا التأويل خطأ؛ لأن نصوصه في غير موضع صريحة بتحويل المسجد.

فإذا كان أحمد قد أفتي بما فعله الصحابة حيث جعلوا المسجد غير المسجد؛ لأجل المصلحة، مع أن حرمة المسجد أعظم من حرمة سائر البقاع، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها)، فإذا جاز جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة، فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولي والأحري؛ فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات، وكلاهما منفعة مشتركة.

فصل الأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه

والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه، فما كان إلى الحكام فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام، مثل تزويج الأيامي، والنظر في الوقوف، وإجرائها على شروط واقفيها، وعمارة المساجد، ووقوفها؛ حيث يجوز للإمام فعل ذلك، فما جاز له التصرف فيه جاز لنائبه فيه.

وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم وغيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك. وهذا إذا كان البناء في الطريق، وإن كان متصلا بالطريق عند أكثر العلماء؛ مالك، والشافعي، وأحمد.

وكذلك فناء الدار، ولكن هل الفناء ملك لصاحب الدار؟ أو حق من حقوقها؟ فيه وجهان في مذهب أحمد:

أحدهما: أنه مملوك لصاحبها، وهو مذهب مالك، والشافعي. حتي قال مالك في الأفنية التي في الطريق: يكريها أهلها، فقال: إن كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها منعوا، ولم يمكنوا. وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم فلا أري به بأسا. قال الطحاوي: وهذا يدل على أنه كان يري الأفنية مملوكة لأهلها؛ إذ أجاز إجارتها، فينبغي ألا يفسد البيع بشرطها. قال: والذي يدل عليه قول الشافعي: أنه إن كان فيه صلاح للدار فهو ملك لصاحبها، إلا أنه لا يجوز بيعه عنده. وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أن الأفنية لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق.

والذي ذكره القاضي، وابن عقيل، وغيرهما من أصحاب أحمد هو الوجه الثاني، وهو أن الأرض تملك دون الطريق، إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره، ولذلك هو أحق بفناء الدار من غيره، وهذا مذهب أحمد في الكلأ النابت في ملكه أنه أحق به من غيره، وإن كان لا يملكه... على قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد...

فإذا كان البناء في فناء المسجد والدار، فإنه أحق بالجواز منه في جادة الطريق، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه اتخذ مسجدا بفناء داره، وهذا كالبطحاء التي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعلها خارج مسجد رسول الله لمن يتحدث، ويفعل ما يصان عنه المسجد. فلم يكن مسجدا، ولم يكن كالطريق بل... اختصاص بالمسجد، فمثل هذه يجوز البناء فيها بطريق الأولي، والبناء كالدخلات التي تكون منحرفة عن جادة الطريق، متصلة بالدار والمسجد، ومتصلة بالطريق، وأهل الطريق لا يحتاجون اليها، إلا إذا قدر رحبة خارجة عن العادة، وهي تشبه الطريق الذي ينفذ المتصل بالطريق النافذ، فإن هذا كله أحق من غيرهم.

ولو أرادوا أن يبنوا فيه، ويجعلوا عليه بابًا جاز عند الأكثرين؛ لما تقدم. وعند أبي حنيفة ليس لهم ذلك، لما فيه من إبطال حق غيرهم من الدخول اليه عند الحاجة. والأكثرون يقولون: حقهم فيه إنما هو جواز الانتفاع إذا لم يحجر عليه أصحابه، كما يجوز الانتفاع بالصحراء المملوكة على وجه لا يضر بأصحابها، كالصلاة فيها، والمقيل فيها، ونزول المسافر فيها؛ فإن هذا جائز فيها. وفي أفنية الدور بدون إذن المالك عند جماهير العلماء.

وذكر أصحاب الشافعي في الانتفاع بالفناء بدون إذن المالك قولين، وذكر أصحاب أحمد في الصحراء وجها بالمنع من الصلاة فيها، وهو بعيد على نصوص أحمد وأصوله؛ فإنه يجوز أكل الثمرة في مثل ذلك، فكيف بالمنافع التي لا تضره، ويجوز على المنصوص عنه رعي الكلأ في الأرض المملوكة، فيدخلها بغير إذن صاحبها، لأجل الكلأ. وإن كان من أصحابه من منع ذلك.

وأما الانتفاع الذي لا يضر بوجه، فهو كالاستظلال بظله، والاستضاءة بناره، ومثل هذا لا يحتاج إلى إذن، فإذا حجر عليها صاحبها صارت ممنوعة؛ ولهذا يفرق بين الثمار التي ليس عليها حائط، ولا ناطور، فيجوز فيها من الأكل بلا عوض، مالا يجوز في الممنوعة، على مذهب أحمد، إما مطلقًا، وإما للمحتاج، وإن لم يجز الحمل.

وإذا جاز البناء في فناء الملك لصاحبه، ففي فناء المسجد للمسجد بطريق الأولي، وفناء الدار والمسجد لا يختص بناحية الباب، بل قد يكون من جميع الجوانب، قال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا كان المحيي أرضًا كان أحق بفنائها، فلو أراد غيره أن يحفر في أصل حائطه بئرا لم يكن له ذلك، وكذلك ذكر أبو حامد والماوردي وغيرهما من أصحاب الشافعي. والله أعلم.

باب اللقطة

سئل عن رجل وجد فرسا لرجل من المسلمين مع أناس من العرب فأخذه

سئلَ شيخ الإِسلام رَحمِهُ الله عن رجل وجد فرسا لرجل من المسلمين مع أناس من العرب، فأخذ الفرس منهم، ثم إن الفرس مرض بحيث أنه لم يقدر على المشي، فهل للآخذ بيع الفرس لصاحبها ؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد للّه، نعم يجوز، بل يجب في هذه الحال أن يبيعه الذي استنقذه لصاحبه، وإن لم يكن وكله في البيع، وقد نص الأئمة على هذه المسألة، ونظائرها، ويحفظ الثمن. والله أعلم.

سئل عن رجل لقي لقية في وسط فلاة

وسئل عن رجل لقي لقية في وسط فلاة، وقد أنشد عليها إلى حيث دخل إلى بلده. فهل هي حلال ؟ أم لا ؟

فأجاب:

يعرفها سنة قريبا من المكان الذي وجدها فيه، فإن لم يجد بعد سنة صاحبها، فله أن يتصرف فيها، وله أن يتصدق بها. والله أعلم.

سئل عن الدراهم المنثورة يجدها الرجل

وسئل عن الدراهم المنثورة يجدها الرجل ؟

فأجاب:

يعرفها حولا، فإن وجد صاحبها، وإلا فله أن ينفقها، وله أن يتصدق بها.

سئل عن رجل وجد لقطة وعرف بها بعض الناس بينه وبينه سرا أياما

وسئل عن رجل وجد لقطة وعرف بها بعض الناس بينه وبينه سرا أياما، ولها عنده مدة سنين. فما الحكم فيها ؟

فأجاب:

الحمد للّه، لا يحل له مثل هذا التعريف، بل عليه أن يعرفها تعريفا ظاهرا، لكن على وجه مجمل، بأن يقول: من ضاع له نفقة، أو نحو ذلك. والله أعلم.

سئل عن حجاج التقوا مع عرب قد قطعوا الطريق على الناس وأخذوا قماشهم

وسئل رَحمه الله عن حجاج التقوا مع عرب قد قطعوا الطريق على الناس، وأخذوا قماشهم، فهربوا وتركوا جمالهم والقماش فهل يحل أخذ الجمال التي للحرامية والقماش الذي سرقوه؟ أم لا؟

فأجاب:

الحمد للّه، ما أخذوه من مال الحجاج فإنه يجب رده اليهم إن أمكن؛ فإن هذا كاللقطة تعرف سنة، فإن جاء صاحبها فذاك، وإلا فلآخذها أن ينفقها بشرط ضمانها. ولو أيس من وجود صاحبها فإنه يتصدق به، ويصرف في مصالح المسلمين.

وكذلك كل مال لا يعرف مالكه من الغصوب والعواري والودائع، وما أخذ من الحرامية من أموال الناس، أو ما هو منبوذ من أموال الناس، فإن هذا كله يتصدق به، ويصرف في مصالح المسلمين.

سئل لما جاء التتار وجفل الناس من بين أيديهم وخلفوا أموالا وضمه مسلم

وسئل رَحمه الله لما جاء التتار، وجفل الناس من بين أيديهم، وخلفوا دوابًا، وأثاثًا من النحاس، وغيره، وضمه مسلم، وطالت مدته، ولم يظهر له صاحب ولا منشد، وهو يستعمل الدواب والمتاع. فما يصنع ؟

فأجاب:

يجوز له أن يستعمله، ويجوز له أن يتصدق به على من ينتفع به. والله أعلم.

سئل عن سفينة غرقت في البحر وقد كان فيها جرار زيت حار

وسئل رَحمه الله عن سفينة غرقت في البحر، ثم إنها انحدرت وهي معلومة إلى بعض البلاد. وقد كان فيها جرار زيت حار، ثم إن أهل القرية تعانوا على المركب حتي أخرجوها إلى البر، وقلبوها، فطفي الزيت على وجه الماء وبقي رائحا مع الماء، ثم إن أهل القرية جاؤوا إلى البحر فوجدوا الزيت على الماء، فجمع كل واحد ما قدر عليه، والمركب قريبة منهم، فهذا الزيت المجموع حلال أم حرام؟ ومركب رمان غرقت، وجميع ما فيها انحدر في البحر، فبقي كل أحد يجمع من ذلك، ولم يعرف له صاحب، فهل ما لا يعرف صاحبه حلال ؟ أم حرام ؟

فأجاب:

الذين جمعوا الزيت على وجه الماء قد خلصوا مال المعصوم من التلف، ولهم أجرة المثل، والزيت لصاحبه. وأما كون الزيت لصاحبه فلا أعلم فيه نزاعا، إلا نزاعا قليلا؛ فإنه يروي عن الحسن بأنه قال: هو لمن خلصه.

وأما وجوب أجرة المثل لمن خلصه، فهذا فيه قولان للعلماء. أصحهما وجوب الأجرة، وهو منصوص أحمد وغيره؛ لأن هذا المخلص متبرع. وأصحاب القول يقولون: إن خلصوه للّه تعالى فأجرهم على الله تعالى، وإن خلصوه لأجل العوض فلهم العوض؛ لأن ذلك لو لم يفعل لأفضي إلى هلاك الأموال؛ لأن الناس لا يخلصونها من المهالك إذا عرفوا أنهم لا فائدة لهم في ذلك، والصحابة قد قالوا فيمن اشتري أموال المسلمين من الكفار: إنه يأخذه ممن اشتراه بالثمن؛ لأنه هو الذي خلصه بذلك الثمن، ولأن هذا المال كان مستهلكا لولا أخذ هذا، وتخليصه عمل مباح، ليس هو عاصيا فيه، فيكون المال إذا حصل بعمل هذا، والأصل لهذا، فيكون مشتركا بينهما، لكن لا تجب الشركة على المعين، فيجب أجرة المثل، ولأن مثل هذا مأذون فيه من جهة العرف؛ فإن عادة الناس أنهم يطلبون من يخلص لهم هذا بالأجرة.

والإجارة تثبت بالعرف والعادة، كمن دخل إلى حمام، أو ركب في سفينة بغير مشارطة، وكمن دفع طعاما إلى طباخ وغسال بغير مشارطة ونظائر ذلك متعددة.

ولو كان المال حيوانا فخلصه من مهلكة ملكه، كما ورد به الأثر؛ لأن الحيوان له حرمة في نفسه، بخلاف المتاع، فإن حرمته لحرمة صاحبه، فهناك تخليصه لحق الحيوان، وهو بالمهلكة قد ييأس صاحبه، بخلاف المتاع؛ فإن صاحبه يقول للمخلص: كان يجوز لك من حين أن أدعه، والحق فيه لي، فإذا لم تعطني حقي لم آذن لك في تخليصه.

وأما الرمان إذا لم يعرف صاحبه فهو كاللقطة، واللقطة إن رجي وجود صاحبها عرفت حولا، وإن كانوا لا يرجون وجود صاحبه، ففي تعريفه قولان، لكن على القولين لهم أن يأكلوا الرمان أو يبيعوه، ويحفظوا ثمنه، ثم يعرفوه بعد ذلك. والله أعلم.

سئل عمن وجد طفلا ومعه شيء من المال ثم رباه حتي بلغ شهرين

وسئل قدسَ الله روحه عمن وجد طفلا، ومعه شيء من المال، ثم رباه حتي بلغ من العمر شهرين. فجاء رجل آخر لترضعه امرأته للّه. فلما كبر الطفل ادعت المرأة أنه ابنها، وأنها ربته في حضن أبيه. فهل يقبل قولها ؟ وهل يجب عليها أن تعطي الرجل الثاني ما أنفقه عليه؟ ويلزم الرجل الأول ما وجد مع ابنه؟

فأجاب:

إذا كان الطفل مجهول النسب، وادعت أنه ابنها، قبل قولها في ذلك ويصرف من المال الذي وجد معه في نفقته مدة مقامه عند الملتقط. والله أعلم.


هامش

  1. [الطلاق: 2، 3]
  2. [النساء: 34]
  3. [المائدة: 1]
  4. [البقرة: 278: 281]
  5. [النساء: 6]
  6. [المائدة: 2]
  7. [الطلاق: 6]
  8. [البقرة: 233]
  9. [الشعراء: 109]
  10. [ص: 86]
  11. [الفرقان: 57]
  12. [النساء: 6]
  13. [الأنعام: 68، 69]
  14. [النساء: 140]
  15. [الأعراف: 204]
  16. [طه: 13]
  17. [الطلاق: 6]
  18. [النساء: 29]
  19. [البقرة: 188]
  20. [النساء: 155161]
  21. [النساء: 1]
  22. [الحديد: 25]
  23. [يس: 36]
  24. [النحل: 11]
  25. [عبس: 2729]
  26. [البقرة: 178]
  27. [البقرة: 178]
  28. [المائدة: 8]
  29. [الطلاق: 6]
  30. [النساء: 58]
  31. [المائدة: 42]
  32. [المائدة: 48]
  33. [الحديد: 25]
  34. [الشوري: 40]
  35. [النحل: 126]
  36. [المائدة: 45]
  37. [التغابن: 11]
  38. [النساء: 123]
  39. [البقرة: 155157]
  40. [آل عمران: 133، 134]
  41. [الأنعام: 160]
  42. [الإسراء: 7]
  43. [فصلت: 46]
  44. [البقرة: 280]
  45. [النساء: 92]
  46. [البقرة: 237]
  47. [لقمان: 17]
  48. [الشوري: 4143]
  49. [لقمان: 17]
  50. [الأعراف: 199]
  51. [البقرة: 219]
  52. [الشوري: 40]
  53. [النحل: 126]
  54. [البقرة: 194]


مجموع الفتاوى لابن تيمية - الفقه
المجلد الحادي والعشرون | المجلد الثاني والعشرون | المجلد الثالث والعشرون | المجلد الرابع والعشرون | المجلد الخامس والعشرون | المجلد السادس والعشرون | المجلد السابع والعشرون | المجلد الثامن والعشرون | المجلد التاسع والعشرون | المجلد الثلاثون | المجلد الحادي والثلاثون | المجلد الثاني والثلاثون | المجلد الثالث والثلاثون | المجلد الرابع والثلاثون | المجلد الخامس والثلاثون