مجموع الفتاوى/المجلد الثالث والعشرون
باب سجود السهو
قال الشيخ رحمه الله:
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل في سجود السهو
والمهم منه أمور: منها مسائل الشك، ومنها محله، هل هو قبل السلام أو بعده، ومنها وجوبه.
فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله: أما الشك ففيه عن النبي ﷺ أحاديث صحيحة، وهي كلها متفقة وللّه الحمد وإنما تنازع الناس لكون بعضهم لم يفهم مراده. ففي الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: (إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان فَلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس).
وفي الصحيحين أيضا عنه ؛ أن رسول الله ﷺ قال: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل. فإذا ثوب بها، أدبر. فإذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى. فإذا لم يدر أحدكم كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس). وفي لفظ للبخاري: (فإذا لم يدر أحدكم كما صلى ثلاثًا أو أربعًا، فليسجد سجدتين وهو جالس). وفي لفظ: (يسجد سجدتي السهو). ففي الحديث الصحيح الأمر بسجدتي السهو إذا لم يدر كم صلى، وهو يقتضي وجوب السجود، كقول الجمهور، وفيه أنه سماهما سجدتي السهو، فدل على أنهما لا يشرعان إلا للسهو، كقول الجمهور.
وقوله: (فليسجد سجدتين وهو جالس)، مطلق لم يعين فيه لا قبل السلام، ولا بعده، لكن أمر بهما قبل قيامه. ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا، أم أربعًا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان). ففي هذا الحديث أنه إذا شك فلم يدر فليطرح الشك، وفيه الأمر بسجدتين قبل السلام. وقوله: (إذا شك)، هو موضع اختلاف فهم الناس.
منهم من فهم أن كل من لم يقطع فهو شاك، وإن كان أحد الجانبين راجحًا عنده، فجعلوا من غلب على ظنه وإن وافقه المأمومون شاكًا، وأمروه أن يطرح ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وقالوا: الأصل عدم ما شك فيه، فرجحوا استصحاب الحال مطلقًا، وإن قامت الشواهد والدلائل بخلافه، ولم يعتبروا التحري بحال.
ومنهم من فسر قول النبي ﷺ في الحديث الآخر: (فليتحر)، أنه البناء على اليقين. ومنهم طائفة قالوا: إن كان إمامًا، فالمراد به الشك المتساوي، وإن كان منفردًا، فالمراد به ما قاله أولئك.
وقالت طائفة ثالثة: بل المراد بالشك ما استوي فيه الطرفان، أو تقاربا، وأما إذا ترجح أحدهما، فإنه يعمل بالراجح، وهو التحري. وعن الإمام أحمد ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة.
والأول: هو قول مالك والشافعي، واختيار كثير من أصحاب أحمد.
والثاني: قول الخرقي وأبي محمد، وقال: إنه المشهور عن أحمد.
والثالث: قول كثير من السلف والخلف، ويروي عن على وابن مسعود وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه فيما إذا تكرر السهو. قال أحمد في رواية الأثرم: بين التحري واليقين فرق. أما حديث عبد الرحمن بن عوف فيقول: (إذا لم يدر أثلاثًا صلى أو اثنتين، جعلهما اثنتين). قال: فهذا عمل على اليقين فبني عليه، والذي يتحري يكون قد صلى ثلاثًا، فيدخل قلبه شك أنه إنما صلى اثنتين إلا أن أكثر ما في نفسي أنه قد صلى ثلاثًا، وقد دخل قلبه شيء، فهذا يتحري أصوب ذلك، ويسجد بعد السلام، قال: فبينهما فرق.
قلت: حديث عبد الرحمن بن عوف الذي ذكره أحمد هو نظير حديث أبي سعيد، وهو في السنن، وقد صححهما الترمذي، وغيره. وعن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول الله ﷺ قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين، فليجعلهما واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثًا، فليجعلهما اثنتين، فإن لم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليجعلهما ثلاثا، حتى يكون الشك في الزيادة، ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم، ثم يسلم).
ومن أصح أحاديث الباب حديث ابن مسعود في التحري، فإنه أخرجاه في الصحيحين، وحديث أبي سعيد انفرد به مسلم، لكن حديث عبد الرحمن بن عوف شاهد له، فهما نظير حديث ابن مسعود في الصحيحين عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: صلى رسول الله ﷺ، قال إبراهيم: زاد أو نقص، فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثني رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: (إنه لو حدث في الصلاة شيء، أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسي كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين).
وللبخاري في بعض طرقه: قيل يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا. قال: فسجد بهم سجدتين، ثم قال: (هاتان السجدتان لمن لا يدري زاد في صلاته أو نقص فيتحري الصواب فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين)، وفي رواية له: (فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين)، وفي رواية لمسلم: (فلينظر أحري ذلك إلى الصواب)، وفي رواية له: (فليتحر الذي يري أنه صواب)، وفي رواية: (فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب).
وفي الصحيحين، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: صلينا مع رسول الله ﷺ فإما زاد أو نقص. قال إبراهيم: وأيم الله ما ذاك إلا من قِبَلي، فقلنا: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: (لا)، فقلنا له الذي صنع، فقال: (إذا زاد أو نقص، فليسجد سجدتين)، قال: ثم سجد سجدتين. وقد تأوله بعض أهل القول على أن التحري هو طرح المشكوك فيه، والبناء على اليقين، وهذا ضعيف لوجوه:
منها: أن في سنن أبي داود والمسند وغيرهما: (إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر من أربع تشهدت ثم سجدت، وأنت جالس).
ومنها: أن الألفاظ صريحة في أنه يتحري ما يري أنه الصواب، سواء كان هو الزائد أو الناقص، ولو كان مأمورًا مطلقًا بطرح المشكوك فيه لم يكن هناك تحري للصواب.
ومنها: أن ابن مسعود هو راوي الحديث، وبذلك فسره، وعنه أخذ ذلك أهل الكوفة قرنًا بعد قرن، كإبراهيم وأتباعه، وعنه أخذ ذلك أبو حنيفة، وأصحابه.
ومنها: أنه هنا أمر بالسجدتين بعد السلام. وفي حديث أبي سعيد أمر بالسجدتين قبل السلام
ومنها: أنه قال هناك: (إن كان صلى خمسا، شفعتا له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان). فتبين أنه يبني على اليقين، وهو شاك هل زاد أو نقص، هل صلى أربعًا أو خمسًا، وبين مصلحة السجدتين على تقدير النقيضين.
وفي حديث ابن مسعود قال: (فيتحرى الصواب فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين) وفي لفظ: (فيتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين)، فجعل ما فعله بعد التحري تمامًا لصلاته، وجعله هنا متمًا لصلاته، ليس شاكا فيها، لكن لفظ الشك يراد به تارة ما ليس بيقين، وإن كان هناك دلائل وشواهد عليه، حتى قد قيل في قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، أنه جعل ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم شكا، وإن كان إبراهيم موقنا ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولهذا لما قال له ربه: { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } 1، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } 2.
فإذا كان قد سمي مثل هذا شكا في قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، فكيف بمن لا يقين عنده؟ فمن عمل بأقوي الدليلين فقد عمل بعلم لم يعمل بظن ولا شك، وإن كان لا يوقن أن ليس هناك دليل أقوي من الدليل الذي عمل به، واجتهاد العلماء من هذا الباب. والحاكم إذا حكم بشهادة العدلين حكم بعلم، لا بظن وجهل. وكذلك إذا حكم بإقرار المقر وهو شهادته على نفسه. ومع هذا، فيجوز أن يكون الباطن بخلاف ما ظهر، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار).
وإذا كان لديك معلوم أن مثل هذا الشك لم يرده النبي ﷺ بقوله: (إذا شك أحدكم)، بل أكثر الخلق لا يجزمون جزما يقينيا لا يحتمل الشك بعد لكل صلاة صلاها، ولكن يعتقدون عدد الصلاة اعتقادًا راجحا، وهذا ليس بشك، وقوله ﷺ: (إذا شك أحدكم)، إنما هو حال من ليس له اعتقاد راجح، وظن غالب، فهذا إذا تحرى وارتأى وتأمل فقد يظهر له رجحان أحد الأمرين، فلا يبقي شاكا، وهو المذكور في حديث ابن مسعود، فإنه كان شاكا قبل التحري، وبعد التحري ما بقي شاكا مثل سائر مواضع التحري، كما إذا شك في القبلة فتحري حتى ترجح عنده أحد الجهات؛ فإنه لم يبق شاكا. وكذلك العالم المجتهد، والناسي إذا ذكر، وغير ذلك.
وقوله في حديث أبي سعيد: (إذا شك أحدكم)، خطاب لمن استمر الشك في حقه، بألا يكون قادرًا على التحري إذ ليس عنده أمارة ودلالة ترجح أحد الأمرين. أو تحري، وارتأي، فلم يترجح عنده شيء، ومن قال: ليس هنا دلالة تبين أحد الأمرين غلط، فقد يستدل على ذلك بموافقة المأمومين، إذا كان إمامًا، وقد يستدل بمخبر يخبره، وإن لم يكن معه في الصلاة، فيحصل له بذلك اعتقاد راجح. وقد يتذكر ما قرأ به في الصلاة فيذكر أنه قرأ بسورتين في ركعتين، فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعة، وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول، فيعلم أنه صلى ثنتين لا واحدة، وأنه صلى ثلاثا لا اثنتين، وقد يذكر أنه قرأ الفاتحة وحدها في ركعة ثم في ركعة فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا. وقد يذكر أنه صلى بعد التشهد الأول ركعتين، فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا، واثنتين لا واحدة. وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول، والشك بعده في ركعة فيعلم أنه صلى ثلاثا لا اثنتين.
ومنها: أنه قد يعرض له في بعض الركعات: إما من دعاء وخشوع، وإما من سعال ونحوه، وإما من غير ذلك، ما يعرف به تلك الركعة، ويعلم أنه قد صلى قبلها واحدة أو اثنتين، أو ثلاثًا، فيزول الشك، وهذا باب لا ينضبط. فإن الناس دائمًا يشكون في أمور: هل كانت أم لم تكن؟ ثم يتذكرون، ويستدلون بأمور على أنها كانت، فيزول الشك، فإذا تحري الذي هو أقرب للصواب، أزال الشك، ولا فرق في هذا بين أن يكون إماما أو منفردًا.
ثم إذا تحري الصواب، ورأي أنه صلى أربعًا، كان إذا صلى خامسة قد صلى في اعتقاده خمس ركعات، وهو لم يؤمر بذلك، بخلاف الشك المتساوي، فإنه لابد معه من الشك في الزيادة والنقص، والشك في الزيادة أولي. فإن ما زاده مع الشك مثل ما زاده سهوًا، وذلك لا يبطل صلاته.وأما إذا شك في النقص، فهو شاك في فعل ما أمر به، فلم تبرأ ذمته منه.
وأيضًا، فالأقوال الممكنة في هذا الباب: إما أن يقال: يطرح الشك مطلقًا، ولا يتحري. أو يحمل التحري على طرح الشك، فهذا مخالفة صريحة لحديث ابن مسعود، وإما أن يستعمل هذا في حق الإمام، وهذا في حق المنفرد، ومعلوم أن كلا الحديثين خطاب للمصلين لم يخاطب بأحدهما الأئمة، وبالآخر المنفردين، ولا في لفظ واحد من الحديثين ما يدل على ذلك، فجعل هذا هو مراد الرسول، من غير أن يكون في كلامه ما يدل عليه نسبة له إلى التدليس والتلبيس، وهو منزه عن ذلك.
وأيضًا، فإن حديث أبي سعيد مع تساوي الشك متناول للجميع بالاتفاق، فإخراج الأئمة منه غير جائز، وحديث ابن مسعود متناول لما تناوله حديث أبي سعيد، فلم يبق إلا القسم الثالث:
وهو أن كلاهما خطاب للشاك، فذاك أُمِر له بالتحري إذا أمكنه فيزول الشك. والثاني أمر له إذا لم يزل الشك ماذا يصنع.
وهذا كما يقال للحاكم: احكم بالبينة، واحكم بالشهود، ونحو ذلك، فهذا مع الإمكان. فإذا لم يمكن ذلك رجع إلى الاستصحاب، وهو البراءة. كذلك المصلي الشاك: يعمل بما يبين له الصواب، فإن تعذر ذلك، رجع إلى الاستصحاب. والله أعلم.
ولأن العمل بالتحري يقطع وسواس الشيطان، أو يقلله، بخلاف ما إذا لم يتحر، فلا يزال الشيطان يشككه فيما فعله، أنه لم يفعله. وقد قالوا: إنه لو شك بعد السلام هل ترك واجبًا، لم يلتفت إليه، وما ذاك إلا لأن الظاهر أنه سلم بعد إتمامها، فعلم أن الظاهر يقدم على الاستصحاب، وعلى هذا عامة أمور الشرع.
ومثل هذا يقال في عدد الطواف والسعي ورمي الجمار، وغير ذلك. ومما يبين ذلك: أن التمسك بمجرد استصحاب حال العدم أضعف الأدلة مطلقًا، وأدني دليل يرجح عليه، كاستصحاب براءة الذمة في نفي الإيجاب والتحريم، فهذا باتفاق الناس أضعف الأدلة، ولا يجوز المصير إليه باتفاق الناس إلا بعد البحث التام: هل أدلة الشرع ما تقتضي الإيجاب أو التحريم؟
ومن الناس من لا يجوز التمسك به في نفي الحكم، بل في دفع الخصم، ومنعه فيقول: أنا لا أثبت الإيجاب ولا أنفيه، بل أطالب من يثبته بالدليل، أو أمنعه، أو أدفعه عن إثبات إيجاب بلا دليل، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة.
وأما أهل الظاهر فهو عمدتهم، لكن بعد البحث عن الأدلة الشرعية، ولا يجوز الإخبار بانتفاء الأشياء وعدم وجودها بمجرد هذا الاستصحاب من غير استدلال بما يقتضي عدمها، ومن فعل ذلك كان كاذبا، متكلما بلا علم؛ وذلك لكثرة ما يوجد في العالم والإنسان لا يعرفه، فعدم علمه ليس علمًا بالعدم، ولا مجرد كون الأصل عدم الحوادث يفيد العلم بانتفاء شيء منها إلا بدليل يدل على النفي، لكن الاستصحاب يرجح به عند التعارض، وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي، وهذا هو الصواب الذي أُمِر المصلي أن يتحراه، فإن ما دل على أنه صلى أربعًا من أنواع الأدلة راجح على استصحاب عدم الصلاة، وهذا حقيقة هذه المسألة.
فصل في محل السجود
وأما المسألة الثانية وهي محل السجود: هل هو قبل السلام أو بعده؟ ففي ذلك أقوال مشهورة. قيل: كله قبل السلام، وقيل: كله بعده، وقيل: بالفرق بين الزيادة والنقصان. وعلى هذا ففي الشك نزاع.
وقيل: بأن الأصل أن تسجد قبل السلام، لكن ما جاءت السنة بالسجود فيه بعد السلام سجد بعده؛ لأجل النص، والباقي على الأصل وهذا هو المشهور عن أحمد.
والأول قول الشافعي، والثاني قول أبي حنيفة، والثالث قول مالك وأحمد، واختلف عنه. فروي عنه فيما إذا صلى خمسًا هل يسجد قبل السلام أو بعده على روايتين. وقد حكي عنه رواية بأنه كله قبل السلام، لكن لم نجد بهذا لفظًا عنه، وحكي عنه أنه كله بعد السلام، وهذا غلط محض.
والقاضي وغيره يقولون: لم يختلف كلام الإمام أحمد أن بعضه قبل السلام، وبعضه بعده. قال القاضي أبو يعلى: لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أن يسجد لهما بعد السلام، إذا سلم وقد بقي عليه ركعة أو أكثر، وإذا شك وتحري. قال أحمد في رواية الأثرم: أنا أقول: كل سهو جاء عن النبي ﷺ أنه سجد فيه بعد السلام، فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السجود يسجد فيه قبل السلام هو أصح في المعني. وذلك أنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل أن يسلم، ثم قال: فسجد النبي ﷺ في ثلاثة مواضع بعد السلام، وفي غيرها قبل السلام. قلت: اشرح المواضع الثلاثة التي بعد السلام. قال: سلم من ركعتين فسجد بعد السلام، هذا حديث ذي اليدين. وسلم من ثلاث فسجد بعد السلام هذا حديث عمران بن حصين. وحديث ابن مسعود في التحري سجد بعد السلام.
قال أبو محمد: قال القاضي: لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد السلام، قال: واختلف قوله في من سهى فصلى خمسًا: هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ على روايتين. وما عدا هذه المواضع الثلاثة، يسجد لها قبل السلام، رواية واحدة. وبهذا قال سليمان بن داود، وأبو خيثمة، وابن المنذر. قال: وحكي أبو الخطاب روايتين أخريين:
إحداهما: أن السجود كله قبل السلام، وهو مذهب الشافعي.
والثانية: أن ما كان من نقص يسجد له قبل السلام، لحديث ابن بُحَيْنة، وما كان من زيادة سجد له بعد السلام، لحديث ذي اليدين، وحديث ابن مسعود حين صلى خمسًا، وهذا مذهب مالك، وأبي ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه وطائفة: كله بعد السلام.
قلت: أحمد يقول في الشك إذا طرحه وبني على اليقين: أنه يسجد له قبل السلام، كما ثبت في الحديث الصحيح. فعلى قوله الموافق لمالك: ما كان من نقص وشك فقبله، وما كان من زيادة فبعده. وحكي عن مالك أنه يسجد بعد السلام، لأنه يحتمل للزيادة لا للنقص، والزيادة التي اختلف فيها كلام أحمد هي: ما إذا صلى خمسًا، فقد ثبت في الصحيح أنه يسجد بعد السلام، لكن هناك كان قد نسي، وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: صلى بنا رسول الله ﷺ خمسًا، فلما انفتل شوش القوم بينهم، فقال: (ما شأنكم؟)، قالوا: يا رسول الله، زيد في الصلاة؟ قال: (لا)، قالوا: فإنك قد صليت خمسًا، فانفتل ثم سجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: (إنما أنا بشر أنسي كما تنسون)، وفي رواية أنه قال: (إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسي كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)، ثم تحول رسول الله ﷺ فسجد سجدتين.
وللبخاري عن ابن مسعود أن النبي ﷺ صلى الظهر خمسًا، فسجد سجدتين بعد ما سلم وفي الصحيحين عن ابن مسعود: أن النبي ﷺ سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام.
فهذا الموضع اختلف فيه كلام أحمد: هل يسجد بعد السلام كما سجد النبي ﷺ أم يسجد قبله إذا ذكر قبل السلام؟ والنبي ﷺ إنما سجد بعد السلام لكونه لم يذكر حتى سلم وذكروه، على إحدى الروايتين عنده لا يكون السجود بعد السلام مختصًا بمورد النص، كما قاله الأكثرون كأبي حنيفة، ومالك، وغيرهما. كما لا يكون السجود قبل السلام مختصًا بمورد النص. كما قاله الأكثرون: أبو حنيفة، ومالك، وغيرهما، بل الصواب أن السجود بعضه قبل السلام، وبعضه بعده، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة.
ومن قال: كله قبل السلام، واحتج بحديث الزهري، كان آخر الأمرين السجود قبل السلام، فقد ادعي النسخ، وهو ضعيف، فإن السجود بعد السلام في حديث ذي اليدين، فمالك والشافعي والجمهور يقولون: إنه ليس بمنسوخ، وإنما يقول: إنه منسوخ من يحتج بقول الزهري: أن ذي اليدين مات قبل بدر، وإن هذه القصة كانت متقدمة. فقول الزهري بنسخه مبني على هذا، وهو ضعيف، فإن أبا هريرة صلى خلف النبي ﷺ في حديث ذي اليدين، وإنما أسلم عام خيبر، فالذين يحتجون بقول الزهري هنا، قد ردوا قوله بالنسخ هناك، والذين يقولون بنسخ حديث ذي اليدين، هم يأمرون بالسجود بعد السلام، فكل من الطائفتين ادعت نسخ الحديث فيما يخالف قولها بلا حجة، والحديث محكم في أن الصلاة لا تبطل، وفي أنه يسجد بعد السلام، ليس لواحد منهما عن النبي ﷺ معارض ينسخه.
وأيضا، فالنسخ إنما يكون بما يناقض المنسوخ، والنبي ﷺ سجد بعد السلام، ولم ينقل مسلم أنه نهي عن ذلك، فبطل النسخ.
وإذا قيل: إنه سجد بعد ذلك قبل السلام، فإن كان في غير هذه الصورة، كما في حديث ابن بحينة، لما قام من الركعتين، وفي حديث الشك، فلا منافاة، لكن هذا الظان ظن أنه إذا سجد في صورة قبل السلام كان هذا نسخًا للسجود بعده في صورة أخري، وهذا غلط منه، ولم ينقل عنه في صورة واحدة أنه سجد تارة قبل السلام، وتارة بعده، ولو نقل ذلك لدل على جواز الأمرين، فدعوى النسخ في هذا الباب باطل.
وكيف يجوز أن يبطل بأمره بالسجود بعد السلام في صورة، وفعله له مما لا يناقض ذلك، ومن قال: السجود كله بعد السلام، واحتج بما في السنن من حديث ثوبان: (لكل سهو سجدتان بعد التسليم)، فهو ضعيف؛ لأنه من رواية ابن عياش عن أهل الحجاز. وذلك ضعيف باتفاق أهل الحديث، وبحديث ابن جعفر: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم)، ففيه ابن أبي ليلي، قال الأثرم، لا يثبت واحد منهما، مع أن هذا قد يكون مثل حديث ابن مسعود: (وإذا شك فيتحرى)، ويكون هذا مختصرًا من ذاك.
ومثل هذا لا يعارض الحديث الصحيح؛ حديث أبي سعيد في الشك: أنه أمر بسجدتين قبل السلام، وحديث ابن بحينة الذي في الصحيحين الذي هو أصل من أصول مسائل السهو، لما ترك التشهد الأول وسجد قبل السلام، فهذه الأحاديث الصحيحة تبين ضعف قول كل من عمم فجعله كله قبله، أو جعله كله بعده.
بقي التفصيل. فيقال: الشارع حكيم لا يفرق بين الشيئين بلا فرق فلا يجعل بعض السجود بعده، وبعضه قبله، إلا لفرق بينهما، وقول من يقول: القياس يقتضي أنه كله قبله، لكن خولف القياس في مواضع للنص، فبقي فيما عداه على القياس، يحتاج في هذا إلى شيئين؛ إلى أن يبين الدليل المقتضي لكونه كله قبله، ثم إلى بيان أن صورة الاستثناء اختصت بمعني يوجب الفرق بينها، وبين غيرها. وإلا، فإذا كان المعني الموجب للسجود قبل السلام شاملا للجميع، امتنع من الشارع أن يجعل بعض ذلك بعد السلام، وإن كان قد فرق لمعني فلابد أن يكون المعني مختصًا بصورة الاستثناء، فإذا لم يعرف الفرق بين ما استثني وبين ما استبقي كان تفريقًا بينهما بغير حجة.
وإذا قال: علمت أن الموجب للسجود قبل السلام عام، لكن لما استثني النص ما استثناه علمت وجود المعني المعارض فيه.
فيقال له: فما لم يرد فيه نص، جاز أن يكون فيه الموجب لما قبل السلام، وجاز أن يكون فيه الموجب لما بعد السلام، فإنك لا تعلم أن المعني الذي أوجب كون تلك الصور بعد السلام منتفيًا عن غيرها، ومع كون نوع من السجود بعد السلام يمتنع أن يكون الموجب التام له قبل السلام عامًا، فما بقي معك معني عام يعتمد عليه في الجزم، بأن المشكوك قبل السلام، ولا بأن المقتضي له بعد السلام مختص بمورد النص، فنفي التفريق قول بلا دليل يوجب الفرق، وهو قول بتخصيص العلة من غير بيان فوات شرط أو وجود مانع، وهو الاستحسان المحض الذي لم يتبين فيه الفرق بين صورة الاستحسان وغيرها.
وحينئذ، فأظهر الأقوال: الفرق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحري، والشك مع البناء على اليقين. وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وقول مالك قريب منه، وليس مثله. فإن هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلها، فيه الفرق المعقول؛ وذلك أنه إذا كان في نقص، كترك التشهد الأول احتاجت الصلاة إلى جبر، وجابرها يكون قبل السلام لتتم به الصلاة، فإن السلام هو تحليل من الصلاة.
وإذا كان من زيادة كركعة لم يجمع في الصلاة بين زيادتين، بل يكون السجود بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان، بمنزلة صلاة مستقلة جبر بها نقص صلاته، فإن النبي ﷺ جعل السجدتين كركعة.
وكذلك إذا شك وتحري، فإنه أتم صلاته، وإنما السجدتان لترغيم الشيطان، فيكون بعد السلام. ومالك لا يقول بالتحري، ولا بالسجود بعد السلام فيه. وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها، والسلام منها زيادة، والسجود في ذلك بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان.
وأما إذا شك ولم يتبين له الراجح، فهنا إما أن يكون صلى أربعًا أو خمسًا، فإن كان صلى خمسًا فالسجدتان يشفعان له صلاته، ليكون كأنه قد صلى ستًا لا خمسًا، وهذا إنما يكون قبل السلام. ومالك هنا يقول: يسجد بعد السلام. فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح، فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص.
ومما يوضح هذا، أنه إذا كان مع السلام سهو؛ سجد بعد السلام، فيقال: إذا زاد غير السلام من جنس الصلاة كركعة ساهيًا، أو ركوع أو سجود ساهيًا، فهذه زيادة لو تعمدها بطلت صلاته كالسلام، فإلحاقها بالسلام أولي من إلحاقها بما إذا ترك التشهد الأول، أو شك وبني على اليقين.
وقول القائل: إن السجود من شأن الصلاة، فيقضيه قبل السلام يقال له: لو كان هذا صحيحًا لوجب أن يكون كله قبل السلام، فلما ثبت أن بعضه بعد السلام، علم أنه ليس جنسه من شأن الصلاة، الذي يقضيه قبل السلام. وهذا معارض بقول من يقول: السجود ليس من موجب تحريم الصلاة، فإن التحريم إنما أوجب الصلاة السليمة، وهذه الأمور دعاوي لا يقوم عليها دليل، بل يقال التحريم أوجب السجود الذي يجبر به الصلاة.
ويقال: من السجود ما يكون جبره للصلاة، إذا كان بعد السلام؛ لئلا يجتمع فيها زيادتان، ولأنه مع تمام الصلاة إرغام للشيطان، ومعارضة له بنقيض قصده. فإنه قصد نقص صلاة العبد بما أدخل فيها من الزيادة، فأمر العبد أن يرغمه فيأتي بسجدتين زائدتين بعد السلام، ليكون زيادة في عبادة الله، والسجود للّه، والتقرب إلى الله الذي أراد الشيطان أن ينقصه على العبد، فأراد الشيطان أن ينقص من حسناته، فأمره الله أن يتم صلاته، وأن يرغم الشيطان، وعفا الله للإنسان عما زاده في الصلاة نسيانًا: من سلام وركعة زائدة وغير ذلك، فلا يأثم بذلك، لكن قد يكون تقربه ناقصًا لنقصه فيما ينساه فأمره الله أن يكمل ذلك بسجدتين زائدتين على الصلاة. والله أعلم.
فصل في وجوب سجود السهو وما ورد فيه
وأما وجوبه: فقد أمر به النبي ﷺ في حديث أبي هريرة المتقدم لمجرد الشك، فقال: (إذا قام أحدكم يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه صلاته، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس) وأمر به فيما إذا طرح الشك. فقال في حديث أبي سعيد: (فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان).
وكذلك في حديث عبد الرحمن: (ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم، ثم يسلم)، وأمر به في حديث ابن مسعود حديث التحري قال: (فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين)، وفي لفظ: (هاتان السجدتان لمن لا يدري أزاد في صلاته أم نقص، فيتحري الصواب، فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين)، وفي الحديث الآخر المتفق عليه لابن مسعود: فقلنا: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: (لا) فقلنا له الذي صنع، فقال: (إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين)، قال: ثم سجد سجدتين فقد أمر بالسجدتين إذا زاد أو إذا نقص. ومراده إذا زاد ما نهي عنه، أو نقص ما أمر به.
ففي هذا إيجاب السجود لكل ما يترك مما أمر به، إذا تركه ساهيًا، ولم يكن تركه ساهيًا موجبًا لإعادته بنفسه، وإذا زاد ما نهي عنه ساهيًا، فعلى هذا كل مأمور به في الصلاة إذا تركه ساهيًا فإما أن يعيده إذا ذكره، وإما أن يسجد للسهو لابد من أحدهما.
فالصلاة نفسها إذا نسيها صلاها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك. وكذلك إذا نسي طهارتها، كما أمر الذي ترك موضع لمعة من قدمه لم يصبها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة. وكذلك إذا نسي ركعة. كما في حديث ذي اليدين، فإنه لابد من فعل ما نسيه، إما مضموما إلى ما صلى، وإما أن يبتدئ الصلاة. فهذه خمسة أحاديث صحيحة فيها كلها يأمر الساهي بسجدتي السهو. وهو لما سهي عن التشهد الأول سجدهما بالمسلمين قبل السلام، ولما سلم في الصلاة من ركعتين أو من ثلاث صلى ما بقي، وسجدهما بالمسلمين بعد الصلاة، ولما أذكروه أنه صلى خمسًا سجدهما بعد السلام والكلام.
وهذا يقتضي مداومته عليهما وتوكيدهما، وأنه لم يدعهما في السهو المقتضي لها قط، وهذه دلائل بينة واضحة على وجوبهما، وهو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة، وليس مع من لم يوجبهما حجة تقارب ذلك.
والشافعي إنما لم يوجبهما؛ لأنه ليس عنده في الصلاة واجب تصح الصلاة مع تركه، لا عمدًا ولا سهوًا، وجمهور العلماء الثلاثة وغيرهم يجعلون من واجبات الصلاة ما لا يبطل تركه الصلاة، لكن مالك وأحمد وغيرهما يقولون: لا تبطل الصلاة بعمده، وعليه الإعادة، ويجب بتركه سهوًا سجود السهو. وأبو حنيفة يقول: إذا تركه عمدًا كان مسيئًا، وكانت صلاته ناقصة، ولا إعادة عليه، وأما ما يزيده عمدًا فكلهم يقول: إن فيه ما تبطل الصلاة مع عمده دون سهوه، لكن هو في حال العمد مبطل فلا سجود، وفي حال السهو يقولون: قد عفي عنه فلا يجب السجود.
وقد احتج بعضهم بما روي أن النبي ﷺ قال في حديث الشك: (كانت الركعة والسجدتان نافلة)، وهذا لفظ ليس في الصحيح. ولفظ الصحيح: (فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان)، فقد أمر فيه بالسجود، وبين حكمته سواء كان صلى خمسًا، أو أربعا، فقال: (فإن كان صلى خمسا شفعتا له صلاته) وهذا يقتضي أن التطوع بالوتر لا يجوز، بل قد أمر الله أن يوتر صلاة النهار بالمغرب، وصلاة الليل بالوتر.
وهنا لما كان مع الشك قد صلى خمسا، وهو لا يعلم جعل السجدتين قائمة مقام ركعة فشفعتا له صلاته. قال: (وإن كان صلى تماما لأربع فلم يزد في الصلاة شيئا، كانتا ترغيما للشيطان)، فهذا اللفظ وهو قوله: (كانت الركعة والسجدتان نافلة له) لا يمكن أن يستدل به، حتى يثبت أنه من قول النبي ﷺ، فكيف ولفظه الذي في الصحيح يقتضي وجوبهما وجوب الركعة، والسجدتين. والركعة قد اتفق العلماء على وجوبها، فحيث قيل: إن الشاك يطرح الشك ويبني على ما استيقن: كانت الركعة المشكوك فيها واجبة.
وإذا كانت واجبة بالنص والاتفاق، واللفظ المروي هو فيها وفي السجود، مع أن السجود أيضا مأمور به، كما أمر بالركعة. علم أن ما ذكر لا ينافي وجوب السجدتين، كما لا ينافي وجوب الركعة، وإن كان هذا اللفظ قد قاله الرسول، فمعناه أنه مأمور بذلك مع الشك فعلى تقدير أن تكون صلاته تامة في نفس الأمر لم ينقص منها شيء يكون ذلك زيادة في عمله، وله فيه أجر كما في النافلة، وهذا فعل كل من احتاط فأدي ما يشك في وجوبه، إن كان واجبا، وإلا كانت نافلة له، فهو إنما جعلها نافلة في نفس الأمر على تقدير إتمام الأربع، ولكن هو لما شك حصل بنفس شكه نقص في صلاته، فأمر بهما، وإن كان صلى أربعًا ترغيما للشيطان.
وهذا كما يأمرون من يشك في غير الواجب بأن يفعل ما يتبين به براءة الذمة، والواجب في نفس الأمر واحد، والزيادة نافلة، وكذلك يؤمر من اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية باجتنابهما، والمحرم في نفس الأمر واحد، فذلك المشكوك فيه يسمي واجبا باعتبار أن عليه أن يفعله، ويسمي نافلة على تقدير: أي هو مثاب عليه مأجور عليه ليس هو عملا ضائعا كالنوافل. وأنه لم يك في نفس الأمر واجبا عليه، لكن وجب لأجل الشك، مع أن إحدى الروايتين عن أحمد أنه يجبر المعادة مع إمام الحي.
ويسمي نافلة لأمر النبي ﷺ بذلك، وكذلك قوله في حديث أبي ذر: (صل الصلاة لوقتها ثم اجعل صلاتك معهم نافلة، ولا تقل: إني قد صليت)، فهي نافلة. أي: زائدة على الفرائض الخمس الأصلية، وإن كانت واجبة بسبب آخر، كالواجب بالنذر.
وكثير من السلف يريدون بلفظ النافلة: ما كان زيادة في الحسنات، وذلك لمن لا ذنب له، ولهذا قالوا في قوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } 3، أن النافلة مختصة برسول الله ﷺ؛ لأن الله غفر له، وغيره له ذنوب فالصلوات تكون سببا لمغفرتها. وهذا القول وإن كان فيه كلام. ليس هذا موضعه. فالمقصود أن لفظ النافلة توسع فيه، فقد يسمي به ما أمر به، وقد ينفي عن التطوع.
فقد تبين وجوب سجود السهو. وسببه إما نقص، وإما زيادة. كما قال في الصحيحين: (إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين). فالنقص كما في حديث ابن بُحَيْنة: لما ترك التشهد الأول سجد، والزيادة كما سجد لما صلى خمسا، وأمر به الشاك الذي لا يدري أزاد أم نقص فهذه أس
بابه في كلام النبي ﷺ: إما الزيادة، وإما النقص، وإما الشك. وقد تبين أنه في النقص والشك يسجد قبل السلام، وفي الزيادة بعده.
فصل فيما إذا ترك سجود السهو
وإذا كان واجبا، فتركه عمدًا أو سهوًا ترك الذي قبل السلام أو بعده ففيه أقوال متعددة في مذهب أحمد، وغيره.
قيل: إن ترك ما قبل السلام عمدًا، بطلت صلاته، وإن تركه سهوًا، لم تبطل، كالتشهد الأول، وغيره من الواجبات، وما بعده لا يبطل بحال؛ لأنه جبران بعد السلام، فلا يبطلها، وهذا اختيار كثير من أصحاب أحمد.
وقيل: إن ترك ما قبل السلام يبطل مطلقًا، فإن تركه سهوًا فذكر قريبًا سجد، وإن طال ال
فصل أعاد الصلاة، وهو منقول رواية عن أحمد، وهو قول مالك، وأبي ثور، وغيرهما، وهذا القول أصح من الذي قبله. فإنه إذا كان واجبًا في الصلاة، فلم يأت به سهوًا، لم تبرأ ذمته منه، وإن كان لا يأثم كالصلاة نفسها، فإنه إذا نسيها صلاها إذا ذكرها، فهكذا ما ينساه من واجباتها، لابد من فعله إذا ذكر؛ إما بأن يفعله مضافا إلى الصلاة، وإما بأن يبتدئ الصلاة. فلا تبرأ الذمة من الصلاة ولا من أجزائها الواجبة إلا بفعلها.
والواجبات التي قيل إنها تسقط بالسهو كالتشهد الأول لم يقل إنها تسقط إلى غير بدل، بل سقطت إلى بدل وهو سجود السهو، بخلاف الأركان التي لا بدل لها: كالركوع، والسجود، فإما أن يقال: إنها واجبة في الصلاة، وإنها تسقط إلى غير بدل، فهذا ما علمنا أحدًا قاله، وإن قاله قائل، فهو ضعيف، مخالف للأصول، فهذان قولان في الواجب قبل السلام إذا تركه سهوًا.
وأما الواجب بعده، فالنزاع فيه قريب. فمال كثير ممن قال إن ذلك واجب: إلى أن ترك هذا لا يبطل؛ لأنه جبر للعبادة، خارج عنها، فلم تبطل كجبران الحج، ونقل عن أحمد ما يدل على بطلان الصلاة إذا ترك السجود المشروع بعد السلام، وقد نقل الأثرم عن أحمد الوقف في هذه المسألة، فنقل عنه فيمن نسي سجود السهو، فقال: إذا كان في سهو خفيف فأرجو ألا يكون عليه. قلت: فإن كان فيما سها فيه النبي ﷺ، فقال: هاه، ولم يجب. قال: فبلغني عنه أنه يستحب أن يعيده. ومسائل الوقف يخرجها أصحابه على وجهين.
وفي الجملة فقيل: يعيد إذا تركه عامدًا، وقيل: إذا تركه عامدًا أو ساهيًا. والصحيح أنه لابد من هذا السجود، أو من إعادة الصلاة، فإنه قد تنوزع إلى متى يسجد. فقيل: يسجد ما دام في المسجد، ما لم يطل الفصل، وقيل: يسجد وإن طال الفصل ما دام في المسجد، وقيل: يسجد وإن خرج وتعدي.
والمقصود أنه لابد منه، أو من إعادة الصلاة؛ لأنه واجب أمر به النبي ﷺ لتمام الصلاة، فلا تبرأ ذمة العبد إلا به. وإذا أمر به بعد السلام من الصلاة، وقيل: إن فعلته وإلا فعليك إعادة الصلاة، لم يكن ممتنعًا. والمراد تكون الصلاة باطلة: أنه لم تبرأ بها الذمة، ولا فرق في ذلك بين ما قبل السلام، وما بعده. والله تعالى إنما أباح له التسليم منها بشرط أن يسجد سجدتي السهو. فإذا لم يسجدهما، لم يكن قد أباح الخروج منها، فيكون قد سلم من الصلاة سلامًا لم يؤمر به، فيبطل صلاته. كما تقول في فاسخ الحج إلى التمتع: إنما أبيح له التحلل إذا قصد أن يتمتع فيحج من عامه، فأما إن قصد التحلل مطلقًا، لم يكن له ذلك، وكان باقيًا على إحرامه، ولم يصح تحلله، لكن الإحرام لا يخرج منه برفض المحرم، ولا بفعل شيء من محظوراته، ولا بإفساده، بل هو باق فيه، وإن كان فاسدًا بخلاف الصلاة، فإنها تبطل بفعل ما ينافيها، وما حرم فيها.
وقياسهم الصلاة على الحج باطل، فإن الواجبات التي يجبرها دم لو تعمد تركها في الحج، لم تبطل بل يجبرها، والجبران في ذمته لا يسقط بحال، والصلاة إذا ترك واجبًا فيها بطلت. وإذا قيل: إنه مجبور بالسجود، فيقتضي أن السجود في ذمته كما يجب في ذمته جبران الحج. أما سقوط الواجب وبدله، فهذا لا أصل له في الشرع. فقياس الحج أن يقال: هذا السجود بعد السلام يبقي في ذمته إلى أن يفعله، وهذا القول غير ممتنع، بخلاف قولهم يسقط إلى بدل. لكن جبران الحج وهو الدم يفعل مفردًا بلا نزاع، وأما هذا السجود: فهل يفعل مفردًا بعد طول الفصل؟ فيه نزاع.
ونحن قلنا: لابد منه، أو من إعادة الصلاة، فإذا قيل: إنه يفعل وإن طال الفصل كالصلاة المنسية، فهذا متوجه قوي، ودونه أن يقال: وإن تركه عمدًا يفعله في وقت آخر، وإن أثم بالتأخير، كما لو أخر الصلاة المنسية بعد الذكر عمدًا فليصلها، ويستغفر الله من تأخيرها. وكذلك المفوتة عمدًا عند من يقول بإمكان إعادتها يصليها ويستغفر الله من تأخيرها. فهكذا السجدتان يصليهما حيث ذكرهما ويستغفر الله من التأخير، فهذا أيضا قول متوجه، فإن التحديد بطول الفصل وبغيره، غير مضبوط بالشرع.
وكذلك الفرق بين المسجد وغيره ليس عليه دليل شرعي، وكذلك الفرق بين ما قبل الحدث وبعده، بل عليه أن يسجدهما بحسب الإمكان. والله أعلم.
فصل ما شرع قبل السلام أو بعده
وما شرع قبل السلام أو بعده: فهل ذلك على وجه الوجوب أو الاستحباب؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره.
ذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة إلى أن النزاع إنما هو في الاستحباب، وأنه لو سجد للجميع قبل السلام، أو بعده، جاز.
والقول الثاني: أن ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله، وما شرعه بعده لا يفعل إلا بعده، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة، وهو الصحيح. قال النبي ﷺ في حديث طرح الشك قال: (وليسجد سجدتين قبل أن يسلم)، وفي الرواية الأخري: (قبل أن يسلم ثم يسلم)، وفي حديث التحري قال: (فليتحر الصواب فليبن عليه، ثم ليسجد سجدتين)، وفي رواية للبخاري: (فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين)، فهذا أمر فيه بالسلام، ثم بالسجود. وذاك أمر فيه بالسجود قبل السلام، وكلاهما أمر منه يقتضي الإيجاب.
ولما ذكر ما يعم القسمين قال: (إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين)، وقال: (فإذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس). فلما ذكر النقص مطلقًا، والزيادة مطلقًا، والشك، أمر بسجدتين مطلقًا، ولم يقيدهما بما قبل السلام. ولما أمر بالتحري أمر بالسجدتين بعد السلام. فهذه أوامره ﷺ في هذه الأبواب لا تعدل عنها. { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } 4. ولكن من سجد قبل السلام مطلقًا، أو بعد السلام مطلقًا متأولا، فلا شيء عليه. وإن تبين له فيما بعد السنة، استأنف العمل فيما تبين له، ولا إعادة عليه.
وكذلك كل من ترك واجبًا لم يعلم وجوبه، فإذا علم وجوبه فعله، ولا تلزمه الإعادة فيما مضي: في أصح القولين في مذهب أحمد، وغيره.
وكذلك من فعل محظورًا في الصلاة لم يعلم أنه محظور، ثم علم كمن كان يصلي في أعطان الإبل، أو لا يتوضأ الوضوء الواجب الذي لم يعلم وجوبه، كالوضوء من لحوم الإبل، وهذا بخلاف الناسي، فإن العالم بالوجوب إذا نسي صلى متى ذكر، كما قال ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها). وأما من لم يعلم الوجوب، فإذا علمه، صلى صلاة الوقت وما بعدها، ولا إعادة عليه. كما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال للأعرابي المسيء في صلاته: (ارجع فصل فإنك لم تصل). قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلِّمني ما يجزيني في صلاتي، فعلمه ﷺ وقد أمره بإعادة صلاة الوقت، ولم يأمره بإعادة ما مضي من الصلاة، مع قوله: لا أحسن غير هذا.
وكذلك لم يأمر عمر وعمارًا بقضاء الصلاة، وعمر لما أجنب لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، ولم يأمر أبا ذر بما تركه من الصلاة وهو جنب، ولم يأمر المستحاضة أن تقضي ما تركت، مع قولها إني أستحاض حيضة شديدة منعتني الصوم والصلاة ولم يأمر الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لهم الحبال البيض من السود بالإعادة، والصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين، ثم لما هاجر زيد في صلاة الحضر ففرضت أربعًا، وكان بمكة وأرض الحبشة والبوادي كثير من المسلمين لم يعلموا بذلك إلا بعد مدة، وكانوا يصلون ركعتين، فلم يأمرهم بإعادة ما صلوا.
كما لم يأمر الذين كانوا يصلون إلى القبلة المنسوخة بالإعادة مدة صلاتهم إليها قبل أن يبلغهم الناسخ، فعلم أنه لا فرق بين الخطاب المبتدأ، والخطاب الناسخ. والركعتان الزائدتان إيجابهما مبتدأ، وإيجاب الكعبة ناسخ. وكذلك التشهد وغيره إنما وجب في أثناء الأمر، وكثير من المسلمين لم يبلغهم الوجوب إلا بعد مدة.
ومن المنسوخ أن جماعة من أكابر الصحابة كانوا لا يغتسلون من الإقحاط، بل يرون الماء من الماء، حتى ثبت عندهم النسخ.ومنهم من لم يثبت عنده النسخ، وكانوا يصلون بدون الطهارة الواجبة شرعا لعدم علمهم بوجوبها، ويصلي أحدهم وهو جنب.
فصل إذا نسي السجود حتى فعل ما ينافي الصلاة
إذا نسي السجود حتى فعل ما ينافي الصلاة من كلام وغيره، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ: أنه سجد بعد السلام والكلام، فقد بين ذلك في الصحيحين أنه صلى بهم الظهر خمسًا، فلما انفتل توشوش القوم فيما بينهم، فقال: (ما شأنكم؟)، قالوا: يا رسول الله، زيد في الصلاة؟ قال: (لا). قالوا: فإنك صليت خمسًا، فانفتل ثم سجد سجدتين، ثم سلم. وهذا قول جمهور العلماء وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيره.
وعن أبي حنيفة أنه إن تكلم بعد السلام، سقط عنه سجود السهو؛ لأن الكلام ينافيها، فهو كالحدث. وعن الحسن ومحمد إذا صرف وجهه عن القبلة لم يبن، ولم يسجد. والصواب قول الجمهور، كما نطقت به السنة، فإنه ﷺ سجد بعد انصرافه، وانفتاله، وإقباله عليهم، وبعد تحدثهم وبعد سؤاله لهم، وإجابتهم إياه. وحديث ذي اليدين أبلغ في هذا، فإنه صلى ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها، ثم قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ وأجابه. ثم سأل الصحابة فصدقوا ذا اليدين، فعاد إلى مكانه
فصلى الركعتين، ثم سجد بعد السلام سجدتي السهو، وقد خرج السرعان من الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة.
وفي حديث عمران وهو في الصحيحين: (أنه سلم في ثلاث من العصر، ثم دخل منزله، وقام إليه الخِرْباق فذكر له صنيعه، وأنه خرج يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا؟)، قالوا: نعم. وهذه القصة إما أن تكون غير الأولي، وإما أن تكون هي إياها لكن اشتبه على أحد الراويين: هل سلم من ركعتين، أو من ثلاث، وذكر أحدهما قيامه إلى الخشبة المعروضة في المسجد، والآخر دخوله منزله، ثم من بعد هذا القول والعمل، وخروجه من المسجد والسرعان من الناس، لا ريب أنه أمرهم بما يعملون.
فإما أن يكونوا عادوا أو بعضهم إلى المسجد، فأتموا معه الصلاة بعد خروجهم من المسجد، وقولهم: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. وإما أن يكونوا أتموا لأنفسهم لما علموا السنة. وعلى التقديرين، فقد أتموا بعد العمل الكثير، والخروج من المسجد.
وأما أن يقال: إنهم أمروا باستئناف الصلاة، فهذا لم ينقله أحد ولو أمر به لنقل، ولا ذنب لهم فيما فعلوا، وهو في إحدى صلوات الخوف يصلي بطائفة ركعة والأخري بإزاء العدو، ثم يمضون إلى مصاف أصحابهم وهم في الصلاة، فيعملون عملا، ويستدبرون القبلة، ثم يأتي أولئك فيصلي بهم ركعة ثم يمضون إلى مصاف أصحابهم، ثم يصلي هؤلاء لأنفسهم ركعة أخري، وهؤلاء ركعة أخري، وفي ذلك مشي كثير، واستدبار للقبلة، وهم في الصلاة، وقد يتأخر كل طائفة من هؤلاء وهؤلاء في الركعة الأولي. والثانية بمشيها إلى مصاف أصحابها، ثم يجيء أصحابها إلى خلف الإمام، ثم بصلاتهم خلف الإمام، ثم برجوعهم إلى مصاف أولئك، ثم بعد هذا كله يصلون الركعة الثانية، وهم قيام فيها مع هذا العمل والانتظار، لكن لا يصلون الركعة إلا بعد هذا كله. فعلم أن الموالاة بين ركعات الصلاة لا تجب مع العدو، وموالاة السجدتين مع الصلاة أولي، بخلاف الموالاة بين أبعاض الركعة، وهذا مذهب مالك وأحمد.
ولهذا إذا نسي ركنًا كالركوع مثلا، فإن ذكر في الأولي، مثل أن يذكر بعد أن يسجد السجدتين، فإنه يأتي بالركوع وما بعده، ويلغو ما فعله قبل الركوع؛ لأن الفصل يسير. وهذا قول الجماعة، وإن شرع في الثانية. إما في قراءتها عندهم، وإما في ركوعها على قول الجماعة. وإن شرع في الثانية إما في قراءتها عندهم، وإما في ركوعها على قول مالك، فعند الشافعي يلغو ما فعله بعد الركوع إلى أن يركع في الثانية، فيقوم مقام ركوع الأولي، وإن طال ال
فصل ويلفق الركعة من ركعتين، وقد رجح أحمد هذا على قول الكوفيين، وحكي رواية عنه. والمشهور عنه وعن مالك أنهما لا يلفقان، بل تلغو تلك الركعة المنسي ركنها، وتقوم هذه مقامهما، فيكون ترك الموالاة مبطلا للركعة على أصلهما، لا يفصل بين ركوعها وسجودها بفاصل أجنبي عنها، فإن أدني الصلاة ركعة. وقد قال النبي ﷺ: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك).
والركعة إنما تكون ركعة مع الموالاة، أما إذا ركع ثم فعل أفعالا أجنبية عن الصلاة، ثم سجد، لم تكن هذه ركعة مؤلفة من ركوع وسجود بل يكون ركوع مفرد وسجود مفرد، وهذا ليس بصلاة، والسجود تابع للركوع، فلا تكون صلاة إلا بركوع يتبعه سجود، وسجود يتبعه ركوع، وبسط هذا له موضع آخر.
لكن هؤلاء لهم عذر الخوف، وأولئك لهم عذر السهو، وعدم العلم.
وقد اختلف في السجود والبناء بعد طول الفصل. فقيل: إذا طال الفصل لم يسجد، ولم يبن، ولم يحد هؤلاء طول الفصل بغير قولهم، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي، وأحمد. كالقاضي أبي يعلى، وغيره، وهؤلاء يقولون: قد تقصر المدة وإن خرج وقد تطول وإن قعد.
وقيل: يسجد ما دام في المسجد، فإن خرج انقطع. وهذا هو الذي ذكره الخِرَقي وغيره، وهو منصوص عن أحمد، وهو قول الحكم وابن شبرمة، وهذا حد بالمكان لا بالزمان، لكنه حد بمكان العبادة.
وقيل: كل منهما مانع من السجود، طول الفصل، والخروج من المسجد.
وعن أحمد رواية أخري: أنه يسجد وإن خرج من المسجد، وتباعد.وهو قول للشافعي، وهذا هو الأظهر، فإن تحديد ذلك بالمكان أو بزمان، لا أصل له في الشرع، لا سيما إذا كان الزمان غير مضبوط، فطول الفصل وقصره ليس له حد معروف في عادات الناس ليُرْجع إليه، ولم يدل على ذلك دليل شرعي، ولم يفرق الدليل الشرعي في السجود والبناء بين طول الفصل وقصره، ولا بين الخروج من المسجد والمكث فيه بل قد دخل هو ﷺ إلى منزله وخرج السرعان من الناس، كما تقدم. ولو لم يرد بذلك شرع فقد علم أن ذلك السلام لم يمنع بناء سائر الصلاة عليها. فكذلك سجدتا السهو يسجدان متى ما ذكرهما.
وإن تركهما عمدًا. فإما أن يقال: يسجدهما أيضا مع إثمه بالتأخير، كما تفعل جبرانات الحج، وهي في ذمته إلى أن يفعلها، فالموالاة فيها ليست شرطًا، كما يشترط مع القدرة في الركعات. فلو سلم من الصلاة عمدًا، بطلت صلاته باتفاق الناس؛ لأن الصلاة في نفسها عبادة واحدة لها تحليل وتحريم، بخلاف السجدتين بعد السلام فإنهما يفعلان بعد تحليل الصلاة، كما يفعل طواف الإفاضة بعد التحلل الأول.
وإما أن يقال: الموالاة شرط فيها مع القدرة، وإنما تسقط بالعذر، كالنسيان والعجز، كالموالاة بين ركعات الصلاة. وعلى هذا، فمتى أخرهما لغير عذر بطلت صلاته، إذا لم يشرع
فصلهما عن الصلاة إلا بالسلام فقط، وأمر بهما عقب السلام، فمتى تكلم عمدًا، أو قام، أو غير ذلك مما يقطع التتابع عالما عامدا بلا عذر، بطلت صلاته، كما تبطل إذا ترك السجدتين قبل السلام.
فصل في التكبير والتشهد و التسليم في سجود السهو
فأما التكبير في سجود السهو، ففي الصحيحين في حديث ابن بُحَينة: فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس، هذا في السجود قبل السلام، وأما بعده، فحديث ذي اليدين الذي في الصحيحين عن أبي هريرة قال:
فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع، والتكبير قول عامة أهل العلم، ولكن تنازعوا في التشهد والتسليم على ثلاثة أقوال:
فروي عن أنس والحسن وعطاء: أنه ليس فيهما تشهد ولا تسليم، ومن قال هذا قاله تشبيها بسجود التلاوة؛ لأنه سجود مفرد، فلم يكن فيه تشهد ولا تسليم، كسجود التلاوة، فإنه لم ينقل أحد فيه عن النبي ﷺ تسليمًا، وكذلك قال أحمد وغيره. وقال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو، وجمهور السلف على أنه لا تسليم فيه، ومن أثبت التسليم فيه أثبته قياسًا، وهو قياس ضعيف؛ لأنه جعله صلاة، وأضعف منه من أثبت فيه التشهد قياسًا.
والقول الثاني: أن فيهما تشهد يتشهد ويسلم إذا سجدهما بعد السلام، وهذا مروي عن ابن عباس والنخعي والحكم وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي.
والثالث: فيهما تسليم بغير تشهد، وهو قول ابن سيرين، قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجه، وفي ثبوت التشهد نظر، وعن عطاء إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل.
قال أبو محمد: ويحتمل ألا يجب التشهد؛ لأن ظاهر الحديثين الأولىن أنه سلم من غير تشهد، وهي أصح من هذه الرواية؛ ولأنه سجود مفرد فلم يجب له تشهد، كسجود التلاوة.
قلت: أما التسليم فيهما، فهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، حديث ابن مسعود، وحديث عمران. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود كما تقدم: قال: صلى رسول الله ﷺ: قال إبراهيم: زاد أو نقص، فلما سلم قيل له: يا رسول ﷺ أحدث في الصلاة شيء؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثني رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه...الحديث.
وفي الصحيحين أيضا من حديث عمران بن حصين قال:
فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم. وكذلك ذكر محمد بن سيرين لما روي حديث أبي هريرة. قال: وثبت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم، وابن سيرين ما كان يروي إلا عن ثقة، والفرق بين هاتين وبين سجود التلاوة: أن هاتين صلاة، وأنهما سجدتان وقد أقيمتا مقام ركعة، وجعلتا جابرتين لنقص الصلاة، فجعل لهما تحليل كما لهما تحريم. وهذه هي الصلاة. كما قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)
وأما سجود التلاوة، فهو خضوع، وكان ابن عمر وغيره يسجدون على غير وضوء، وعن عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة قال: تومئ برأسها، وكذلك قال سعيد بن المسيب، قال: ويقول: اللهم لك سجدت. وقال الشعبي: من سمع السجدة وهو على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه، وقد سجد رسول ﷺ وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، ففعله الكافر والمسلم، وسجد سحرة فرعون. وعلى هذا، فليس بداخل في مسمى الصلاة.
ولكن سجدتا السجود يشبهان صلاة الجنازة، فإنها قيام مجرد، لكن هي صلاة فيها تحريم وتحليل؛ ولهذا كان الصحابة يتطهرون لها، ورخص ابن عباس في التيمم لها إذا خشي الفوات، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين، وهي كسجدتي السهو يشترط لها استقبال الكعبة والاصطفاف، كما في الصلاة، والمؤتم فيه تبع للإمام، لا يكبر قبله، ولا يسلم قبله، كما في الصلاة، بخلاف سجود التلاوة فإنه عند كثير من أهل العلم يسجد وإن لم يسجد القارئ.
والحديث الذي يروى: إنك إمامنا فلو سجدت لسجدنا، من مراسيل عطاء، وهو من أضعف المراسيل، قاله أحمد وغيره. ومن قال: إنه لا يسجد إلا إذا سجد، لم يجعله مؤتمًا به من كل وجه، فلا يشترط أن يكون المستمعون يسجدون جميعًا صفًا، كما يسجدون خلف الإمام للسهو، ولا يشترط أن يكون الإمام إمامه كما في الصلاة، وللمأموم أن يرفع قبل إمامه، فعلم أنه ليس بمؤتم به في صلاة، وإن قيل: إنه مؤتم به في غير صلاة، كائتمام المؤمن على الدعاء بالداعي، وائتمام المستمع بالقارئ.
فصل التشهد في سجدتي السهو
وأما التشهد في سجدتي السهو، فاعتمد من أثبته على ما روي من حديث عمران بن حصين: أن النبي ﷺ صلى بهم، فسهي، فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
قلت: كونه غريبًا يقتضي أنه لا متابع لمن رواه، بل قد انفرد به. وهذا يوهي هذا الحديث في مثل هذا، فإن رسول ﷺ قد ثبت عنه أنه سجد بعد السلام غير مرة، كما في حديث ابن مسعود لما صلى خمسًا، وفي حديث أبي هريرة، وحديث ذي اليدين، وعمران بن حصين لما سلم، سواء كانت قضيتين أو قضية واحدة، وثبت عنه أنه قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين). وقال في حديث أبي هريرة الصحيح: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين)، وليس في شيء من أقواله أمر بالتشهد بعد السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول: أنه يتشهد بعد السجود، بل هذا التشهد بعد السجدتين عمل طويل بقدر السجدتين، أو أطول. ومثل هذا مما يحفظ ويضبط، وتتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان قد تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه سجد، وكان الداعي إلى ذكر ذلك أقوي من الداعي إلى ذكر السلام. وذكر التكبير عند الخفض والرفع. فإن هذه أقوال خفيفة والتشهد عمل طويل، فكيف ينقلون هذا ولا ينقلون هذا.
وهذ التشهد عند من يقول به كالتشهد الأخير، فإنه يتعقبه السلام فتسن معه الصلاة على النبي ﷺ، والدعاء، كما إذا صلى ركعتي الفجر، أو ركعة الوتر وتشهد، ثم الذي في الصحيح من حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، فانفراد واحد بمثل هذه الزيادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها يضعف أمرها، ثم هذا المنفرد بها يجب أن ينظر لو انفرد بحديث، هل يثبت أنه شريعة للمسلمين؟
وأيضًا، فالتشهد إنما شرع في صلاة تامة ذات ركوع وسجود، لم يشرع في صلاة الجنازة، مع أنه يقرأ فيها بأم القرآن، وسجدتا السهو لا قراءة فيهما. فإذا لم يشرع في صلاة فيها قراءة، وليست بركوع وسجود، فكذلك في صلاة ليس فيها قيام ولا قراءة ولا ركوع.
وقد يقال: إنه أولى أو أنفع، فليس هو مشروعًا عقب سجدتي الصُّلب، بل إنما يتشهد بعد ركعتين، لا بعد كل سجدتين، فإذا لم يتشهد عقب سجدتي الصلب، وقد حصل بهما ركعة تامة، فألا يتشهد عقب سجدتي السهو أولى. وذلك أن عامة سجدتي السهو أن يقوما مقام ركعة. كما قال ﷺ: (فإن كان قد صلى خمسا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى لتمام كانتا ترغيمًا للشيطان)، فجعلهما كركعة لا كركعتين. وهي ركعة متصلة بغيرها. ليست كركعة الوتر المستقلة بنفسها، ولهذا وجبت فيها الموالاة أن يسجدهما عقب السلام، لا يتعمد تأخيرهما، فهو كما لو سجدهما قبل السلام، وقبل السلام لا يعيد التشهد بعدها، فكذلك لا يعيد بعد السلام.
ولأن المقصود أن يختم صلاته بالسجود لا بالتشهد، بدليل أن السجود قبل السلام لم يشرع قبل التشهد، بل إنما شرع بعد التشهد فعلم أنه جعل خاتمًا للصلاة، ليس بعده إلا الخروج منها. ولأن إعادة التشهد والدعاء يقتضي تكرير ذلك مع قرب الفصل بينهما، فلم يكن ذلك مشروعًا، كإعادته إذا سجد قبل السلام ولأنه لو كان بعدهما تشهد لم يكن المشروع سجدتين.
والنبي ﷺ إنما أمر بسجدتين فقط لا بزيادة على ذلك، وسماهما المرغمتين للشيطان، فزيادة التشهد بعد السجود كزيادة القراءة قبل السجود، وزيادة تكبيرة الإحرام. ومعلوم أنه لا افتتاح لهما، بل يكبر للخفض، لا يكبر وهو قاعد، فعلم أنهما داخلتان في تحريم الصلاة، فيكونان جزءًا من الصلاة، كما لو سجدهما قبل السلام فلا يختصان بتشهد، ولكن يسلم منهما؛ لأن السلام الأول سقط، فلم يكن سلامًا منهما، فإن السلام إنما يكون عند الخروج.
وقد نفي بعض الصحابة والتابعين السلام منهما، كما أنه لا تحريم لهما، لكن الصواب الفرق، كما وردت به السنة الصحيحة، والله أعلم.
سئل عمن صلى بجماعة رباعية فسهى عن التشهد وقام فسبح بعضهم ولم يقعد
وسئل رحمه الله عمن صلى بجماعة رباعية فسهي عن التشهد، وقام، فسبح بعضهم، فلم يقعد، وكمل صلاته وسجد وسلم، فقال جماعة: كان ينبغي إقعاده، وقال آخرون: لو قعد بطلت صلاته، فأيهما على الصواب؟
فأجاب:
أما الإمام الذي فاته التشهد الأول حتى قام، فسبح به فلم يرجع وسجد للسهو قبل السلام، فقد أحسن فيما فعل، هكذا صح عن النبي ﷺ
ومن قال، كان ينبغي له أن يقعد أخطأ، بل الذي فعله هو الأحسن. ومن قال: لو رجع بطلت صلاته، فهذا فيه قولان للعلماء:
أحدهما: لو رجع بطلت صلاته، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في رواية.
والثاني: إذا رجع قبل القراءة، لم تبطل صلاته، وهي الرواية المشهورة عن أحمد، والله أعلم.
سئل عن إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت لقولهم وظن أنه لم يسه
وسئل رحمه الله عن إمام قام إلى خامسة، فسبح به فلم يلتفت لقولهم، وظن أنه لم يسه. فهل يقومون معه أم لا؟
فأجاب:
إن قاموا معه جاهلين، لم تبطل صلاتهم، لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه، بل ينتظرونه حتى يسلم بهم، أو يسلموا قبله، والانتظار أحسن. والله أعلم.
باب صلاة التطوع
سئل أيما طلب القرآن أو العلم أفضل
فأجاب:
أما العلم الذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب، وطلب الثاني مستحب، والواجب مقدم على المستحب.
وأما طلب حفظ القرآن، فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا: وهو إما باطل، أو قليل النفع. وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام، أو الجدال، والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت، ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلابد في مثل هذه المسألة من التفصيل.
والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه، لم يكن من أهل العلم، والدين، والله سبحانه أعلم.
سئل عن تكرار القرآن والفقه أيهما أفضل وأكثر أجرا
فأجاب:
الحمد لله، خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ. وكلام الله لا يقاس به كلام الخلق، فإن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
وأما الأفضل في حق الشخص، فهو بحسب حاجته، ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره، فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه، وهو محتاج إلى علم آخر.
وكذلك إن كان قد حفظ القرآن، أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه.
وأما من تعبد بتلاوة الفقه، فتعبده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج لتدبره، والله أعلم.
سئل عمن يحفظ القرآن أيما أفضل له تلاوة القرآن مع أمن النسيان أو التسبيح
وسئل عمن يحفظ القرآن: أيما أفضل له تلاوة القرآن مع أمن النسيان أو التسبيح وما عداه من الاستغفار والأذكار في سائر الأوقات مع علمه بما ورد في الباقيات الصالحات، والتهليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسيد الاستغفار، وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم؟
فأجاب:
الحمد لله، جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين: فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر).
وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه ﷺ أنه قال: (من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي ﷺ فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي. قال: (قل: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)؛ ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز. والبدل دون المبدل منه.
وأيضًا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى، دون الذكر والدعاء، وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان، كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي ﷺ: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة). ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة.
وأيضًا، فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر. وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل، لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر. ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهي المجتهد، كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه. ومنهم من قال: هو أرجح في حق المبتدئ السالك، وهذا أقرب إلى الصواب.
وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني، وهو: أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك وهو نوعان:
أحدهما: ما هو مشروع لجميع الناس.
والثاني: ما يختلف باختلاف أحوال الناس. أما الأول فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان، أو عمل يكون أفضل: مثل ما بعد الفجر والعصر، ونحوهما من أوقات النهى عن الصلاة؛ فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان، وكذلك الأمكنة التي نهى عن الصلاة فيها: كالحمام وأعطان الإبل والمقبرة فالذكر والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب: الذكر في حقه أفضل، والمحدث: القراءة والذكر في حقه أفضل، فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة، كان المفضول هناك أفضل، بل هو المشروع.
وكذلك حال الركوع والسجود، فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم). وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك، على قولين، هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفا للقرآن وتعظيمًا له ألا يقرأ في حال الخضوع والذل، كما كره أن يقرأ مع الجنازة، وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام.
وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي ﷺ وأمره. والدعاء فيه أفضل، بل هو المشروع، دون القراءة والذكر، وكذلك الطواف وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار: المشروع هناك هو الذكر والدعاء. وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف هل تكره أم لا تكره؟ على قولين مشهورين.
والنوع الثاني: أن يكون العبد عاجزًا عن العمل الأفضل، إما عاجزًا عن أصله، كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي ﷺ، أو عاجزًا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال. ومن هنا قال من قال: إن الذكر أفضل من القرآن، فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله. وأكثر السالكين بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده، لا يذكر أمرًا عامًا للخلق؛ إذ المعرفة تقتضي أمورًا معينة جزئية، والعلم يتناول أمرًا عامًا كليا. فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه، وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة، والنور، والهدي: ما لا يجده في قراءة القرآن، بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس والفكر، كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل من كان أفضل يشرع لكل أحد بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له.
فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل. ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل. قال النبي ﷺ: (الحج جهاد كل ضعيف) ونظائر هذا متعددة.
إذا عرف هذان الأصلان، عرف بهما جواب هذه المسائل. إذا عرف هذا فيقال: الأذكار المشروعة في أوقات معينة مثل ما يقال عند جواب المؤذن هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنه النبي ﷺ فيما يقال عند الصباح والمساء، وإتيان المضجع هو مقدم على غيره.وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إن أطاقها وإلا فليعمل ما يطيق، والصلاة أفضل منهما؛ ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عليكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } الآية 5، والله أعلم.
سئل أيما أفضل قارئ القرآن الذي لا يعمل أو العابد
وسئل: أيما أفضل قارئ القرآن الذي لا يعمل، أو العابد؟
فأجاب:
إن كان العابد يعبد بغير علم، فقد يكون شرًا من العالم الفاسق، وقد يكون العالم الفاسق شرًا من.
وإن كان يعبد الله بعلم فيؤدي الواجبات، ويترك المحرمات، فهو خير من الفاسق، إلا أن يكون للعالم الفاسق حسنات تفضل على سيئاته، بحيث يفضل له منها أكثر من حسنات العابد. والله أعلم.
سئل أيما أفضل استماع القرآن أم صلاة النفل
وسئل: أيما أفضل استماع القرآن أم صلاة النفل؟ وهل تكره القراءة عند الصلاة غير الفرض أم لا؟
فأجاب:
من كان يقرأ القرآن والناس يصلون تطوعًا فليس له أن يجهر جهرًا يشغلهم به؛ فإن النبي ﷺ خرج على أصحابه وهم يصلون من السحر فقال: (يا أيها الناس، كلكم يناجي ربه. فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة). والقراءة في الصلاة النافلة أفضل في الجملة، لكن قد تكون القراءة وسماعها أفضل لبعض الناس، والله أعلم.
وسئل أيما أفضل إذا قام من الليل الصلاةأم القراءة
وسئل: أيما أفضل إذا قام من الليل: الصلاة، أم القراءة؟
فأجاب:
بل الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة، نص على ذلك أئمة العلماء. وقد قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). لكن من حصل له نشاط وتدبر، وفهم للقراءة دون الصلاة، فالأفضل في حقه ما كان أنفع له.
سئل هل الأفضل له قراءة القرآن أم الذكر والتسبيح
وسئل عن رجل أراد تحصيل الثواب: هل الأفضل له قراءة القرآن أم الذكر والتسبيح؟
فأجاب:
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء من حيث الجملة، لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل في بعض الأحوال، كما أن الصلاة أفضل من ذلك كله.
ومع هذا، فالقراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي عن الصلاة كالأوقات الخمسة، ووقت الخطبة هي أفضل من الصلاة، والتسبيح في الركوع والسجود أفضل من القراءة، والتشهد الأخير أفضل من الذكر.
وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالمفضول أكثر بحسب حاله، إما لاجتماع قلبه عليه، وانشراح صدره له، ووجود قوته له، مثل من يجد ذلك في الذكر أحيانًا دون القراءة، فيكون العمل الذي أتي به على الوجه الكامل أفضل في حقه من العمل الذي يأتي به على الوجه الناقص، وإن كان جنس هذا. وقد يكون الرجل عاجزًا عن الأفضل فيكون ما يقدر عليه في حقه أفضل له. والله أعلم.
سئل فيمن يجهر بالقراءة والناس يصلون في المسجد السنة
وسئل رحمه الله: ما يقول سيدنا فيمن يجهر بالقراءة، والناس يصلون في المسجد السنة أو التحية، فيحصل لهم بقراءته جهرًا أذي. فهل يكره جهر هذا بالقراءة أم لا؟
فأجاب:
ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة، ولا في غير الصلاة، إذا كان غيره يصلي في المسجد، وهو يؤذيهم بجهره، بل قد خرج النبي ﷺ على الناس وهم يصلون في رمضان، ويجهرون بالقراءة. فقال: (يا أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة)
وأجاب أيضا رحمه الله تعالى: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة، بحيث يؤذي غيره كالمصلين.
سئل عن القيام للمصحف وتقبيله وهل يكره أيضا أن يفتح فيه الفأل
وسئل رحمه الله عن القيام للمصحف وتقبيله، وهل يكره أيضا أن يفتح فيه الفأل؟
فأجاب:
الحمد لله، القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئًا مأثورًا عن السلف، وقد سئل الإمام أحمد عن تقبيل المصحف. فقال: ما سمعت فيه شيئًا، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل: أنه كان يفتح المصحف، ويضع وجهه عليه، ويقول: كلام ربي. كلام ربي.. ولكن السلف وإن لم يكن من عادتهم القيام له فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض، اللهم إلا لمثل القادم من مغيبه ونحو ذلك.
ولهذا قال أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك. والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف في كل شيء فلا يقومون إلا حيث كانوا يقومون.
فأما إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض. فقد يقال: لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين في ذلك، ولا محمودين، بل هم إلى الذم أقرب، حيث يقوم بعضهم لبعض، ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام، حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره. حتى ينهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والناس يمس بعضهم بعضا مع الحدث، لا سيما وفي ذلك من تعظيم حرمات الله وشعائره ما ليس في غير ذلك، وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له غير منكر له.
وأما استفتاح الفأل في المصحف، فلم ينقل عن السلف فيه شيء، وقد تنازع فيه المتأخرون. وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعا: ذكر عن ابن بطة أنه فعله، وذكر عن غيره أنه كرهه، فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله ﷺ، فإنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة.
والفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمرا أو يعزم عليه متوكلا على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره: مثل أن يسمع يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك. كما لقي في سفر الهجرة رجلا فقال: (ما اسمك؟) قال: بريدة. قال: (يا أبا بكر، برد أمرنا)
وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمرًا متوكلا على الله، أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة: مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك. فيتطير ويترك الأمر، فهذا منهي عنه. كما في الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله، منا قوم يتطيرون، قال: (ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم). فنهى النبي ﷺ أن تصد الطيرة العبد عما أراد، فهو في كل واحد من محبته للفأل وكراهته للطيرة، إنما يسلك مسلك الاستخارة لله، والتوكل عليه، والعمل بما شرع له من الأس
باب، لم يجعل الفأل آمرًا له، وباعثًا له على الفعل، ولا الطيرة ناهية له عن الفعل، وإنما يأتمر وينتهي عن مثل ذلك أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام، وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام في آيتين من كتابه، وكانوا إذا أرادوا أمرًا من الأمور أحالوا به قداحًا مثل السهام أو الحصي، أو غير ذلك، وقد عَلَّمُوا على هذا علامة الخير، وعلى هذا علامة الشر، وآخر غفل. فإذا خرج هذا فعلوا، وإذا خرج هذا تركوا، وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام.
فهذه الأنواع التي تدخل في ذلك مثل الضرب بالحصي والشعير واللوح والخشب، والورق المكتوب عليه حروف أبجد، أو أبيات من الشعر، أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة فيما يفعله الرجل ويتركه ينهى عنها؛ لأنها من باب الاستقسام بالأزلام، وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبين ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه وينهى عنه.
وهذه الأمور تارة يقصد بها الاستدلال على ما يفعله العبد: هل هو خير أم شر، وتارة الاستدلال على ما يكون فيه نفع في الماضي والمستقبل. وكلا غير مشروع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:
تنازع الناس، أيما أفضل: كثرة الركوع والسجود أو طول القيام. وقد ذكر عن أحمد في ذلك ثلاث روايات:
إحداهن: أن كثرة الركوع والسجود أفضل، وهي التي اختارها طائفة من أصحابه.
والثانية: أنهما سواء.
والثالثة: أن طول القيام أفضل، وهذا يحكي عن الشافعي.
فنقول: هذه المسألة لها صورتان:
إحداهما: أن يطيل القيام، مع تخفيف الركوع والسجود، فيقال: أيما أفضل، هذا أم تكثير الركوع والسجود مع تخفيف القيام؟ ويكون هذا قد عدل بين القيام، وبين الركوع والسجود، فخفف الجميع.
والصورة الثانية: أن يطيل القيام، فيطيل معه الركوع والسجود فيقال: أيما أفضل، هذا أم أن يكثر من الركوع والسجود والقيام. وهذا قد عدل بين القيام والركوع والسجود في النوعين، لكن أيما أفضل، تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا، أم تكثير ذلك مع تخفيفها، فهذه الصورة ذكر أبو محمد وغيره فيها ثلاث روايات، وكلام غيره يقتضي أن النزاع في الصورة الأولى أيضًا.
والصواب في ذلك: أن الصورة الأولى تقليل الصلاة مع كثرة الركوع والسجود، وتخفيف القيام أفضل من تطويل القيام وحده مع تخفيف الركوع والسجود. ومن فضل تطويل القيام احتجوا بالحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ سئل: أي الصلاة أفضل؟ فقال: (طول القنوت). وظنوا أن المراد بطول القنوت طول القيام، وإن كان مع تخفيف الركوع والسجود، وليس كذلك. فإن القنوت هو دوام العبادة والطاعة، ويقال لمن أطال السجود: إنه قانت. قال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } 6، فجعله قانتًا في حال السجود، كما هو قانت في حال القيام، وقدم السجود على القيام.
وفي الآية الأخري قال: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } 7، ولم يقل قنوتًا، فالقيام ذكره بلفظ القيام، لا بلفظ القنوت. وقال تعالى: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 8، فالقائم قد يكون قانتًا، وقد لا يكون، وكذلك الساجد. فالنبي ﷺ بين أن طول القنوت أفضل الصلاة، وهو يتناول القنوت في حال السجود، وحال القيام. وهذا الحديث يدل على الصورة الثانية، وأن تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا أولى من تكثيرها قيامًا وركوعًا وسجودًا؛ لأن طول القنوت يحصل بتطويلها لا بتكثيرها، وأما تفضيل طول القيام مع تخفيف الركوع والسجود على تكثير الركوع والسجود فغلط. فإن جنس السجود أفضل من جنس القيام، من وجوه متعددة:
أحدها: أن السجود بنفسه عبادة، لا يصلح أن يفعل إلا على وجه العبادة لله وحده، والقيام لا يكون عبادة إلا بالنية، فإن الإنسان يقوم في أمور دنياه، ولا ينهى عن ذلك.
الثاني: أن الصلاة المفروضة لابد فيها من السجود، وكذلك كل صلاة فيها ركوع لابد فيها من سجود، لا يسقط السجود فيها بحال من الأحوال، فهو عماد الصلاة، وأما القيام فيسقط في التطوع دائمًا، وفي الصلاة على الراحلة في السفر، وكذلك يسقط القيام في الفرض عن المريض، وكذلك عن المأموم إذا صلى إمامه جالسًا، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
وسواء قيل: إنه عام للأمة، أو مخصوص بالرسول، فقد سقط القيام عن المأموم في بعض الأحوال، والسجود لا يسقط لا عن قائم ولا قاعد، والمريض إذا عجز من إيمائه أتي منه بقدر الممكن، وهو الإيماء برأسه، وهو سجود مثله، ولو عجز عن الإيماء برأسه، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: أنه يومئ بطرفه، فجعلوا إيماءه بطرفه هو ركوعه وسجوده، فلم يسقطوه.
والثاني: أنه تسقط الصلاة في هذه الحال، ولا تصح على هذا الوجه، وهو قول أبي حنيفة، وهذا القول أصح في الدليل؛ لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع عن السجود، ولا القيام عن القعود، بل هو من نوع العبث الذي لم يشرعه الله تعالى.
وأما الإيماء بالرأس، فهو خفضه، وهذا بعض ما أمر به المصلي. وقد قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وهو لا يستطيع من السجود إلا هذا الإيماء، وأما تحريك العين فليس من السجود في شيء.
وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه لابد في الصلاة من السجود، وهذا يقول: الإيماء بطرفه هو سجود، وهذا يقول: ليس بسجود فلا يصلي. فلو كانت الصلاة تصح مع القدرة بلا سجود لأمكن أن يكبر ويقرأ ويتشهد ويسلم، فيأتي بالأقوال دون الأفعال، وما علمت أحدًا قال: إن الصلاة تصح بمجرد الأقوال، بل لابد من السجود. وأما القيام والقراءة، فيسقطان بالعجز باتفاق الأئمة، فَعُلِم أن السجود هو أعظم أركان الصلاة القولية والفعلية.
الوجه الثالث: أن القيام إنما صار عبادة بالقراءة، أو بما فيه من ذكر ودعاء، كالقيام في الجنازة. فأما القيام المجرد، فلم يشرع قط عبادة مع إمكان الذكر فيه بخلاف السجود فإنه مشروع بنفسه عبادة، حتى خارج الصلاة، شرع سجود التلاوة، والشكر، وغير ذلك.
وأما المأموم إذا لم يقرأ، فإنه يستمع قراءة إمامه، واستماعه عبادة، وإن لم يسمع فقد اختلف في وجوب القراءة عليه، والأفضل له أن يقرأ. والذين قالوا: لا قراءة عليه، أو لا تستحب له القراءة، قالوا: قراءة الإمام له قراءة، فإنه تابع للإمام.
فإن قيل: إذا عجز الأمي عن القراءة والذكر، قيل: هذه الصورة نادرة، أو ممتنعة، فإن أحدًا لا يعجز عن ذكر الله، وعليه أن يأتي بالتكبير، وما يقدر عليه من تحميد وتهليل، وعلى القول بتكرار ذلك: هل يكون بقدر الفاتحة؟ فيه وجهان لقول النبي ﷺ: (إذا قمت إلى الصلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع) رواه أبو داود، والترمذي.
قال أحمد: إنه إذا قام إلى الثانية وقد نسي بعض أركان الأولى، إن ذكر قبل الشروع في القراءة مضي، وصارت هذه بدل تلك. فإن المقصود بالقيام هو القراءة؛ ولهذا قالوا: ما كان عبادة بنفسه لم يحتج إلى ركن قولي كالركوع والسجود، وما لم يكن عبادة بنفسه احتاج إلى ركن قولي كالقيام والقعود. وإذا كان السجود عبادة بنفسه علم أنه أفضل من القيام.
الوجه الرابع: أن يقال: القيام يمتاز بقراءة القرآن، فإنه قد نهى عن القراءة في الركوع والسجود، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح، فمن هذا الوجه تميز القيام، وهو حجة من سوي بينهما، فقال: السجود بنفسه أفضل، وذكر القيام أفضل، فصار كل منهما أفضل من وجه، أو تعادلا. لكن يقال قراءة القرآن تسقط في مواضع. وتسقط عن المسبوق القراءة والقيام أيضا كما في حديث أبي بكرة. وفي السنن: (من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة). وهذا قول جماهير العلماء، والنزاع فيه شاذ.
أيضًا، فالأمي تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء، كما في السنن أن رجلا قال: يا? رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزيني منه. فقال: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). فقال: هذا لله، فما لي؟ قال: (تقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني).
وأيضًا، فلو نسي القراءة في الصلاة، قد قيل: تجزيه الصلاة، وروي ذلك عن الشافعي. وقيل: إذا نسيها في الأولى، قرأ في الثانية قراءة الركعتين، وروي هذا عن أحمد. وأما السجود فلا يسقط بحال، فعلم أن السجود أفضل من القراءة، كما أنه أفضل من القيام، والمسبوق في الصلاة يبني على قراءة الإمام الذي استخلفه، كما قد بني النبي ﷺ على قراءة أبي بكر.
الوجه الخامس: أنه قد ثبت في الصحيح: (إن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود). فتأكل القدم، وإن كان موضع القيام.
الوجه السادس: أن الله تعالى قال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } 9. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: (إنه إذا تجلى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون، ومن كان يسجد في الدنيا رياء يصير ظهره مثل الطبق).
فقد أمروا بالسجود في عرصات القيامة، دون غيره من أجزاء الصلاة، فعلم أنه أفضل من غيره.
الوجه السابع: أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن الرسول إذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال: (فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن)، فهو إذا رآه سجد وحمد، وحينئذ يقال له: (أي محمد، ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). فعلم أنه أفضل من غيره.
الوجه الثامن: أن الله تعالى قال: { كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } 10. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وهذا نص في أنه في حال السجود أقرب إلى الله منه في غيره، وهذا صريح في فضيلة السجود على غيره. والحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا الدعاء).
الوجه التاسع: ما رواه مسلم في صحيحه عن مَعْدان بن أبي طلحة قال: لقيت ثوبان مولي رسول الله ﷺ فقلت: أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت.ثم سألته الثانية، فقال: سألت عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته. فقال لي مثلما قال لي ثوبان. فإن كان سأله عن أحب الأعمال فهو صريح في أن السجود أحب إلى الله من غيره، وإن كان سأله عما يدخله الله به الجنة، فقد دله على السجود دون القيام، فدل على أنه أقرب إلى حصول المقصود.
وهذا الحديث يحتج به من يري أن كثرة السجود أفضل من تطويله، لقوله: (فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)، ولا حجة فيه؛ لأن كل سجدة يستحق بها ذلك، لكن السجدة أنواع. فإذا كانت إحدي السجدتين أفضل من الأخري، كان ما يرفع به من الدرجة أعظم، وما يحط به عنه من الخطايا أعظم. كما أن السجدة التي يكون فيها أعظم خشوعًا وحضورًا، هي أفضل من غيرها، فكذلك السجدة الطويلة التي قنت فيها لربه هي أفضل من القصيرة.
الوجه العاشر: ما روي مسلم أيضا عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: (سل)، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: (أو غير ذلك؟) فقلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود). فهذا قد سأل عن مرتبة علية، وإنما طلب منه كثرة السجود. وهذا أدل على أن كثرة السجود أفضل. لكن يقال: المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل، وقد يكثر من سجود قصير، وذاك أفضل.
وأيضًا، فالإكثار من السجود لابد منه، فإذا صلى إحدي عشرة ركعة طويلة، كما كان النبي ﷺ يصلي، فإذا صلى المصلي في مثل زمانهن عشرين ركعة، فقد أكثر السجود، لكن سجود ذاك أفضل وأتم، وهذا أكثر من ذاك، وليس لأحد أن يقول: إنما كان أكثر من قصرها فهو أفضل مما هو كثير أيضا وهو أتم وأطول كصلاة النبي ﷺ.
الوجه الحادي عشر: أن مواضع الساجد تسمي مساجد، كم قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } 11، وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } 12، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } 13، وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } 14، ولا تسمي مقامات إلا بعد فعل السجود فيها. فَعُلِم أن أعظم أفعال الصلاة هو السجود، الذي عبر عن مواضع السجود بأنها مواضع فعله.
الوجه الثاني عشر: أنه تعالى قال: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 15. وهذا وإن تناول سجود التلاوة، فتناوله لسجود الصلاة أعظم، فإن احتياج الإنسان إلى هذا السجود أعظم على كل حال، فقد جعل الخرور إلى السجود، مما لا يحصل الإيمان إلا به، وخصه بالذكر، وهذا مما تميز به. وكذلك أخبر عن أنبيائه أنهم: { إِذَا تُتْلَى عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 16، وقال في تلك الآية: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } 17.
والدعاء في السجود أفضل من غيره، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل قوله في حديث أبي هريرة: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)، ومثل ما روي مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: كشف رسول الله ﷺ الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر. فقال: (أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تري له. ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم). وقد ثبت عن النبي ﷺ الدعاء في السجود في عدة أحاديث. وفي غير حديث، تبين أن ذلك في صلاته بالليل، فعلم أن قوله: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا }، وإن كان يتناول الدعاء في جميع أحوال الصلاة، فالسجود له مزية على غيره، كما لآخر الصلاة مزية على غيرها؛ ولهذا جاء في السنن: (أفضل الدعاء جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات).
فهذه الوجوه وغيرها، مما يبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة، ولو أمكن أن يكون أطول من القيام، لكان ذلك أفضل، لكن هذا يشق مشقة عظيمة، فلهذا خفف السجود عن القيام مع أن السنة تطويله إذا طول القيام، كما كان النبي ﷺ يصلي فروي: أنه كان يخفف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسجود.ولما أطال القيام في صلاة الكسوف، أطال الركوع والسجود.
وكذلك في حديث حذيفة الصحيح: أنه لما قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران، قال: ركع نحوا من قيامه، وسجد نحوًا من ركوعه. وفي حديث البراء الصحيح أنه قال: كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبًا من السواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود.
وثبت في الصحيح عن عائشة: أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية. فهذه الأحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها، أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه، وهو القول الثالث في الصورة الثانية، ومن سوي بينهما قال: إن الأحاديث تعارضت في ذلك، وليس كذلك. فإن قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت)، يتناول التطويل في القيام والسجود، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه، عن عمار عن النبي ﷺ أنه قال: (إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة)، وقال: (من أمَّ الناس فليخفف، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء). وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافي ذلك. ومعلوم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ.
وأيضًا، فإنه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلي عشر ركعات، أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها، فلم يفعل، بل صلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، وجعل في كل ركعة قيامين وركوعين. وعلى هذا، فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذي ليس فيه تطويل الركوع والسجود.
وأما إذا أطال القيام والركوع والسجود، فهذا أفضل من إطالة القيام فقط، وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك. والكلام إنما هو في الوقت الواحد: كثلث الليل، أو نصفه، أو سدسه أو الساعة. هل هذا أفضل من هذا، أو هذا أفضل من هذا.
وفي الصحيحين عن أم هانئ، لما صلى الثماني ركعات يوم الفتح قالت: ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود. وفي رواية لمسلم: ثم قام فركع ثماني ركعات، لا أدري أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده، كل ذلك متقارب، فهذا يبين أنه طول الركوع، والسجود قريبًا من القيام، وأن قولها: لم أره صلى صلاة أخف منها، إخبار منها عما رأته، وأم هانئ لم تكن مباشرة له في جميع الأحوال، ولعلها أرادت منع كثرة الركعات، فإنه لم يصل ثمانيا جميعًا أخف منها، فإن صلاته بالليل كانت أطول من ذلك، وهو بالنهار لم يصل ثمانيا متصلة قط، بل إنما كان يصلي المكتوبة، والظهر كان يصلي بعدها ركعتين، وقبلها أربعًا، أو ركعتين.أو لعله خففها لضيق الوقت، فإنه صلاها بالنهار وهو مشتغل بأمور فتح مكة كما كان يخفف المكتوبة في السفر حتى يقرأ في الفجر بالمعوذتين.وروي أنه قرأ في الفجر بالزلزلة في الركعتين، فهذا التخفيف لعارض.
وقد احتج من فضل التكثير على التطويل بحديث ابن مسعود قال: إني لأعرف السور التي كان رسول الله ﷺ يقرأ بهن من المفصل، كل سورتين في ركعة، يدل على أنه لم يكن يطيل القيام، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه أولا جمع بين سورتين من المفصل. وأيضًا، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها.
وأيضًا، فإن حذيفة روي عنه: أنه قام بالبقرة، والنساء، وآل عمران في ركعة. وابن مسعود ذكر أنه طول حتى هممت بأمر سوء: أن أجلس وأدعه. ومعلوم أن هذا لا يكون بسورتين، فعلم أنه كان يفعله أحيانًا، ولا ريب أنه كان يطيل بعض الركعات أطول من بعض، كما روت عائشة وغيرها. والله أعلم.
فصل قد ذكر الله قيام الليل في عدة آيات
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
قد ذكر الله قيام الليل في عدة آيات. تارة بالمدح، وتارة بالأمر أمر إيجاب، ثم نسخه بأمر الاستح
باب، إذا لم تدخل صلاة العشاء فيه، بل أريد القيام بعد النوم؛ فإنه قد قال سعيد ابن المسيب وغيره: من صلى العشاء في جماعة، فقد أخذ بنصيبه من قيام ليلة القدر. فقد جعل ذلك من القيام.
وقد روي عن عبيدة السلماني: أن قيام الليل واجب لم ينسخ، ولو كحلب شاة. وهذا إذا أريد به ما يتناول صلاة الوتر، فهو قول كثير من العلماء.
والدليل عليه: أن في حديث ابن مسعود لما قال: (أوتروا يا أهل القرآن)، قال أعرابي: ما يقول رسول الله؟ فقال: (إنها ليست لك، ولا لأصحابك). فقد خاطب أهل القرآن من قيام الليل بما لم يخاطب به غيرهم.
وعلى هذا قوله: { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } 18، فسر بقرائته بالليل لئلا ينساه. وقال: (نظرت في سيئات أمتي. فوجدت فيها الرجل يؤتيه الله آية فينام عنها حتى ينساها). وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من صلى العشاء في جماعة. فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله)، أي: الصبح مع العشاء. فهذا يدل على أنهما ليسا من قيام الليل، ولكن فاعلهما كمن قام الليل. قال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } 19، وقال: { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } 20، وهذا على أصح الأقوال معناه: كانوا يهجعون قليلا. ف: قليلا منصوب ب يهجعون وما مؤكدة. وهذا مثل قوله: { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } 21، وقوله: { كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } 22، هو مفسر في سورة المزمل بقوله: { قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عليه وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } 23، فهذا المستثنى من الأمر هو القليل المذكور في تلك السورة، وهو قليل بالنسبة إلى مجموع الليل والنهار، فإنهم إذا هجعوا ثلثه أو نصفه أو ثلثاه، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يهجعوه من الليل والنهار، وسواء ناموا بالنهار أو لم يناموا.
وقد قيل: لم يأت عليهم ليلة إلا قاموا فيها. فالمراد هجوع جميع الليلة، وهذا ضعيف؛ لأن هجوع الليل محرم. فإن صلاة العشاء فرض. وقال تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 24، وفي حديث معاذ الذي قال فيه: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. قال: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، ثم قال: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)، ثم تلي: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }، حتى بلغ: { يَعْمَلُونَ }، ثم قال: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله). ثم قال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلي، قال: فأخذ بلسانه - فقال: (اكفف عليك هذا)، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: (ثكلتك أمك يامعاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
وقال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْباب } 25، وقال تعالى: { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } 26، وقال تعالى بعد قوله: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } 27، وقال في سورة المزمل: { قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عليه وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عليكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } 28.
وإذا نسخ الوجوب بقي الاستحباب، قال أحمد وغيره: والناشئة لا تكون إلا بعد نوم. يقال: نشأ، إذا قام. وقال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } 29، وقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عليكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } 30. فإن هذا يتناول صلاة العشاء، والوتر، وقيام الليل. لقوله: { وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } وقوله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } 31. مطلق لم يخصه بوقت آخر.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليمًا.
سئل عن رجل لم يصل وتر العشاء الآخرة
وسئل عن رجل لم يصل وتر العشاء الآخرة: فهل يجوز له تركه؟
فأجاب:
الحمد الله، الوتر سنة مؤكدة، باتفاق المسلمين. ومن أصر على تركه فإنه ترد شهادته.
وتنازع العلماء في وجوبه، فأوجبه أبو حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد، والجمهور لا يوجبونه: كمالك، والشافعي، وأحمد؛ لأن النبي ﷺ كان يوتر على راحلته، والواجب لا يفعل على الراحلة، لكن هو باتفاق المسلمين سنة مؤكدة لا ينبغي لأحد تركه.
والوتر أوكد من سنة الظهر والمغرب والعشاء، والوتر أفضل من جميع تطوعات النهار، كصلاة الضحي، بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل. وأوكد ذلك الوتر، وركعتا الفجر. والله أعلم.
سئل عما إذا كان الرجل مسافرا وهو يقصر هل عليه الوتر
وسئل عما إذا كان الرجل مسافرًا وهو يقصر: هل عليه أن يصلي الوتر أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
نعم، يوتر في السفر، فقد كان النبي ﷺ يوتر سفرًا وحضرًا، وكان يصلي على دابته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
سئل عمن نام عن صلاة الوتر
وسئل عمن نام عن صلاة الوتر؟
فأجاب:
يصلي ما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح، كما فعل ذلك عبد الله بن عمر، وعائشة، وغيرهما. وقد روي أبو داود في سننه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: (من نام عن وتره أو نسيه، فليصله إذا أصبح، أو ذكر).
واختلفت الرواية عن أحمد: هل يقضي شفعه معه؟ والصحيح أنه يقضي شفعه معه. وقد صح عنه ﷺ أنه قال: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها).وهذا يعم الفرض، وقيام الليل، والوتر، والسنن الراتبة. قالت عائشة: كان رسول الله ﷺ إذا منعه من قيام الليل نوم، أو وجع، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة. رواه مسلم.
وروي عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ أنه قال: (من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه بين صلاة الصبح، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل). رواه مسلم. وهكذا في السنن الراتبة.
وقد صح عن النبي ﷺ: أنه لما نام هو وأصحابه عن صلاة الصبح في السفر، صلى سنة الصبح ركعتين، ثم صلى الصبح بعد طلوع الشمس، ولما فاتته سنة الظهر التي بعدها صلاها بعد العصر. وقالت عائشة: كان رسول الله ﷺ إذا لم يصل أربعًا قبل الظهر، صلاهن بعدها. رواه الترمذي. وروي أبو هريرة عنه أنه قال: (من لم يصل ركعتي الفجر، فليصلهما بعد ما تطلع الشمس). رواه الترمذي، وصححه ابن خزيمة.
وفيه قول آخر: أن الوتر لا يقضي، وهو رواية عن أحمد؛ لما روي عنه أنه قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهبت صلاة الليل والوتر) قالوا: فإن المقصود بالوتر أن يكون آخر عمل الليل، كما أن وتر عمل النهار المغرب؛ ولهذا كان النبي ﷺ إذا فاته عمل الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولو كان الوتر فيهن لكان ثلاث عشرة ركعة. والصحيح أن الوتر يقضي قبل صلاة الصبح فإنه إذا صليت لم يبق في قضائه الفائدة التي شرع لها، والله أعلم.
سئل عن إمام شافعي يصلي بجماعة حنفية وشافعية
وسئل شيخُ الإسلام عن إمام شافعي يصلي بجماعة حنفية وشافعية، وعند الوتر الحنفية وحدهم
فأجاب:
قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (صلاة الليل مثني مثني، فإذا خشيت الصبح فصل واحدة توتر لك ما صليت)، وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يوتر بواحدة مفصولة عما قبلها، وأنه كان يوتر بخمس، وسبع لا يسلم إلا في آخرهن.
والذي عليه جماهير أهل العلم، أن ذلك كله جائز، وأن الوتر بثلاث بسلام واحد جائز - أيضا - كما جاءت به السنة.
ولكن هذه الأحاديث لم تبلغ جميع الفقهاء، فكره بعضهم الوتر بثلاث متصلة كصلاة المغرب، كما نقل عن مالك، وبعض الشافعية والحنبلية. وكره بعضهم الوتر بغير ذلك، كما نقل عن أبي حنيفة، وكره بعضهم الوتر بخمس، وسبع، وتسع متصلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي، وأحمد، ومالك.
والصواب أن الإمام إذا فعل شيئًا مما جاءت به السنة، وأوتر على وجه من الوجوه المذكورة، يتبعه المأموم في ذلك. والله أعلم.
سئل عن صلاة ركعتين بعد الوتر
وسئل عن صلاة ركعتين بعد الوتر.
فأجاب:
وأما صلاة الركعتين بعد الوتر، فهذه روي فيها مسلم في صحيحه إلى النبي ﷺ: أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين، وهو جالس. وروي ذلك من حديث أم سلمة في بعض الطرق الصحيحة: أنه كان يفعل ذلك إذا أوتر بتسع فإنه كان يوتر بإحدي عشرة، ثم كان يوتر بتسع، ويصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس. وأكثر الفقهاء ما سمعوا بهذا الحديث؛ ولهذا ينكرون هذه، وأحمد وغيره سمعوا هذا وعرفوا صحته.
ورخص أحمد أن تصلي هاتين الركعتين وهو جالس، كما فعل ﷺ، فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، لكن ليست واجبة بالاتفاق، ولا يذم من تركها، ولا تسمى زحافة فليس لأحد إلزام الناس بها، ولا الإنكار على من فعلها.
ولكن الذي ينكر ما يفعله طائفة من سجدتين مجردتين بعد الوتر، فإن هذا يفعله طائفة من المنسوبين إلى العلم والعبادة من أصحاب الشافعي وأحمد، ومستندهم: أنه ﷺ كان يصلي بعد الوتر سجدتين. رواه أبو موسي المديني، وغيره. فظنوا أن المراد: سجدتان مجردتان، وغلطوا. فإن معناه: أنه كان يصلي ركعتين. كما جاء مبينًا في الأحاديث الصحيحة، فإن السجدة يراد بها الركعة، كقول ابن عمر: حفظت من رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر... الحديث. والمراد بذلك: ركعتان، كما جاء مفسرًا في الطرق الصحيحة. وكذلك قوله: (من أدرك سجدة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الفجر)، أراد به ركعة. كما جاء ذلك مفسرًا في الرواية المشهورة.
وظن بعض أن المراد بها سجدة مجردة، وهو غلط. فإن تعليق الإدارك بسجدة مجردة، لم يقل به أحد من العلماء، بل لهم فيما تدرك به الجمعة والجماعة ثلاثة أقوال:
أصحها: أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا الجماعة إلا بإدراك ركعة، لا يكون مدركًا للجماعة بتكبيرة. وقد استفاض عن الصحابة أن من أدرك من الجمعة أقل من ركعة صلى أربعًا. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة). وعلى هذا، إذا أدرك المسافر خلف المقيم ركعة، فهل يتم، أو يقصر؟ فيها قولان.
والمقصود هنا أن لفظ السجدة المراد به الركعة. فإن الصلاة يعبر عنها
بابعاضها، فتسمي قيامًا، وقعودًا، وركوعًا، وسجودًا، وتسبيحًا، وقرآنا.
وأنكر من هذا ما يفعله بعض الناس من أنه يسجد بعد السلام سجدة مفردة، فإن هذه بدعة، ولم ينقل عن أحد من الأئمة استحباب ذلك. والعبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإن الإسلام مبني على أصلين: ألا نعبد إلا الله وحده، وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله ﷺ، لا نعبده بالأهوء والبدع.
فصل فيمن لم يواظب على صلاة الزحافة
وأما الصلاة الزحافة وقولهم: من لم يواظب عليها فليس من أهل السنة ومرادهم الركعتان بعد الوتر جالسا فقد أجمع المسلمون على أن هذه ليست واجبة، وإن تركها طول عمره، وإن لم يفعلها ولا مرة واحدة في عمره. لا يكون بذلك من أهل البدع، ولا ممن يستحق الذم والعقاب، ولا يهجر ولا يوسم بميسم مذموم أصلا، بل لو ترك الرجل ما هو أثبت منها كتطويل قيام الليل، كما كان النبي ﷺ يطوله، وكقيام إحدي عشرة ركعة. كما كان النبي ﷺ يفعل ذلك، ونحو ذلك. لم يكن بذلك خارجا عن السنة، ولا مبتدعا ولا مستحقا للذم، مع اتفاق المسلمين على أن قيام الليل إحدي عشرة ركعة طويلة. كما كان النبي ﷺ يفعل أفضل، من أن يدع ذلك ويصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس.
فإن الذي ثبت في صحيح مسلم عن عائشة: أن النبي ﷺ كان يصلي من الليل إحدي عشرة ركعة وهو جالس ثم صار يصلي تسعا، يجلس عقيب الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا عقيب التاسعة، ثم يصلي بعدها ركعتين وهو جالس، ثم صار يوتر بسبع، وبخمس، فإذا أوتر بخمس لم يجلس إلا عقيب الخامسة، ثم يصلي بعدها ركعتين وهو جالس. وإذا أوتر بسبع، فقد روي أنه لم يكن يجلس إلا عقيب السابعة، وروي: أنه كان يجلس عقيب السادسة والسابعة، ثم يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس. وهذا الحديث الصحيح دليل على أنه لم يكن يداوم عليها، فكيف يقال: إن من لم يداوم عليها فليس من أهل السنة.
والعلماء متنازعون فيها: هل تشرع أم لا؟ فقال كثير من العلماء: إنها لا تشرع بحال، لقوله ﷺ: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا). ومن هؤلاء من تأول الركعتين اللتين روي أنه كان يصليهما بعد الوتر على ركعتي الفجر. لكن الأحاديث صحيحة صريحة بأنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس، غير ركعتي الفجر. وروي في بعض الألفاظ: أنه كان يصلي سجدتين بعد الوتر، فظن بعض الشيوخ أن المراد سجدتان مجردتان، فكانوا يسجدون بعد الوتر سجدتين مجردتين، وهذه بدعة لم يستحبها أحد من علماء المسلمين، بل ولا فعلها أحد من السلف. وإنما غرهم لفظ السجدتين، والمراد بالسجدتين الركعتان، كما قال ابن عمر: حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين قبل الفجر أي: ركعتين.
ولعل بعض الناس يقول: هاتان الركعتان اللتان كان النبي ﷺ يصليهما بعد الوتر جالسا، نسبتها إلى وتر الليل: نسبة ركعتي المغرب إلى وتر النهار، فإن النبي ﷺ قال: (المغرب وتر النهار. فأوتروا صلاة الليل). رواه أحمد في المسند.
فإذا كانت المغرب وتر النهار، فقد كان النبي ﷺ يصلي بعد المغرب ركعتين، ولم يخرج المغرب بذلك عن أن يكون وترا؛ لأن تلك الركعتين هما تكميل الفرض وجبر لما يحصل منه من سهو ونقص، كما جاءت السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها) حتى قال: (إلا عشرها)، فشرعت السنن جبرا لنقص الفرائض. فالركعتان بعد المغرب لما كانتا جبرا للفرض، لم يخرجها عن كونها وترا، كما لو سجد سجدتي السهو، فكذلك وتر الليل جبره النبي ﷺ بركعتين بعده. ولهذا كان يجبره إذا أوتر بتسع أو سبع أو خمس لنقص عدده عن إحدي عشرة. فهنا نقص العدد، نقص ظاهر.
وإن كان يصليهما إذا أوتر بإحدي عشرة كان هناك جبرا لصفة الصلاة، وإن كان يصليهما جالسا؛ لأن وتر الليل دون وتر النهار فينقص عنه في الصفة، وهي مرتبة بين سجدتي السهو، وبين الركعتين الكاملتين، فيكون الجبر على ثلاث درجات، جبر للسهو سجدتان، لكن ذاك نقص في قدر الصلاة ظاهر، فهو واجب متصل بالصلاة. وأما الركعتان المستقلتان، فهما جبر لمعناها الباطل، فلهذا كانت صلاته تامة. كما في السنن: (إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن أكملها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع)، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك. والله أعلم.
سئل عن قنوت رسول الله ﷺ
وسئل رَحمه الله تعالى عن قنوت رسول الله ﷺ هل كان في العشاء الآخرة أو الصبح؟ وما توفي رسول الله ﷺ والعمل عليه عند الصحابة؟
فأجاب:
أما القنوت في صلاة الصبح، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقنت في النوازل. قنت مرة شهرا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه، ثم تركه. وقنت مرة أخرى يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه.
وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت، فما كان يداوم عليه، وما يدعه بالكلية، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: إن المداومة عليه سنة.
وقيل: القنوت منسوخ. وأنه كله بدعة.
والقول الثالث: وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه، كما قنت رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون. وأما القنوت في الوتر، فهو جائز وليس بلازم، فمن أصحابه من لم يقنت، ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان، ومنهم من قنت السنة كلها.
والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك، ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي، وأحمد في رواية، ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة، والإمام أحمد في رواية، والجميع جائز.
فمن فعل شيئا من ذلك، فلا لوم عليه. والله أعلم.
فصل في القنوت
وقال شيخ الإِسلاَم رَحِمه ُالله:
وأما القنوت، فالناس فيه طرفان، ووسط:
منهم من لا يري القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده. وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس. فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده، فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك: أولها ثناء، وآخرها دعاء.
وأيضا، فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال: بعد اتفاقهم على أن النبي ﷺ قنت في الفجر.
منهم من قال: إنه منسوخ، فإنه قنت ثم ترك. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
ومن قال: المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار، فلم تبلغه ألفاظ الحديث، أو بلغته فلم يتأملها، فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت: هل كان قبل الركوع أو بعده؟ فقال: قبل الركوع. قال: فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع. قال: كذب، إنما قنت رسول الله ﷺ قبل الركوع. أراه بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد، وقنت ﷺ شهرا يدعو عليهم. وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس، عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله ﷺ يقنت حتى فارق الدنيا، جاء لفظه مفسرا: أنه: ما زال يقنت قبل الركوع. والمراد هنا بالقنوت طول القيام، لا الدعاء. كذلك جاء مفسرا، ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال: قلت لأنس: قنت رسول الله ﷺ في صلاة الصبح؟ قال: نعم، بعد الركوع يسيرا، فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع، فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة، سمي كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا. كما قال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } 32؛ ولهذا لما سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت الراتب قال: ما سمعنا ولا رأينا، وهذا قول.
ومنهم من قال: بل القنوت سنة راتبة، حيث قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قنت، وروي عنه: أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا. وهذا قول الشافعي، ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات، لما صح عن النبي ﷺ أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة، والظهر. لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف. فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي ﷺ للحسن بن على وهو: اللهم، اهدني فيمن هديت... إلى آخره.
وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا: قد ثبت أن النبي ﷺ قنت للنوازل التي نزلت به من العدو، في قتل أصحابه، أو حبسهم ونحو ذلك. فإنه قنت مستنصرا، كما استسقي حين الجدب، فاستنصاره عند الحاجة، كاسترزاقه عند الحاجة؛ إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس. كما قال تعالى: { الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } 33، وكما قال النبي ﷺ: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم)، وكما قال في صفة الأبدال: (بهم ترزقون، وبهم تنصرون)، وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك، وبين أنهما بيده سبحانه في قوله: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } 34، ثم ترك القنوت. وجاء مفسرا أنه تركه لزوال ذلك السبب.
وكذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت، وكذلك على رضي الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم.
قالوا: وليس الترك نسخا، فإن الناسخ لابد أن ينافي المنسوخ، وإذا فعل الرسول ﷺ أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها، لم يكن ذلك نسخا، بل لو تركه تركا مطلقا، لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك، لا على النهي عن الفعل.
قالوا: ونعلم مطلقا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا، فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم. ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع، ولا أنه قنت دائما يدعو قبله، وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب. فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم: أن حي على خير العمل، لم يكن من الأذان الراتب، وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة. فهذا القول أوسط الأقوال، وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ، لكنه مشروع للحاجة النازلة، لا سنة راتبة.
وهذا أصل آخر في الواجبات، والمستحبات. كالأصل الذي تقدم في ما يسقط بالعذر، فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض، بحيث لا يبقي لا واجبا ولا مستحبا، كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات.
وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب لأسباب العارضة، ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا، فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة، وسواء في ذلك ثبوت الوجوب، أو الاستحباب، أو سقوطه.
وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا، أو تجعل الراتب لا يتغير بحال، ومن اهتدي للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة، انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا.
سئل هل قنوت الصبح دائما سنة
هل قنوت الصبح دائما سنة؟ ومن يقول: إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود، وما يجبر إلا الناقص. والحديث (ما زال رسول الله ﷺ يقنت حتى فارق الحياة): فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح؟ وهل هو هذا القنوت؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وإن قنت لنازلة: فهل يتعين قوله، أو يدعو بما شاء؟
فأجاب:
الحمد للَّه رب العالمين، قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه قنت شهرا يدعو على رَعْل وذَكْوان وعصية، ثم تركه. وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة.
وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية، وفتح خيبر، يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة. ويقول في قنوته: (اللهم، انج الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم، اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف). وكان يقنت يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار، وكان قنوته في الفجر.
وثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب والعشاء، وفي الظهر، وفي السنن أنه قنت في العصر أيضا?. فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه منسوخ، فلا يشرع بحال، بناء على أن النبي ﷺ قنت، ثم ترك، والترك نسخ للفعل، كما أنه لما كان يقوم للجنازة، ثم قعد. جعل القعود ناسخا للقيام، وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره.
والثاني: أن القنوت مشروع دائما، وأن المداومة عليه سنة، وأن ذلك يكون في الفجر.
ثم من هؤلاء من يقول: السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سرا، وألا يقنت بسوي: اللهم، إنا نستعينك... إلى آخرها، واللهم، إياك نعبد، إلى آخرها، كما يقول: مالك.
ومنهم من يقول: السنة أن يكون بعد الركوع جهرا. ويستحب أن يقنت بدعاء الحسن بن على الذي رواه عن النبي ﷺ قي قنوته: (اللهم اهدني فيمن هديت...) إلى آخره. وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: { حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 35، ويقولون: الوسطى: هي الفجر، والقنوت فيها. وكلتا المقدمتين ضعيفة:
أما الأولى: فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي ﷺ أن الصلاة الوسطي هي العصر، وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة. ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم. وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة، فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم.
وأما الثانية: فالقنوت هو المداومة على الطاعة، وهذا يكون في القيام، والسجود. كما قال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ } 36. ولو أريد به إدامة القيام كما قيل في قوله: { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي } 37، فحمل ذلك على إطالته القيام للدعاء، دون غيره، لا يجوز؛ لأن الله أمر بالقيام له قانتين، والأمر يقتضي الوجوب، وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالإجماع؛ ولأن القائم في حال قراءته هو قانت للَّه أيضا ولأنه قد ثبت في الصحيح: أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام. فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به.
ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام؛ ولأن قوله: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 38، لا يختص بالصلاة الوسطي. سواء كانت الفجر أو العصر؛ بل هو معطوف على قوله: { حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 39، فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة، والمحافظة تتناول الجميع، فالقيام يتناول الجميع.
واحتجوا أيضا بما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في صحيحه، عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس: أن النبي ﷺ ما زال يقنت حتى فارق الدنيا قالوا: وقوله في الحديث الآخر: ثم تركه، أراد ترك الدعاء على تلك القبائل، لم يترك نفس القنوت.
وهذا بمجرده لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة، وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي. وكثيرا ما يصحح الموضوعات، فإنه معروف بالتسامح في ذلك، ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده، فقال: ما قنت رسول الله ﷺ بعد الركوع إلا شهرا ?، فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا، فبطل ذلك التأويل.
والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع، سواء كان هناك دعاء زائد، أو لم يكن. فحينئذ، فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء، وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس، محتجين بأن النبي ﷺ قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض، وهذا قول شاذ.
والقول الثالث: أن النبي ﷺ قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به، فيكون القنوت مسنونا عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
فإن عمر رضي الله عنه لما حارب النصاري قنت عليهم القنوت المشهور: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب... إلى آخره. وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان، وليس هذا القنوت سنة راتبة، لا في رمضان ولا غيره، بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة، كما أن النبي ﷺ لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده. فسنة رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين تدل على شيئين:
أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه، ليس بسنة دائمة في الصلاة.
الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي ﷺ أولا، وثانيا. وكما دعا عمر. وعلى رضي الله عنهم لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده، والذي يبين هذا أنه لو كان النبي ﷺ يقنت دائما، ويدعو بدعاء راتب، لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم، فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه، وليس بسنة راتبة، كدعائه على الذين قتلوا أصحابه، ودعائه للمستضعفين من أصحابه، ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم.
فكيف يكون النبي ﷺ يقنت دائما في الفجر أو غيرها، ويدعو بدعاء راتب، ولم ينقل هذا عن النبي ﷺ لا في خبر صحيح، ولا ضعيف؟! بل أصحاب النبي ﷺ الذين هم أعلم الناس بسنته، وأرغب الناس في اتباعها، كابن عمر وغيره، أنكروا، حتى قال ابن عمر: ما رأينا ولا سمعنا. وفي رواية: أرأيتكم قيامكم هذا: تدَّعون. ما رأينا ولا سمعنا. أفيقول مسلم: إن النبي ﷺ كان يقنت دائما؟! وابن عمر يقول: ما رأينا، ولا سمعنا. وكذلك غير ابن عمر من الصحابة، عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة.
ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب، علم علما يقينا قطعيا أن النبي ﷺ لم يكن يقنت دائما في شيءٍ من الصلوات، كما يعلم علما يقينيا أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب، فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاهلين له في الفجر سنة راتبة. ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قنت في هذه الصلوات؛ لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به، والسبب الذي قنت له، وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود، نقلوا ذلك في قنوت الفجر، وفي قنوت العشاء أيضا.
والذي يوضح ذلك، أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائما بقنوت الحسن بن على، أو بسورتي أُبي، ليس معهم إلا دعاء عارض، والقنوت فيها إذا كان مشروعا، كان مشروعا للإمام والمأموم والمنفرد، بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن، أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء، لكان حاله شبيها بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر؛ إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض، ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا، كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء. وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر؛ لأن القنوت فيها كان أكثر، وهي أطول. والقنوت يتبع الصلاة، وبلغهم أنه داوم عليه، فظنوا أن السنة المداومة عليه، ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه. فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر، مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر.
وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة: فكثيرا ما يفعل النبي ﷺ لسبب، فيجعله بعض الناس سنة، ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة. وبعض الناس يري أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات، فيراه بدعة، ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصا أو منسوخا، إن كان قد بلغه ذلك، مثل صلاة التطوع في جماعة. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح: أنه صلى بالليل وخلفه ابن عباس مرة، وحذيفة بن اليمان مرة، وكذلك غيرهما. وكذلك صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة، وصلى بأنس ابن مالك وأمه واليتيم في داره، فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من صلاة الألفية ليلة نصف شعبان، والرغائب، ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات.
ومن الناس من يكره التطوع؛ لأنه رأي أن الجماعة إنما سنت في الخمس، كما أن الأذان إنما سن في الخمس. ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة، فلا يكره أن يتطوع في جماعة. كما فعل النبي ﷺ. ولا يجعل ذلك سنة راتبة. كمن يقيم للمسجد إمامًا راتبا يصلي بالناس بين العشائين، أو في جوف الليل، كما يصلي بهم الصلوات الخمس، كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذانا كأذان الخمس؛ ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك.
ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث. فرأي كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر. واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة؛ بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم.
وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: أن النبي ﷺ لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، واضطرب قوم في هذا الأصل، لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين، وعمل المسلمين.
والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي ﷺ لم يوقت فيها عددا. وحينئذ، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره.
فإن النبي ﷺ كان يطيل القيام بالليل، حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة، والنساء، وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات. وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة لم يمكن أن يطيل بهم القيام. فكثر الركعات ليكون ذلك عوضا عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته، فإنه كان يقوم بالليل إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعا وثلاثين.
ومما يناسب هذا أن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس بمكة، فرضها ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر، وزيد في صلاة الحضر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما هاجر إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وجعلت صلاة المغرب ثلاثا؛ لأنها وتر النهار، وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها، فأغني ذلك عن تكثير الركعات.
وقد تنازع العلماء: أيما أفضل: إطالة القيام أم تكثير الركوع والسجود أم هما سواء؟ على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن أحمد.
وقد ثبت عنه في الصحيح أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. وثبت عنه أنه قال: (إنك لن تسجد للَّه سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة). وقال لربيعة بن كعب: (أعني على نفسك بكثرة السجود).
ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام، ولكن ذكر القيام أفضل، وهو القراءة، وتحقيق الأمر أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة. فإذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود، كما كان النبي ﷺ يصلي بالليل، كما رواه حذيفة وغيره. وهكذا كانت صلاته الفريضة، وصلاة الكسوف، وغيرهما: كانت صلاته معتدلة، فإن فضل مفضل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات، فهذان متقاربان. وقد يكون هذا أفضل في حال، كما أنه لما صلى الضحي يوم الفتح صلى ثماني ركعات يخففهن، ولم يقتصر على ركعتين طويلتين. وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام.
وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل، وأن الدعاء في القنوت ليس شيئا معينا، ولا يدعو بما خطر له، بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت، كما إنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود، فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود، كما لو دعا خارج الصلاة لذلك السبب؛ فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود، فهذا هو الذي جاءت به سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين.
ومن قال: إنه من أبعاض الصلاة التي يجبر بسجود السهو، فإنه بني ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه، بمنزلة التشهد الأول، ونحوه. وقد تبين أن الأمر ليس كذلك، فليس بسنة راتبة، ولا يسجد له، لكن من اعتقد ذلك متأولا في ذلك له تأويله، كسائر موارد الاجتهاد.
ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فإذا قَنَتَ قَنَتَ معه، وإن ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي ﷺ قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). وقال: (لا تختلفوا على أئمتكم)، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يُصَلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم). ألا تري أن الإمام لو قرأ في الأخيرتين بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين: لوجبت متابعته في ذلك. أما مسابقة الإمام، فإنها لا تجوز.
فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه، فلابد من متابعته، ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمني، ثم إنه صلى خلفه أربعا، فقيل له: في ذلك؟! فقال: الخلاف شر. وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمي، فأخبره، ثم قال: افعل كما يفعل إمامك. والله أعلم.
سئل عن قوله لا يحل لرجل يؤم قوما فيخص نفسه
وسئل رَحمه الله عن قوله ﷺ: (لا يحل لرجل يؤم قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم). فهل يستحب للإمام أنه كلما دعا الله عز وجل أن يشرك المأمومين؟ وهل صح عن النبي ﷺ أنه كان يخص نفسه بدعائه في صلاته دونهم؟ فكيف الجمع بين هذين؟
فأجاب:
الحمد للَّه رب العالمين. قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال للنبي ﷺ: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة. ما تقول؟ قال: (أقول: اللهم، باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم، نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم، اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، فهذا حديث صحيح صريح في أنه دعا لنفسه خاصة، وكان إماما. وكذلك حديث على في الاستفتاح الذي أوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، فيه: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وكذلك ثبت في الصحيح أنه كان يقول بعد رفع رأسه من الركوع بعد قوله: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت)، (اللهم، طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم، نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس). وجميع هذه الأحاديث المأثورة في دعائه بعد التشهد من فعله، ومن أمره، لم ينقل فيها إلا لفظ الإفراد. كقوله: (اللهم، إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). وكذا دعاؤه بين السجدتين، وهو في السنن من حديث حذيفة، ومن حديث ابن عباس، وكلاهما كان النبي ﷺ فيه إماما، أحدهما بحذيفة، والآخر
بابن عباس. وحديث حذيفة: (رب، اغفر لي، رب، اغفر لي)، وحديث ابن عباس فيه: (اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني)، ونحو هذا. فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن تدل على أن الإمام يدعو في هذه الأمكنة بصيغة الإفراد. وكذلك اتفق العلماء على مثل ذلك. حيث يرون أنه يشرع مثل هذه الأدعية.
وإذا عرف ذلك تبين أن الحديث المذكور إن صح فالمراد به الدعاء الذي يُؤمِّن عليه المأموم كدعاء القنوت فإن المأموم إذا أَمَّن كان داعيا، قال الله تعالى لموسى وهرون: { قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا } 40، وكان أحدهما يدعو، والآخر يؤمن. وإذا كان المأموم مؤمنا على دعاء الإمام، فيدعو بصيغة الجمع، كما في دعاء الفاتحة في قوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } 41، فإن المأموم إنما أمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما جميعا، فإن لم يفعل، فقد خان الإمام المأموم.
فأما المواضع التي يدعو فيها كل إنسان لنفسه كالاستفتاح، وما بعد التشهد، ونحو ذلك فكما أن المأموم يدعو لنفسه، فالإمام يدعو لنفسه. كما يسبح المأموم في الركوع والسجود، إذا سبح الإمام في الركوع والسجود، وكما يتشهد إذا تشهد، ويكبر إذا كبر، فإن لم يفعل المأموم ذلك فهو المفرط.
وهذا الحديث لو كان صحيحا صريحا معارضا للأحاديث المستفيضة المتواترة، ولعمل الأمة، والأئمة، لم يلتفت إليه، فكيف وليس من الصحيح، ولكن قد قيل: إنه حسن، ولو كان فيه دلالة لكان عاما، وتلك خاصة، والخاص يقضي على العام. ثم لفظه (فيخص نفسه بدعوة دونهم)، يراد بمثل هذا إذا لم يحصل لهم دعاء، وهذا لا يكون مع تأمينهم. وأما مع كونهم مؤمِّنين على الدعاء كلما دعا، فيحصل لهم كما حصل له بفعلهم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع: (اللهم، إنا نستعينك، ونستهديك) إلى آخره. ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع، ويتبع السنة على وجهها. والله أعلم.
سئل عمن يصلي التراويح بعد المغرب هل هو سنة أم بدعة
وسئل رحمه الله عمن يصلي التراويح بعد المغرب: هل هو سنة أم بدعة؟ وذكروا أن الإمام الشافعي صلاها بعد المغرب، وتممها بعد العشاء الآخرة؟
فأجاب:
الحمد للَّه رب العالمين. السنة في التراويح أن تصلي بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة. والنقل المذكور عن الشافعي رضي الله عنه باطل، فما كان الأئمة يصلونها إلا بعد العشاء على عهد النبي ﷺ، وعهد خلفائه الراشدين، وعلى ذلك أئمة المسلمين، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء، فإن هذه تسمي قيام رمضان، كما قال النبي ﷺ: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه، غفر له ما تقدم من ذنبه). وقيام الليل في رمضان وغيره، إنما يكون بعد العشاء. وقد جاء مصرحا به في السنن: أنه لما صلى بهم قيام رمضان صلى بعد العشاء.
وكان النبي ﷺ قيامه بالليل هو وتره، يصلي بالليل في رمضان وغير رمضان إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يصليها طوالا. فلما كان ذلك يشق على الناس، قام بهم أبي بن كعب في زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة، يوتر بعدها، ويخفف فيها القيام، فكان تضعيف العدد عوضا عن طول القيام. وكان بعض السلف يقوم أربعين ركعة فيكون قيامها أخف، ويوتر بعدها بثلاث. وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها، وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخرة.
ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح. فإذا صلوها قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح، كما أنهم إذا توضؤوا يغسلون أرجلهم أول الوضوء، ويمسحونها في آخره. فمن صلاها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة. والله أعلم.
سئل عمن يقرأ سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة
وسئل عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة هل هي بدعة أم لا؟
فأجاب:
نعم بدعة. فإنه لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك، وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره، من أن سورة الأنعام نزلت جملة. مشيعة بسبعين ألف ملك، فقرؤوها جملة لأنها نزلت جملة. وهذا استدلال ضعيف وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور. منها: أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا. والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي ﷺ. ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله، وهو خلاف السنة، فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها. والله أعلم.
سئل عمن يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة
وسئل عن قوم يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة، ثم في آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة، ويسمون ذلك صلاة القدر، وقد امتنع بعض الأئمة من فعلها. فهل الصواب مع من يفعلها أو مع من يتركها؟ وهل هي مستحبة عند أحد من الأئمة أو مكروهة؟ وهل ينبغي فعلها والأمر بها، أو تركها والنهي عنها؟
فأجاب:
الحمد للَّه، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها، والذي تركها. فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله ﷺ ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين، والذي ينبغي: أن تترك وينهى عنها.
وأما قراءة القرآن في التراويح، فمستحب باتفاق أئمة المسلمين، بل من أجل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها ليسمع المسلمون كلام الله. فإن شهر رمضان فيه نزل القرآن، وفيه كان جبريل يدارس النبي ﷺ القرآن، وكان النبي ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن.
سئل عن سنة العصر هل ورد عن النبي ﷺ فيها حديث
وسئل عن سنة العصر: هل ورد عن النبي ﷺ فيها حديث؟ والخلاف الذي فيها ما الصحيح منه؟
فأجاب:
الحمد للَّه، أما الذي صح عن النبي ﷺ فحديث ابن عمر: حفظت عن رسول الله ﷺ عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. وفي الصحيح أيضا عن النبي ﷺ أنه قال: (من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعا، بني الله له بيتا في الجنة)، وجاء في السنن تفسيره: (أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر).
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة. ففي هذا الحديث أنه يصلي قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء. وقد صح أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين والنبي ﷺ يراهم فلا ينهاهم، ولم يكن يفعل ذلك. فمثل هذه الصلوات حسنة ليست سنة، فإن النبي ﷺ كره أن تتخذ سنة.
ولم يكن النبي ﷺ يصلي قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء، فلا تتخذ سنة، ولا يكره أن يصلي فيها؛ بخلاف ما فعله ورغب فيه، فإن ذلك أوكد من هذا. وقد روي: أنه كان يصلي قبل العصر أربعا?، وهو ضعيف. وروي: أنه كان يصلي ركعتين. والمراد به الركعتان قبل الظهر. والله أعلم.
سئل هل للعصر سنة راتبة أم لا
وسئل: هل للعصر سنة راتبة أم لا؟ أفتونا مأجورين؟
فأجاب:
الحمد للَّه، الذي ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يصلي مع المكتوبات عشر ركعات أو اثنتي عشرة ركعة؛ ركعتين قبل الظهر أو أربعا وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين. وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بني الله له بيتا في الجنة)، ورويت في السنن: (أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر). وليس في الصحيح سوي هذه الأحاديث الثلاثة: حديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة. وأما قبل العصر، فلم يقل أحد أن النبي ﷺ كان يصلي قبل العصر إلا وفيه ضعف، بل خطأ كحديث يروي عن على أنه كان يصلي نحو ستة عشر ركعة، منها قبل العصر، وهو مطعون فيه فإن الذين اعتنوا بنقل تطوعاته كعائشة وابن عمر بينوا ما كان يصليه، وكذلك الصلاة قبل المغرب وقبل العشاء لم يكن يصليها لكن كان أصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة، وهو يراهم فلا ينكر ذلك عليهم. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كلا أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة فهذا يبين أن الصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء حسنة وليست بسنة، فمن أحب أن يصلي قبل العصر كما يصلي قبل المغرب والعشاء على هذا الوجه، فحسن. وأما أن يعتقد أن ذلك سنة راتبة كان يصليها النبي ﷺ كما يصلي قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب، فهذا خطأ. والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات:
إحداها: سنة الفجر والوتر: فهاتان أمر بهما النبي ﷺ ولم يأمر بغيرهما وهما سنة باتفاق الأئمة، وكان النبي ﷺ يصليهما في السفر والحضر ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما.
والثانية: ما كان يصليه مع المكتوبة في الحضر وهو عشر ركعات وثلاث عشرة ركعة وقد أثبت أبو حنيفة والشافعي وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك.
والثالثة: التطوع الجائز في هذا الوقت من غير أن يجعل سنة لكون النبي ﷺ لم يداوم عليه ولا قدر فيه عددا، والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا ال
باب وقريبا من ذلك صلاة الضحي، والله أعلم.
سئل هل سنة العصر مستحبة
وسئل: هل سنة العصر مستحبة؟
فأجاب:
لم يكن النبي ﷺ يصلي قبل العصر شيئا وإنما كان يصلي قبل الظهر: إما ركعتين، وإما أربعا، وبعدها. وكان يصلي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين.
وأما قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء، فلم يكن يصلي؛ لكن ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة) ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة، فمن شاء أن يصلي تطوعا قبل العصر، فهو حسن. لكن لا يتخذ ذلك سنة، والله أعلم.
سئل هل تقضى السنن الرواتب
وسئل رحمه الله: هل تقضى السنن الرواتب؟
فأجاب:
أما إذا فاتت السنة الراتبة مثل سنة الظهر فهل تقضي بعد العصر؟ على قولين هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: لا تقضي، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك.
والثاني: تقضي، وهو قول الشافعي، وهو أقوي. والله أعلم.
سئل عمن لا يواظب على السنن الرواتب
فأجاب:
من أصر على تركها، دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما.
سئل عن صلاة المسافر هل لها سنة
وسئل رحمه الله: عن صلاة المسافر: هل لها سنة؟ فإن الله جعل الرباعية ركعتين رحمة منه على عباده، فما حجة من يدعي السنة؟ وقد أنكر عمر على من سبح بعد الفريضة. فهل في بعض المذاهب تأكد السنة في السفر كأبي حنيفة؟ وهل نقل هذا عن أبي حنيفة أم لا؟
فأجاب:
أما الذي ثبت عن النبي ﷺ: أنه كان يصلي في السفر من التطوع، فهو ركعتا الفجر، حتى إنه لما نام عنها هو وأصحابه في منصرفه من خيبر، قضاهما مع الفريضة هو وأصحابه، وكذلك قيام الليل، والوتر. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح: أنه كان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
وأما الصلاة قبل الظهر وبعدها، فلم ينقل عنه أنه فعل ذلك في السفر، ولم يصل معها شيئا، وكذلك كان يصلي بمني ركعتين، ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى معها شيئا.
وابن عمر كان أعلم الناس بالسنة، وأتبعهم لها، وأما العلماء فقد تنازعوا في استح
باب ذلك. والله أعلم.
سئل عن الصلاة بعد أذان المغرب وقبل الصلاة
وسئل: عن الصلاة بعد أذان المغرب، وقبل الصلاة؟
فأجاب:
كان بلال كما أمره النبي ﷺ يفصل بين أذانه وإقامته، حتى يتسع لركعتين، فكان من الصحابة من يصلي بين الأذانين ركعتين، والنبي ﷺ يراهم ويقرهم، وقال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ مخافة أن تتخذ سنة.
فإذا كان المؤذن يفرق بين الأذانين مقدار ذلك، فهذه الصلاة حسنة، وأما إن كان يصل الأذان بالإقامة، فالاشتغال بإجابة المؤذن هو السنة، فإن النبي ﷺ قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول).
ولا ينبغي لأحد أن يدع إجابة المؤذن، ويصلي هاتين الركعتين، فإن السنة لمن سمع المؤذن أن يقول: مثل ما يقول، ثم يصلي على النبي ﷺ، ويقول: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة...) إلى آخره، ثم يدعو بعد ذلك.
سئل عن امرأة لها ورد بالليل تصليه فتعجز عن القيام في بعض الأوقات
وسئل: عن امرأة لها وِرْدٌ بالليل تصليه، فتعجز عن القيام في بعض الأوقات. فقيل لها: إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فهل هو صحيح؟
فأجاب:
نعم. صحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم). لكن إذا كان عادته أنه يصلي قائما، وإنما قعد لعجزه، فإن الله يعطيه أجر القائم. لقوله ﷺ: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم)، فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله؛ لأجل نيته وفعله بما قدر عليه، فكيف إذا عجز عن أفعالها؟!
سئل عن معنى قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا
وسئل عن معنى قول النبي ﷺ: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا).
فأجاب:
وأما لفظ الحديث: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم)، وإذا لم تذكروا الله فيها كنتم كالميت، وكانت كالقبور؛ فإن في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت)، وفي لفظ: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت).
سئل عن صلاة نصف شعبان
فأجاب:
إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده، أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف، فهو أحسن. وأما الاجتماع في المساجد على صلاة مقدرة. كالاجتماع على مائة ركعة، بقراءة ألف { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } 42، دائما، فهذا بدعة، لم يستحبها أحد من الأئمة. والله أعلم.
صلاة الرغائب
وَقَالَ شيخ الإسلام:
وأما صلاة الرغائب، فلا أصل لها، بل هي محدثة. فلا تستحب لا جماعة، ولا فرادي. فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ نهي أن تخص ليلة الجمعة بقيام، أو يوم الجمعة بصيام. والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء. ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلا. وأما ليلة النصف، فقد روي في فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها،
فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا. وأما الصلاة فيها جماعة، فهذا مبني على قاعدة عامة في الاجتماع على الطاعات والعبادات. فإنه نوعان أحدهما سنة راتبة إما واجب وإما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين.وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح، فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة.
والثاني: ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن، أو ذكر الله أو دعاء. فهذا لا بأس به إذا لم يُتَّخذ عادة راتبة. فإن النبي ﷺ صلى التطوع في جماعة أحيانا ولم يداوم عليه إلا ما ذكر. وكان أصحابه إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون. وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسي: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. وقد روي أن النبي ﷺ خرج على أهل الصفة ومنهم واحد يقرأ فجلس معهم. وقد روي: في الملائكة السيارين الذين يتبعون مجالس الذكر الحديث المعروف. فلو أن قوما اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوع من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره. لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع. ولو ساغ ذلك، لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحي أو بين الظهر والعصر أو تراويح في شعبان أو أذان في العيدين، أو حج إلى الصخرة ببيت المقدس، وهذا تغيير لدين الله وتبديل له. وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها. والبدع المكروهة ما لم تكن مستحبة في الشريعة وهي أن يشرع ما لم يأذن به الله فمن جعل شيئا دينا وقربة بلا شرع من الله، فهو مبتدع ضال وهو الذي عناه النبي ﷺ بقوله: (كل بدعة ضلالة). فالبدعة ضد الشرعة، والشرعة ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، وإن لم يفعل على عهده كالاجتماع في التراويح على إمام واحد وجمع القرآن في المصحف. وقتل أهل الردة والخوارج ونحو ذلك. وما لم يشرعه الله ورسوله، فهو بدعة وضلالة: مثل تخصيص مكان أو زمان باجتماع على عبادة فيه كما خص الشارع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد. وكما خص مكة بشرفها والمساجد الثلاثة وسائر المساجد بما شرعه فيها من الصلوات وأنواع العبادات كل بحسبه؛ وبهذا التفسير يظهر الجمع بين أدلة الشرع من النصوص والإجماعات، فإن المراد بالبدعة ضد الشرعة وهو ما لم يشرع في الدين، فمتى ثبت بنص أو إجماع في فعل أنه مما يحبه الله ورسوله، خرج بذلك عن أن يكون بدعة، وقد قررت ذلك مبسوطا في قاعدة كبيرة من القواعد الكبار.
وَقَالَ رحمَه الله:
صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين، لم يسنها رسول الله ﷺ، ولا أحد من خلفائه، ولا استحبها أحد من أئمة الدين كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث وغيرهم. والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث، وكذلك الصلاة التي تذكر أول ليلة جمعة من رجب، وفي ليلة المعراج، وألفية نصف شعبان، والصلاة يوم الأحد، والإثنين وغير هذا من أيام الأسبوع، وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في الرقائق، فلا نزاع بين أهل المعرفة بالحديث أن أحاديثه كلها موضوعة، ولم يستحبها أحد من أئمة الدين. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي? ﷺ أنه قال: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام، ولا يوم الجمعة بصيام).
والأحاديث التي تذكر في صيام يوم الجمعة، وليلة العيدين، كذب على النبي ﷺ. والله أعلم.
سئل عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا
فأجاب:
هذه الصلاة لم يصلها رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله ﷺ، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها. والحديث المروي في ذلك عن النبي ﷺ كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك؛ ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم.
فصل في سجود القرآن
وَقَال شيخ الإِسلام:
فصل في سجود القرآن وهو نوعان: خبر عن أهل السجود، ومدح لهم، أو أمر به، وذم على تركه.
فالأول سجدة الأعراف: { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } 43، وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر.
وفي الرعد: { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } 44، وفي النحل: { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } 45، وفي سبحان: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 46، وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
وكذلك في مريم: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 47، فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن، وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلي عليهم القرآن يسجدون.
وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة، وكقوله: { وَادْخُلُواْ الْباب سُجَّدا وَقُولُواْ حِطَّةٌ } 48، وإن كان المراد به الركوع. فالسجود هو خضوع له وذل له؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر:
ترى الأُكُم فيها سجدا للحوافر
قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا:
ساجد المنخر ما يرفعه ** خاشع الطرف أصم المسمع
قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا.
وفي سورة الحج الأولى خبر: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } 49، والثانية: أمر مقرون بالركوع؛ ولهذا صار فيها نزاع.
وسجدة الفرقان: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } 50، خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد، ليس هو مدحا. وكذلك سجدة النمل: { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } 51، خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله، ولم يسجد للَّه. ومن قرأ ألا يا اسجدوا، كانت أمرا.
وفي ألم تنزيل السجدة: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 52، وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفي الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها.
وفي ص: خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعا.، و"حم تنزيل" أمر صريح: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } 53، والنجم أمر صريح: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } 54، والانشقاق أمر صريح عند سماع القرآن: { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } 55، و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 56، أمر مطلق: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } 57. فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح. والتسع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد، إلا ص، فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة. قيل: يجب. وقيل: لا يجب. وقيل: يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة، وهو رواية عن أحمد، والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب؛ لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة، كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 58، فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا إذا ذكر بها، وإذا كان سامعا لها، فقد ذكر بها.
وكذلك سورة الانشقاق: { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } 59، وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } 60، { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } 61، { فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } 62، وكذلك سورة النجم قوله: { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } 63، أمرا بالغا عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود، لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة، فمن ظن هذا أو هذا، فقد غلط، بل هو متناول لهما جميعا، كما بينه الرسول صلى الله عيله وسلم.
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه. فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة، سواء تليت مع سائر القرآن، أو وحدها، ليس هو سجودا عند تلاوة مطلق القرآن، فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود، فالأمر يتناوله. وهو أيضا متناول لسجود القرآن أيضا وهو أبلغ؛فإنه سبحانه وتعالى قال: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 64، فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا، وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر.
ومعلوم أن قوله: { بِآيَاتِنَا } ليس يعني بها آيات السجود فقط، بل جميع القرآن. فلا بد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدا، وهذا حال المصلي، فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام، والإمام يذكر بقراءة نفسه، فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجدا، وهو سجودهم في الصلاة، وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود، والسجود مثني كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيام وهو السجدة الأولى. وخرور من قعود، وهو السجدة الثانية. وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل، والطمأنينة فيها، كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجدا لا يكون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف، أو كان إلى القعود أقرب، لم يكن هذا خرورا.
ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض، كيف ما كان. وليس كذلك، بل هو مأمور به كما قال: { إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا } 65، ولم يقل: سجدوا. فالخرور مأمور به، كما ذكره في هذه الآية، ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة. يدل على ذلك قوله تعالى: { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 66، فمدح هؤلاء، وأثني عليهم بخرورهم للأذقان، أي على الأذقان سجدا. والثاني بخرورهم للأذقان: أي عليها يبكون.
فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، يحبها الله. وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض، كما تلصق الجبهة، والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع، والسجود منتهاه. فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه، لكنه يخر على ذقنه، والذقن آخر حد الوجه، وهو أسفل شيء منه، وأقربه إلى الأرض. فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعا للَّه. ومن حينئذ، قد شرع في السجود. فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود، فالخرور على الذقن أول السجود، وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود، وقد روي عن ابن عباس: { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } أي: للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
وقال ابن الأنباري: أول ما يلقي الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال: { لِلأَذْقَانِ }، ويجوز أن يكون المعني يخرون للوجوه، فاكتفي بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس.
قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن، فليس الذقن من أعضاء السجود، بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي ﷺ: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين، والركبتين، والقدمين)، ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته، والجمع بينهما متعذر، أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ، يمنع إلصاقهما معا بالأرض في حال واحدة، فالساجد يخر على ذقنه، ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } 67، فهذا خرور البكاء، قد يكون معه سجود، وقد لا يكون.
فالأول كقوله: { إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 68، فهذا خرور وسجود وبكاء.
والثاني: كقوله: { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ }، فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره، وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة أيضا لما فيه من الخرور للَّه، والبكاء له. وكلاهما عبادة للَّه، فإن بكاء الباكي للَّه، كالذي يبكي من خشية الله. من أفضل العبادات. وقد روي: (عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله)، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين).
فذكر ﷺ هؤلاء السبعة، إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها، وقد صنف مصنف في نعتهم سماه: اللمعة في أوصاف السبعة. فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة، والشاب الناشئ في عبادة الله: كمل ما يجب من عبادة الله، والذي قلبه معلق بالمساجد: كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس؛ لقوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } 69، والعفيف: كمل الخوف من الله، والمتصدق: كمل الصدقة، والباكي: كمل الإخلاص.
وأما قوله عن داود عليه السلام: { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } 70، لا ريب أنه سجد. كما ثبت بالسنة، وإجماع المسلمين أنه سجد لله، والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعا، وهذا أول السجود، وهو خروره. فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعا، ليبين أن هذا عبادة مقصودة، وإن كان هذا الخرور كان ليسجد. كما أثني على النبيين بأنهم كانوا: { إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 71، { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } أنهم: { إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا }، { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } 72، وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر. فإن المتكبر يكره أن يخر، ويحب ألا يزال منتصبا مرتفعا، إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع، وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب، وغير العرب. فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله، لئلا يخر وينحني.
فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس، وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله. وهو قد خلق رفيعا منتصبا، فإذا خفضه، لاسيما بالسجود، كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا للَّه، فمن سجد لغيره، فهو مشرك، ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته، وكلاهما كافر من أهل النار. قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } 73، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } 74، وقال في قصة بلقيس: { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } 75. والشمس أعظم ما يري في عالم الشهادة وأعمه نفعا، وتأثيرا. فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب، والأشجار، وغير ذلك.
وقوله: { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ }، دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق، وإن عظم قدره، بل لمن خلقه. وهذا لمن يقصد عبادته وحده. كما قال: { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }، لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات، قال تعالى: { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } 76، فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال: الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم، بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة، بخلاف الآدميين، فوصفهم هنا بالتسبيح له، ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } 77. وهم يُصَفُّون له صفوفا كما قالوا: { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } 78.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ألا تَصُفون كما تَصْف الملائكة عند ربها؟)، قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف).
فصل آياته توجب فهمها والعمل بما فيها
فآياته سبحانه توجب شيئين:
أحدهما: فهمها وتدبرها، ليعلم ما تضمنته.
والثاني: عبادته، والخضوع له إذا سمعت، فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا، فلو سمعها السامع ولم يفهمها، كان مذموما. ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموما، بل لابد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها. كما أنه لابد لكل أحد من استماعها، فالمعرض عن استماعها كافر، والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر. والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر. وهو سبحانه يذم الكفار بهذا، وهذا كقوله: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } 79، وقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } 80، وقوله: { كِتَابٌ فصلتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } 81، ونظائره كثيرة.
وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها: { وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } 82، فذمهم على أنهم لا يفهمون، ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم. وقال تعالى: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ } 83، وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عليها صُمًّا وَعُمْيَانًا } 84.
قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها، فكأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها. وقال غيره من أهل اللغة: لم يبقوا على حالهم الأولى، كأنهم لم يسمعوا، ولم يروا، وإن لم يكونوا خروا حقيقة. تقول العرب: شتمت فلانا فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يتعذر، وظل يفتخر، وإن لم يكن قام، ولا قعد.
قلت: في ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره، حكمة. فإنهم لو خروا وكانوا صما وعميانا، لم يكن ذلك ممدوحا، بل معيبا. فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور. فلابد من شيئين: من الخرور، والسجود. ولابد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدي والبيان، وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة، في القيام، ثم الركوع، والسجود.
فأول ما أنزل الله من القرآن: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 85، فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، فقال: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } 86، فقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } 87، يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح، وأنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجدا، ويسبح بحمد ربه، فليس بمؤمن، وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود، وهي جمهور آيات القرآن، ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية، وأما آيات السجدة، فبضع عشرة آية.
وقوله: { ذُكِّرُوا بِهَا }، يتناول جميع الآيات، فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود، وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود. وعلى هذا، تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح في السجود، فقد عصي الله ورسوله، وإذا أتي بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه.
وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال. قيل: لا يجب ذكر بحال، وقيل: يجب ويتعين قوله: { سبحان ربي الأعلى }، لا يجزئ غيره. وقيل: يجب جنس التسبيح، وإن كان هذا النوع أفضل من غيره؛ لأنه أمر به أن يجعل في السجود. وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح أنواع أخر. وقوله: (اجعلوها في سجودكم)، فيه كلام ليس هذا موضعه، إذ قد يقال المسبح لربه: بأي اسم سبحه، فقد سبح اسم ربه الأعلى. كما أنه بأي اسم دعاه فقد دعا ربه الذي له الأسماء الحسني. كما قال: { قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي } 88، وقال: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا } 89.
فإذا كان يدعي بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم دعاه، فقد دعا الذي له الأسماء الحسني، وهو يسبح بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم سبح فقد سبح الذي له الأسماء الحسني، ولكن قد يكون بعض الأسماء أفضل من بعض. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن الأمر بالسجود تابع لقراءة القرآن كله، كما في الآية. وفي قوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } 90، فهذا يتناول جميع القرآن، وأنه من قرئ عليه القرآن فهو مأمور بالسجود، والمصلي قد قرئ عليه القرآن، وذلك سبب للأمر بالسجود، فلهذا يسمع القرآن ويسجد الإمام والمنفرد يسمع قراءة نفسه وهو يقرأ على نفسه القرآن. وقد يقال: لا يصلون، لكن قوله: { خَرُّوا سُجَّدًا } 91، صريح في السجود المعروف؛ لاقترانه بلفظ الخرور. وأما هذه الآية ففيها نزاع، قال أبو الفرج: { وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ }، فيه قولان:
أحدهما: لا يصلون، قاله عطاء، وابن السائب.
والثاني: لا يخضعون له، ولا يستكينون له، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى. قال: واحتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك. وإنما المعني لا يخشعون، ألا تري أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه.
قلت: القول الأول هو الذي يذكره كثير من المفسرين، لا يذكرون غيره كالثعلبي، والبغوي وحكوه عن مقاتل، والكلبي وهو المنقول عن مفسري السلف، وعليه عامة العلماء.
وأما القول الثاني: فما علمت أحدا نقله عن أحد من السلف. والذين قالوه إنما قالوه لما رأوا أنه لا يجب على كل من سمع شيئا من القرآن أن يسجد، فأرادوا أن يفسروا الآية بمعني يجب في كل حال. فقالوا: يخضعون، ويستكينون. فإن هذا يؤمر به كل من قرئ عليه القرآن.
ولفظ السجود يراد به مطلق الخضوع، والاستكانة. كما قد بسط هذا في مواضع، لكن يقال لهم: الخضوع مأمور به، وخضوع الإنسان وخشوعه، لا يتم إلا بالسجود المعروف، وهو فرض في الجملة على كل أحد، وهو المراد من السجود المضاف إلى بني آدم: حيث ذكر في القرآن: إذ هو خضوع الآدمي للرب، والرب لا يرضي من الناس بدون هذا الخضوع؛ إذ هو غاية خضوع العبد، ولكل مخلوق خضوع بحسبه، هو سجوده.
وأما إن يكون سجود الإنسان لا يراد به إلا خضوع ليس فيه سجود الوجه، فهذا لا يعرف، بل يقال: هم مأمورون: إذا قرئ عليهم القرآن بالسجود، وإن لم يكن السجود التام عقب استماع القرآن، فإنه لابد أن يكون بين صلاتين، فإذا قاموا إلى الصلاة، فقد أتوا بالسجود الواجب عليهم، وهم لما قرئ عليهم حصل لهم نوع من الخضوع والخشوع باعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال. فإذا اعتقدوا وجوب الصلاة وعزموا على الامتثال، فهذا مبدأ السجود المأمور به، ثم إذا صلوا، فهذا تمامه. كما قال في المشركين: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } 92، فهم إذا تابوا والتزموا الصلاة كف عن قتالهم. فهذا مبدأ إقامتها، ثم إذا فعلوها فقد أتموا إقامتها. وأما إذا التزموها بالكلام ولم يفعلوا فإنهم يقاتلون.
ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ: أنه سجد بها في الصلاة. ففي الصحيحين عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة. فقرأ: { إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } 93، فسجد فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم، ولا أزال أسجد بها حتى ألقاه، وهذا الحديث قد اتفق العلماء على صحته.
وأما سجوده فيها، فرواه مسلم دون البخاري. والسجود فيها قول جمهور العلماء كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وهو قول ابن وهب، وغيره من أصحاب مالك، فكيف يقال: إن لفظ السجود فيها لم يرد به إلا مطلق الخضوع والاستكانة، وأما السجود المعروف فلم يدل عليه اللفظ؟ ولو كان هذا صحيحا، لم يكن السجود الخاص مشروعا إذا تليت، لاسيما في الصلاة، وبهذا يظهر جواب من أجاب من احتج بها على وجوب سجود التلاوة، بأن المراد الخضوع.
فإن قيل: فإذا فسر السجود بالصلاة، كما قاله الأكثرون، لم يجب سجود التلاوة. قيل: الصلاة مرادة من جنس قراءة القرآن. كما تقدم. وهذه الآية توجب على من قرئ عليه القرآن أن يسجد، فإن قرئ عليه خارج الصلاة، فعليه أن يسجد قريبا، إذا حضر وقت الصلاة، فإنه ما من ساعة يقرأ عليه فيها القرآن، إلا هو وقت صلاة مفروضة، فعليه أن يصليها؛ إذ بينه وبين وقت الصلاة المفروضة أقل من نصف يوم، فإذا لم يصل، فهو ممن إذا قرئ عليه القرآن لا يسجد فإن قرئ عليه القرآن في الصلاة فعليه أن يسجد سجدة يخر فيها من قيام، وسجدة يخر فيها من قعود، وكل منهما بعد ركوع، كما بينه الرسول ﷺ.
وأما السجود عند تلاوة هذه الآية، فهو السجود الخاص، وهو سجود التلاوة، وهذا سجود مبادر إليه عند سماع هذه الآية، فإنها أمرته أن يسجد إذا قرئ عليه القرآن، فمن تمام المبادرة أن يسجد عند سماعها سجود التلاوة. ثم يسجد عند تلاوة غيرها كما تقدم، فإن هذه الآية تأمر بالسجود إذا قرئ عليه هي أو غيرها، فهي الآمرة بالسجود عند قراءة القرآن، دون سائر الآيات التي لا يسجد عندها، فكان لها حض من الأمر بالسجود مع عموم كونها من القرآن، فتخص بالسجود لها، ويسجد في الصلاة إذا قرئت كما يسجد إذا قرئ غيرها.
وبهذا فسرها النبي ﷺ. فإنه سجد بها في الصلاة وفعله إذا خرج امتثالا لأمر، أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكمه، فدل ذلك على وجوب السجود الذي سجده عند قراءة هذه السورة، لا سيما وهو في الصلاة. والصلاة مفروضة، وإتمامها مفروض، فلا تقطع إلا بعمل هو أفضل من إتمامها، فعلم أن سجود التلاوة فيها أفضل من إتمامها بلا سجود، ولو زاد في الصلاة فعلا من جنسها عمدا بطلت صلاته. وهنا سجود التلاوة مشروع فيها.
وعن أحمد في وجوب هذا السجود في الصلاة روايتان، والأظهر الوجوب، كما قدمناه لوجوه متعددة:
منها: أن نفس الأئمة يؤمرون أن يصلوا كما صلى النبي ﷺ، وهو هكذا صلى. والله أعلم.
وقوله: { لَا يَسْجُدُونَ } 94، ولم يقل لا يصلون، يدل على أن السجود مقصود لنفسه، وأنه يتناول السجود في الصلاة وخارج الصلاة، فيتناول أيضا الخضوع والخشوع، كما مثل. فالقرآن موجب لمسمي السجود الشامل لجميع أنواعه، فما من سجود إلا والقرآن موجب له، ومن لم يسجد إذا قرئ عليه مطلقا فهو كافر، ولكن لا يجب كل سجود في كل وقت، بل هو بحسب ما بينه رسول الله ﷺ، ولكن الآية دلت على تكرار السجود عند تكرار قراءة القرآن عليه، وهذا واجب إذا قرئ عليه القرآن في الصلاة وخارج الصلاة، كما تقدم. والله أعلم.
وأما الأمر المطلق بالسجود، فلا ريب أنه يتناول الصلوات الخمس. فإنها فرض بالاتفاق، ويتناول سجود القرآن؛ لأن النبي ﷺ سن السجود في هذه المواضع. فلابد أن يكون ما تلي سببا له، وإلا كان أجنبيا. والمذكور إنما هو الأمر، فدل على أن هذا السجود من السجود المأمور به، وإلا فكيف يخرج السجود المقرون بالأمر عن الأمر، وهذا كسجود الملائكة لآدم لما أمروا.
وهكذا جاء في الحديث الصحيح: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي. يقول: يا ويله. أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار!). رواه مسلم. والنبي ﷺ ذكر هذا ترغيبا في هذا السجود، فدل على أن هذا السجود مأمور به، كما كان السجود لآدم؛ لأن كلاهما أمر، وقد سن السجود عقبه، فمن سجد كان متشبها بالملائكة، ومن أبي، تشبه
بابليس، بل هذا سجود للَّه، فهو أعظم من السجود لآدم.
وهذا الحديث كاف في الدلالة على الوجوب، وكذلك الآيات التي فيها الأمر المقيد، والأمر المطلق أيضا.
وأيضا، فإن النبي ﷺ لما قرأ: والنجم، سجد وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس. كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس. وفي الصحيح عن ابن مسعود: أنهم سجدوا إلا رجلا من المشركين أخذ كفا من حصا، وقال: يكفيني هذا. قال: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بهذا السجود، وأن تاركه كان مذموما، وليس هو سجود الصلاة، بل كان خضوعا للَّه، وفيهم كفار، وفيهم من لم يكن متوضيا، لكن سجود الخضوع إذا تلي كلامه.
كما أثنى على من إذا سمعه سجد، فقال: { إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 95، وقال: { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 96، وهذا وإن قيل: إنه متناول سجود الصلاة، فإنهم إذا سمعوا القرآن ركعوا وسجدوا، فلا ريب أنه متناول سجود القرآن بطريق الأولى؛ لأن هناك السجود بعض الصلاة، وهنا ذكر سجودا مجردا على الأذقان، فما بقي يمكن حمله على الركوع؛ لأن الركوع لا يكون على الأذقان.
وقوله: { لِلأَذْقَانِ } أي: على الأذقان. كما قال: { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } 97 أي: على الجبين. وقوله: { لِلأَذْقَانِ }، يدل على تمام السجود، وأنهم سجدوا على الأنف مع الجبهة حتى التصقت الأذقان بالأرض، ليسوا كمن سجد على الجبهة فقط، والساجد على الأنف قد لا يلصق الذقن بالأرض، إلا إذا زاد انخفاضه.
وأما احتجاج من لم يوجبه بكون النبي ﷺ لم يسجد لما قرأ عليه زيد النجم، وبقول عمر: لما قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى جاء السجدة. قال: يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وفي لفظ: فلما كان في الجمعة الثانية تشرفوا فقال: إنا نمر بالسجدة ولم تكتب علينا، ولكن قد تشوفتم، ثم نزل فسجد.
فيقال: تلك قضية معينة، ولعله لما لم يسجد زيد لم يسجد هو، كما قال ابن مسعود: أنت إمامنا، فإن سجدت سجدنا. وقال عثمان: إنما السجدة على من جلس إليها، واستمع. وهذا يدل على أنها تجب على المستمع، ولا تجب على السامع، وكذلك حديث ابن مسعود يدل على أنها لا تجب إذا لم يسجد القارئ.
وقد يقال: كان للنبي ﷺ عذر عند من يقول: إن السجود فيها مشروع. فمن الناس من يقول: يمكن أنه لم يكن على طهارة، ولكن قد يرجح جواز السجود على غير طهارة.
وقد قيل: إن السجود في النجم وحدها منسوخ، بخلاف اقرأ والانشقاق، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سجد فيهما، وسجد معه أبو هريرة، وهو أسلم بعد خيبر. وهذا يبطل قول من يقول لم يسجد في الم
فصل بعد الهجرة، وأما سورة النجم.
بل حديث زيد صريح في أنه لم يسجد فيها، قال هؤلاء: فيكون النسخ فيها خاصة، لا في غيرها، لما كان الشيطان قد ألقاه حين ظن من ظن أنه وافقهم، ترك السجود فيها بالكلية سدا لهذه الذريعة. وهي في الصلاة تأتي في آخر القيام، وسجدة الصلاة تغني عنها، فهذا القول أقرب من غيره. والله أعلم.
وأما حديث عمر: فلو كان صريحا لكان قوله وإقرار من حضر، وليسوا كل المسلمين. وقول عثمان وغيره يدل على الوجوب. ثم يقال: قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب علينا السجود في هذه الحال، وهو إذا قرأها الإمام على المنبر. يبين ذلك أن السجود في هذه الحال ليس كالسجود المطلق؛ لأنه يقطع فيه الإمام الخطبة، ويعمل عملا كثيرا. والسنة في الخطبة الموالاة، فلما تعارض هذا وهذا صار السجود غير واجب؛ لأن القارئ يشتغل بعبادة أفضل منه، وهو خطبة الناس وإن سجد جاز.
ولهذا يقول مالك وغيره: إن هذا السجود لا يستحب، قال: وليس العمل عندنا على أن يسجد الإمام إذا قرأ على المنبر، كما أنه لم يستحب السجود في الصلاة لا السر ولا الجهر. وأحمد في إحدي الروايتين، وأبو حنيفة وغيرهما يقولون: لا يستحب في صلاة السر، مع أن أبا حنيفة يوجب السجود، وأحمد في إحدي الروايتين يوجبه في الصلاة، ثم لم يستحبوه في هذه الحال، بل اتصال الصلاة عندهم أفضل، فكذلك قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب في مثل هذه الحال، كما يقول من يقول، لا يستحب -أيضا- في هذه الحال.
وهذا كما أن الدعاء بعرفة لما كانت سنته الاتصال لم يقطع بصلاة العصر، بل صليت قبله، فكذلك الخاطب يوم الجمعة مقصوده خطابهم وأمرهم ونهيهم، ثم الصلاة عقب ذلك، فلا يجب أن يشتغلوا عن هذا المقصود، مع أن عقبه يحصل السجود.
وهذا يدل على أن سجود التلاوة يسقط لما هو أفضل منه. ألا تري أن الإنسان لو قرأ لنفسه يوم الجمعة، قد يقال: إنه لم يستحب له أن يسجد دون الناس، كما لا يشرع للمأموم أن يسجد لسهوه؟ لأن متابعة الإمام أولى من السجود، وهو مع البعد. وإن قلنا يستحب له أن يقرأ، فهو كما يستحب للمأموم أن يقرأ خلف إمامه. ولو قرأ بالسجدة، لم يسجد بها دون الإمام. وما أعلم في هذا نزاعا. فهنا محافظته على متابعة الإمام في الفعل الظاهر أفضل من سجود التلاوة، ومن سجود السهو، بل هو منهي عن ذلك، ويوم الجمعة إنما سجد الناس لما سجد عمر، ولو لم يسجد لم يسجدوا حينئذ. فإذا كان حديث عمر قد يراد به أنه لم يكتب علينا في هذه الحال، لم يبق فيه حجة، ولو كان مرفوعا.
وأيضا، فسجود القرآن هو من شعائر الإسلام الظاهرة، إذا قرئ القرآن في الجامع سجد الناس كلهم للَّه رب العالمين، وفي ترك ذلك إخلال بذلك؛ ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، كقول أبي حنيفة وغيره، وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد.
وقول من قال: لا تجب، في غاية البعد، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير، وقول من قال: هي فرض على الكفاية، لا ينضبط، فإنه لو حضرها في المصر العظيم أربعون رجلا لم يحصل المقصود، وإنما يحصل بحضور المسلمين كلهم، كما في الجمعة.
وأما الأضحية، فالأظهر وجوبها -أيضا- فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة. في قوله: { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 98، وقد قال تعالى: { فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } 99، فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة. وقد قال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } 100، وقال: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } 101. وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته، وبها يذكر قصة الذبيح، فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج، في بعض السنين.
وقد قالوا: إن الحج كل عام فرض على الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام، والضحايا في عيد النحر كذلك، بل هذه تفعل في كل بلد هي والصلاة، فيظهر بها عبادة الله وذكره، والذبح له، والنسك له، ما لا يظهر بالحج، كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد. وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها. وقد خرج وجوبها قولا في مذهب أحمد، وهو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب مالك.
ونفاة الوجوب ليس معهم نص، فإن عمدتهم قوله ﷺ: (من أراد أن يضحي ودخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره). قالوا: والواجب لا يعلق بالإرادة. وهذا كلام مجمل، فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد. فيقال: إن شئت فافعله، بل قد يعلق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام. كقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ } 102، وقد قدروا فيه: إذا أردتم القيام، وقدروا: إذا أردت القراءة فاستعذ، والطهارة واجبة، والقراءة في الصلاة واجبة. وقد قال: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } 103، ومشيئة الاستقامة واجبة.
وأيضا، فليس كل أحد يجب عليه أن يضحي، وإنما تجب على القادر، فهو الذي يريد أن يضحي. كما قال: (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد تضل الضالة، وتعرض الحاجة). والحج فرض على المستطيع. فقوله: (من أراد أن يضحي)، كقوله: (من أراد الحج فليتعجل) ووجوبها حينئذ مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية. كصدقة الفطر.
ويجوز أن يضحي بالشاة عن أهل البيت صاحب المنزل ونسائه وأولاده، ومن معهم كما كان الصحابة يفعلون. وما نقل عن بعض الصحابة من أنه لم يضح، بل اشتري لحما، فقد تكون مسألة نزاع. كما تنازعوا في وجوب العمرة، وقد يكون من لم يضح لم يكن له سعة في ذلك العام، وأراد بذلك توبيخ أهل المباهاة الذين يفعلونها لغير الله، أو أن يكون قصد بتركها ذلك العام توبيخهم، فقد ترك الواجب لمصلحة راجحة. كما قال ﷺ: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال، معهم حزم حطب إلى قوم لايشهدون الصلاة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار، لولا ما في البيوت من النساء والذرية). فكان يدع الجمعة والجماعة الواجبة؛ لأجل عقوبة المتخلفين، فإن هذا من
باب الجهاد الذي قد يضيق وقته، فهو مقدم على الجمعة والجماعة.
ولو أن ولي الأمر كالمحتسب وغيره تخلف بعض الأيام عن الجمعة لينظر من لا يصليها فيعاقبه، جاز ذلك. وكان هذا من الأعذار المبيحة لترك الجمعة. فإن عقوبة أولئك واجب متعين لا يمكن إلا بهذا الطريق، والنبي ﷺ قد بين أنه لولا النساء والصبيان، لحرق البيوت على من فيها، لكن فيها من لا تجب عليهم جمعة ولا جماعة من النساء والصبيان، فلا تجوز عقوبته. كما لا ترجم الحامل حتى تضع حملها؛ لأن قتل الجنين لا يجوز. كما في حديث الغامدية.
فصل سجود القرآن لا يشرع فيه تحريم ولا تحليل
وسجود القرآن لا يشرع فيه تحريم ولا تحليل: هذا هو السنة المعروفة عن النبي ﷺ، وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين. وعلى هذا، فليست صلاة، فلا تشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة. كما كان ابن عمر يسجد على غير طهارة، لكن هي بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر.
فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به؛ لكن قد يقال: إنه لا يجب في هذه الحال، كما لا يجب على السامع، ولا على من لم يسجد قارئه، وإن كان ذلك السجود جائزا عند جمهور العلماء.
وكما يجب على المؤتم في الصلاة تبعا لإمامه بالاتفاق، وإن قالوا: لا يجب في غير هذه الحال، وقد حمل بعضهم حديث زيد على أن النبي ﷺ لم يكن متطهرا، وكما لا تجب الجمعة على المريض، والمسافر، والعبد، وإن جاز له فعلها، لاسيما وأكثر العلماء لا يجوزون فعلها إلا مع الطهارة، ولكن الراجح أنه يجوز فعلها للحديث. والمروي فيها عن النبي ﷺ تكبيرة واحدة، فإنه لا ينتقل من عبادة إلى عبادة. وعلى هذا ترجم البخاري فقال: باب سجدة المسلمين مع المشركين، والمشرك نجس ليس له وضوء. قال: وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، وذكر سجود النبي ﷺ بالنجم لما سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون. وهذا الحديث في الصحيحين من وجهين: من حديث ابن مسعود، وحديث ابن عباس. وهذا فعلوه تبعا للنبي ﷺ لما قرأ قوله: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } 104.
ومعلوم أن جنس العبادة لا تشترط له الطهارة، بل إنما تشترط للصلاة. فكذلك جنس السجود يشترط لبعضه، وهو السجود الذي للَّه كسجود الصلاة، وسجدتي السهو، بخلاف سجود التلاوة، وسجود الشكر، وسجود الآيات.
ومما يدل على ذلك: أن الله أخبر عن سجود السحرة لما آمنوا بموسي على وجه الرضا بذلك السجود، ولا ريب أنهم لم يكونوا متوضئين، ولا يعرفون الوضوء. فعلم أن السجود المجرد للَّه مما يحبه الله ويرضاه، وإن لم يكن صاحبه متوضئا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا سجود إيمان، ونظيره الذين اسلموا فاعتصموا بالسجود، ولم يقبل ذلك منهم خالد فقتلهم، فأرسل النبي ﷺ عليا فوداهم بنصف دية، ولم ينكر عليهم ذلك السجود، ولم يكونوا بعد قد أسلموا، ولا عرفوا الوضوء، بل سجدوا للَّه سجود الإسلام، كما سجد السحرة.
ومما يدل على ذلك، أن الله أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الباب سجدا، ويقولوا: حطة. ومعلوم أنه لم يأمرهم بوضوء، ولا كان الوضوء مشروعا لهم، بل هو من خصائص أمة محمد، وسواء أريد السجود بالأرض، أو الركوع، فإنه إن أريد الركوع فهو عبادة مفردة يتضمن الخضوع للَّه، وهو من جنس السجود. لكن شرعنا شرع فيه سجود مفرد، وأما ركوع مفرد ففيه نزاع، جوزه بعض العلماء بدلا عن سجود التلاوة.
وأيضا، فقد أخبر الله عن الأنبياء بالسجود المجرد، في مثل قوله: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 105، ولم يكونوا مأمورين بالوضوء فإن الوضوء من خصائص أمة محمد، كما جاءت الأحاديث الصحيحة: أنهم يبعثون يوم القيام غرا محجلين من آثار الوضوء، وأن الرسول يعرفهم بهذه السيماء فدل على أنه لا يشركهم فيها غيرهم. والحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وقال: (هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي). حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث، لا يجوز الاحتجاج بمثله، وليس عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين، بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعا، ولكن لم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء، وهذه الأمة مما فضلت به التيمم مع الجنابة، والحدث الأصغر، والوضوء.
فإن قيل: أولئك الأنبياء إنما سجدوا على غير وضوء؛ لأن الصلاة كانت تجوز لهم بغير وضوء.
قيل: لم يقص الله علينا في القرآن أن أحدا منهم صلي بغير وضوء، ونحن إنما نتبع من شرع الأنبياء ما قصه الله علينا، وما أخبرنا به نبينا ﷺ، فإنه قص ذلك علينا لنعتبر به. وقال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } 106، وكذلك ذكر عن الذين أوتوا العلم من قبله: أنهم { إِذَا يُتْلَى عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 107.
وقد أوجب الله تعالى الطهارة للصلاة كما أمر بذلك في القرآن، وكما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ). أخرجاه في الصحيحين. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقد أجمع المسلمون على وجوب الطهارة للصلاة.
يبقي الكلام في مسمى الصلاة فإن الذين أوجبوا الطهارة للسجود المجرد، اختلفوا فيما بينهم. فقالوا: يسلم منه، وقال بعضهم: يكبر تكبيرتين: تكبيرة للافتتاح، وتكبيرة للسجود، وقال بعضهم: يتشهد فيه، وليس معهم لشيء من هذه الأقوال أثر، لا عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من الصحابة، بل هو مما قالوه برأيهم، لما ظنوه صلاة.
وقال بعضهم: لا تكون الصلاة إلا ركعتين، وما دون ذلك لا يكون صلاة، إلا ركعة الوتر. واحتج بما في السنن عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: (صلاة الليل والنهار مثني مثني)، وهذا القول قاله ابن حزم، ولم يشترط الطهارة لما دون ذلك، لا لصلاة الجنازة، ولا لغيرها. وهذا أيضا ضعيف. فإن الحديث ضعيف. والحديث الذي في الصحاح الذي رواه الثقاة قوله: (صلاة الليل مثني مثني). وأما قوله: و(النهار)، فزيادة انفرد بها البارقي، وقد ضعفها أحمد، وغيره. والمرجع في مسمي الصلاة إلى الرسول.
وفي السنن حديث على عن النبي ﷺ: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم). وهذا محفوظ عن ابن مسعود من قوله: فهذا يبين أن الصلاة التي مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.وهذا يتناول كل ما تحريمه التكبير، وتحليله التسليم: كالصلاة التي فيها ركوع وسجود، سواء كانت مثني أو واحدة، أو كانت ثلاثا متصلة، أو أكثر من ذلك. وهو يتناول صلاة الجنازة، فإن تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.
والصحابة أمروا بالطهارة لما فرقوا بينها وبين سجود التلاوة، وهو الذي ذكره البخاري في صحيحه. فقال في باب سنة الصلاة على الجنازة: وقال النبي ﷺ: (من صلي على الجنازة) وقال: (صلوا على صاحبكم) وقال: (صلوا على النجاشي)، سماها صلاة، وليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم، وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرا، ولا يصلي عند طلوع الشمس، ولا غروبها، ويرفع يديه. وقال تعالى: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } 108، وفيها صفوف وإمام.
وهذه الأمور التي ذكرها كلها منتفية في سجود التلاوة، والشكر، وسجود الآيات. فإن النبي ﷺ لم يسم ذلك صلاة ولم يشرع لها الاصطفاف، وتقدم الإمام، كما يشرع في صلاة الجنازة وسجدتي السهو بعد السلام، وسائر الصلوات. ولا سن فيها النبي ﷺ سلاما، لم يرو ذلك عنه لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، بل هو بدعة. ولا جعل لها تكبير افتتاح، وإنما روي عنه أنه كبر فيها إما للرفع، وإما للخفض، والحديث في السنن.
وابن عباس جوز التيمم للجنازة عند عدم الماء، وهذا قول كثير من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين، فدل على أن الطهارة تشترط لها عنده، وكذلك هذه الصفات منتفية في الطواف، فليس فيه تسليم، والكلام جائز فيه، وليس فيه اصطفاف وإمام، وقد قرن الله في كتابه وسنة رسوله بين الطائف والمصلي، ولم يرد عن النبي ﷺ أنه أمر بالطهارة للطواف، لكنه كان يطوف متطهرا هو والصحابة، وكانوا يصلون ركعتي الطواف بعد الطواف، ولا يصلي إلا متطهرا، والنهي إنما جاء في طواف الحائض فقال: (الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت)، وقد قيل: إن ذلك لأجل المسجد، وقيل لأجل الطواف، وقيل: لهما. والله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } 109، فاقتضي ذلك تطهيره من دم الحيض وغيره.
وأيضا، فإبراهيم والنبيون بعده، كانوا يطوفون بغير وضوء، كما كانوا يصلون بغير وضوء، وشرعهم شرعنا إلا فيما نسخ، فالصلاة قد أمرنا بالوضوء لها، ولم يفرض علينا الوضوء لغيرها، كما جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا، فحيث ما أدركت المسلم الصلاة، فعنده مسجده وطهوره، وإن كان جنبا تيمم وصلي، ومن قبلنا لم يكن لهم ذلك، بل كانوا ممنوعين من الصلاة مع الجنابة حتى يغتسلوا، كما يمنع الجنب من اللبث في المسجد، ومن قراءة القرآن.
ويجوز للمحدث اللبث في المسجد معتكفا، وغير معتكف. ويجوز له قراءة القرآن، والمروي فيها عن النبي ﷺ تكبيرة واحدة، فإنه لم ينتقل من عبادة إلى عبادة.
سئل هل القيام للسجدة أفضل من السجود عن قعود
وسئل شَيْخ الإسْلاَم رَحمه الله عن الرجل إذا كان يتلو الكتاب العزيز بين جماعة، فقرأ سجدة، فقام على قدميه وسجد. فهل قيامه أفضل من سجوده وهو قاعد أم لا؟ وهل فعله ذلك رياء ونفاق؟
فأجاب:
بل سجود التلاوة قائما أفضل منه قاعدا، كما ذكر ذلك من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وكما نقل عن عائشة، بل وكذلك سجود الشكر، كما روي أبو داود في سننه عن النبي ﷺ من سجوده للشكر قائما، وهذا ظاهر في الاعتبار، فإن صلاة القائم أفضل من صلاة القاعد.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان أحيانا يصلي قاعدا فإذا قرب من الركوع فإنه يركع ويسجد وهو قائم، وأحيانا يركع ويسجد وهو قاعد، فهذا قد يكون للعذر، أو للجواز، ولكن تحريه مع قعوده أن يقوم ليركع ويسجد وهو قائم، دليل على أنه أفضل. إذ هو أكمل وأعظم خشوعا لما فيه من هبوط رأسه وأعضائه الساجدة للَّه من القيام.
ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحي، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس، إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا للَّه مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومفسدات الإخلاص؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك. وفعله في مكانه الذي تكون فيه معيشته التي يستعين بها على عبادة الله خير له من أن يفعله حيث تتعطل معيشته، ويشتغل قلبه بسبب ذلك، فإن الصلاة كلما كانت أجمع للقلب، وأبعد من الوسواس، كانت أكمل.
ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه من وجوه:
أحدها: أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفا من الرياء، بل يؤمر بها، وبالإخلاص فيها، ونحن إذا رأينا من يفعلها أقررناه، وإن جزمنا أنه يفعلها رياء، فالمنافقون الذين قال الله فيهم: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا } 110، فهؤلاء كان النبي ﷺ والمسلمون يقرونهم على ما يظهرونه من الدين، وإن كانوا مرائين، ولا ينهونهم عن الظاهر؛ لأن الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء، كما أن فساد ترك إظهار الإيمان والصلوات أعظم من الفساد في إظهار ذلك رياء؛ ولأن الإنكار إنما يقع على الفساد في إظهار ذلك رئاء الناس.
الثاني: لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله ﷺ: (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم). وقد قال عمر بن الخطاب: من أظهر لنا خيرا أحببناه، وواليناه عليه وإن كانت سريرته بخلاف ذلك. ومن أظهر لنا شرا أبغضناه عليه، وإن زعم أن سريرته صالحة.
الثالث: أن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذا رأوا من يظهر أمرا مشروعا مسنونا، قالوا: هذا مراء، فيترك أهل الصدق والإخلاص إظهار الأمور المشروعة، حذرا من لمزهم وذمهم، فيتعطل الخير، ويبقي لأهل الشرك شوكة يظهرون الشر، ولا أحد ينكر عليهم، وهذا من أعظم المفاسد.
الرابع: أن مثل هذا من شعائر المنافقين، وهو يطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ اليمٌ } 111. فإن النبي ﷺ لما حض على الإنفاق عام تبوك جاء بعض الصحابة بِصُرَّة كادت يده تعجز من حملها، فقالوا: هذا مراء، وجاء بعضهم بصاع، فقالوا: لقد كان الله غنيا عن صاع فلان، فلمزوا هذا وهذا، فأنزل الله ذلك، وصار عبرة فيمن يلمز المؤمنين المطيعين لله ورسوله. والله أعلم.
سئل عن السجود للتلاوة من غير طهارة
وسئل عن الرجل إذا تلي عليه القرآن فيه سجدة سجد على غير وضوء، فهل يأثم أو يكفر، أو تطلق عليه زوجته؟
فأجاب:
لا يكفر، ولا تطلق عليه زوجته، ولكن يأثم عند أكثر العلماء، ولكن ذكر بعض أصحاب أبي حنيفة أن من صلي بلا وضوء فيما تشترط له الطهارة بالإجماع. كالصلوات الخمس، أنه يكفر بذلك، وإذا كفر كان مرتدا. والمرتد عند أبي حنيفة تبين منه زوجته، ولكن تكفير هذا ليس منقولا عن أبي حنيفة نفسه، ولا عن صاحبيه وإنما هو عن أتباعه، وجمهور العلماء على أنه يعزر، ولا يكفر إلا إذا استحل ذلك، واستهزأ بالصلاة.
وأما سجدة التلاوة، فمن العلماء من ذهب إلى أنها تجوز بغير طهارة، وما تنازع العلماء في جوازه لا يكفر فاعله بالاتفاق، وجمهور العلماء على أن المرتد لا تبين منه زوجته، إلا إذا انقضت عدتها، ولم يرجع إلى الإسلام. والله أعلم.
سئل عن دعاء الاستخارة
وسئل عن دعاء الاستخارة، هل يدعو به في الصلاة أم بعد السلام؟
فأجاب:
يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة، وغيرها قبل السلام وبعده، والدعاء قبل السلام أفضل؛ فإن النبي ﷺ أكثر دعائه كان قبل السلام، والمصلي قبل السلام لم ينصرف، فهذا أحسن. والله تعالى أعلم.
وقال شيخ الإِسلاَم أحمد بن تيمية رَحِمه الله:
فصل في أوقات النهي
فصل في أوقات النهي، والنزاع في ذوات الأسباب، وغيرها. فإن للناس في هذا الباب اضطرابا كثيرا.
فنقول: قد ثبت بالنص والإجماع، أن النهي ليس عامًا لجميع الصلوات؛ فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك)، وفي لفظ: (فليصل إليها أخري)، وفي لفظ: (فيتم صلاته)، وفي لفظ: (سجدة). وكلها صحيحة، وكذلك قال: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك)، وفي لفظ: (فليتم صلاته)، وفي لفظ: (فليصل إليها أخري)، وفي لفظ: (سجدة) وفي هذا أمره بالركعة الثانية من الفجر عند طلوع الشمس.
وفيه أنه إذا صلي ركعة من العصر عند غروب الشمس صحت تلك الركعة، وهو مأمور بأن يصل إليها أخري. وهذا الثاني مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء.
وأما الأول، فهو قول جمهور العلماء، يروي عن على، وغير واحد من الصحابة والتابعين، وعلى هذا مجموع الصحابة، فقد ثبت أن أبا بكر الصديق قرأ في الفجر بسورة البقرة، فلما سلم، قيل له: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
فهذا خطاب الصديق للصحابة يبين أنها لو طلعت لم يضرهم ذلك، ولم تجدهم غافلين، بل وجدتهم ذاكرين الله، ممتثلين لقوله: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } 112، وهذا القول مذهب مالك، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر.
وهؤلاء يقولون: يقضي ما نام عنه أو نسيه في أوقات النهي، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون: تفسد صلاته؛ لأنها صارت فائتة، والفوات عندهم لا يقضي في أوقات النهي، بخلاف عصر يومه فإنها حاضرة، مفعولة في وقتها.
واحتجوا بتأخير الصلاة يوم نام هو وأصحابه عنها حتى طلعت الشمس. وأجاب الجمهور بوجوه:
أحدها: أن التأخير كان لأجل المكان؛ لأن النبي ﷺ قال: (هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان).
الثاني: أنه دليل على الجواز لا على الوجوب.
الثالث: أن هذا غايته أن يكون فيمن ابتدأ قضاء الفائتة. أما من صلي ركعة قبل طلوع الشمس، فقد أدرك الوقت. كما قال: (فقد أدرك). والثانية تفعل تبعا، كما يفعله المسبوق، إذا أدرك ركعة. قالوا: وهذا أولى بالعذر من العصر إلى الغروب؛ لأن الغروب مشهود، يمكنه أن يصلي قبله. وأما الطلوع فهو قبل أن تطلع لا يعلم متى تطلع. فإذا صلي صلي في الوقت؛ ولهذا لا يأثم من أخر الصلاة حتى يفرغ منها قبل الطلوع، كما ثبت عن النبي ﷺ في أحاديث المواقيت، أنه سلَّم في اليوم الثاني، والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، وقال في الحديث الصحيح: (وقت الفجر ما لم تطلع الشمس)، وقال: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس)، وفي لفظ: (ما لم تضيف للغروب). فمن صلي قبل طلوع الشمس جميع صلاة الفجر، فلا إثم عليه، ومن صلي العصر وقت الغروب من غير عذر، فهو آثم. كما في الحديث الصحيح: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا).
لكن جعله الرسول مدركا للوقت، وهو وقت الضرورة، في مثل النائم إذا استيقظ، والحائض إذا طهرت، والكافر إذا أسلم، والمجنون والمغمي عليه إذا أفاقا، فأما من أمكنه قبل ذلك، فهو آثم بالتأخير إليه، وهو من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولكن فعلها في ذلك الوقت خير من تفويتها، فإن تفويتها من الكبائر.
وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من فاتته الصلاة صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله). وأما المصلي قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه، فإذا كان من صلي ركعة بعد غروب الشمس غير متمكن فلا إثم عليه فمن صلي ركعة قبل طلوعها أو قد صلاها قبل أن يطلع شيء منها، فهو غير آثم أيضا.
وقولهم: إن ذلك يصلي الثانية في وقت جواز بعد الغروب، بخلاف الأول، فإنه يصلي الثانية وقت نهي. يقال: الكلام في الأمرين. لم جوزتم له أن يصلي العصر وقت النهي مع أن النبي ﷺ إنما جعل وقت العصر ما لم تغرب الشمس، أو تضيف للغروب ولم تجوزوا فعل الفجر وقت النهي؟
الثاني: أن مُصَلِّي العصر، وإن صلي الثانية في غير وقت نهي، فمصلي الفجر صلي الأولى في غير وقت نهي، ثم إنه ترجح عليه بأنه صلى الأولى في وقتها، بلا ذم ولا نهي، بخلاف مصلي العصر، فإنه إنما صلي الأولى مع الذم والنهي.
وبكل حال، فقد دل الحديث، واتفاقهم: على أنه لم ينه عن كل صلاة، بل عصر يومه تفعل وقت النهي بالنص، واتفاقهم. وكذلك الثانية من الفجر تفعل بالنص، مع قول الجمهور. فإن قيل: فهو مذموم على صلاة العصر وقت النهي، فكيف يقولون: لم ينه قبل الذم؟ إنما هو لتأخيرها إلى هذا الوقت، ثم إذا عصي بالتأخير أمر أن يصليها في هذا الوقت، ولا يفوتها، فإن التفويت أعظم إثما؛ ولا يجوز بحال من الأحوال، وكان أن يصليها مع نوع من الإثم خيرا من أن يفوتها، فيلزمه من الإثم ما هو أعظم من ذلك.
والشارع دائما يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما، وهذا كمن معه ماء في السفر هو محتاج إليه لطهارته، يؤمر بأن يتطهر به فإن أراقه، عصي وأمر بالتيمم، وكانت صلاته بالتيمم خيرا من تفويت الصلاة، لكن في وجوب الإعادة عليه قولان، هما وجهان في مذهب أحمد، وغيره.
ومفوت الوقت لا تمكنه الإعادة. كما قد بسط في غير هذا الموضع. وبكل حال فقد دل النص مع اتفاقهم على أن النهي ليس شاملا لكل صلاة، وقد احتج الجمهور على قضاء الفوائت في وقت النهي بقوله في الحديث الصحيح المتفق عليه: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك). وفي حديث أبي قتادة المتفق عليه، واللفظ لمسلم: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخري، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد، فليصلها عند وقتها)، فقد أمره بالصلاة حين ينتبه، وحين يذكر، وهذا يتناول كل وقت.
وهذا العموم أولى من عموم النهي؛ لأنه قد ثبت أن ذاك لم يتناول الفرض، لا أداءً ولا قضاءً، لم يتناول عصر يومه، ولم يتناول الركعة الثانية من الفجر؛ ولأنه إذا استيقظ أو ذكر، فهو وقت تلك الصلاة فكان فعلها في وقتها، كفعل عصر يومه في وقتها، مع أن هذا معذور وذاك غير معذور لكن يقال: هذا المفوت لو أخرها حتى يزول وقت النهي، لم يحصل له تفويت ثان بخلاف العصر، فإنه لو لم يصلها لفاتت، وكذلك الثانية من الفجر.
فيقال: هذا يقتضي جواز تأخيرها لمصلحة راجحة كما أخرها النبي ﷺ، وقال: (هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان) ومثل أن يؤخرها حتى يتطهر غيره، ويصلوها جماعة، كما صلوا خلف النبي ﷺ صلاة الفجر لما ناموا عنها، بخلاف الفجر والعصر الحاضرة، فإنه لا يجوز تفويتها بحال من الأحوال.
وهذا الذي بيناه، يقتضي أنه لا عموم لوقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، فغيرهما من المواقيت أولى وأحرى.
فصل في جواز الطواف في أوقات النهي
وروي جبير بن مطعم أن رسول الله ﷺ قال: (يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار). رواه أهل السنن. وقال الترمذي: حديث صحيح. واحتج به الأئمة، الشافعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم، وأخذوا به وجوزوا الطواف والصلاة بعد الفجر والعصر، كما روي عن ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من الصحابة والتابعين.
وأما في الأوقات الثلاثة، فعن أحمد فيه روايتان. وآخرون من أهل العلم كأبي حنيفة ومالك، وغيرهما، لا يرون ركعتي الطواف في وقت النهي، والحجة مع أولئك من وجوه:
أحدها: أن قوله: (لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار)، عموم مقصود في الوقت، فكيف يجوز أن يقال: إنه لم يدخل في ذلك المواقيت الخمسة؟!
الثاني: أن هذا العموم لم يخص منه صورة لا بنص ولا إجماع، وحديث النهي مخصوص بالنص والإجماع، والعموم المحفوظ راجح على العموم المخصوص.
الثالث: أن البيت ما زال الناس يطوفون به، ويصلون عنده من حين بناه إبراهيم الخليل، وكان النبي ﷺ وأصحابه قبل الهجرة يطوفون به، ويصلون عنده، وكذلك لما فتحت مكة كثر طواف المسلمين به، وصلاتهم عنده. ولو كانت ركعتا الطواف منهيا عنها في الأوقات الخمسة، لكان النبي ﷺ ينهى عن ذلك نهيا عاما، لحاجة المسلمين إلى ذلك، ولكان ذلك ينقل، ولم ينقل مسلم أن النبي ﷺ نهى عن ذلك، مع أن الطواف طرفي النهار أكثر وأسهل.
الرابع: أن في النهي تعطيلا لمصالح ذلك من الطواف والصلاة.
الخامس: أن النهي إنما كان لسد الذريعة، وما كان لسد الذريعة، فإنه يفعل للمصلحة الراجحة، وذلك أن الصلاة في نفسها من أفضل الأعمال، وأعظم العبادات، كما قال النبي ﷺ: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة). فليس فيها نفسها مفسدة تقتضي النهي، ولكن وقت الطلوع والغروب: الشيطان يقارن الشمس، وحينئذ يسجد لها الكفار، فالمُصَلِّي حينئذ يتشبه بهم في جنس الصلاة.
فالسجود وإن لم يكونوا يعبدون معبودهم، ولا يقصدون مقصودهم لكن يشبههم في الصورة، فنهى عن الصلاة في هاتين الوقتين سدا للذريعة، حتى ينقطع التشبه بالكفار، ولا يتشبه بهم المسلم في شركهم، كما نهى عن الخلوة بالأجنبية، والسفر معها، والنظر إليها لما يفضي إليه من الفساد، ونهاها أن تسافر إلا مع زوج، أو ذي محرم، وكما نهى عن سب آلهة المشركين؛ لئلا يسبوا الله بغير علم، وكما نهى عن أكل الخبائث لما يفضي إليه من حيث التغذية الذي يقتضي الأعمال المنهي عنها، وأمثال ذلك.
ثم إن ما نهى عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المُعَطَّل، فإنه لم ينه عنه، إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضيا للمصلحة الراجحة، لم يكن مفضيا إلى المفسدة.
وهذا موجود في التطوع المطلق، فإنه قد يفضي إلى المفسدة، وليس الناس محتاجين إليه في أوقات النهي، لسعة الأوقات التي تباح فيها الصلاة، بل في النهي عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات، من ثقل العبادة كما يجم بالنوم وغيره. ولهذا قال معاذ: إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي. ومن تشويقها وتحبيب الصلاة إليها إذا منعت منها وقتا، فإنه يكون أنشط وأرغب فيها، فإن العبادة إذا خصت ببعض الأوقات، نشطت النفوس لها أعظم مما تنشط للشيء الدائم. ومنها: أن الشيء الدائم تسأم منه، وتمل وتضجر، فإذا نهى عنه بعض الأوقات، زال ذلك الملل، إلى أنواع أخر من المصالح في النهي عن التطوع المطلق، ففي النهي دفع لمفاسد، وجلب لمصالح من غير تفويت مصلحة.
وأما ما كان له سبب، فمنها ما إذا نهى عنه فاتت المصلحة، وتعطل على الناس من العبادة والطاعة، وتحصيل الأجر والثواب، والمصلحة العظيمة في دينهم، ما لا يمكن استدراكه، كالمعادة مع إمام الحي، وكتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، ونحو ذلك.
ومنها ما تنقص به المصلحة، كركعتي الطواف، لاسيما للقادمين، وهم يريدون أن يغتنموا الطواف في تلك الأيام، والطواف لهم، ولأهل البلد طرفي النهار.
الوجه السادس: أن يقال: ذوات الأسباب إنما دعا إليها داع، لم تفعل لأجل الوقت، بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له. وحينئذ، فمفسدة النهي إنما تنشأ مما لا سبب له دون ما له السبب، ولهذا قال في حديث ابن عمر: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها).
وهذه الوجوه التي ذكرناها تدل أيضا على قضاء الفوائت في أوقات النهي.
فصل في إعادة الصلاة في أوقات النهي
والمعادة: إذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد تعاد في وقت النهي عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، وأبي ثور وغيرهم.
وأبو حنيفة، وغيره جعلوها مما نهى عنه، واحتج الأكثرون بثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: شهدت مع رسول الله ﷺ حجته فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف، وأنا غلام شاب، فلما قضي صلاته. إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: (على بهما)، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟) قالا: يا رسول الله، قد صلينا في رحالنا. قال: (لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة). رواه أهل السنن. كأبي داود، والترمذي، وغيرهما، وأحمد والأثرم.
والثاني: ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن بشر بن محجن عن أبيه: أنه كان جالسا مع النبي ﷺ فأذن للصلاة فقام رسول الله ﷺ فصلى، ثم رجع وَمحْجَنُ في مجلسه، فقال النبي ﷺ: (ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟!) قال: بلي يا رسول الله! ولكن قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله ﷺ: (إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت) وهذا يدل بعمومه، والأول صريح في الإعادة بعد الفجر.
الثالث: ما روي مسلم في الصحيح عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله ﷺ: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)، قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة)، وفي رواية له: قال رسول الله ﷺ وضرب فخذي: (كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟) قال: فما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل)، وفي رواية: لمسلم أيضا: (صل الصلاة لوقتها فإن أدركت الصلاة فصل، ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي).
وهذه النصوص تتناول صلاة الظهر والعصر قطعا، فإنهما هما اللتان كان الأمراء يؤخرونهما، بخلاف الفجر، فإنهم لم يكونوا يصلونها بعد طلوع الشمس، وكذلك المغرب لم يكونوا يؤخرونها، ولكن كانوا يؤخرون العصر أحيانا إلى شروع الغروب.
وحينئذ، فقد أمره أن يصلي الصلاة لوقتها، ثم يصليها معهم بعد أن صلاها، ويجعلها نافلة، وهو في وقت نهي؛ لأنه قد صلي العصر، ولأنهم قد يؤخرون العصر إلى الاصفرار، فهذا صريح بالإعادة في وقت النهي.
فصل في الصلاة على الجنازة بعد الفجر
والصلاة على الجنازة بعد الفجر، وبعد العصر، قال ابن المنذر: إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد الفجر، وبعد العصر، وتلك الأنواع الثلاثة لم يختلف فيها قول أحمد أنها تفعل في أوقات النهي؛ لأن فيها أحاديث خاصة تدل على جوازها في وقت النهي، فلهذا استثناها، واستثني الجنازة في الوقتين، لإجماع المسلمين.
وأما سائر ذوات الأسباب: مثل تحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، ومثل ركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة، ومثل الصلاة على الجنازة في الأوقات الثلاثة، فاختلف كلامه فيها. والمشهور عنه النهي، وهو اختيار كثير من أصحابه: كالخِرَقي، والقاضي، وغيرهما. وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة. لكنْ أبو حنيفة يجوز السجود بعد الفجر والعصر، لا واجب عنده.
والرواية الثانية: جواز جميع ذوات الأسباب، وهي اختيار أبي الخطاب، وهذا مذهب الشافعي، وهو الراجح في هذا الباب لوجوه:
منها: أن تحية المسجد قد ثبت الأمر بها في الصحيحين، عن أبي قتادة، أن رسول الله ﷺ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين. قبل أن يجلس)، وعنه قال: دخلت المسجد ورسول الله ﷺ جالس بين ظهراني الناس. قال: فجلست، فقال رسول الله ﷺ: (ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟) فقلت: يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس، قال: (فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، فهذا فيه الأمر بركعتين قبل أن يجلس، والنهي عن أن يجلس حتى يركعهما، وهو عام في كل وقت عموما محفوظا لم يخص منه صورة بنص، ولا إجماع. وحديث النهي قد عرف أنه ليس بعام، والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص فإن هذا قد علم أنه ليس بعام، بخلاف ذلك، فإن المقتضي لعمومه قائم لم يعلم أنه خرج منه شيء.
الوجه الثاني: ما أخرجا في الصحيحين عن جابر قال: جاء رجل والنبي ﷺ يخطب الناس فقال: (صليت يا فلان؟) قال: لا، قال: (قم فاركع). وفي رواية: (فصل ركعتين). ولمسلم قال: ثم قال: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما). وأحمد أخذ بهذا الحديث بلا خلاف عنه، هو وسائر فقهاء الحديث، كالشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، كما روي عن غير واحد من السلف، مثل الحسن، ومكحول وغيرهما.
وكثير من العلماء لم يعرفوا هذا الحديث فنهوا عن الصلاة وقت الخطبة؛ لأنه وقت نهي، كما نقل عن شريح والنخعي وابن سيرين، وهو قول أبي حنيفة، والليث، ومالك، والثوري.
وهو قياس قول من منع تحية المسجد وقت النهي، فإن الصلاة والخطيب على المنبر أشد نهيا؛ بل هو منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع، وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا، فإذا كان قد أمر بتحية المسجد في وقت الخطبة، فهو في سائر الأوقات أولى بالأمر.
وقد احتج بعض أصحابنا: أنه إذا دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة، يسن له الركوع، لقوله: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا يجلس، حتى يصلي ركعتين). وقالوا: تنقطع الصلاة بجلوس الإمام على المنبر، فلا يصلي أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد ويوجز، وهذا تناقض بين، بل إذا كان النبي ﷺ أمر بالتحية في هذا الموضع، وهو وقت نهى عن الصلاة وغيرها، مما يشغل عن الاستماع، فأوقات النهي الباقية أولى بالجواز.
يبين ذلك أنه في هذه الحال لا يصلي على جنازة، ولا يطاف بالبيت، ولا يصلي ركعتا الطواف، والإمام يخطب. فدل على أن النهي هنا أوكد، وأضيق منه بعد الفجر والعصر، فإذا أمر هنا بتحية المسجد، فالأمر بها هناك أولى وأحرى. وهذا بين واضح، ولا حول ولاقوة إلا باللَّه.
الوجه الثالث: أن يقال: قد ثبت استثناء بعض الصلوات من النهي: كالعصر الحاضرة، وركعتي الفجر، والفائتة، وركعتي الطواف. والمعادة في المسجد. فقد ثبت انقسام الصلاة أوقات النهي إلى منهي عنه ومشروع غير منهي عنه، فلابد من فرق بينهما، إذا كان الشارع لا يفرق بين المتماثلين، فيجعل هذا مأمورا، وهذا محظورا. والفرق بينهما، إما أن يكون المأذون فيه له سبب، فالمصلي صلاة السبب صلاها لأجل السبب، لم يتطوع تطوعا مطلقا، ولو لم يصلها لفاته مصلحة الصلاة، كما يفوته إذا دخل المسجد ما في صلاة التحية من الأجر، وكذلك يفوته ما في صلاة الكسوف، وكذلك يفوته ما في سجود التلاوة، وسائر ذوات الأسباب.
وإما أن يكون الفرق شيئا آخر، فإن كان الأول، حصل المقصود من الفرق بين ذوات الأسباب، وغيرها. وإن كان الثاني، قيل لهم: فأنتم لا تعلمون الفرق، بل قد علمتم أنه نهى عن بعض، ورخص في بعض، ولا تعلمون الفرق، فلا يجوز لكم أن تتكلموا في سائر موارد النزاع، لا بنهي ولا بإذن؛ لأنه يجوز أن يكون الفرق الذي فرق به الشارع في صورة النص، فأباح بعضا وحرم بعضا، متناولا لموارد النزاع، إما نهيا عنه، وإما إذنا فيه، وأنتم لا تعلمون واحدا من النوعين، فلا يجوز لكم أن تنهوا إلا عما علمتم أنه نهي عنه؛ لانتفاء الوصف المبيح عنه، ولا تأذنوا إلا فيما علمتم أنه أذن فيه؛ لشمول الوصف المبيح له. وأما التحليل والتحليل بغير أصل مفرق عن صاحب الشرع، فلا يجوز.
فإن قيل: أحاديث النهي عامة، فنحن نحملها على عمومها إلا ما خصه الدليل، فما علمنا أنه مخصوص لمجيء نص خاص فيه خصصناها به، وإلا أبقيناها على العموم.
قيل: هذا إنما يستقيم أن لو كان هذا العام المخصوص لم يعارضه عمومات محفوظة أقوي منه، وأنه لما خص منه صور، علم اختصاصها بما يوجب الفرق، فلو ثبت أنه عام خص منه صور لمعني منتف من غيرها، بقي ما سوي ذلك على العموم، فكيف وعمومه منتف؟، وقد عارضه أحاديث خاصة وعامة وعموما محفوظا، وما خص منه لم يختص بوصف يوجب استثناءه دون غيره، بل غيره مشارك له في الوصف الموجب لتخصيصه، أو أولى منه بالتخصيص.
وحاجة المسلمين العامة إلى تحية المسجد أعظم منها إلى ركعتي الطواف، فإنه يمكن تأخير الطواف، بخلاف تحية المسجد، فإنها لا تمكن؛ ثم الرجل إذا دخل وقت نهى إن جلس ولم يصل، كان مخالفا لأمر النبي ﷺ، مفوتا هذه المصلحة، إن لم يكن آثما بالمعصية، وإن بقي قائما أو امتنع من دخول المسجد، فهذا شيء عظيم. ومن الناس من يصلي سنة الفجر في بيته، ثم يأتي إلى المسجد، فالذين يكرهون التحية: منهم من يقف على
باب المسجد حتى يقيم، فيدخل يصلي معهم، ويحرم نفسه دخول بيت الله في ذلك الوقت الشريف، وذكر الله فيه. ومنهم من يدخل ويجلس ولا يصلي فيخالف الأمر، وهذا ونحوه مما يبين قطعا أن المسلمين مأمورون بالتحية في كل وقت، وما زال المسلمون يدخلون المسجد طرفي النهار، ولو كانوا منهيين عن تحية المسجد حينئذ لكان هذا مما يظهر نهى الرسول عنه، فكيف وهو قد أمرهم إذا دخل أحدهم المسجد والخطيب على المنبر فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، أليس في أمرهم بها في هذا الوقت تنبيها على غيره من الأوقات؟
الوجه الرابع: ما قدمناه من أن النهي كان لسد ذريعة الشرك، وذوات الأسباب فيها مصلحة راجحة، والفاعل يفعلها لأجل السبب، لا يفعلها مطلقا فتمتنع فيه المشابهة.
الوجه الخامس: أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه قضي ركعتي الظهر بعد العصر، وهو قضاء النافلة، في وقت النهي، مع إمكان قضائها في غير ذلك الوقت، فالنوافل التي إذا لم تفعل في أوقات النهي، تفوت هي أولى بالجواز من قضاء نافلة في هذا الوقت مع إمكان فعلها في غيره، لاسيما إذا كانت مما أمر به: كتحية المسجد، وصلاة الكسوف. وقد اختار طائفة من أصحاب أحمد منهم أبو محمد المقدسي أن السنن الراتبة تقضي بعد العصر، ولاتقضي في سائر أوقات النهي. كالأوقات الثلاثة.
وذكر أن مذهب أحمد: أن قضاء سنة الفجر جائز بعدها، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحي. وقال الإمام أحمد: إن صلاهما بعد الفجر أجزأه، وأما أنا فأختار ذلك. وذكر في قضاء الوتر بعد طلوع الفجر أن المنصوص عن أحمد أنه يفعله. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل: أيوتر الرجل بعد ما يطلع الفجر؟ قال: نعم. قال: وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وحذيفة، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وفضالة بن عبيد، وعائشة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة. وهو أيضا مروي عن على بن أبي طالب. وأنه لما ذكر له عن أبي موسي أنه قال: من أوتر بعد المؤذن لا وتر له، وسألوا عليا. قال: أعرف. يوتر ما بينه وبين الصلاة، وأنكر ذلك ولم يذكر نزاعا إلا عن أبي موسي، مع أنه لا ينبغي بعد الفجر.
قال: وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر، وإنما فيه حديث أُبَي، وقد احتج أحمد بحديث أبي نضرة الغفاري عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله زادكم صلاة
فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر). وهذا مذهب مالك والشافعي والجمهور. قال مالك: من فاتته صلاة الليل، فله أن يصلي بعد الفجر قبل أن يصلي الصبح، قال: وحكاه ابن أبي موسي الخرقي في الإرشاد مذهبا لأحمد، قياسا على الوتر.
قلت: وهذا الذي اختاره لا يناقض ما ذكره الخرقي وغيره من قدماء الأصحاب، فإنه ذكر إباحة الأنواع الأربعة في جميع أوقات النهي: قضاء الفوائت، وركعتي الطواف، وإذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد، وصلاة الجنازة، ولكن ذكر النهي عن الكسوف، وسجود التلاوة، في
بابهما. فلم ينه عن قضاء السنن في أوقات النهي.
فاختار الشيخ أبو محمد وطائفة من أصحاب أحمد: أن السنن الراتبة تقضي بعد العصر، ولا تقضي في سائر أوقات النهي، ولا يفعل غيرها من ذوات الأسباب، كالتحية، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وصلاة التوبة، وسنة الوضوء، وسجود التلاوة، لا في هذا الوقت، ولا في غيره؛ لأنهم وجدوا القضاء فيها قد ثبت بالأحاديث الصحيحة، قالوا: والنهي في هذا الوقت أخف من غيره، لاختلاف الصحابة فيه فلا يلحق به سائر الأوقات. والرواتب لها مزية، وهذا الفرق ضعيف، فإن أمر النبي ﷺ بتحية المسجد، وأمره بصلاة الكسوف وسجود التلاوة، أقوي من قضاء سنة فائتة، فإذا جاز هذا، فذاك أجوز، فإن قضاء السنن ليس فيه أمر من النبي ﷺ بل ولا أمر بنفس السنة: سنة الظهر، لكنه فعلها وداوم عليها، وقضاها لما فاتته. وما أمر به أمته، لاسيما وكان هو أيضا يفعله، فهو أوكد مما فعله، ولم يأمرهم به.
فإذا جاز لهم فعل هذا في أوقات النهي ففعل ذاك أولى، وإذا جاز قضاء سنة الظهر بعد العصر، فقضاء سنة الفجر بعد الفجر أولى، فإن ذاك وقتها، وإذا أمكن تأخيرها إلى طلوع الشمس أمكن تأخير تلك إلى غروب الشمس، وقد كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها وهو ﷺ يراهم ويقرهم على ذلك وقال: (بين كل أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)، كراهية أن يتخذها الناس سنة.
فصل النهي في العصر معلق بصلاة العصر
والنهي في العصر معلق بصلاة العصر: فإذا صلاها لم يصل بعدها وإن كان غيره لم يصل، وما لم يصلها فله أن يصلي، وهذا ثابت بالنص والاتفاق، فإن النهي معلق بالفعل.وأما الفجر: ففيها نزاع مشهور، وفيه عن أحمد روايتان:
قيل: إنه معلق بطلوع الفجر، فلا يطوع بعده بغير الركعتين، وهو قول طائفة من السلف، ومذهب أبي حنيفة. قال النخعي: كانوا يكرهون التطوع بعد الفجر.
وقيل: إنه معلق بالفعل، كالعصر. وهو قول الحسن والشافعي. فإنه لم يثبت النهي إلا بعد الصلاة، كما في العصر. وأحاديث النهي تسوي بين الصلاتين، كما في الصحيحين عن ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر: أن رسول الله ﷺ نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.
وكذلك فيهما عن أبي هريرة ولفظه: وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب. وفيهما عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)، ولمسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر)، وفي صحيح مسلم حديث عمرو بن عَبَسَة قال: قلت يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة. قال: (صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان. وحينئذ، يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى يستقل الظل بالرمح. ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تُسْجَر جهنم. فإذا أقبل الفيء، فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان. وحينئذ، يسجد لها الكفار).
والأحاديث المختصة بوقت الطلوع والغروب، وبالاستواء: حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا بدا حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تبرز. وإذا غاب حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تغيب) هذا اللفظ لمسلم، وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب. ووقت الزوال ليس في عامة الأحاديث، ولم يذكر حديثه البخاري، لكن رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر، ومن حديث عمرو بن عَبَسَة، وتابعهما الصنابحي، وعلى هذه الثلاثة اعتمد أحمد. ولما ذكر له الرخصة في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، قال: في حديث النبي ﷺ من ثلاثة أوجه: حديث عقبة بن عامر، وحديث عمرو بن عَبَسَة، وحديث الصُّنَابِحي.
والخِرقي لم يذكره في أوقات النهي، بل قال: ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض، ويركع للطواف، وإن كان في المسجد وأقيمت الصلاة. وقد كان صلي في كل وقت نهي عن الصلاة فيه، وهو بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.
وهذا يقتضي أنه ليس وقت نهي إلا هذان، ويقتضي أن ما أباحه يفعل في أوقات النهي كإحدي الروايتين، ويقتضي أن النهي معلق بالفعل، فإنه قال: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولم يقل: الفجر. ولو كان النهي من حين طلوع الفجر لاستثني الركعتين، بل استثني الفرض والنفل. وهذه ألفاظ الرسول، فإنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، كما نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس.
ومعلوم أنه لو أراد الوقت لاستثني ركعتي الفجر والفرض، كما ورد استثناء ذلك في ما نهي عنه، حيث قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين)، فلما لم يذكر ذلك في الأحاديث، علم أنه أراد فعل الصلاة كما جاء مفسرا في أحاديث صحيحة، ولأنه يمتنع أن تكون أوقات الصلاة المكتوبة فرضها وسنتها وقت نهي، وما بعد الفجر وقت صلاة الفجر سنتها وفرضها، فكيف يجوز أن يقال: إن هذا وقت نهي؟ وهل يكون وقت نهي سن فيه الصلاة دائما بلا سبب؟ وأمر بتحري الصلاة فيه؟ هذا تناقض مع أن هذا الوقت جعل وقتا للصلاة إلى طلوع الشمس، ليس كوقت العصر الذي جعل آخر الوقت فيه إذا اصفرت الشمس.
والنهي هو لأن الكفار يسجدون لها، وهذا لا يكون من طلوع الفجر، ولهذا كان الأصل في النهي عند الطلوع والغروب، كما في حديث ابن عمر، لكن نهي عن الصلاة بعد الصلاتين سدا للذريعة فإن المتطوع قد يصلي بعدهما حتى يصلي وقت الطلوع والغروب. والنهي في هذين أخف؛ ولهذا كان يداوم على الركعتين بعد العصر، حتى قبضه الله. فأما قبل صلاة الفجر، فلا وجه للنهي، لكن لا يسن ذلك الوقت إلا الفجر سنتها وفرضها.
ولهذا كان النبي ﷺ يصلي بالليل، ويوتر، ثم إذا طلع الفجر صلى الركعتين، ثم صلى الفرض، وكان يضطجع أحيانًا ليستريح، إما بعد الوتر، وإما بعد ركعتي الفجر، وكان إذا غلبه من الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة بدل قيامه من الليل، ولم يكن يقضي ذلك قبل صلاة الفجر؛ لأنه لم يكن يتسع لذلك، فإن هذه الصلاة فيها طول، وكان يغلس بالفجر. وفي الصحيح: (من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل).ومعلوم أنه لو أمكن قراءة شيء منه قبل صلاة الفجر، كان أبلغ، لكن إذا قرأه قبل الزوال، كتب له كأنما قرأه من الليل، فإن هذا الوقت تابع لليلة الماضية، ولهذا يقال فيما قبل الزوال: فعلناه الليلة. ويقال بعد الزوال: فعلناه البارحة، وهو وقت الضحي، وهو خلف عن قيام الليل.
ولهذا كان النبي ﷺ إذا نام عن قيامه قضاه من الضحي، فيصلي اثنتي عشرة ركعة. وقد جاء هذا عن عمر وغيره من الصحابة في قوله: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } 113. فما بعد طلوع الفجر إنما سن للمسلمين السنة الراتبة، وفرضها الفجر، وما سوي ذلك لم يسن، ولم يكن منهيًا عنه إذا لم يتخذ سنة، كما في الحديث الصحيح: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)، كراهية أن يتخذها الناس سنة.
فهذا فيه إباحة الصلاة بين كل أذانين، كما كان الصحابة يصلون ركعتين بين أذاني المغرب، والنبي ﷺ يراهم ويقرهم على ذلك، فكذلك الصلاة بين أذاني العصر والعشاء، وكذلك بين أذاني الفجر والظهر، لكن بين أذاني الفجر الركعتان سنة بلا ريب، وما سواها يفعل ولا يتخذ سنة، فلا يدوام عليه، ويؤمر به جميع المسلمين، كما هو حال السنة، فإن السنة تعم المسلمين ويداوم عليها، كما أنهم كلهم مسنون لهم ركعتا الفجر، والمداومة عليها.
فإذا قيل: لا سنة بعد طلوع الفجر إلا ركعتان، فهذا صحيح، وأما النهي العام فلا. والإنسان قد لا يقوم من الليل فيريد أن يصلي في هذا الوقت، وقد استحب السلف له قضاء وتره، بل وقيامه من الليل في هذا الوقت، وذلك عندهم خير من أن يؤخره إلى الضحي.
فصل للناس في الصلاة نصف النهار أقوال
وللناس في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وغيرها أقوال:
قيل بالنهي مطلقا وهو المشهور عن أحمد. وقيل: الإذن مطلقا، كما اقتضاه كلام الخِرْقِي، ويروي عن مالك. وقيل: بالفرق بين الجمعة وغيرها، وهو مذهب الشافعي، وأباحه فيها عطاء في الشتاء، دون الصيف؛ لأن النبي ﷺ قال في حديث عمرو بن عَبَسَة: (ثم بعد طلوعها صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تُسْجَر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل).
فعلل النهي حينئذ بأنه حينئذ تسجر جهنم. وفي الطلوع والغروب بمقارنة الشيطان، فقال: (ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع، فإنها تطلع بين قرني شيطان). وفي الغروب قال: (ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان). وأما مقارنة الشيطان لها حين الاستواء، فليس في شيء من الحديث إلا في حديث الصُّنَابِحي. قال: (إنها تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت، قارنها، ثم إذا استوت، قارنها، فإذا زالت، قارنها، وإذا دنت للغروب، قارنها، فإذا غربت، قارنها)، فنهي رسول الله ﷺ عن الصلاة في تلك الساعات. لكن الصُّنَابحي قد قيل: إنه لم تثبت له صحبة، فلم يسمع هذا من النبي ﷺ، بخلاف حديث عمرو بن عَبَسَة فإنه صحيح سمعه منه.
ويؤيد هذا أن عامة الأحاديث ليس فيها إلا النهي وقت الطلوع ووقت الغروب، أو بعد الصلاتين. فدل على أن النهي نصف النهار نوع آخر له علة غير علة ذينك الوقتين.
يوضح هذا: أن الكفار يسجدون لها وقت الطلوع، ووقت الغروب، كما أخبر به النبي ﷺ. فأما سجودهم لها قبل الزوال، فهذا لم يذكره النبي ﷺ عنهم، ولم يعلل به.
وأيضا، فإن ضبط هذا الوقت متعسر، فقد ثبت في الصحيح أنه قال ﷺ: (إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم). وهذا حديث اتفق العلماء على صحته، وتلقيه بالقبول، فأخبر أن شدة الحر من فيح جهنم، وهذا موافق لقوله: (فإنه حينئذ تسجر جهنم)، وأمر بالإبراد، فدل على أن الصلاة منهي عنها عند شدة الحر؛ لأنه من فيح جهنم.
ففي الصيف تُسْجَر نصف النهار، فيكون النهي عن الصلاة نصف النهار في الحر، وهو يؤمر بأن يؤخر الصلاة عن الزوال حتى يبرد، لكن إذا زالت الشمس فاءت الأفياء فطالت الأظلة، بعد تناهي قصرها، وهذا مشروع في الإبراد، فلهذا كانت الصلاة جائزة من حين الزوال، كما في حديث عمرو بن عَبَسَة: (ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء
فصل)، فدل على أن الصلاة مشروعة من حين يقبل الفيء، فيفيء الظل: أي يرجع من جهة المغرب إلى جهة المشرق، ويرجع في الزيادة بعد النقصان.
ولهذا قالوا: إن لفظ الفيء مختص بما بعد الزوال، لما فيه من معني الرجوع. ولفظ الظل يتناول هذا وهذا، فإنه قبل طلوع الشمس يكون الظل ممتدا، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } 114. ثم إذا طلعت الشمس كانت عليه دليلا، فتميز الظل عن الضحي، ونسخت الشمس الظل، لا تزال تنسخه وهو يقصر إلى الزوال، فإذا زالت، فإنه يعاد ممتدا إلى المشرق، حيث ابتدأ بعد أن كان أول ما نسخته عن المشرق، ثم عن المغرب، ثم تفيء إلى المشرق ثم المغرب، ولم يزل يمتد ويطول إلى أن تغرب، فينسخ الظل جميع الشمس. فلهذا قال في حديث عمرو بن عبسة: (ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل).
وعلى هذا، فمن رخص في الصلاة يوم الجمعة قال: إنها لا تُسْجَر يوم الجمعة، كما قد روي. وقالوا: إنه لا يستحب الإبراد يوم الجمعة، بل يجوز عقب الزوال بالسنة الصحيحة، واتفاق الناس، وفي الإبراد مشقة للخلق. ويجوز عند أحمد وغيره أن يصلي وقت الزوال كما فعله غير واحد من الصحابة، فكيف يكون وقت نهي والجمعة جائزة فيه، والفرائض المؤداة لا تشرع في وقت النهي لغير عذر، كما قلنا في الفجر، فإن هذا تناقض.
وبالجملة جواز الصلاة وقت الزوال يوم الجمعة على أصل أحمد أظهر منه على أصل غيره، فإنه يجوز الجمعة وقت الزوال، ولا يجعل ذلك وقت نهي، بل قد قيل في مذهبه، إنها لا تجوز إلا في ذلك الوقت، وهو الوقت الذي هو وقت نهي في غيرها. فعلم الفرق بين الجمعة وغيرها، وكما أن الإبراد المأمور به في غيرها لا يؤمر به فيها، بل ينهي عنه، وهو معلل بأن شدة الحر من فيح جهنم، فكذلك قد علل بأنه حينئذ تسجر جهنم. وهذا من جنس قوله: (فإن شدة الحر من فيح جهنم).
وإذا كانت مختصة بما سوي يوم الجمعة، فكذلك الأخري، وعلى مقتضي هذه العلة لا ينهي عن الصلاة وقت الزوال، لا في الشتاء، ولا يوم الجمعة. ويؤيد ذلك ما في السنن عن النبي ﷺ: أنه نهي عن الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة، وهو أرجح مما احتجوا به على أن النهي في الفجر معلق بالوقت. والله أعلم.
فصل في أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي
وَقَالَ شيخ الإِسلام:
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
فصل
في أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي. فقد كتبنا فيما تقدم في الإسكندرية وغيرها كلاما مبسوطا في أن هذا أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه، اختارها أبو الخطاب.
وكنا قبل متوقفين لبعض الأدلة التي احتج بها المانعون، فلما بحثنا عن حقيقتها، وجدناها أحاديث ضعيفة، أو غير دالة، وذكرنا أن الدلائل على ذلك متعددة:
منها: أن أحاديث الأمر بذوات الأسباب كقوله: (إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، عام محفوظ لا خصوص فيه. وأحاديث النهي ليس فيها حديث واحد عام، بل كلها مخصوصة، فوجب تقديم العام الذي لا خصوص فيه، فإنه حجة باتفاق السلف والجمهور القائلين بالعموم، بخلاف الثاني، وهو أقوي منه بلا ريب.
ومنها: أنه قد ثبت أن النبي ﷺ أمر بصلاة تحية المسجد للداخل عند الخطبة هنا بلا خلاف عنه لثبوت النص به، والنهي عن الصلاة في هذا الوقت أشد بلا ريب، فإذا فعلت هناك، فهنا أولي.
ومنها: أن حديث ابن عمر في الصحيحين لفظه: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها). والتحري هو التعمد والقصد، وهذا إنما يكون في التطوع المطلق. فأما ما له سبب فلم يتحره، بل فعله لأجل السبب، والسبب ألجأه إليه. وهذا اللفظ المقيد المفسر يفسر سائر الألفاظ، ويبين أن النَّهي إنما كان عن التحري، ولو كان عن النوعين لم يكن للتخصيص فائدة، ولكان الحكم قد علق بلفظ عديم التأثير.
ومنها: أنه قد ثبت جواز بعض ذوات الأسباب بعضها بالنص، كالركعة الثانية من الفجر، وكركعتي الطواف، وكالمعادة مع إمام الحي، وبعضها بالنص والإجماع كالعصر عند الغروب، وكالجنازة بعد العصر، وإذا نظر في المقتضي للجواز لم توجد له علة صحيحة، إلا كونها ذات سبب، فيجب تعليق الحكم بذلك، وإلا فما الفرق بين المعادة وبين تحية المسجد، والأمر بهذه أصح، وكذلك الكسوف قد أمر بها في أحاديث كثيرة صحيحة.
والمقصود هنا أن نقول: الصلاة في وقت النهي لا تخلو أن تكون مفسدة محضة، لا تشرع بحال، كالسجود للشمس نفسها، أو يكون مما يشرع في حال دون حال، والأول باطل؛ لأنه قد ثبت بالنص والإجماع، أن العصر تصلي وقت الغروب قبل سقوط القرص كله. وثبت في الصحيحين قوله: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك. ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك). والأول: قد اتفق عليه، والثاني: قول الجمهور.
وأبو حنيفة يفرق بين الفجر والعصر، ويقول: إذا طلعت الشمس بطلت الصلاة؛ لأنها تبقي منهيا عنها فائتة. والعصر إذا غربت الشمس دخل في وقت الجواز، لا في وقت النهي. وقد ضعف أحمد والجمهور هذا الفرق، وقالوا: الكلام في العصر وقت الغروب، فإنه وقت نهي، كما أن ما بعد الطلوع وقت نهي، وليس له أن يؤخر العصر إلى هذا الوقت، لكن يكون له عذر كالحائض تطهر، والنائم يستيقظ. ولو قدر أنه أخرها من غير عذر، فهو مأمور بفعلها في وقت النهي، مع إمكان أن يصليها بعد الغروب. فإذا قيل: صلاتها في الوقت فرض. قيل: وقضاء الفائتة على الفور فرض؛ لقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك).
وأيضا، فإذا صلى ركعة من الفجر قبل الطلوع، فقد شرع فيها قبل وقت النهي، فهو أخف من ابتدائها وقت النهي، مع أن هذا جائز عند الجمهور. وإذا ثبت أن الصلاة في أغلظ أوقات النهي وهو وقت الطلوع والغروب ليس مفسدة محضة لا تشرع بحال، بل تشرع في بعض الأحوال، عُلِمَ أن وجود بعض الصلوات في هذه الأوقات لا يوجب مفسدة النهي، إذ لو وجدت، لما جاز شيء من الصلوات.
وإذا كان كذلك، فالشرع قد استقر على أن الصلاة، بل العبادة التي تفوت إذا أخرت تفعل بحسب الإمكان في الوقت، ولو كان في فعلها من ترك الواجب وفعل المحظور ما لايسوغ عند إمكان فعله في الوقت، مثل الصلاة بلا قراءة، وصلاة العريان، وصلاة المريض وصلاة المستحاضة، ومن به سلس البول، والصلاة مع الحدث بلا اغتسال ولا وضوء، والصلاة إلى غير القبلة، وأمثال ذلك من الصلوات التي لا يحرم فعلها، إذا قدر أن يفعلها على الوجه المأمور به في الوقت. ثم إنه يجب عليه فعلها في الوقت مع النقص لئلا يفوت، وإن أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال. فعلم أن اعتبار الوقت في الصلاة مقدم على سائر واجباتها، وهذا في التطوع كذلك؛، فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي إلا عريانا، أو إلى غير القبلة، أو مع سلس البول، صلى كما يصلي الفرض؛ لأنه لو لم يفعل إلا مع الكمال تعذر فعله، فكان فعله مع النقص خيرا من تعطيله.
وإذا كان كذلك، فذوات الأسباب إن لم تفعل وقت النهي فاتت وتعطلت، وبطلت المصلحة الحاصلة به، بخلاف التطوع المطلق، فإن الأوقات فيها سعة، فإذا ترك في أوقات النهي، حصلت حكمة النهي، وهو قطع للتشبه بالمشركين الذين يسجدون للشمس في هذا الوقت، وهذه الحكمة لا يحتاج حصولها إلى المنع من جميع الصلوات، كما تقدم، بل يحصل المنع من بعضها فيكفي التطوع المطلق.
وأيضا، فالنهي عن الصلاة فيها هو من باب سد الذرائع لئلا يتشبه بالمشركين، فيفضي إلى الشرك، وما كان منهيا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيها مصلحة راجحة، ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة. والصلاة للّه فيه ليس فيها مفسدة، بل هي ذريعة إلى المفسدة فإذا تعذرت المصلحة إلا بالذريعة، شرعت واكتفي منها إذا لم يكن هناك مصلحة. وهو التطوع المطلق. فإنه ليس في المنع منه مفسدة، ولا تفويت مصلحة، لإمكان فعله في سائر الأوقات.
وهذا أصل لأحمد وغيره في أن ما كان من باب سد الذريعة، إنما ينهي عنه إذا لم يحتج إليه، وإما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به، وقد ينهي عنه؛ ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع. فالمحتال: يقصد المحرم، فهذا ينهي عنه. وأما الذريعة: فصاحبها لا يقصد المحرم، لكن إذا لم يحتج إليها، نهي عنها، وأما مع الحاجة فلا.
وأما مالك، فإنه يبالغ في سد الذرائع، حتى ينهي عنها مع الحاجة إليها.
وذوات الأسباب كلها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي: مثل سجود التلاوة، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، ومثل الصلاة عقب الطهارة كما في حديث بلال، وكذلك صلاة الاستخارة إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخرت الصلاة وكذلك صلاة التوبة، فإذا أذنب فالتوبة واجبة على الفور، وهو مندوب إلى أن يصلي ركعتين ثم يتوب، كما في حديث أبي بكر الصديق. ونحو قضاء السنن الرواتب كما قضي النبي ﷺ ركعتي الظهر بعد العصر. وكما أقر الرجل على قضاء ركعتي الفجر بعد الفجر، مع أنه يمكن تأخيرها، لكن تفوت مصلحة المبادرة إلى القضاء، فإن القضاء مأمور به على الفور في الواجب واجب، وفي المستحب مستحب.
والشافعي يجوز القضاء في وقت النهي، وإن كان لا يوجب تعجيله؛ لأنها من ذوات الأس
باب، وهي مع هذا لا تفوت بفوات الوقت، لكن يفوت فضل تقديمها، وبراءة الذمة، كما جاز فعل الصلاة في أول الوقت للعريان والمتيمم، وإن أمكن فعلها آخر الوقت بالوضوء والسترة، لكن هو محتاج إلى براءة ذمته في الواجب، ومحتاج في السنن الرواتب إلى تكميل فرضه؛ فإن الرواتب مكملات للفرض، ومحتاج إلى ألا يزيد التفويت، فإنه مأمور بفعلها في الوقت، فكلما قرب كان أقرب إلى الأمر، مما يبعد منه.
وقد قال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم). فيقربها من الوقت ما استطاع، والشيخ أبو محمد المقدسي يجوز فعل الرواتب في أوقات النهي، موافقة لأبي الخطاب لكن أبو الخطاب يعمم كالشافعي، وهو الصواب.
فإن قيل: فالتطوع المطلق يفوت من قصده عمارة الأوقات كلها بالصلاة؟
قيل: هذا ليس بمشروع، بل هو منهي عنه، ولا يمكن بشرًا أن يصلي دائمًا جميع النهار والليل، بل لابد له من وقت راحة ونوم وقد ثبت في الصحيحين أن رجالا قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم لا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، وقال الآخر: لا آكل اللحم، فقال النبي ﷺ: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم. فمن رغب عن سنتي فليس مني)، قد قيل: إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض الأوقات، إجمام النفوس في وقت النهي لتنشط للصلاة، فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه، وتنشط للصلاة بعد الراحة. والله أعلم.
سئل عمن رأى رجلا يتنفل في وقت نهي
وسئل عمن رأى رجلا يتنفل في وقت نهي فقال: نهي النبي ﷺ عن الصلاة في هذا الوقت، وذكر له الحديث الوارد في الكراهة. فقال هذا: لا أسمعه، وأصلي كيف شئت، فما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، أما التطوع الذي لا سبب له، فهو منهي عنه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، باتفاق الأئمة، وكان عمر بن الخطاب يضرب من يصلي بعد العصر. فمن فعل ذلك، فإنه يعزر اتباعًا لما سنه عمر بن الخطاب أحد الخلفاء الراشدين إذ قد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ذلك.
وأما ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، فهذا فيه نزاع، وتأويل. فإن كان يصلي صلاة يسوغ فيها الاجتهاد لم يعاقب.
وأما رده الأحاديث بلا حجة، وشتم الناهي، وقوله للناهي: أصلي كيف شئتُ، فإنه يعزر على ذلك، إذ الرجل عليه أن يصلي كما يشرع له، لا كما يشاء هو. والله أعلم.
سئل عمن إذا دخل المسجد في وقت النهي
وسئل رحمه الله عن الرجل إذا دخل المسجد في وقت النهي: هل يجوز أن يصلي تحية المسجد؟
فأجاب:
الحمد لله. هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: وهو قول أبي حنيفة، ومالك: أنه لا يصليها.
والثاني: وهو قول الشافعي، أنه يصليها، وهذا أظهر. فإن النبي ﷺ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). وهذا أمر يعم جميع الأوقات، ولم يعلم أنه خص منه صورة من الصور. وأما نهيه عن الصلاة بعد طلوع الفجر وبعد غروبها، فقد خص منه صور متعددة. منها قضاء الفوائت. ومنها ركعتا الطواف. ومنها المعادة مع إمام الحي، وغير ذلك. والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص.
وأيضا، فإن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها، كالنهي في هذين الوقتين، أو أوكد، ثم قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والخطيب على المنبر، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). فإذا كان قد أمر بالتحية في هذا الوقت، وهو وقت نهي. فكذلك الوقت الآخر بطريق الأولي، ولم يختلف قول أحمد في هذا لمجيء السنة الصحيحة به، بخلاف أبي حنيفة ومالك فإن مذهبهما في الموضعين النهي، فإنه لم تبلغهما هذه السنة الصحيحة. والله أعلم.
سئل عن تحية المسجد هل تفعل في أوقات النهي أم لا
وسئل رحمه الله عن تحية المسجد: هل تفعل في أوقات النهي أم لا؟
فأجاب:
قال النبي ﷺ: (إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). فإذا دخل وقت نهي فهل يصلي؟ على قولين للعلماء. لكن أظهرهما أنه يصلي، فإن نهي النبي ﷺ عن الصلاة بعد الفجر، وبعد العصر قد خص من صور كثيرة. وخص من نظيره وهو وقت الخطبة، بأن النبي ﷺ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فإذا أمر بالتحية وقت الخطبة، ففي هذه الأوقات أولي. والله أعلم.
سئل عمن إذا توضأ قبل طلوع الشمس وقد صلى الفجر فهل يصلي شكرا
وسئل عن رجل إذا توضأ قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب، وقد صلى الفجر، فهل يجوز له أن يصلي شكرًا للوضوء؟
فأجاب:
هذا فيه نزاع، والأشبه أن يفعل لحديث بلال.
باب صلاة الجماعة
سئل عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية أم سنة
سئل رَحمه الله عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية، أم سنة؟ فإن كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر. فهل تصح صلاته أم لا؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وما الراجح من أقوالهم؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم شعائر الإسلام، وعلى ما ثبت في فضلها عن النبي ﷺ حيث قال: (تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة)، هكذا في حديث أبي هريرة. وأبي سعيد: (بخمس وعشرين)، ومن حديث ابن عمر: (بسبع وعشرين)، والثلاثة في الصحيح.
وقد جمع بينهما: بأن حديث الخمس والعشرين، ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة والفضل بينهما، فصار المجموع سبعا وعشرين، ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل، إما في خلوته، وإما في غير خلوته، فهو مخطئ ضال. وأضل منه من لم ير الجماعة إلا خلف الإمام المعصوم، فعطل المساجد عن الجمع والجماعات التي أمر الله بها ورسوله، وعمر المساجد بالبدع والضلالات التي نهي الله عنها ورسوله، وصار مشابها لمن نهي عن عبادة الرحمن، وأمر بعبادة الأوثان.
فإن الله سبحانه شرع الصلاة وغيرها في المساجد. كما قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } 115، وقال تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } 116، وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } 117، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } إلى قوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } 118، وقال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } الآية 119، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } 120، وقال تعالى: { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } 121.
وأما مشاهد القبور ونحوها، فقد اتفق أئمة المسلمين على أنه ليس من دين الإسلام أن تخص بصلاة أو دعاء، أو غير ذلك. ومن ظن أن الصلاة والدعاء والذكر فيها أفضل منه في المساجد، فقد كفر. بل قد تواترت السنن في النهي عن اتخاذها لذلك. كما ثبت في الصحيحين أنه قال: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جُنْدُب أنه قال: قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).وفي المسند عنه: أنه قال: (إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). وفي موطأ مالك عنه أنه قال: (اللهم، لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي السنن عنه أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني).
والمقصود هنا أن أئمة المسلمين متفقون على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات، وأجل القربات، ومن فضل تركها عليها إيثارا للخلوة والانفراد على الصلوات الخمس في الجماعات، أو جعل الدعاء والصلاة في المشاهد أفضل من ذلك في المساجد، فقد انخلع من ربقة الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين. { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } 122. ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها واجبة على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة، على ثلاثة أقوال:
فقيل: هي سنة مؤكدة فقط، وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثر أصحاب مالك، وكثير من أصحاب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد.
وقيل: هي واجبة على الكفاية، وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وقول في مذهب أحمد.
وقيل: هي واجبة على الأعيان، وهذا هو المنصوص عن أحمد وغيره، من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم. وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفردا لغير عذر، هل تصح صلاته؟ على قولين:
أحدهما: لا تصح، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد، ذكره القاضي أبو يعلى، في شرح المذهب عنهم، وبعض متأخريهم كابن عقيل، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن حزم وغيره.
والثاني: تصح مع إثمه بالترك، وهذا هو المأثور عن أحمد، وقول أكثر أصحابه.
والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبي ﷺ: صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده. قالوا: ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد، ولم يكن هناك تفضيل، وحملوا ما جاء من هم النبي ﷺ بالتحريق على من ترك الجمعة، أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق، وأن تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة، مع الصلاة في البيوت.
وأما الموجبون، فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار.
أما الكتاب فقوله تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } الآية 123 وفيها دليلان:
أحدهما: أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدل بطريق الأولي على وجوبها حال الأمن.
الثاني: أنه سن صلاة الخوف جماعة، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلف عن متابعة الإمام، كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم. قالوا: وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة، وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب، مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة.
وأيضا، فقوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } 124، إما أن يراد به المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة. وإما أن يراد به ما يراد بقوله: { وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } 125. فإن أريد الثاني، لم يكن فرق بين قوله: صلوا مع المصلين، وصوموا مع الصائمين، { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ }. والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك.
فإن قيل: فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة. قيل: خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة، فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، فأمر بما يدرك به الركعة، كما قال لمريم: { اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } 126. فإنه لو قيل: اقنتي مع القانتين، لدل على وجوب إدراك القيام، ولو قيل: اسجدي، لم يدل على وجوب إدراك الركوع، بخلاف قوله: { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }، فإنه يدل على الأمر بإدراك الركوع وما بعده دون ما قبله، وهو المطلوب.
وأما السنة: فالأحاديث المستفيضة في الباب، مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه ﷺ أنه قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام. ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). فهم بتحريق من لم يشهد الصلاة، وفي لفظ قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأوتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام) الحديث.
وفي المسند وغيره: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت أن تقام الصلاة) الحديث. فبين ﷺ أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة، وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية، فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلي.
وقد قال سبحانه وتعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أليمًا } 127
ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة، فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر، ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة.
وأما من حمل العقوبة على النفاق، لا على ترك الصلاة، فقوله ضعيف لأوجه:
أحدها: أن النبي ﷺ ما كان يقيل المنافقين إلا على الأمور الباطنة، وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم، فلولا أن في ذلك ترك واجب لما حرقهم.
الثاني: أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة، فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره.
الثالث: أنه سيأتي إن شاء الله حديث ابن أم مكتوم حيث استأذنه أن يصلي في بيته، فلم يأذن له، وابن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين، أثني عليه القرآن، وكان النبي ﷺ يستخلفه على المدينة، وكان يؤذن للنبي ﷺ.
الرابع: أن ذلك حجة على وجوبها أيضا كما قد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من سره أن يلقي الله غدا مسلما، فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيه سنن الهدي، وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادي بهن من سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
فقد أخبر عبد الله بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي ﷺ، إذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل، والتطوعات التي مع الفرائض، وصلاة الضحي، ونحو ذلك. كان منهم من يفعلها، ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه، كما قال له الأعرابي: والله لا أزيد على ذلك، ولا أنقص منه. فقال: (أفلح إن صدق). ومعلوم أن كل أمر كان لا يتخلف عنه إلا منافق كان واجبا على الأعيان، كخروجهم إلى غزوة تبوك، فإن النبي ﷺ أمر المسلمين جميعا، لم يأذن لأحد في التخلف، إلا من ذكر أن له عذرا فأذن له لأجل عذره، ثم لما رجع كشف الله أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، وبين أنهم تخلفوا لغير عذر. والذين تخلفوا لغير عذر مع الإيمان عوقبوا بالهجر، حتى هجران نسائهم لهم، حتى تاب الله عليهم.
فإن قيل: فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها، وتجوزون تحريق البيوت عليه، إذا لم يكن فيها ذرية.
قيل له: من الأفعال ما يكون واجبًا، ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه، وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه، فيتركها متأولا. وفي زمن النبي ﷺ لم يكن لأحد تأويل؛ لأن النبي ﷺ قد باشرهم بالإيجاب.
وأيضا، كما ثبت في الصحيح والسنن: أن أعمي استأذن النبي ﷺ أن يصلي في بيته، فأذن له، فلما ولي دعاه، فقال: (هل تسمع النداء؟). قال: نعم، قال: (فأجب)، فأمره بالإجابة إذا سمع النداء؛ ولهذا أوجب أحمد الجماعة على من سمع النداء. وفي لفظ في السنن أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله، إني رجل شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال: (هل تسمع النداء؟) قال: نعم، قال: (لا أجد لك رخصة). وهذا نص في الإيجاب للجماعة، مع كون الرجل مؤمنا.
وأما احتجاجهم بتفضيل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده، فعنه جوابان مبنيان على صحة صلاة المنفرد لغير عذر، فمن صحح صلاته قال: الجماعة واجبة، وليست شرطا في الصحة، كالوقت فإنه لو أخر العصر إلى وقت الاصفرار كان آثما، مع كون الصلاة صحيحة، بل وكذلك لو أخرها إلى أن يبقي مقدار ركعة، كما ثبت في الصحيح: (من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر). قال: والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز، فقد قال تعالى: { إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 128، فجعل السعي إلى الجمعة خيرا من البيع، والسعي واجب والبيع حرام. وقال تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } 129
ومن قال: لا تصح صلاة المنفرد إلا لعذر، احتج بأدلة الوجوب، قال: وما ثبت وجوبه في الصلاة كان شرطا في الصحة، كسائر الواجبات.
وأما الوقت فإنه لا يمكن تلافيه، فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه، فنظير ذلك فوت الجمعة، وفوت الجماعة التي لا يمكن استدراكها. فإذا فوت الجمعة الواجبة كان آثما، وعليه الظهر، إذ لا يمكن سوي ذلك. وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها، وليس هناك جماعة أخري، فإنه يصلي منفردا وتصح صلاته هنا لعدم إمكان صلاته جماعة، كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة.
وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة، وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفردا لغير عذر، ثم أقيمت الجماعة، فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة، كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة.
واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة الذي في السنن عن النبي ﷺ: (من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له). ويؤيد ذلك قوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، فإن هذا معروف من كلام على وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر، وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي ﷺ، وقوي ذلك بعض الحفاظ. قالوا: ولا يعرف في كلام الله ورسوله حرف النفي دخل على فعل شرعي إلا لترك واجب فيه كقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، و(لا إيمان لمن لا أمانة له)، ونحو ذلك.
وأجاب هؤلاء عن حديث التفضيل. بأن قالوا: هو محمول على المعذور كالمريض ونحوه. فإن هذا بمنزلة قوله ﷺ: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، وأن تفضيله صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده كتفضيله صلاة القائم على صلاة القاعد. ومعلوم أن القيام واجب في صلاة الفرض دون النفل، كما أن الجماعة واجبة في صلاة الفرض دون النفل.
وتمام الكلام في ذلك: أن العلماء تنازعوا في هذا الحديث، وهو: هل المراد بهما المعذور، أو غيره؟ على قولين:
فقالت طائفة: المراد بهما غير المعذور. قالوا: لأن المعذور أجره تام، بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم). قالوا: فإذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان في الصحة، والإقامة، فكيف تكون صلاة المعذور قاعدا أو منفردا دون صلاته في الجماعة قاعدا؟! وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض؛ لأن القيام في الفرض واجب.
ومن قال هذا القول، لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعا؛ لأنه قد ثبت أنه قال: (ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم). وقد طرد هذا الدليل طائفة من متأخري أصحاب الشافعي، وأحمد، وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعا، لغير عذر؛ لأجل هذا الحديث، ولتعذر حمله على المريض، كما تقدم.
ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك، وعدوه بدعة، وحدثا في الإسلام. وقالوا: لا يعرف أن أحدا قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح. ولو كان هذا مشروعا، لفعله المسلمون على عهد نبيهم ﷺ، أو بعده، ولفعله النبي ﷺ ولو مرة لتبيين الجواز. فقد كان يتطوع قاعدا، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فلو كان هذا سائغا لفعله، ولو مرة. أو لفعله أصحابه. وهؤلاء الذين أنكروا هذا مع ظهور حجتهم قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم، حيث حملوا قوله: (تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة) على أنه أراد غير المعذور، فيقال لهم: لم كان التفضيل هنا في حق غير المعذور، والتفضيل هناك في حق المعذور، وهل هذا إلا تناقض؟!
وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور، فطرد دليله، وحينئذ، فلا يكون في الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر.
وأما ما احتج به منازعهم من قوله: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم) فجوابهم عنه: إن هذا الحديث دليل على أنه يكتب له مثل الثواب الذي كان يكتب له في حال الصحة والإقامة؛ لأجل نيته له، وعجزه عنه بالعذر.
وهذه قاعدة الشريعة: أن من كان عازما على الفعل عزما جازما وفعل ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل. فهذا الذي كان له عمل في صحته وإقامته عزمه أنه يفعله، وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه، فكان بمنزلة الفاعل. كما جاء في السنن: فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما ثبت في الصحيح من قوله ﷺ: (إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة حبسهم العذر). وقد قال تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } الآية 130. فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح، إذا كانت نيته أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح، فليس في الحديث أن صلاة المريض نفسها في الأجر مثل صلاة الصحيح، ولا أن صلاة المنفرد المعذور في نفسها مثل صلاة الرجل في الجماعة، وإنما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، كما يكتب له أجر صلاة الجماعة إذا فاتته مع قصده لها.
وأيضا، فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح، وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح، ولكن عجز عنه. فالحديث يدل على أنه من كان عادته الصلاة في جماعة، والصلاة قائما، ثم ترك ذلك لمرضه، فإنه يكتب له ما كان يعمل. وهو صحيح مقيم. وكذلك من تطوع على الراحلة في السفر، وقد كان يتطوع في الحضر قائما، يكتب له ما كان يعمل في الإقامة. فأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة، ولا الصلاة قائما إذا مرض،
فصلى وحده، أو صلى قاعدا، فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح.
ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعدا مثل صلاة القائم، وصلاته منفردا مثل الصلاة في جماعة، وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس، ولا قاله أحد.
وأيضا، فيقال: تفضيل النبي ﷺ لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولصلاة القائم على القاعد، والقاعد على المضطجع، إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة، حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة.
أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك، أو لا تصح، فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات، ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها، بل وجوب القيام والقعود، وسقوط ذلك، ووجوب الجماعة وسقوطها يتلقي من أدلة أخر. وكذلك أيضا: كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث، بل يتلقي من أحاديث أخر، وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم، لا لكل أحد.
وتثبت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض، كقوله ﷺ لعمران بن حصين: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب). وبين جواز التطوع قاعدا لما رآهم وهم يصلون قعودا، فأقرهم على ذلك، وكان يصلي قاعدا مع كونه كان يتطوع على الراحلة في السفر. كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه، فليس بينها تعارض ولا تناف، وإنما يظن التعارض والتنافي من حملها ما لا تدل عليه، ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله. والله أعلم.
سئل عن مسائل يكثر وقوعها، ويحصل الابتلاء بها
وسئل شَيخ الإسْلام رحمه الله عن مسائل يكثر وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، والضيق والحرج على رأي إمام بعينه. منها: مسألة الجماعة للصلاة هل هي واجبة أم سنة؟ وإذا قلنا: واجبة، هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها؟
فأجاب:
وأما الجماعة فقد قيل: إنها سنة. وقيل: إنها واجبة على الكفاية وقيل: إنها واجبة على الأعيان. وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن الله أمر بها في حال الخوف، ففي حال الأمن أولي، وآكد.
وأيضا، فقد قال تعالى { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } 131، وهذا أمر بها.
وأيضا، فقد ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم سأل النبي ﷺ أن يرخص له أن يصلي في بيته، فقال: (هل تسمع النداء؟) قال: نعم. قال: (فأجب). وفي رواية: (ما أجد لك رخصة). وابن أم مكتوم كان رجلا صالحا، وفيه نزل قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى } 132، وكان من المهاجرين، ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق، فعلم أنه لا رخصة لمؤمن في تركها.
وأيضا، فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). وفي رواية: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية). فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والأطفال، فإن تعذيب أولئك لا يجوز؛ لأنه لا جماعة عليهم.
ومن قال: إن هذا كان في الجمعة، أو كان لأجل نفاقهم، فقوله ضعيف. فإن المنافقين لم يكن النبي ﷺ يقتلهم لأجل النفاق، بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر. فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب، لما عاقبهم. والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر. وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم، وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة.
وأيضا، فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها، فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب.
فصل إذا ترك الجماعة من غير عذر
وإذا ترك الجماعة من غير عذر، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: تصح صلاته؛ لقول النبي ﷺ: (تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة).
والثاني: لا تصح، لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له). ولقوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، وقد قواه عبد الحق الإشبيلي.
وأيضًا، فإذا كانت واجبة، فمن ترك واجبًا في الصلاة، لم تصح صلاته.
وحديث التفضيل محمول على حال العذر. كما في قوله: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد). وهذا عام في الفرض والنفل.
والإنسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدًا أو نائمًا، إلا في حال العذر، وليس له أن يتطوع نائمًا عند جماهير السلف، والخلف، إلا وجهًا في مذهب الشافعي وأحمد.
ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعًا بدعة، لم يفعلها أحد من السلف، وقوله ﷺ: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)، يدل على أنه يكتب له لأجل نيته، وإن كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها، كتب له أجر الجماعة. وإن لم يكن يعتادها، لم يكن يكتب له. وإن كان في الحالين إن ما له بنفس الفعل صلاة منفرد. وكذلك المريض إذا صلى قاعدًا أو مضطجعًا. وعلى هذا القول، فإذا صلى الرجل وحده وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك، وإن لم يمكنه فعل الجماعة، استغفر الله، كمن فاتته الجمعة وصلي ظهرًا، وإن قصد الرجل الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة، كما وردت به السنة عن النبي ﷺ.
وإذا أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك الجماعة، وإن أدرك أقل من ركعة، فله بنيته أجر الجماعة، ولكن هل يكون مدركًا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده؟ فيه قولان للعلماء في مذهب الشافعي وأحمد.
أحدهما: أنه يكون كمن صلى في جماعة، كقول أبي حنيفة.
والثاني: يكون كمن صلى منفردًا، كقول مالك، وهذا أصح، لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة)، ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء: إنه لا يكون مدركًا للجمعة إلا بإدراك ركعة من الصلاة، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون: إنه يكون مدركًا لها إذا أدركهم في التشهد.
ومن فوائد النزاع في ذلك: أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة، فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين.
والصحيح أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة، وما دون ذلك لا يعتد له به، وإنما يفعله متابعة للإمام، ولو بعد السلام، كالمنفرد باتفاق الأئمة.
فصل صلاة الجماعة دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على وجوبها
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
فأما صلاة الجماعة، فاتبع ما دل عليه الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة من وجوبها، مع عدم العذر، وسقوطها بالعذر.
وتقديم الأئمة بما قدم به النبي ﷺ حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة). فيفرق بين العلم بالكتاب، أو العلم بالسنة، كما دل عليه الحديث. وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع، وفعلها على السنة، وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه. فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما، قدم الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامها، وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك.
وغيره قد يقول هي سنة مؤكدة. وقد يقول هي فرض على الكفاية.
ولهم في تقديم الأئمة خلاف، ويأمرهم بإقامة الصفوف فيها، كما أمر به النبي ﷺ من سننها الخمس: وهي تقويم الصفوف، ورصها، وتقاربها، وسد الأول فالأول، وتوسيط الإمام حتى ينهيىعما نهى عنه النبي ﷺ من صلاة المنفرد خلف الصف، ويأمره بالإعادة، كما أمر به النبي ﷺ في حديثين ثابتين عنه. فإنه أمر المنفرد خلف الصف بالإعادة، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة، وكما أمر المسيء في وضوئه الذي ترك موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة، فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة، والاصطفاف في الصلاة، والإتيان بأركانها.
والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي، منهم من لم يبلغه، أو لم يثبت عنده. والشافعي رآه معارضًا بكون الإمام يصلي وحده، وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم، وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف.
وأما أحمد، فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين، فإنه يستعمل كل حديث على وجهه، ولا يرد أحدهما بالآخر. فيقول في مثل هذه: المرأة إذا كانت مع النساء، صلت بينهن. وأما إذا كانت مع الرجال، لم تصل إلا خلفهم. وإن كانت وحدها؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال، فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم، كما أنها إذا صلت بالنساء، صلت بينهن؛ لأنه أستر لها، كما يصلي إمام العراة بينهم. وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أمَّ أن يتقدم بين يدي الصف.
ونقول: إن الإمام لا يشبه المأموم، فإن سنته التقدم لا المصافة، وسنة المؤتمين الاصطفاف. نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفردًا، فهذا قياس قول أحمد وغيره، ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها، فسقط بالعجز في الجماعة، كما يسقط غيره فيها، وفي متن الصلاة.
ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما، مع استدبار القبلة، والعمل الكثير، ومفارقة الإمام، ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانًا؛ ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على الإمام عند الحاجة، كحال الزحام ونحوه، وإن كان لا يجوز لغير حاجة، وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف.
ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام، وحل البقعة، ونحو ذلك للحاجة، فجوزوا، بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين، وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضي ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة، أو إلى فتنة في الأمة، ونحو ذلك. كما جاء في حديث جابر: (لا يؤمَّن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه، أو سوطه)؛ لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبًا، فيسقط بالعذر، كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر.
ومن اهتدي لهذا الأصل. وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر، فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها، فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسًا، كما قد يبتلي به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه. وإن كان ذلك الأوكد مقدورًا عليه، كما قد يبتلي به آخرون، فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين.
وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم، التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة، ولهذا كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقول: يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة، كما في صلاة الخوف. وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة، ومعاذ، ونحو ذلك. وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدي الروايتين عنه. فأما إذا جوزه مطلقًا، فلا كلام. وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال، فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة. والمنع مطلقًا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك، كما أن الجواز مطلقًا هو قول الشافعي.
ويشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام، فعنه ثلاث روايات:
أوسطها: جواز ذلك للحاجة، كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف، وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة، لما شق عليه طول الصلاة.
والثانية: المنع مطلقًا، كقول أبي حنيفة.
والثالثة: الجواز مطلقًا، كقول الشافعي؛ ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة، وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي ﷺ لأم ورقة أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا وتتأخر خلفهم، وإن كانوا مأمومين بها للحاجة، وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة. هذا مع ما روي عنه ﷺ من قوله: (لا تؤمن امرأة رجلا)، وأن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء.
ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي ﷺ من قوله في الإمام: (إذا صلى جالسًا
فصلوا جلوسًا أجمعون)، وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض، فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي ﷺ من مخالفة الإمام، والتشبه بالأعاجم في القيام له. وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودًا، والناس خلفهم قعود، كأسيد بن الحضير. ولكن كره هذا لغير الإمام الراتب؛ إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام به. ولهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضًا مزمنًا؛ لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة، ولم ير هذا منسوخًا بكونه في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدًا وهم قيام، لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله، ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته، مع شهودهم لفعله.
فيفرق بين القعود من أول الصلاة، والقعود في أثنائها، إذ يجوز الأمران جميعًا. إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال، مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه.
وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة، التي دل عليها قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 133، وقوله ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما، وسقط الآخر بالوجه الشرعي، والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء رضي الله عنهم.
وسئل عن أقوام يسمعون الداعي ولم يجيبوا؟ وفيهم من يصلي في بيته، وفيهم من لا تراه يصلي، ويراه جماعة من الناس، ولا يرونه بالصلاة، وحاله لم ترض الله ولا رسوله من جهة الصلاة وغيرها. فهل يجوز لمن يراه في هذه الحالة أن يولي عنه أو يسلم عليه؟ أفتونا مأجورين.
سئل هل يجوز لرجل إذا كان إماما في المسجد الذي هو فيه لم يصل فيه إلا نفران
وأيضًا، هل يجوز لرجل إذا كان إمامًا في المسجد الذي هو فيه لم يصل فيه إلا نفران أو ثلاثة في بعض الأيام هو يصلي فيه احتسابًا؟ وأيضًا، إن كان يصلي فيه بأجرة لا ما يطلب الصلاة في غيره إلا لأجل فضل الجماعة، وهل يجوز ذلك؟ أفتونا يرحمكم الله.
فأجاب:
الصلاة في الجماعات التي تقام في المساجد من شعائر الإسلام الظاهرة، وسنته الهادية. كما في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: إن هذه الصلوات الخمس في المسجد الذي تقام فيه الصلاة من سنن الهدي، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجال حتى يقام في الصف.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أتي النبي ﷺ رجل أعمي، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولي دعاه فقال: (أتسمع النداء بالصلاة)؟ قال: نعم، قال: (أجب)، وفي رواية في السنن: قال: (أتسمع النداء؟) قال: نعم، قال: (لا أجد لك رخصة).
وفي السنن عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: (من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر)، قالوا: ما العذر؟ قال: (خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلي). رواه أبو داود.
وصلاة الجماعة من الأمور المؤكدة في الدين باتفاق المسلمين. وهي فرض على الأعيان عند أكثر السلف، وأئمة أهل الحديث، كأحمد وإسحاق، وغيرهما، وطائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وهي فرض على الكفاية عند طوائف من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وهو المرجح عند أصحاب الشافعي.
والمصر على ترك الصلاة في الجماعة، رجل سوء ينكر عليه ويزجر على ذلك، بل يعاقب عليه، وترد شهادته. وإن قيل: إنها سنة مؤكدة. وأما من كان معروفًا بالفسق مضيعًا للصلاة، فهذا داخل في قوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 134، ويجب عقوبته على ذلك بما يدعوه إلى ترك المحرمات وفعل الواجبات.
ومن كان إمامًا راتبًا في مسجد، فصلاته فيه إذا لم تقم الجماعة إلا به أفضل من صلاته في غيره، وإن كان أكثر جماعة.
ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات، أو فعل المحرمات، فإنه يستحق أن يهجر، ولا يسلم عليه تعزيرًا له على ذلك، حتى يتوب. والله سبحانه أعلم.
سئل عن رجل يقتدى به في ترك صلاة الجماعة
وسئل عن رجل يقتدى به في ترك صلاة الجماعة؟
فأجاب:
من اعتقد أن الصلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مساجد المسلمين، فهو ضال مبتدع باتفاق المسلمين؛ فإن صلاة الجماعة إما فرض على الأعيان، وإما فرض على الكفاية.
والأدلة من الكتاب والسنة أنها واجبة على الأعيان، ومن قال: إنها سنة مؤكدة، ولم يوجبها، فإنه يذم من داوم على تركها، حتى أن من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة، سقطت عدالته عندهم، ولم تقبل شهادته، فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة؟ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين، ويلام على تركها، فلا يمكن من حكم ولا شهادة ولا فتيا مع إصراره على ترك السنن الراتبة، التي هي دون الجماعة، فكيف بالجماعة التي هي أعظم شعائر الإسلام؟ والله أعلم.
سئل عن رجل جار للمسجد ولم يحضر مع الجماعة الصلاة ويحتج بدكانه
وسئل عن رجل جار للمسجد، ولم يحضر مع الجماعة الصلاة ويحتج بدكانه.
فأجاب:
الحمد الله. يؤمر بالصلاة مع المسلمين، فإن كان لا يصلي، فإنه يستتاب. فإن تاب، وإلا قتل. وإذا ظهر منه الإهمال للصلاة لم يقبل قوله: إذا فرغت صليت، بل من ظهر كذبه لم يقبل قوله، ويلزم بما أمر الله به ورسوله.
سئل متى كانت الجماعة في غير مسجد فهي كصلاة الفذة
وسئل عن رجلين تنازعا في صلاة الفذ فقال أحدهما: قال ﷺ: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين)، وقال الآخر: متى كانت الجماعة في غير مسجد، فهي كصلاة الفذ.
فأجاب:
ليست الجماعة كصلاة الفذ، بل الجماعة أفضل ولو كانت في غير المسجد، لكن تنازع العلماء فيمن صلى جماعة في بيته، هل يسقط عنه حضور الجماعة في المسجد، أم لابد من حضور الجماعة في المسجد؟ والذي ينبغي له ألا يترك حضور الجماعة في المسجد إلا لعذر كما دلت على ذلك السنن والآثار. والله أعلم.
سئل متي كانت الجماعة في غير مسجد فهي كصلاة الفذة
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أدرك آخر جماعة، وبعد هذه الجماعة جماعة أخري، فهل يستحب له متابعة هؤلاء في آخر الصلاة؟ أو ينتظر الجماعة الأخري؟
فأجاب:
أما إذا أدرك أقل من ركعة، فهذا مبني على أنه هل يكون مدركًا للجماعة بأقل من ركعة، أم لابد من إدراك ركعة؟ فمذهب أبي حنيفة: أنه يكون مدركًا، وطرد قياسه في ذلك حتى قال في الجمعة: يكون مدركًا لها بإدراك القعدة فيتمها جمعة. ومذهب مالك: أنه لا يكون مدركًا إلا بإدراك ركعة، وطرد المسألة في ذلك حتى فيمن أدرك من آخر الوقت. فإن المواضع التي تذكر فيها هذه المسألة أنواع:
أحدها: الجمعة.
والثاني: فضل الجماعة.
والثالث: إدراك المسافر من صلاة المقيم.
والرابع: إدراك بعض الصلاة قبل خروج الوقت، كإدراك بعض الفجر قبل طلوع الشمس.
والخامس: إدراك آخر الوقت، كالحائض تطهر، والمجنون يفيق، والكافر يسلم في آخر الوقت.
والسادس: إدراك ذلك من أول الوقت عند من يقول إن الوجوب بذلك، فإن في هذا الأصل السادس نزاعًا. وأما مذهب الشافعي وأحمد فقالا في الجمعة بقول مالك؛ لاتفاق الصحابة على ذلك، فإنهم قالوا فيمن أدرك من الجمعة ركعة: يصلي إليها أخري، ومن أدركهم في التشهد صلى أربعا.
وأما سائر المسائل، ففيها نزاع في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد، وكثير من أصحابهما يرجح قول أبي حنيفة.
والأظهر هو مذهب مالك، كما ذكره الخِرْقي في بعض الصور، وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة). فهذا نص عام في جميع صور إدراك ركعة من الصلاة، سواء كان إدراك جماعة أو إدراك الوقت. وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر). وهذا نص في ركعة في الوقت.
وقد عارض هذا بعضهم بأن في بعض الطرق: (من أدرك سجدة)، وظنوا أن هذا يتناول ما إذا أدرك السجدة الأولى، وهذا باطل. فإن المراد بالسجدة الركعة، كما في حديث ابن عمر: حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب... إلى آخره. وفي اللفظ المشهور: ركعتين. وكما روي: أنه كان يصلي بعد الوتر سجدتين، وهما ركعتان، كما جاء ذلك مفسرا في الحديث الصحيح. ومن سجد بعد الوتر سجدتين مجردتين عملا بهذا، فهو غالط باتفاق الأئمة.
وأيضا، فإن الحكم عندهم ليس متعلقا بإدراك سجدة من السجدتين، فعلم أنهم لم يقولوا بالحديث. فعلى هذا، إذا كان المدْرَك أقل من ركعة وكان بعدها جماعة أخرى فصلى معهم في جماعة صلاة تامة، فهذا أفضل. فإن هذا يكون مصليا في جماعة؛ بخلاف الأول، وإن كان المدرك ركعة أو كان أقل من ركعة، وقلنا: إنه يكون به مدركا للجماعة، فهنا قد تعارض إدراكه لهذه الجماعة، وإدراكه للثانية من أولها، فإن إدراك الجماعة من أولها أفضل. كما جاء في إدراكها بحدها. فإن كانت الجماعتان سواء، فالثانية أفضل. وإن تميزت الأولى بكمال الفضيلة، أو كثرة الجمع، أو فضل الإمام، أو كونها الراتبة، فهي في هذه الجهة أفضل، وتلك من جهة إدراكها بحدها أفضل، وقد يترجح هذا تارة وهذا تارة. وأما إن قدر أن الثانية أكمل أفعالا، وإماما، أو جماعة، فهنا قد ترجحت من وجه آخر.
ومثل هذه المسألة لم تكن تعرف في السلف إلا إذا كان مدركا لمسجد آخر، فإنه لم يكن يصلي في المسجد الواحد إمامان راتبان، وكانت الجماعة تتوفر مع الإمام الراتب، ولا ريب أن صلاته مع الإمام الراتب في المسجد جماعة ولو ركعة خير من صلاته في بيته ولو كان جماعة. والله أعلم.
سئل عن رجل صلى فرضه ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون
وسئل عن رجل صلى فرضه، ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون، فهل له أن يصلي مع الجماعة من الفائت؟
فأجاب:
إذا صلى الرجل الفريضة ثم أتي مسجدا تقام فيه تلك الصلاة، فليصلها معهم، سواء كان عليه فائتة أو لم يكن، كما أمر النبي ﷺ بذلك حيث قال لرجلين لم يصليا مع الناس: فقال: (ما لكما لم تصليا؟ ألستما مسلمين؟) فقالا: يا رسول الله، صلينا في رحالنا. فقال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة).
ومن عليه فائتة، فعليه أن يبادر إلى قضائها على الفور، سواء فاتته عمدا أو سهوا، عند جمهور العلماء. كمالك وأحمد وأبي حنيفة، وغيرهم. وكذلك الراجح في مذهب الشافعي أنها إذا فاتت عمدا، كان قضاؤها واجبا على الفور.
وإذا صلى مع الجماعة نوي بالثانية معادة، وكانت الأولى فرضا والثانية نفلا على الصحيح، كما دل عليه هذا الحديث وغيره. وقيل: الفرض أكملهما. وقيل: ذلك إلى الله تعالى، والله أعلم.
سئل عن حديث يزيد بن الأسود قال شهدت حجة رسول الله
وسئل رَحمه الله عن حديث يزيد بن الأسود قال: شهدت حجة رسول الله ﷺ وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضي الصلاة وانحرف، فإذا هو برجلين في أخريات القوم لم يصليا، فقال: (على بهما)، فإذا بهما ترعد فرائصهما، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟) فقالا: يا رسول الله، إنا كنا صلينا في رحالنا، قال: (فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة).
والثاني: عن سلمان بن سالم قال: رأيت عبد الله بن عمر جالسا على البلاط، والناس يصلون، فقلت يا عبد الله، ما لك لا تصلي؟ فقال: إني قد صليت، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا تعاد صلاة مرتين، فما الجمع بين هذا، وهذا؟
فأجاب:
الحمد الله. أما حديث ابن عمر فهو في الإعادة مطلقا من غير سبب. ولا ريب أن هذا منهي عنه، وأنه يكره للرجل أن يقصد إعادة الصلاة من غير سبب يقتضي الإعادة، إذ لو كان مشروعا للصلاة الشرعية عدد معين، كان يمكن الإنسان أن يصلي الظهر مرات، والعصر مرات، ونحو ذلك، ومثل هذا لا ريب في كراهته.
وأما حديث ابن الأسود: فهو إعادة مقيدة بسبب اقتضي الإعادة، وهو قوله: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة). فسبب الإعادة هنا حضور الجماعة الراتبة، ويستحب لمن صلى ثم حضر جماعة راتبة أن يصلي معهم.
لكن من العلماء من يستحب الإعادة مطلقا، كالشافعي وأحمد. ومنهم من يستحبها إذا كانت الثانية أكمل، كمالك. فإذا أعادها، فالأولى هي الفريضة، عند أحمد وأبي حنيفة، والشافعي في أحد القولين. لقوله في هذا الحديث: (فإنها لكما نافلة). وكذلك قال في الحديث الصحيح: (إنه سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة). وهذا أيضا يتضمن إعادتها لسبب، ويتضمن أن الثانية نافلة. وقيل: الفريضة أكملهما. وقيل: ذلك إلى الله.
ومما جاء في الإعادة لسبب: الحديث الذي في سنن أبي داود لما قال النبي ﷺ: (ألا رجل يتصدق على هذا يصلي معه). فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة، ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعي وأحمد ومالك وقت النهي، وعند أبي حنيفة لا تشرع وقت النهي.
وأما المغرب: فهل تعاد على صفتها أم تشفع بركعة أم لا تعاد؟ على ثلاثة أقوال مشهورة للفقهاء.
ومما جاء فيه الإعادة لسبب ما ثبت أن النبي ﷺ في بعض صلوات الخوف صلى بهم الصلاة مرتين، صلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بطائفة أخرى ركعتين ثم سلم، ومثل هذا حديث معاذ بن جبل لما كان يصلي خلف النبي ﷺ، فهنا إعادة أيضا، وصلاة مرتين.
والعلماء متنازعون في مثل هذا وهي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل على ثلاثة أقوال:
فقيل: لا يجوز كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايات. وقيل: يجوز كقول الشافعي وأحمد في رواية ثانية. وقيل: يجوز للحاجة مثل حال الخوف، والحاجة إلى الائتمام بالمتطوع، ولا يجوز لغيرها كرواية ثالثة عن أحمد. ويشبه هذا إعادة صلاة الجنازة لمن صلى عليها أولا؛ فإن هذا لا يشرع بغير سبب باتفاق العلماء، بل لو صلى عليها مرة ثانية، ثم حضر من لم يصل. فهل يصلي عليها؟ على قولين للعلماء. قيل: يصلي عليها، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ويصلي عندهما على القبر، لما ثبت عن النبي ﷺ، وعن غير واحد من الصحابة، أنهم صلوا على جنازة بعد ما صلى عليها غيرهم. وعند أبي حنيفة ومالك ينهى عن ذلك، كما يُنْهيَان عن إقامة الجماعة في المسجد مرة بعد مرة، قالوا: لأن الفرض يسقط بالصلاة الأولى، فتكون الثانية نافلة، والصلاة على الجنازة لا يتطوع بها. وهذا بخلاف من يصلي الفريضة، فإنه يصليها باتفاق المسلمين؛ لأنها واجبة عليه، وأصحاب الشافعي وأحمد يجيبون بجوابين:
أحدهما: أن الثانية تقع فرضا عمن فعلها، وكذلك يقولون في سائر فروض الكفايات: أن من فعلها أسقط بها فرض نفسه، وإن كان غيره قد فعلها، فهو مخير بين أن يكتفي بإسقاط ذلك، وبين أن يسقط الفرض بفعل نفسه. وقيل: بل هي نافلة، ويمنعون قول القائل: إن صلاة الجنازة لا يتطوع بها، بل قد يتطوع بها، إذا كان هناك سبب يقتضي ذلك.
وينبني على هذين المأخذين: أنه إذا حضر الجنازة من لم يصل أولا فهل لمن صلى عليها أولا أن يصلي معه تبعا كما يفعل مثل هذا في المكتوبة؟ على وجهين. قيل: لا يجوز هنا؛ لأن فعله هنا نفل بلا نزاع. وهي لا يتنفل بها. وقيل: بل له الإعادة؛ فإن النبي ﷺ لما صلى على القبر، صلى خلفه من كان قد صلى أولا، وهذا أقرب. فإن هذه الإعادة بسبب اقتضاه، لا إعادة مقصودة وهذا سائغ في المكتوبة والجنازة. والله أعلم. وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
سئل عمن يجد الصلاة قد أقيمت فأيما أفضل صلاة الفريضة أو يأتي بالسنة
وسئل شَيخُ الإِسلاَم عمن يجد الصلاة قد أقيمت. فأيما أفضل: صلاة الفريضة أو يأتي بالسنة ويلحق الإمام ولو في التشهد؟ وهل ركعتا الفجر سنة للصبح أم لا؟
فأجاب:
قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وفي رواية: (فلا صلاة إلا التي أقيمت)، فإذا أقيمت الصلاة فلا يشتغل بتحية المسجد ولا بسنة الفجر، وقد اتفق العلماء على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد.
ولكن تنازعوا في سنة الفجر: والصواب أنه إذا سمع الإقامة، فلا يصلي السنة لا في البيت ولا في غير بيته. بل يقضيها إن شاء بعد الفرض. والسنة أن يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين سنة، والفريضة ركعتان، وليس بين طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان، والفريضة تسمى صلاة الفجر، وصلاة الغداة، وكذلك السنة تسمى سنة الفجر، وسنة الصبح، وركعتي الفجر، ونحو ذلك. والله أعلم.
سئل عن القراءة خلف الإمام
وسئل عن (القراءة خلف الإمام)؟
فأجاب:
الحمد الله. للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليه. وأصول الأقوال ثلاثة: طرفان، ووسط.
فأحد الطرفين: أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال.
والثاني: أنه يقرأ خلف الإمام بكل حال.
والثالث: وهو قول أكثر السلف، أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت، ولم يقرأ، فإن استماعه لقراءة الإمام خير من قراءته، وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه، فإن قراءته خير من سكوته، فالاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من السكوت، هذا قول جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما، وطائفة من أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، وهو القول القديم للشافعي، وقول محمد بن الحسن.
وعلى هذا القول: فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم؟ أو مستحبة؟ على قولين في مذهب أحمد.
أشهرهما أنها مستحبة، وهو قول الشافعي في القديم. والاستماع حال جهر الإمام: هل هو واجب أو مستحب؟ والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمة أو مكروهة؟ وهل تبطل الصلاة إذا قرأ؟ على قولين في مذهب أحمد، وغيره:
أحدهما: أن القراءة حينئذ محرمة، وإذا قرأ بطلت صلاته، وهذا أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله بن حامد، في مذهب أحمد.
والثاني: أن الصلاة لا تبطل بذلك، وهو قول الأكثرين، وهو المشهور من مذهب أحمد. ونظير هذا: إذا قرأ حال ركوعه وسجوده: هل تبطل الصلاة؟ على وجهين في مذهب أحمد؛ لأن النبي ﷺ نهى أن يقرأ القرآن راكعا أو ساجدا.
والذين قالوا: يقرأ حال الجهر، والمخافتة، إنما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، وما زاد على الفاتحة، فإن المشروع أن يكون فيه مستمعا لا قارئا.
وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة. أو مستحبة؟ على قولين:
أحدهما: أنها واجبة. وهو قول الشافعي في الجديد، وقول ابن حزم.
والثاني: أنها مستحبة، وهو قول الأوزاعي، والليث بن سعد، واختيار جدي أبي البركات، ولا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة، كما لا سبيل إلى الخروج من الخلاف في وقت العصر، وفي فسخ الحج، ونحو ذلك من المسائل.
يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي، وذلك أن كثيرا من العلماء يقول: صلاة العصر يخرج وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه، كالمشهور من مذهب مالك، والشافعي، وهو إحدي الروايتين عن أحمد.
وأبو حنيفة يقول: حينئذ يدخل وقتها، ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر، بخلاف غيرها فإنه إذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله، سوي ظل الزوال صحت صلاته، والمغرب أيضا تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد الغروب، والعشاء تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد مغيب الشفق الأبيض، إلى ثلث الليل، والفجر تجزئ باتفاقهم إذا صلاها بعد طلوع الفجر إلى الإسفار الشديد. وأما العصر فهذا يقول: تصلي إلى المثلين. وهذا يقول: لا تصلي إلا بعد المثلين. والصحيح أنها تصلي من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، فوقتها أوسع، كما قاله هؤلاء، وهؤلاء. وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن وهو الرواية الأخري عن أحمد.
والمقصود هنا أن من المسائل مسائل لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه، لكن والله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق.
ومن ذلك فسخ الحج إلى العمرة، فإن الحج الذي اتفق الأمة على جوازه، أن يهل متمتعا ويحرم بعمرة ابتداء، ويهل قارنا وقد ساق الهدي، فأما إن أفرد أو قرن ولم يسق الهدي، ففي حجه نزاع بين السلف والخلف.
والمقصود هنا القراءة خلف الإمام فنقول: إذا جهر الإمام استمع لقراءته، فإن كان لا يسمع لبعده، فإنه يقرأ في أصح القولين، وهو قول أحمد وغيره، وإن كان لا يسمع لصممه، أو كان يسمع همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره.
والأظهر أنه يقرأ؛ لأن الأفضل أن يكون إما مستمعا، وإما قارئا، وهذا ليس بمستمع، ولا يحصل له مقصود السماع، فقراءته أفضل من سكوته، فنذكر الدليل على الفصلين، على أنه في حال الجهر يستمع، وأنه في حال المخافتة يقرأ.
فالدليل على الأول: الكتاب والسنة والاعتبار:
أما الأول: فإنه تعالى قال: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 135، وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وقال بعضهم: في الخطبة، وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك، وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر.
ثم يقول: قوله تعالى: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لفظ عام، فأما أن يختص القراءة في الصلاة، أو في القراءة في غير الصلاة، أو يعمهما. والثاني باطل قطعا؛ لأنه لا يقل أحد من المسلمين أنه يجب الاستماع خارج الصلاة، ولا يجب في الصلاة، ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به ويجب عليه متابعته أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلة في الآية، إما على سبيل الخصوص، وإما على سبيل العموم. وعلى التقديرين، فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، وسواء كان أمر إيجاب أو استحباب.
فالمقصود حاصل. فإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة، وهذا صريح في دلالة الآية على كل تقدير، والمنازع يسلم أن الاستماع مأمور به دون القراءة، فيما زاد على الفاتحة. والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن. والفاتحة أم القرآن، وهي التي لابد من قراءتها في كل صلاة، والفاتحة أفضل سور القرآن. وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها، مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتها أكثر وأشهر، وهي أفضل من غيرها. فإن قوله: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ } يتناولها، كما يتناول غيرها، وشموله لها أظهر لفظا ومعني. والعادل عن استماعها إلى قرائتها، إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع، وهذا غلط يخالف النص والإجماع، فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة، والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها.
فلو كانت القراءة لما يقرأه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته، لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة، وهذا لم يقل به أحد وإنما نازع من نازع في الفاتحة لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر، أو مستحبة له حينئذ.
وجوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها، بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة، فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين، وهو القراءة، فلما دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة، علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ، وهذا المعني موجود في الفاتحة وغيرها، فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة، وحيئذ، فلا يجوز أن يؤمر بالأدني وينهى عن الأعلى.
وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي ﷺ أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة).
وهذا الحديث روي مرسلا، ومسندا لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلا عن عبد الله بن شداد عن النبي ﷺ، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسندا?، وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة. وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم، وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل.
فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة؛ لأن هذا من الأمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأمة، فكان بيانها في القرآن مما يحصل به مقصود البيان، وجاءت السنة موافقة للقرآن. ففي صحيح مسلم عن أبي موسي الأشعري قال: إن رسول الله ﷺ خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: (أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كَبَّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا). وهذا من حديث أبي موسي الطويل المشهور. لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض، فمنهم من لم يذكر قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ومنهم من ذكرها، وهي زيادة من الثقة، لا تخالف المزيد، بل توافق معناه، ولهذا رواها مسلم في صحيحه.
فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به، فإن من قرأ على قوم لا يستمعون قراءته، لم يكونوا مؤتمين به، وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم، فإن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها، حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجدًا سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفردًا، لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام، فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، ويسقط به ما يجب على المنفرد.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. قيل لمسلم بن الحجاج: حديث أبي هريرة صحيح، يعني: (وإذا قرأ فأنصتوا). قال: هو عندي صحيح. فقيل له: لما لا تضعه هاهنا؟ يعني في كتابه، فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه.
وروى الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ انصرف من صلاة جهر فيها، فقال: (هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟) فقال رجل: نعم. يا رسول الله، قال: (إني أقول: ما لي أنازع القرآن). قال: فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله ﷺ فيما جهر فيه النبي ﷺ بالقراءة في الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله ﷺ. رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن. قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيي بن فارس، يقول: قوله: فانتهي الناس، من كلام الزهري. وروى عن البخاري نحو ذلك، فقال: في الكني من التاريخ، وقال أبو صالح: حدثني الليث، حدثني يوسف عن ابن شهاب، سمعت ابن أكيمة الليثي يحدث أن سعيد ابن المسيب سمع أبا هريرة يقول: صلىلنا النبي ﷺ صلاة جهر فيها بالقراءة ثم قال: (هل قرأ منكم أحد معي؟) قلنا: نعم. قال: (إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟). قال: فانتهي الناس عن القراءة فيما جهر الإمام. قال الليث: حدثني ابن شهاب ولم يقل: فانتهي الناس، وقال بعضهم: هو قول الزهري. وقال بعضهم: هو قول ابن أكيمة، والصحيح أنه قول الزهري.
وهذا إذا كان من كلام الزهري، فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي ﷺ، فإن الزهري من أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل زمانه بالسنة. وقراءة الصحابة خلف النبي ﷺ إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة، تكون من الأحكام العامة، التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فيكون الزهري من أعلم الناس بها. فلو لم يبينها، لاستدل بذلك على انتفائها، فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي ﷺ في الجهر.
فإن قيل: قال البيهقي: ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري.
قيل: ليس كذلك، بل قد قال أبو حاتم الرازي فيه: صحيح الحديث، حديثه مقبول. وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال: روى عنه الزهري، وسعيد بن أبي هلال، وابن أبيه عمر، وسالم بن عمار بن أكيمة بن عمر.
وقد روى مالك في موطئه عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: من صلى ركعة لم يقرأ فيها، لم يصل إلا وراء الإمام. وروى أيضا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ خلف الإمام؟ يقول: إذا صلىأحدكم خلف الإمام، تجزئه قراءة الإمام. وإذا صلىوحده، فليقرأ. قال: وكان عبد الله بن عمر، لا يقرأ خلف الإمام. وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء.
وروى البيهقي عن أبي وائل، أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت للقرآن، فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الإمام. وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة، وأهل الكوفة من الصحابة، وفي كلاهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام.
وكذلك البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام عن على بن أبي طالب قال: وروى الحارث عن على يسبح في الأخريين، قال: ولم يصح. وخالفه عبيد الله بن أبي رافع، حدثنا عثمان بن سعيد، سمع عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع، مولي بني هاشم، حدثه عن على بن أبي طالب: إذا لم يجهر الإمام في الصلوات، فاقرأ بأم الكتاب، وسورة أخرى في الأوليين، من الظهر والعصر، وفاتحة الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر، وفي الآخرة من المغرب، وفي الأخريين من العشاء.
وأيضًا، ففي إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة، دليل على أن استماعه لقراءة الإمام خير له من قراءته معه، بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الإمام.
وأيضًا، فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين: إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ، ولم نعلم نزاعًا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة. فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر، بل نقول: لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة، لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، ولا يستحب للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وحجتهم في ذلك أن النبي ﷺ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل هذا أحد عنه، بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح، وفي السنن أنه كان له سكتتان: سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة، وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة. وقد روى أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة، ولم يقل أحد: إنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات، فمن نقل عن النبي ﷺ ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله: { وَلاَ الضَّالينَ } من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي. ومثل هذا لا يسمي سكوتًا؛ ولهذا لم يقل أحد من العلماء: إنه يقرأ في مثل هذا.
وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رؤوس الآي. فإذا قال الإمام: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، قال: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وهذا لم يقله أحد من العلماء.
وقد اختلف العلماء في سكوت الإمام على ثلاثة أقوال: فقيل: لا سكوت في الصلاة بحال، وهو قول مالك. وقيل: فيها سكتة واحدة للاستفتاح، كقول أبي حنيفة. وقيل فيها: سكتتان، وهو قول الشافعي، وأحمد، وغيرهما لحديث سمرة بن جندب: أن رسول الله ﷺ كان له سكتتان: سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية. قبل أن يركع، فذكر ذلك لعمران بن حصين، فقال: كذب سمرة. فكتب في ذلك إلى المدينة إلى أبي بن كعب، فقال: صدق سمرة. رواه أحمد، واللفظ له وأبو داود وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن.
وفي رواية أبي داود: (سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من { غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ } 136 وأحمد رجح الرواية الأولى، واستحب السكتة الثانية؛ لأجل الفصل. ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم، ولكن بعض أصحابه استحب ذلك. ومعلوم أن النبي ﷺ لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد، علم أنه لم يكن.
والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين، وذلك أنها سكتة يسيرة، قد لا ينضبط مثلها، وقد روى أنها بعد الفاتحة. ومعلوم أنه لم يسكت إلا سكتتين، فعلم أن إحداهما طويلة، والأخري بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة.
وأيضًا، فلو كان الصحابة كلهم يقرؤون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى، وإما في الثانية، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرؤون الفاتحة، مع أن ذلك لو كان مشروعًا، لكان الصحابة أحق الناس بعلمه، وعمله، فعلم أنه بدعة.
وأيضًا، فالمقصود بالجهر استماع المأمومين، ولهذا يؤمِّنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءتة، وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه، ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تنزه عنه الشريعة. ولهذا روى في الحديث: (مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا). فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه.
فصل لا يستفتح ولا يتعوذ في حال جهر الإمام
وإذا كان المأموم مأمورًا بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام، لم يشتغل عن ذلك بغيرها، لا بقراءة، ولا ذكر، ولا دعاء. ففي حال جهر الإمام لا يستفتح ولا يتعوذ. وفي هذه المسألة نزاع. وفيها ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد. قيل: إنه حال الجهر يستفتح ويتعوذ، ولا يقرأ؛ لأنه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة، بخلاف الاستفتاح والاستعاذة، فإنه لا يسمعها.
وقيل: يستفتح ولا يتعوذ، لأن الاستفتاح تابع لتكبيرة الإحرام بخلاف التعوذ، فإنه تابع للقراءة، فمن لم يقرأ لا يتعوذ.
وقيل: لا يستفتح ولا يتعوذ حال الجهر، وهذا أصح. فإن ذلك يشغل عن الاستماع والإنصات المأمور به، وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء من الأشياء.
ثم اختلف أصحاب أحمد: فمنهم من قال هذا الخلاف إنما هو في حال سكوت الإمام، هل يشتغل بالاستفتاح، أو الاستعاذة، أو بأحدهما، أو لا يشتغل إلا بالقراءة لكونها مختلفا في وجوبها. وأما في حال الجهر، فلا يشتغل بغير الإنصات. والمعروف عند أصحابه أن هذا النزاع هو في حال الجهر، لما تقدم من التعليل. وأما في حال المخافتة، فالأفضل له أن يستفتح، واستفتاحه حال سكوت الإمام أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد، وأبي حنيفة وغيرهما؛ لأن القراءة يعتاض عنها بالاستماع، بخلاف الاستفتاح.
وأما قول القائل: إن قراءة المأموم مختلف في وجوبها، فيقال: وكذلك الاستفتاح هل يجب؟ فيه قولان مشهوران في مذهب أحمد. ولم يختلف قوله: إنه لا يجب على المأموم القراءة في حال الجهر. واختار ابن بطة وجوب الاستفتاح، وقد ذكر ذلك روايتين عن أحمد.
فَعُلِم أن من قال من أصحابه كأبي الفرج بن الجوزي أن القراءة حال المخافتة أفضل في مذهبه من الاستفتاح، فقد غلط على مذهبه. ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر، وهذا ما علمت أحدا قاله من أصحابه قبل جدي أبي البركات، وليس هو مذهب أحمد ولا عامة أصحابه، مع أن تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي ﷺ، ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في نفس الأمر، لطلب الاحتياط.
وعلى هذا، ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة إذا لم يقرأ؟ على روايتين.
والصواب: أن الاستعاذة لا تشرع إلا لمن قرأ، فإن اتسع الزمان للقراءة، استعاذ وقرأ، وإلا أنصت.
فصل في القراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام
وأما الفصل الثاني وهو القراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام، كحال مخافتة الإمام وسكوته، فإن الأمر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره، فإن قراءة القرآن في الصلاة أفضل منها خارج الصلاة، وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره؛ لقوله ﷺ: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: { الم } حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). قال الترمذي: حديث صحيح.
وقد ثبت في خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم عن أبي? هريرة عن النبي ﷺ قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج)، ثلاثا أي: غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إني أكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }، قال الله: أثني على عبدي. فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، قال: مجدني عبدي وقال مرة: فوض إلى عبدي فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ }، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل).
وروى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه: بسبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: (أيكم قرأ؟) أو (أيكم القارئ؟) قال رجل: أنا. قال: (قد ظننت أن بعضكم خالجنيها). رواه مسلم. فهذا قد قرأ خلفه في صلاة الظهر، ولم ينهه ولا غيره عن القراءة، لكن قال: (قد ظننت أن بعضكم خالجنيها)، أي: نازعنيها. كما قال في الحديث الآخر: (إني أقول: ما لي أُنازَع القرآن).
وفي المسند عن ابن مسعود قال: كانوا يقرؤون خلف النبي ﷺ، فقال: (خلطتم على القرآن). فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه، وخلط عليه القرآن، وهذا لا يكون ممن قرأ في نفسه بحيث لا يسمعه غيره، وإنما يكون ممن أسمع غيره، وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره، لا لأجل كونه قارئا خلف الإمام. وأما مع مخافتة الإمام، فإن هذا لم يرد حديث بالنهي عنه، ولهذا قال: (أيكم القارئ؟) أي القارئ الذي نازعني، لم يرد بذلك القارئ في نفسه. فإن هذا لا ينازع، ولا يعرف أنه خالج النبي ﷺ. وكراهة القراءة خلف الإمام إنما هي إذا امتنع من الإنصات المأمور به، أو إذا نازع غيره، فإذا لم يكن هناك إنصات مأمور به، ولا منازعة، فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن في الصلاة. والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع، فيفوته الاستماع والقراءة جميعا، مع الخلاف المشهور في وجوب القراءة في مثل هذه الحال، بخلاف وجوبها في حال الجهر، فإنه شاذ، حتى نقل أحمد الإجماع على خلافه.
وأبو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، أن ذلك يعم الإمام والمأموم.
وأيضا، فجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرا يشرع للمأموم أن يقولها سرا كالتسبيح في الركوع والسجود، وكالتشهد والدعاء. ومعلوم أن القراءة أفضل من الذكر والدعاء، فلأي معني لا تشرع له القراءة في السر، وهو لا يسمع قراءة السر، ولا يؤمن على قراءة الإمام في السر.
وأيضا، فإن الله سبحانه لما قال: { وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 137، وقال: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } 138. وهذا أمر للنبي ﷺ، ولأمته، فإنه ما خوطب به، خوطبت به الأمة ما لم يرد نص بالتخصيص، كقوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } 139، وقوله: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ } 140، وقوله: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ } 141، ونحو ذلك. وهذا أمر يتناول الإمام والمأموم والمنفرد بأن يذكر الله في نفسه بالغدو والآصال، وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر، فيكون المأموم مأمورا بذكر ربه في نفسه لكن إذا كان مستمعا، كان مأمورا بالاستماع، وإن لم يكن مستمعا، كان مأمرا بذكر ربه في نفسه. والقرآن أفضل الذكر كما قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } 142، وقال تعالى: { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا } 143، وقال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي } 144، وقال: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } 145.
وأيضا، فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء، ليس عبادة، ولا مأمورا به، بل يفتح باب الوسوسة. فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت، وقراءة القرآن من أفضل الخير، وإذا كان كذلك، فالذكر بالقرآن أفضل من غيره، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر). رواه مسلم في صحيحه. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه، فقال: (قل: سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه). فقال: يا رسول الله، هذا للَّه، فما لي؟ قال: (قل: اللهم، ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني). فلما قام قال: هكذا بيديه فقال رسول الله ﷺ: (أما هذا فقد ملأ يديه من الخير). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.
والذين أوجبوا القراءة في الجهر، احتجوا بالحديث في السنن عن عبادة أن النبي ﷺ قال: (إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة. وقد بسط الكلام على ضعفه في غيرهذا الموضع، وبين أن الحديث الصحيح قول النبي ﷺ: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين، ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة. وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين وأصله: أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة.
وأيضا، فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة، وبسطوا القول فيها، وفي غيرها من المسائل. وتارة أفردوا القول فيها في مصنفات مفردة، وانتصر طائفة للإثبات في مصنفات مفردة: كالبخاري وغيره. وطائفة للنفي: كأبي مطيع البَلْخِي، وكرام، وغيرهما.
ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط. فإن عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين، قول من ينهي عن القراءة خلف الإمام، حتى في صلاة السر. وقول من يأمر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الإمام. والبخاري ممن بالغ في الانتصار للإثبات بالقراءة حتى مع جهر الإمام، بل يوجب ذلك، كما يقوله الشافعي في الجديد، وابن حزم، ومع هذا، فحججه ومصنفه إنما تتضمن تضعيف قول أبي حنيفة في هذه المسألة وتوابعها، مثل كونه.
وقالَ أيضا رَحِمَهُ الله في القراءة خلف الإمام بعد كلام:
والنبي ﷺ قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وهذا أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم في صحيحيهما، وعليه اعتمد البخاري في مصنفه. فقال: باب وجوب القراءة في كل ركعة. وروي هذا الحديث من طرق: مثل رواية ابن عيينة، وصالح بن كَيْسَان، ويوسف بن زيد. قال البخاري: وقال معمر عن الزهري: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا). وعامة الثقاة. لم يتابع معمرا في قوله: (فصاعدا)، مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب، وقوله: (فصاعدا) غير معروف ما أراد به حرفان أو أكثر من ذلك، إلا أن يكون كقوله: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا)، فقد تقطع اليد في ربع دينار، وفي أكثر من دينار. قال البخاري: ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرا، وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا يعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا.
قلت: معنى هذا حديث صحيح، كما رواه أهل السنن، وقد رواه البخاري في هذا المصنف: حدثنا مسدد، ثنا يحيي بن سعيد، ثنا أبو عثمان النهدي، عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ أمره فنادي ألا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وما زاد. وقال أيضا: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: تجزئ بفاتحة الكتاب فإن زاد، فهو خير. وذكر الحديث الآخر عن أبي سعيد في السنن. قال البخاري حدثنا أبو الوليد، حدثنا همام عن قتادة، عن أبي نضرة قال: أمرنا نبينا ﷺ أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر.
قلت: وهذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الإمام، فإن أحدا لا يقول أن زيادته على الفاتحة، وترك إنصاته لقراءة الإمام في هذه الحال خير. ولا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة، وكذلك عللها البخاري في حديث عبادة، فإنها تدل على أن المأموم المستمع لم يدخل في الحديث، ولكن هب أنها ليست في حديث عبادة، فهي في حديث أبي هريرة.
وأيضا، فالكتاب والسنة يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام، ومن العلماء من أبطل صلاته إذا لم ينصت، بل قرأ معه.
وحينئذ، يقال تعارض عموم قوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، وعموم الأمر بالإنصات، فهؤلاء يقولون: ينصت إلا في حال قراءة الفاتحة، وأولئك يقولون: قوله (لا صلاة إلا بأم القرآن)، يستثني منه المأمور بالإنصات، إن سلموا شمول اللفظ له، فإنهم يقولون: ليس في الحديث دلالة على وجوب القراءة على المأموم، فإنه إنما قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن). وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع، أن إنصات المأموم لقراءة إمامه، يتضمن معني القراءة معه وزيادة. فإن استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به بالقراءة باتفاقهم، فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة إمامه أفضل من القارئ، لكان قراءته أفضل له، ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن، ولا يمكنه الجمع بين الإنصات والقراءة. ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة، لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول.
وأيضا، فهذا عموم قد خص منه المسبوق، بحديث أبي بكرة وغيره وخص منه الصلاة بإمامين، فإن النبي ﷺ لما صلى بالناس، وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة، قرأ من حيث انتهي أبو بكر ولم يستأنف قراءة الفاتحة لأنه بني على صلاة أبي بكر، فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع، فعن المأموم أولى.
وخص منه حال العذر، وحال استماع الإمام حال عذر، فهو مخصوص. وأمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، لم يخص معه شيء لا بنص خاص، ولا إجماع. وإذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ، والآخر مخصوص، وجب تقديم المحفوظ.
وأيضا، فإن الأمر بالإنصات داخل في معني اتباع المأموم، وهو دليل على أن المنصت يحصل له بإنصاته واستماعه ما هو أولى به من قراءته، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الخطبة. وفي القراءة في الصلاة في غير محل النزاع، فالمعني الموجب للإنصات يتناول الإنصات عن الفاتحة وغيرها.
وأما وجوب قراءتها في كل صلاة، فإذا أنصت إلى الإمام، الذي يقرأها كان خيرا مما يقرأ لنفسه. وهو لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصي، لكانت صلاته في المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ تجزئه، بل هو أفضل له كما دلت على ذلك السنة، وهو لم يوجب على نفسه إلا الصلاة في البيت المقدس، لكن هذا أفضل منه. فإذا كان هذا في إيجابه على نفسه جعل الشارع الأفضل يقوم مقام المنذور، وإلغاء تعيينه هو بالنذر، فكيف يوجب الشارع شيئا ولا يجعل أفضل منه يقوم مقامه، والشارع حكيم لا يعين شيئا قط وغيره أولى بالفعل منه، بخلاف الإنسان، فإنه قد يخص بنذره ووقفه ووصيته ما غيره أولى منه، وقد أمر النبي ﷺ المصلي إذا سهي بسجود السهو في غير حديث.
ثم المأموم إذا سهى يتحمل إمامه عنه سهوه؛ لأجل متابعته له، مع إمكانه أن يسجد بعد سلامه. وإنصاته لقراءته أدخل في المتابعة. فإن الإمام إنما يجهر لمن يستمع قراءته، فإذا اشتغل أحد من المصلين بالقراءة لنفسه كان كالمخاطب لمن لا يستمع إليه، كالخطيب الذي يخطب الناس وكلهم يتحدثون، ومن فعل هذا فهو كما جاء في الحديث: (كحمار يحمل أسفارا). فإنه لم يفقه معني المتابعة، كالذي يرفع رأسه قبل الإمام، فإنه كالحمار؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (أما يخشي الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار؟!)، فإنه متبع للإمام فكيف يسابقه؟! ولهذا ضرب عمر من فعل ذلك، وقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت. وأمر إذا رفع رأسه سهوا أن يعود فيتخلف بقدر ما سبق به الإمام. وقد نص أحمد وغيره على ذلك، وذكر هو وغيره الآثار في ذلك عن الصحابة.
فقول النبي ﷺ: (من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج). وفي تمامه: فقلت: يا أبا هريرة، إني أكون أحيانا وراء الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت النبي ﷺ يقول: (قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين...) الحديث إلى آخره. وهو حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه.
والبخاري احتج به في هذا المصنف، وإن كان لم يخرجه في صحيحه على عادته في مثل ذلك، وإسناده المشهور الذي رواه مسلم حديث العلاء عن ابن السائب عن أبي هريرة، وبعضهم يقول: عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه من حديث عائذ، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال البخاري: ثنا محمد بن عبد الله الرَّقَاشِي، ثنا يزيد بن زُرَيع، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا يحيي بن عباد، عن أبيه، عن عائشة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج). قال البخاري: وزاد يزيد بن هارون بفاتحة الكتاب، قال: وحدثنا موسي بن إسماعيل، ثنا أبان، ثنا عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النبي ﷺ قال: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآ فهي مخدجة).
وقال: حدثنا هلال بن بشر، ثنا يوسف بن يعقوب السلعي، ثنا حسن المعلم عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، فهي خداج).
وقال البخاري: ثنا موسي، ثنا داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن أبي هريرة: في كل صلاة قراءة، ولو بفاتحة الكتاب، فما أعلن لنا النبي ﷺ، فنحن نعلنه، وما أسر فنحن نسره. وروى من طريقين عن أبي الزاهرية: ثنا كثير بن مرة، سمع أبا الدرداء يقول: سئل رسول الله ﷺ أفي كل صلاة قراءة؟ قال: (نعم).فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه. وهذه الأحاديث بمنزلة قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فإن المستمع المنصت قارئ بل أفضل من القارئ لنفسه، ويدل على ذلك: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما زاد). وقوله: (أمرنا أن نقرأ بها وما تيسر). فإن المستمع المنصت ليس مأمورا بقراءة الزيادة.
وأيضا، فقول أبي هريرة: ما أُسْمِعنا أسمعناكم، وما أخفي علينا أخفينا عليكم، دليل على أن المراد به الإمام، وإلا فالمأموم لا يسمع أحد قراءته.
وأما قوله: أفي كل صلاة قراءة؟، وقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، فصلاة المأموم المستمع لقراءة الإمام فيها قراءة، بل الأكثرون يقولون: الإمام ضامن لصلاته، فصلاته في ضمن صلاة الإمام، ففيها القراءة. وجمهورهم يقولون إذا كان الإمام أميا لم يقتد به القارئ.فلو كانت قراءة الإمام لا تغني عن المأموم شيئا، بل كل يقرأ لنفسه، لم يكن فرق بين عجزه عن القراءة، وعجزه عن غير ذلك من الواجبات؛ ولأن المأموم مأمور باستماع ما زاد على الفاتحة، وليست قراءة واجبة. فكيف لا يؤمر بالاستماع لقراءة الإمام الفاتحة، وهي الفرض؟ وكيف يؤمر باستماع التطوع، دون استماع الفرض؟ وإذا كان الاستماع للقراءة الزائدة على الفاتحة واجبا بالكتاب والسنة والإجماع، فالاستماع لقراءة الفاتحة أوجب.
ثم قال البخاري: وقيل له: احتجاجك بقول الله: { وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } 146، أرأيت إذا لم يجهر الإمام أيقرأ خلفه؟ فإن قال: لا، تبطل دعواه؛ لأن الله قال: { فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }. وإنما يستمع لما يجهر، مع أنا نستعمل قول الله تعالى: { فَاسْتَمِعُواْ لَهُ } نقول: يقرأ خلف الإمام عند السكتات. قال سُمرة: كان للنبي ﷺ سَكْتَات: سكتة حين يكبر، وسكتة حين يفرغ من قراءته. وقال ابن خُثَيم: قلت لسعيد بن جبير: أقرأ خلف الإمام؟ قال: نعم، وإن سمعت قراءته. فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه. إن السلف كان إذا أم أحدهم الناس كبر ثم أنصت، حتى يظن أن من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصت. وقال أبو هريرة: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يقرأ سكت سكتة، قال: وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن، وميمون بن مهران، وغيرهم، وسعيد بن جبير، يرون القراءة عند سكوت الإمام ليكون مقتديا بقول النبي ﷺ: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، فتكون قراءته في السكتة. فإذا قرأ الإمام، أنصت، حتى يكون متبعا لقول الله تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } 147، وقوله: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّي وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } 148.
وإذا ترك الإمام شيئا من حق الصلاة، فحق على من خلفه أن يتموا، قال علقمة: إن لم يتم الإمام أتممنا. وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن هلال: أقرأ بالحمد يوم الجمعة. قال: وقال آخرون من هؤلاء: يجزئه أن يقرأ بالفارسية، ويجزئه أن يقرأ بآية ينقض آخرهم على أولهم بغير كتاب ولا سنة.
وقيل له: من أباح لك الثناء والإمام يقرأ بخبر أو قياس وحظر على غيرك الفرض، وهي القراءة، ولا خبر عندك ولا اتفاق، لأن عدة من أهل المدينة لم يروا الثناء للإمام، ولا لغيره، يكبرون ثم يقرؤون فتحير عندهم في ريبهم يترددون مع أن هذا صنعه في أشياء من الفرض، فجعل الواجب أهون من التطوع. زعمت أنه إذا لم يقرأ في الركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء يجزئه، وإذا لم يقرأ في ركعة من أربع من التطوع، لم يجزئه.
قلت: وإذا لم يقرأ في ركعة من المغرب أجزأه، وإذا لم يقرأ في ركعة من الوتر لم يجزه، فكأنه يريد أن يجمع بين ما فرق رسول الله ﷺ أو يفرق بين ما جمع رسول الله ﷺ.
قلت: أما سكتة النبي ﷺ حين يكبر، فقد بين أبو هريرة في حديثه المتفق على صحته: أنه كان يذكر فيها دعاء الاستفتاح، لم يكن سكوتا محضا، لأجل قراءة المأمومين. وثبت في الصحيح أن عمر كان يكبر ويجهر بدعاء الاستفتاح، يعلمه الناس. وأما احتجاجه على من استفتح حال الجهر، فهذا فيه نزاع معروف، هل يستفتح في حال الجهر ويتعوذ، أو يستفتح ولا يتعوذ إلا إذا قرأ، أولا يستفتح حال الجهر، ولا يتعوذ فيه؟ فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد.
لكن الأظهر ما احتج به البخاري، فإن الأمر بالإنصات يقتضي الإنصات عن كل ما يمنعه من استماع القراءة، من ثناء وقراءة، ودعاء كما ينصت للخطبة، بل الإنصات للقراءة أوكد. ولكن إذا سكت الإمام السكتة الأولى للثناء، فهنا عند أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استفتاح المأموم أولى من قراءة الفاتحة في هذه السكتة؛ لأن مقصود القراءة تحصل له باستماعه لقراءة الإمام. وأما مقصود الاستفتاح فلا يحصل له إلا باستفتاحه لنفسه؛ ولأن النبي ﷺ كان يسكت مستفتحا، وعمر كان يجهر بالاستفتاح ليعلمه المأمومين، فَعُلِم أنه مشروع للمأموم. ولو اشتغل عنه بالقراءة لفاته الاستفتاح، والنبي ﷺ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون في حال سكوته، وهذا مذهب جمهور العلماء لا يستحبون للإمام سكوتا لقراءة المأموم، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة ومالك وغيرهم.
ومن أصحاب أحمد من استحب له السكوت لقراءة المأموم، ومنهم من استحب له في حال سكوت الإمام أن يقرأ ولا يستفتح، وهو اختيار أبي بكر الدينوري، وأبي الفرج ابن الجوزي.
ومنهم من استحب له القراءة بالفاتحة في حال جهر الإمام. كما اختاره جدي أبوالبركات. وهو مذهب الليث والأوزاعي وغيرهما.
ثم من هؤلاء من يستحب له أن يستفتح في حال سكوته، ويقرأ ليجمع بينهما. ومنهم من يستحب له القراءة دون السكوت.
كما أن الذين يكرهون قراءته حال الجهر: منهم من يستحب له الاستفتاح حال الجهر، ومنهم من يكرهه، وهو روايتان عن أحمد، ومذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما أنه في حال سكوته للاستفتاح يستفتح، وهو الأظهر.
وما ذكره البخاري من أن عدة من أهل المدينة لم يروا الاستفتاح كمذهب مالك: هو حجة للجمهور؛ لأنهم يقولون: الإمام هنا لا سكوت له، وحينئذ، فإن قرأنا معه، خالفنا الكتاب والسنة. لكن ما ذكره البخاري حجة على من يستفتح حينئذ، فيشتغل بالاستفتاح عن استماع القراءة. وهؤلاء نظروا إلى أن الإمام يحمل القراءة عن المأموم، ولا يحمل عنه الاستفتاح، لكن هذا إنما يدل على عدم وجوب القراءة، والمأموم مأمور بالاستماع والإنصات، فلا يشتغل عن ذلك بثناء، كما لا يشتغل عنه بقراءة، والقراءة أفضل من الثناء، فإن كان الإمام يسكت للثناء وأدركه المأموم، أثني معه، وإن كان لا يسكت، أو أدرك المأموم وهو يقرأ، فهو مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يعدل عما أمر به.
فإن قيل في وجوب الثناء قولان في مذهب أحمد، قيل في وجوب القراءة على المأموم قولان في مذهب أحمد، وإذا نهي عن القراءة لاستماع قراءة الإمام، فلأن ينهي عن الثناء أولى، لقوله: { فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } 149 وإلا تناقضوا، كما ذكره البخاري.
وأما قول أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين..) إلى آخره. فقد يقال: إن أبا هريرة إنما أمره بالقراءة؛ لما في ذلك من الفضيلة المذكورة في حديث القسمة، لا لقوله: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)، فإنه لو كان صلاة المأموم خداجا، إذا لم يقرأ، لأمره بذلك، لأجل ذلك الحديث. ولم يعلل الأمر بحديث القسمة. اللهم إلا أن يقال: ذكره توكيدا، أو لأنه لما قسم القراءة قسم الصلاة، فدل على أنه لابد منها في الصلاة، إذ لو خلت عنها لم تكن القسمة موجودة. وعلى هذا يبقي الحديثان مدلولهما واحد.
وقوله: اقرأ بها في نفسك، مجمل، فإن أراد ما أراد غيره من القراءة في حال المخافتة، أو سكوت الإمام، لم يكن ذلك مخالفا؛ لقول أولئك، يؤيد هذا أن أبا هريرة ممن روى قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، وروى قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وما زاد)، وقال: (تجزئ فاتحة الكتاب وإذا زاد فهو خير). ومعلوم أن هذا لم يتناول المأموم المستمع لقراءة الإمام، فإن هذا لا تكون الزيادة على الفاتحة خيرا له، بل الاستماع والإنصات خير له، فلا يجزم حينئذ بأنه أمره أن يقرأ حال استماعه لقراءة الإمام بلفظ مجمل.
قال البخاري: وروى ابن صالح عن الأصفهاني، عن المختار، عن عبد الله بن أبي ليلي، عن أبيه، عن على: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة. قال: وهذا لم يصح؛ لأنه لا يعرف المختار، ولا يدري أنه سمع من ابنه، ولا أبيه من على، ولا يحتج أهل الحديث بمثله. وحديث الزهري عن عبد الله بن أبي رافع عن على أولى وأصح.
قلت: حديث الزهري بين في أنه أمره بالقراءة في صلاة المخافتة، لا في صلاة الجهر. وعلى هذا، فيكون إن كان قد قال هذا قاله في صلاة الجهر، إذا سمع الإمام، فلا منافاة بين القولين. كما تقدم مثل ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر وغيرهما.
قال البخاري: وروى داود بن قيس، عن أبي نِجَاد رجل من ولد سعد عن سعد: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمر. قال: وهذا مرسل، وابن نجاد لم يعرف، ولا سمي، ولا يجوز لأحد أن يقول في في القارئ خلف الإمام جمرة؛ لأن الجمرة من عذاب الله. وقال النبي ﷺ: (لا تعذبوا بعذاب الله)، ولا ينبغي لأحد أن يتوهم ذلك على سعد مع إرساله وضعفه. قال: وروى ابن حبان، عن سلمة بن كُهيل عن إبراهيم قال: قال عبد الله: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه تبنا. قال: وهذا مرسل لايحتج به، وخالفه ابن عون عن إبراهيم عن الأسود، وقال: رَضْفا؟، وليس هذا من كلام أهل العلم لوجوه.
أما أحدها: قال النبي ﷺ: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بالنار، ولا تعذبوا بعذاب الله).
والوجه الآخر: أنه لا ينبغي لأحد أن يتمني أن يملأ أفواه أصحاب النبي ﷺ: عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وحذيفة، ومن ذكرنا رضفا، ولا تبنا، ولا ترابا.
والوجه الثالث: إذا ثبت الخبر عن النبي ﷺ وعن أصحابه، فليس في قول الأسود ونحوه حجة. قال ابن عباس ومجاهد: ليس أحد بعد النبي ﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك. وقال حماد بن سلمة: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه سكرا.
قال البخاري: وروى عمر بن محمد، عن موسي بن سعد، عن زيد بن ثابت قال: (من قرأ خلف الإمام، فلا صلاة له)، ولا يعرف لهذا الإسناد سماع بعضهم من بعض، ولا يصح مثله. قال: وكان سعيد بن المسيَّب، وعروة والشَّعْبي، وعبيد الله بن عبد الله، ونافع ابن جبير، وأبو المَليح، والقاسم بن محمد، وأبو مُجلَز، ومَكْحول، ومالك، وابن عون، وسعيد بن أبي عَرُوبَة يرون القراءة. وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري يستحبان القراءة خلف الإمام.
قلت: قد روى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار: أنه سأل زيد بن ثابت الأنصاري عن القراءة مع الإمام. فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء. وهذا يتناول القراءة معه في الجهر، كما قال الزهري فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله ﷺ، فيما يجهر فيه.
وأما في صلاة المخافتة فلا يقال قرأ معه، كما لا يقال أن أحد المأمومين يقرأ مع الآخر، وكما لا يقال: إنه استفتح معه، وتشهد معه، وسبح معه في الركوع والسجود.
وكذلك ابن مسعود قد تقدمت الرواية عنه بأنه كان يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام، وكان يقرأ خلف الإمام. وعلى هذا فقوله: إن كان قاله، أو قول أصحابه الذين نقلوا عنه كالأسود: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه رَضْفَا، أو تبنا، أو ترابا، يتناول من قرأ وهو يسمع الإمام يقرأ، فترك ما أمر به من الإنصات والاستماع، وهذا هو الذي يتناوله قول سعد إن كان قاله: وددت أن في فيه جمرا، لاسيما إذا نازع الإمام القراءة، بأن يكون الإمام أو من يسمع قراءة الإمام يسمع حسه، فيكون ممن قال النبي ﷺ فيه: (ما لي أنازع القرآن؟) وقال فيه: (علمت أن بعضكم خالجنيها). وكذلك لو قرأ في السر، ورفع صوته بحيث يخالج الإمام وينازعه، أو يخالج وينازع غيره من المأمومين، لكان مسيئا في ذلك.
وقول حماد بن سلمة وغيره: وددت أنه ملئ فوه سكرا، إذا قرأ حيث يستحب له القراءة، لقراءته خلف الإمام في صلاة السر، وكذلك ما نقل عن زيد بن ثابت أنه قال: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له، يتناول من ترك ما أمر به، وفعل ما نهي عنه، فقرأ وهو يسمع قراءة الإمام، وفي بطلان صلاة هذا وجهان في مذهب أحمد، ومن قال هذا من السلف من صحابي أو تابعي، فقد يريد به معني صحيحا. كما في قول النبي ﷺ: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده فتحرق ثيابه، خير له من أن يجلس على قبر). وتعذيب الإنسان بعذاب في الدنيا أيسر عليه من ركوب ما نهى الله عنه.
فمن اعتقد أن قراءته حال استماع إمامه معصية الله ورسوله، ترك بها ما أمره الله، وفعل ما نهي الله عنه، جاز أن يقول: لأن يحصل بفيه شيء يؤذيه فيمنعه عن المعصية خير له من أن يفعل ما نهي عنه. كما قد يقال: لمن تكلم بكلمة محرمة: لو كنت أخرس لكان خيرا لك، ولا يراد بذلك أنا نحن نعذبه بذلك، لكن يراد لو ابتلاه الله بهذا، لكان خيرا له من أن يقع في الذنب.
وقد قال النبي ﷺ للمتلاعنين: (عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة).والواحد من السلف قد يذكر ما في الفعل من الوعيد، وإن فعله غيره متأولا، لقول عائشة: أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب. وليس في هذا تلاعن بلعنة الله، ولا بالنار، ولا تعذيب بعذاب الله، بل فيه تمني أن يبتلي بما يمنعه عن المعصية. وإن كان فيه أذي له. والعالم قد يذكر الوعيد فيما يراه ذنبا مع علمه بأن المتأول مغفور له، لا يناله الوعيد، لكن يذكر ذلك ليبين أن هذا الفعل مقتضي لهذه العقوبة عنده، فكيف وهو لم يذكر إلا ما يمنعه عما يراه ذنبا.
وكذلك قول من قال: وددت أنه ملئ فوه سُكرا، يتناول من فعل من أمر الله به من القراءة. ومع هذا، فمن فعل القراءة المنهي عنها معتقدا أنه مأمور به، أو ترك المأمور به معتقدا أنه منهي عنه، كان مثابا على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، وإن كان العالِم يقول في الفعل الذي يري أنه واجب أو محرم ما يناسب الوجوب والتحريم، وليس في ذلك تمني أن يملأ أفواه أصحاب رسول الله ﷺ، ولا أحدا من المؤمنين رَضْفَا ولا تبنا؛ لأن أولئك عامة ما نقل عنهم من القراءة خلف الإمام في السر، وذم الذامين لمن يقرأ في الجهر. فلم يتوارد الذم والفعل، وإن قدر أنهما تواردا من السلف، فهو كتواردهما من الخلف.
وحينئذ، فهذا يتكلم باجتهاده، وهذا باجتهاده، وليس ذلك بأعظم من قول بعض أكابر الصحابة لبعض أكابرهم قدام النبي ﷺ: إنك منافق، تجادل عن المنافقين. وقول القائل: دعني أضرب عنق هذا المنافق، وليس ذلك بأعظم مما وقع بينهم من التأويل في القتال في الفتن، والدعاء في القنوت باللعن، وغيره. مع ما ثبت عن النبي ﷺ من قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله: (إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار). فإذا كان هذا الوعيد يندفع عنهم بالتأويل في الدماء، فلأن يندفع بالتأويل فيما دون ذلك أولى وأحرى.
وقد ثبت عن على أنه حرق بالنار المرتدين، وكذلك الصديق روى عنه أنه حرق، فإذا جاز هذا على الخلاف مع ثبوت النص بخلافه، لأجل التأويل. لم يمتنع أن يغلط بعضهم فيما يراه ذنبا ومعصية بمثل هذا الكلام.
ومعلوم أن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهر متواتر عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كما أن القراءة خلف الإمام في السر متواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بل ونفي وجوب القراءة على المأموم مطلقا مما هو معروف عنهم.
وقد روى البخاري في هذا الكتاب: حدثنا عبد الله بن منير، سمع يزيد بن هارون، ثنا زياد وهو الجصاص ثنا الحسن، حدثني عمران بن حصين، قال: لا تزكو صلاة مسلم إلا بطهور وركوع وسجود وراء الإمام، وإن كان وحده بفاتحة وآيتين أو ثلاث. فلم يوجب الفاتحة عليه إذا كان إماما، كما أوجب عليه الطهارة والركوع والسجود، بل أوجبها مع الانفراد.
ثم روى البخاري قوله: (لا تقرؤوا خلفي إلا بأم القرآن)، وذكر طرقه وما فيه من الاختلاف، فقال: حدثنا شجاع بن الوليد، ثنا النضر، ثنا عكرمة، ثنا عمرو بن سعد. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال.
فصل الأقوال في القراءة خلف الإمام
وَقَالَ شيخ الإِسلام:
الناس في القراءة خلف الإمام متنازعون في الوجوب والاستحباب: فقيل تكره مطلقا، كما هو قول أبي حنيفة، وغيره.
وقيل: بل تجب بالفاتحة مطلقا كما هو قول الشافعي في الجديد، وغيره. وهو قول ابن حزم، وزاد لا تشرع بغير ذلك بحال.
وقيل: بل تجب بها في صلاة السر فقط، كقوله القديم. والإمام أحمد ذكر إجماع الناس على أنها لا تجب في صلاة الجهر.
والجمهور على أنها لا تجب ولا تكره مطلقا، بل تستحب القراءة في صلاة السر، وفي سكتات الإمام بالفاتحة وغيرها، كما هو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وأما إذا لم يكن للإمام سكتات فقرأ فيها. فهل تكره القراءة، أم تستحب بالفاتحة؟ فيه قولان. فمذهب أحمد وجمهور أصحابه أنها تكره بالفاتحة وغيرها، واختار طائفة أنها تستحب حينئذ بالفاتحة، وهو اختيار جدي، وهو قول الليث، والأوزاعي. وحجة هذا القول شيئان:
أحدهما: أن في قراءتها خروجًا من الاختلاف في وجوبها، فإنه إذا لم يقرأ، ففي صحة صلاته خلاف، بخلاف ما إذا قرأ فإنما يفوته الاستماع حين قراءتها فقط.
الثاني: الحديث الذي في السنن حديث عبادة: (إذا كنتم ورائي أو وراء الإمام فلا تقرؤوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) وهو حجة الموجبين. وهؤلاء يقولون: النهي إنما هو حال استماع قراءة الإمام فقط، فأما في غير ذلك، فالقراءة مشروعة. فعلم أنه يستثني الفاتحة حال النهي عن غيرها، وهذا يفيد قراءتها حال استماع الجهر. ثم هنا ثلاثة أقوال:
قيل: إنها واجبة، وإنه لا يقرأ بغيرها بحال. كما قاله ابن حزم.
وقيل: بل هي واجبة، والنهي عن القراءة بغيرها حال الجهر، فلا يفيد النهي مطلقا.
وقيل: بل يفيد استثناء قراءتها من النهي، والاستثناء من النهي لا يفيد الوجوب. وقوله: (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، تعليل بوجوب قراءتها في الصلاة. فإن كونها ركنا اقتضي أن تستثني في هذه الحال للمأموم، وإن لم تكن مفروضة عليه، كفرائض الكفايات إذا قام بها طائفة سقط بها الفرض ثم قام بها آخرون فإنه يقال: هي فرض على الكفاية، وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير؛ ولهذا يقال: الجنازة تفعل في أوقات النهي؛ لأنها فرض، وإن فعلت مرة ثانية في أصح الوجهين؛ لأنها تفعل فرضا في حق هؤلاء، وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير.
وقراءة الفاتحة هي ركن، وللمأموم أن يجتزئ بقراءة إمامه، وله أن يسقطها بنفسه. وهذا كما في صدقة الفطر التي يتحملها الإنسان عن غيره، كصدقة الزوجة، فإنها هل تجب على الزوج ابتداء، أو تحملا؟ على وجهين: أصحهما: أنها تحمل، فلو أخرجتها الزوجة لجاز، فتكون الزوجة مخيرة بين أن تخرجها، وبين أن تلزم الزوج بإخراجها، فلو أخرجها الزوج ثم أخرجتها هي، ولم تعتد بذلك الإخراج، لكان. لكن الإمام لابد له من قراءة، وهو يتحمل القراءة عن المأموم. فالقراءة الواحدة تجزي عن إمامه وعنه، وإن قرأ هو عن نفسه فحسن، كسائر فروض الكفايات، لكن هذا فرض عين على الأئمة.
وأما الذين كرهوا القراءة في حال استماع قراءة الإمام مطلقا، وهم الجمهور، فحجتهم قوله تعالى: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 150، فأمر بالإنصات مطلقا، ومن قرأ وهو يستمع، فلم ينصت.
ومن أجاب عن هذا بأن الآية مخصوصة بغير حال قراءة الفاتحة، فجوابه من وجوه:
أحدها: ما ذكره الإمام أحمد من إجماع الناس على أنها نزلت في الصلاة وفي الخطبة، وكذلك قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا).
وأيضا: فالمستمع للفاتحة هو كالقارئ؛ ولهذا يؤمن على دعائها. وقال: (إذا أمَّن القارئ فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وأما الإنصات المأمور به حال قراءة الإمام، فهو من
باب المتابعة للإمام، فهو فاعل للاتباع المأمور به، أي بمقصود القراءة، وإذا قرأ الفاتحة ترك المتابعة المأمور بها بالإنصات، وترك الإنصات المأمور به في القرآن، ولم يعتض عن هذين الأمرين إلا بقراءة الفاتحة التي حصل المقصود منها باستماعه قراءة الإمام، وتأمينه عليها. وكان قد ترك الإنصات المأمور به إلى غير بدل، ففاته هذا الواجب، ولم يعتض عنه إلا ما حصل مقصوده بدونه. ومعلوم أنه إذا دار الأمر بين تفويت أحد أمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما، كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه.
وأيضا، فلو لم يكن المستمع كالقارئ، لكان المستحب حال جهره بغير الفاتحة أن يقرأ المأموم. فلما اتفق المسلمون على أن المشروع للمأموم حال سماع القراءة المستحبة أن يستمع ولا يقرأ، علم أنه يحصل له مقصود القراءة بالاستماع، وإلا كان المشروع في حقه التلاوة، بل أوجبوا عليه الإنصات حال القراءة المستحبة. فالإنصات حال القراءة الواجبة أولى. وأما الحديث، فقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره، ولفظ الحديث الذي في الصحيحين ليس فيه إلا قول مطلق.
وأيضا، فإن صح حمل على الإمام الذي له سكتات، يقرر ذلك أن لفظه ليس فيه عموم، فإنه قد روي أنه قال: (إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بأم الكتاب)، وهذا استثناء من النهي لهم عن القراءة خلفه. فالنبي ﷺ كان له سكتتان، كما روي ذلك سَمرة وأبي بن كعب. كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين، والدعاء الذي روى أبو هريرة في هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة، فكيف إذا قرأ بعضها في سكتة، وبعضها في سكتة أخري. فحينئذ، لا يكون في قوله: (إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بأم القرآن)، دليل على أنه يقرأ بها في حال الجهر.
فإن هذا استثناء من النهي فلا يفيد إلا الإذن المطلق، بمعني أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها، لا يمكن قراءتها في حال سكتاته.
يؤيد هذا أن جمهور المنازعين يسلمون أنه في صلاة السر يقرأ بالفاتحة وغيرها، ويسلمون أنه إذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة في سكتات الإمام قرأ، وأن البعيد الذي لا يسمع يقرأ بالفاتحة، وبما زاد، فحينئذ، يكون هذا النهي خاصا فيمن صلى خلفه في صلاة الجهر. واستثناء قراءة الفاتحة لإمكان قراءتها في سكتاته.
يبين هذا أن لفظ الحديث في الصحيحين من رواية الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن). وفي رواية: (بفاتحة الكتاب). وأما الزيادة فرواها عن عبادة بن الصامت، قال: كنا خلف رسول الله ﷺ في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ﷺ فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم)، قلنا: نعم، يا رسول الله. قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، والدارقطني، وقال: إسناده حسن.
ورواها عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله ﷺ بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فالتبست عليه القراءة. فلما انصرف أقبل علينا بوجهه، وقال: (هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟) فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: (فلا، وأنا أقول: ما لي أنازع القرآن، فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن). رواه أبو داود، واللفظ له والنسائي والدارقطني. وله أيضا: (لا يجوز صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب) وقال: إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات.
ففي هذا الحديث بيان أن النبي ﷺ لم يكن يعلم: هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان قد أمرهم بذلك، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم، لم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم، ولم يكن يحتاج إلى استفهامه. فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر، ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون، نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب، وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر، سواء كان بالفاتحة أو غيرها، فالعلة متناولة للأمرين، فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباهسا على الإمام منهي عنه.
وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الإمام واجبة، أو مستحبة، فيثقلون القراءة على الإمام، ويلبسونها عليه، ويلبسون على من يقاربهم الإصغاء والاستماع الذي أمروا به، فيفوتون مقصود جهر الإمام، ومقصود استماع المأموم.
ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها، ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرؤون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع، فلا يكون فيه فائدة لقوله: (إذا أمن فأمنوا). ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه، ولا استمعه أحد منهم، إلا أن يقال: إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرؤون، وهم لا يوجبون السكوت الذي يسع قدر القراءة، وإنما يستحبونه. فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه، ولو كانت القراءة على المأموم واجبة، لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتا فيه ذكر، أو سكوتا محضا، ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم.
يحقق ذلك أنه قد أوجب الإنصات حال قراءة الإمام، كما في صحيح مسلم عن أبي موسي قال: إن رسول الله ﷺ خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: (أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا). ورواه من حديث أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله ﷺ: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا). رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي. قيل لمسلم بن الحجاج: حديث أبي هريرة هو صحيح، يعني: (إذا قرأ فأنصتوا) قال: عندي صحيح. قيل له: لم لا تضعه هاهنا؟ يعني في كتابه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا. إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه، يعني من طريق أبي هريرة لم يجمع عليها، وأجمع عليها من رواية أبي موسي، ورواها من طريق أبي موسي مسلم. ولم يروها مسلم من طريق أبي هريرة.
وعن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: (هل قرأ؟) يعني أحدا منا آنفًا قال رجل: نعم، يا رسول الله. قال: (إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟) فانتهي الناس عن القراءة معه ﷺ، فيما جهر فيه النبي ﷺ بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك منه ﷺ. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن. قال أبو داود سمعت محمد بن يحيي بن فارس قال قوله: فانتهي الناس عن القراءة، إلى آخره. من قول الزهري، وروي البخاري نحو ذلك، فقد قال البيهقي: ابن أُكَيمَة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري، وجواب ذلك من وجوه:
أحدها: أنه قد قال فيه أبو حاتم الرازي: صحيح الحديث، حديثه مقبول، وتزكية أبي حاتم هو في الغاية. وحكى عن أبي حاتم البُستي أنه قال: روي عنه الزهري، وسعيد بن أبي هلال، وابن ابنه عمرو بن مسلم بن عمارة بن أُكَيمَة بن عمر.
الثاني: أن يقال: ليس في حديث ابن أُكَيمَة إلا ما في حديث عبادة الذي اعتمده البيهقي، ونحوه. من أنهم قرؤوا خلف النبي ﷺ. وأنه قال: (ما لي أنازع القرآن).
الثالث: إن حديث ابن أُكَيمَة رواه أهل السنن الأربعة، فإذا كان هذا الحديث هو مسلم بصحة متنه، وأن الحديث الذي احتج به والذي احتج به منازعوه قد اتفقا على هذه الرواية، كان ما اتفقا عليه معمولا به بالاتفاق، وما في حديثه من الزيادة قد انفرد بها من ذلك الطريق، ولم يروها إلا بعض أهل السنن، وطعن فيها الأئمة، وكانت الزيادة المختلف فيها أحق بالقدح في الأصل المتفق على روايته.
وأما قوله: فانتهي الناس، فهذا إذا كان من كلام الزهري كان تابعا، فإن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله ﷺ، وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي ﷺ، ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان، فجزم الزهري بهذا من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعد ما كانوا يفعلونه، وهذا يؤيد ما تقدم ذكره، ويوافق قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ولم يستثن فاتحة ولا غيرها. وتحقق أن تلك الزيادة إما ضعيفة الأصل، أو لم يحفظ راويها لفظها، وأن معناها كان مما يوافق سائر الروايات، وإلا فلا يمكن تغيير الأصول الكلية الثابتة في الكتاب والسنة في هذا الأمر المحتمل. والله أعلم.
وتمام القول في ذلك يتضح بما رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: (أيكم قرأ؟) أو (أيكم القارئ؟) قال رجل: أنا، فقال: (قد ظننت أن بعضكم خالجنيها). ففي هذا الحديث أن منهم من قرأ خلفه في صلاة السر بزيادة على الفاتحة، ومع ذلك لم ينههم عن ذلك، وذلك إقرار منه لهم على القراءة خلفه بالزيادة على الفاتحة في صلاة السر، خلافا لمن قال لا يقرأ خلفه بحال، أو لا يقرأ بزيادة على الفاتحة.
وقوله: (قد ظننت أن بعضكم خالجنيها) ليس فيه نهي عن أصل القراءة، وإنما يفهم منه، أنه لا ينبغي للمأموم أن يرفع حسه بحيث يخالج الإمام، كما يفعل بعض المأمومين، وكما قد يفعل الإمام. كما قال أبو قتادة: كان يسمعنا الآية أحيانا.
وفيه أيضا: دليل على أنه لم يأمرهم بالقراءة خلفه في السر، لا بالفاتحة، ولا غيرها. إذ لو كان أمرهم بذلك لم ينكر القراءة خلفه، وهو لم ينكر قراءة سورة معينة، بل قال: (أيكم قرأ؟) أو: (أيكم القارئ؟)، بل من المعلوم في العادة أن القارئ خلفه لم يقرأ بسبح إلا بعد الفاتحة، فهذا يدل على أنه لا تجب القراءة على المأموم في السر، لا بالفاتحة ولا غيرها.
كما يدل على ذلك حديث أبي بكر لما استخلفه النبي ﷺ في الصلاة حين ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف، ثم رجع يقرأ من حيث انتهي أبو بكر، وكما في حديث أبي بكرة الذي رواه البخاري في صحيحه لما ركع دون الصف، ثم دخل في الصلاة، وقال له النبي ﷺ: (زادك الله حرصا ولا تعد). ولو كانت قراءة الفاتحة فرضا على المأموم مطلقا لم تسقط بسبق، ولا جهل. كما أن الأعرابي المسيء في صلاته قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، وأمر الذي صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة.
وأيضا، فتحمل الإمام القراءة عن المأموم لا يمنع أن يكون للمأموم أن يقرأ فيأتي هو بالكمال في ذلك، فإن ذلك خير من السكوت الذي لا استماع معه، وهذا أمر معلوم متيقن من الشريعة أن القارئ للقرآن أفضل من الساكت الذي لا يستمع قراءة غيره، وهو داخل في قوله: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). فكراهة هذا العمل الصالح الذي يحبه الله ورسوله لا وجه له أصلا، وهذا بخلاف المستمع فإن استماعه يقوم مقام قراءته.
ودليل ذلك اتفاقهم على أنه مأمور حال القراءة المستحبة بالإنصات إما أمر إيجاب، وإما أمر استح
باب، وأنه مكروه لهم القراءة حال الاستماع، فلولا أن الاستماع كالقراءة، بل وأفضل: لم يكن مأمورا بالإنصات منهيا عن القراءة، فإن الله لا يأمر بالأدنى وينهى عن الأفضل.
ومما يؤيد ذلك قوله في حديث عبادة: (فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة، إلا بأم القرآن). فإنما نهاهم عن القراءة إذا جهر، وكذلك قول الزهري: فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله ﷺ فيما جهر فيه رسول الله ﷺ حين سمعوا ذلك من رسول الله ﷺ.
وهذا المفسر يقيد المطلق في اللفظ الآخر. قال: (تقرؤون خلف إمامكم؟) قلنا: نعم، قال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) يعني في الجهر. ويبين أيضا ما رواه أحمد في المسند عن عبد الله بن مسعود قال: كانوا يقرؤون خلف النبي ﷺ، فقال: (خلطتم على القرآن). فهذا لا يكون في صلاة جهر، أو في صلاة سر رفع المأموم فيها صوته حتى سمعه الإمام، وإلا فالمأموم الذي يقرأ سرا في نفسه لا يخلط على الإمام، ولا يخلط عليه الإمام، بخلاف المأموم الذي يقرأ حال قراءة الإمام، فإن الإمام قطعا يخلط عليه، حتى أن من المأمومين من يعيد الفاتحة مرات لأن صوت الإمام يشغله قطعا.
بل إذا كان النبي ﷺ قد جعل المأموم يخلط عليه ويلبس ويخالج الإمام، فكيف بالإمام في حال جهره مع المأموم، والمأموم يلبس على المأموم حال الجهر؛ لأنه إذا جهر وحده كان أدني حس يلبس عليه، ويثقل عليه القراءة، فإن لم تكن الأصوات هادئة هدوءا تاما، وإلا ثقلت عليه القراءة ولبس عليه، وهذا أمر محسوس.
ولهذا تجد الذين يشهدون سماع القصائد سماع المكاء والتصدية يشوشون بأدني حس، وينكرون على من يشوش. وكذلك من قرأ القرآن خارج الصلاة، فإنه يشوش عليه بأدني حس، فكيف من يقرأ في الصلاة، ولو قرأ قارئ خارج الصلاة على جماعة وهم لا ينصتون له، بل يقرؤون لأنفسهم لتشوش عليه. فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل في هذه المسألة، والله أعلم.
والأثار المروية عن الصحابة في هذا الباب تبين الصواب، فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام. فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء. رواه مسلم. ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة، وهو عالم أهل المدينة، فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة، لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء.
وقوله: مع الإمام، إنما يتناول من قرأ معه حال الجهر. فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا، ولا هذا مع هذا، وكلام زيد هذا ينفي الإيجاب والاستحباب، ويثبت النهي والكراهة.
وعن وهب بن كَيسَان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل؛ إلا وراء الإمام. رواه مالك في الموطأ. وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وهو من أعيان تلك الطبقة، وروي مالك أيضا عن نافع عن عبد الله ابن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده، فليقرأ. قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام، وابن عمر من أعلم الناس بالسنة، وأتبعهم لها.
ولو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان هذا من العلم العام الذي بينه النبي ﷺ بيانا عاما، ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملا عاما، ولكان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر، حتى يتركه مع كونه واجبا عام الوجوب على عامة المصلين، قد بين بيانا عاما، بخلاف ما يكون مستحبا، فإن هذا قد يخفى.
وروي البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت للقرآن، فإن في الصلاة لشغلا، وسيكفيك ذاك الإمام. فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام؛ لأجل الإنصات. والاشتغال به لم ينهه إذا لم يكن مستمعا كما في صلاة السر، وحال السكتات. فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء. وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين، ومبين لما رواه عن النبي ﷺ كما تقدم.
وحديث جابر الذي تقدم قد روي مرفوعا، ومسندا، ومرسلا، فأما الموقوف على جابر فثابت بلا نزاع، وكذلك المرسل ثابت بلا نزاع. من رواية الأئمة عن عبد الله بن شداد عن النبي ﷺ أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). وأما المسند فتكلم فيه. رواه ابن ماجه من حديث جابر الجِعْفِي، عن جابر بن عبد الله. وجابر الجِعْفِي كذبه أيوب، وزائدة، ووثقه الثوري وسعيد. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، ولا كرامة، ليس بشيء. وقال النسائي: متروك. وروي أبو داود عن أحمد أنه قال: لم يتكلم في جابر لحديثه، إنما تكلم فيه لرأيه. قال أبو داود: ليس عندي بالقوي من حديثه، قوله: (فقراءة الإمام له قراءة)، لا تدل على أنه لا يستحب للمأموم القراءة، كما احتج بذلك من احتج به من الكوفيين، فإن قوله: (قراءة الإمام له قراءة)، دليل على أن له أن يجتزئ بذلك، وأن الواجب يسقط عنه بذلك، لا يدل على أنه ليس له أن يقرأ كما في مواضع كثيرة، وله أن يسقط الواجب بفعل غيره، وله أن يفعله هو بنفسه. وكذلك المستحب. وأقصي ما يقدر أن يكون هو كأنه قد قرأ.
ثم إن أذكار الصلاة واجبها ومستحبها، إذا فعلها العبد مرة، لم يكره له أن يفعلها في محلها مرة ثانية لغرض صحيح، مع أنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقول: (الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا). وكان النبي ﷺ يردد الآية الواحدة، كما ردد قوله: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } 151. آخر ما وجد، والحمد للَّه وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم.
فصل القراءة خلف الإمام
وَقَال أيضا:
وأما القراءة خلف الإمام: فالناس فيها طرفان، ووسط.
منهم: من يكره القراءة خلف الإمام، حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم، سواء في ذلك صلاة السر والجهر، وهذا هو الغالب على أهل الكوفة، ومن اتبعهم: كأصحاب أبي حنيفة.
ومنهم: من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة، وإن سمع الإمام يقرأ، وهذا هو الجديد من قولي الشافعي، وقول طائفة معه.
ومنهم: من يأمر بالقراءة في صلاة السر، وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر، والبعيد الذي لا يسمع الإمام. وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه؛ إقامة للاستماع مقام التلاوة. وهذا قول الجمهور: كمالك، وأحمد، وغيرهم، من فقهاء الأمصار، وفقهاء الآثار. وعليه يدل عمل أكثر الصحابة، وتتفق عليه أكثر الأحاديث.
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم: هل هي مبنية على صلاة الإمام؟ أم كل واحد منهما يصلى لنفسه؟ كما تقدم التنبيه عليه. فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها، ومبنية عليها مطلقا، حتى أنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام. وأصل الشافعي: أن كل رجل يصلي لنفسه، لا يقوم مقامه لا في فرض ولا سنة؛ ولهذا أمر المأموم بالتسميع، وأوجب عليه القراءة، ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام، إلا في مواضع مستثناة، كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو، وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا. وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي، ونحو ذلك. وأما مالك وأحمد: فإنها مبنية عليها من وجه دون وجه. كما ذكرناه من الاستماع للقراءة في حال الجهر، والمشاركة في حال المخافتة، ولا يقول المأموم عندهما: سمع الله لمن حمده، بل يحمد جوابا لتسميع الإمام، كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وهي مبنية عليها. فيما يعذران فيه، دون ما لا يعذران، كما تقدم في الإمامة.
سئل عن قراءة المؤتم خلف الإمام جائزة أم لا
وسئل: عن قراءة المؤتم خلف الإمام: جائزة أم لا؟ وإذا قرأ خلف الإمام: هل عليه إثم في ذلك، أم لا؟
فأجاب:
القراءة خلف الإمام في الصلاة لا تبطل عند الأئمة رضوان الله عليهم لكن تنازع العلماء أيما أفضل في حق المأموم؟
فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أن الأفضل له أن يقرأ في حال سكوت الإمام: كصلاة الظهر، والعصر، والأخيرتين من المغرب والعشاء، وكذلك يقرأ في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءته. ومذهب أبي حنيفة: أن الأفضل ألا يقرأ خلفه بحال، والسلف رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين منهم من كان يقرأ، ومنهم من كان لا يقرأ خلف الإمام.
وأما إذا سمع المأموم قراءة الإمام، فجمهور العلماء على أنه يستمع ولا يقرأ بحال، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم. ومذهب الشافعي أنه يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، ومذهب طائفة كالأوزاعي وغيره من الشاميين يقرأها استحبابا، وهو اختيار جدنا.
والذي عليه جمهور العلماء هو الفرق بين حال الجهر، وحال المخافتة، فيقرأ في حال السر، ولا يقرأ في حال الجهر، وهذا أعدل الأقوال؛ لأن الله تعالى قال: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 152، فإذا قرأ الإمام فليستمع، وإذا سكت، فليقرأ فإن القراءة خير من السكوت الذي لا استماع معه. ومن قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، كما قال النبي ﷺ، فلا يفوت هذا الأجر بلا فائدة، بل يكون إما مستمعا، وإما قارئا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عما تدرك به الجمعة والجماعة
وسئل: عما تدرك به الجمعة والجماعة؟
فأجاب:
اختلف الفقهاء فيما تدرك به الجمعة والجماعة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما لا يدركان إلا بركعة، وهو مذهب مالك، وأحمد في إحدي الروايتين عنه اختارها جماعة من أصحابه، وهو وجه في مذهب الشافعي، واختاره بعض أصحابه أيضا كأبي المحاسن الرياني، وغيره.
والقول الثاني: أنهما يدركان بتكبيرة، وهو مذهب أبي حنيفة.
والقول الثالث: أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، والجماعة تدرك بتكبيرة، وهذا القول هو المشهور من مذهب الشافعي، وأحمد. والصحيح هو القول الأول؛ لوجوه:
أحدها: أن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئا من الأحكام، لا في الوقت، ولا في الجمعة، ولا الجماعة، ولا غيرها. فهو وصف ملغي في نظر الشارع، فلا يجوز اعتباره.
الثاني: أن النبي ﷺ إنما علق الأحكام بإدراك الركعة، فتعليقها بالتكبيرة إلغاء لما اعتبره، واعتبار لما ألغاه، وكل ذلك فاسد فيما اعتبر فيه الركعة، وعلق الإدراك بها في الوقت. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا أدرك أحدكم ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته).
وأما ما في بعض طرقه: (إذا أدرك أحدكم سجدة)، فالمراد بها الركعة التامة، كما في اللفظ الآخر. ولأن الركعة التامة تسمي باسم الركوع، فيقال: ركعة. وباسم السجود فيقال: سجدة. وهذا كثير في ألفاظ الحديث، مثل هذا الحديث وغيره.
الثالث: أن النبي ﷺ علق الإدراك مع الإمام بركعة، وهو نص في المسألة. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة)، وهذا نص رافع للنزاع.
الرابع: أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، كما أفتي به أصحاب رسول الله ﷺ: منهم ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم. ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف. وقد حكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة، والتفريق بين الجمعة والجماعة غير صحيح؛ ولهذا أبو حنيفة طرد أصله، وسوي بينهما، ولكن الأحاديث الثابتة وآثار الصحابة تبطل ما ذهب إليه.
الخامس: أن ما دون الركعة لا يعتد به من الصلاة، فإنه يستقبلها جميعها منفردا، فلا يكون قد أدرك مع الإمام شيئا يحتسب له به، فلا يكون قد اجتمع هو والإمام في جزء من أجزاء الصلاة يعتد له به، فتكون صلاته جميعا صلاة منفرد. يوضح هذا أنه لا يكون مدركا للركعة إلا إذا أدرك الإمام في الركوع، وإذا أدركه بعد الركوع لم يعتد له بما فعله معه، مع إنه قد أدرك معه القيام من الركوع والسجود، وجلسة الفصل، ولكن لما فاته معظم الركعة وهو القيام والركوع فاتته الركعة، فكيف يقال مع هذا أنه قد أدرك الصلاة مع الجماعة، وهو لم يدرك معهم ما يحتسب له به، فإدراك الصلاة بإدراك الركعة، نظير إدراك الركعة بإدراك الركوع؛ لأنه في الموضعين قد أدرك ما يعتد له به، وإذا لم يدرك من الصلاة ركعة، كان كمن لم يدرك الركوع مع الإمام في فوت الركعة؛ لأنه في الموضعين لم يدرك ما يحتسب له به، وهذا من أصح القياس.
السادس: أنه ينبني على هذا: أن المسافر إذا ائتم بمقيم وأدرك معه ركعة فما فوقها، فإنه يتم الصلاة، وإن أدرك معه أقل من ركعة، صلاها مقصورة، نص عليه الإمام أحمد في إحدي الروايتين عنه، وهذا لأنه بإدراك الركعة قد ائتم بمقيم في جزء من صلاته، فلزمه الإتمام، وإذا لم يدرك معه ركعة فصلاته صلاة منفرد فيصليها مقصورة.
وينبني عليه أيضا أن المرأة الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس بقدر ركعة، لزمها العصر، وإن طهرت قبل الفجر بقدر ركعة، لزمها العشاء، وإن حصل ذلك بأقل من مقدار ركعة، لم يلزمها شيء. وأما الظهر والمغرب: فهل يلزمها بذلك؟ فيه خلاف مشهور. فقيل: لا يلزمها وهو قول أبي حنيفة. وقيل: يلزمها وهو مذهب مالك، والشافعي وأحمد، ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف.
ثم اختلف هؤلاء فيما تلزم به الصلاة الأولى على قولين:
أحدهما: تجب بما تجب به الثانية، وهل هو ركعة. أو تكبيرة؟ على قولين:
والثاني: لا تجب، إلا بأن تدرك زمنا يتسع لفعلها، وهو أصح.
وقريب من هذا اختلافهم فيما إذا دخل عليها الوقت وهي طاهرة ثم حاضت، هل يلزمها قضاء الصلاة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: لا يلزمها، كما يقوله مالك، وأبو حنيفة.
والثاني: يلزمها، كما يقوله الشافعي، وأحمد.
ثم اختلف الموجبون عليها الصلاة فيما يستقر به الوجوب على قولين:
أحدهما: قدر تكبيرة، وهو المشهور في مذهب أحمد.
والثاني: أن يمضي عليها زمن تتمكن فيه من الطهارة وفعل الصلاة، وهو القول الثاني في مذهب أحمد، والشافعي.
ثم اختلفوا بعد ذلك: هل يلزمها فعل الثانية من المجموعتين مع الأولى؟ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد. والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لا يلزمها شيء، لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيرا جائزا فهي غير مفرطة. وأما النائم أو الناسي وإن كان غير مفرط أيضا فإن ما يفعله ليس قضاء، بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر. كما قال: النبي ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها). وليس عن النبي ﷺ حديث واحد بقضاء صلاة بعد وقتها، وإنما وردت السنة بالإعادة في الوقت لمن ترك واجبا من واجبات الصلاة كأمره للمسيء في صلاته بالإعادة لما ترك الطمأنينة المأمور بها، وكأمره لمن صلى خلف الصف منفردا بالإعادة لما ترك المصافة الواجبة، وكأمره لمن ترك لمعة من قدمه لم يصبها الماء بالإعادة لما ترك الوضوء المأمور به وأمر النائم والناسي بأن يصليا إذا ذكرا، وذلك هو الوقت في حقهما والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عمن يرفع قبل الإمام ويخفض ونهي فلم ينته فما حكم صلاته
وسئل رَحمه الله: عمن يرفع قبل الإمام ويخفض، ونهي فلم ينته، فما حكم صلاته؟ وما يجب عليه؟
فأجاب:
أما مسابقة الإمام، فحرام، باتفاق الأئمة. لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله. وقد استفاضت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ذلك، كقوله في الحديث الصحيح: (لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت، تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدنت). وقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم)، قال رسول الله ﷺ: (فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، وإذا كبر وسجد، فكبروا، واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك).
وكقوله ﷺ: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، وهذا لأن المؤتم متبع للإمام مقتد به، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه، وقدوته. فإذا تقدم عليه، كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله، كما جاء في حديث آخر: (مثل الذي يتكلم والخطيب يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا).
ومن فعل ذلك، استحق العقوبة والتعزير الذي يردعه، وأمثاله، كما روي عن عمر: أنه رأي رجلا يسابق الإمام، فضربه. وقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت.
وإذا سبق الإمام سهوا، لم تبطل صلاته، لكن يتخلف عنه بقدر ما سبق به الإمام، كما أمر بذلك أصحاب رسول الله ﷺ، لأن صلاة المأموم مقدرة بصلاة الإمام، وما فعله قبل الإمام سهوا، لا يبطل صلاته؛ لأنه زاد في الصلاة ما هو من جنسها سهوا، فكان كما لو زاد ركوعا أو سجودا سهوا، وذلك لا يبطل بالسنة والإجماع، ولكن ما يفعله قبل الإمام لا يعتد به على الصحيح؛ لأنه فعله في غير محله؛ لأن ما قبل فعل الإمام ليس وقتا لفعل المأموم، فصار بمنزلة من صلى قبل الوقت، أو بمنزلة من كبر قبل تكبير الإمام، فإن هذا لا يجزئه عما أوجب الله عليه، بل لابد أن يحرم إذا حل الوقت لا قبله، وأن يحرم المأموم إذا أحرم الإمام، لا قبله. فكذلك المأموم لابد أن يكون ركوعه وسجوده إذا ركع الإمام وسجد، لا قبل ذلك، فما فعله سابقا وهو ساه عفي له عنه، ولم يعتد له به، فلهذا أمره الصحابة والأئمة أن يتخلف بمقداره ليكون فعله بقدر فعل الإمام.
وأما إذا سبق الإمام عمدا، ففي بطلان صلاته قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره. ومن أبطلها قال: إن هذا زاد في الصلاة عمدا فتبطل، كما لو فعل قبله ركوعا أو سجودا عمدا. فإن الصلاة تبطل بلا ريب، وكما لو زاد في الصلاة ركوعًا أو سجودًا عمدًا. وقد قال الصحابة للمسابق: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت. ومن لم يصل وحده، ولا مؤتما، فلا صلاة له. وعلى هذا، فعلى المصلي أن يتوب من المسابقة، ويتوب من نقر الصلاة، وترك الطمأنينة فيها، وإن لم ينته فعلى الناس كلهم أن يأمروه بالمعروف الذي أمره الله به، وينهوه عن المنكر الذي نهاه الله عنه. فإن قام بذلك بعضهم وإلا أثموا كلهم.
ومن كان قادرا على تعزيره وتأديبه على الوجه المشروع، فعل ذلك، ومن لم يمكنه إلا هجره وكان ذلك مؤثرا فيه هجره، حتى يتوب. والله أعلم.
سئل عن المصافحة عقيب الصلاة هل هي سنة أم لا
وسئل: عن المصافحة عقيب الصلاة: هل هي سنة أم لا؟
فأجاب:
الحمد للَّه، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة، بل هي بدعة. والله أعلم.
باب الإمامة
سئل عن الإمامة هل فعلها أفضل أم تركها
فأجاب:
بل يصلي بهم، وله أجر بذلك. كما جاء في الحديث: (ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة: رجل أم قوما وهم له راضون...). الحديث. والله أعلم.
سئل عن رجلين أحدهما حافظ للقرآن وهو واعظ يحضر الدف والشبابة
وسئل رَحمه الله عن رجلين: أحدهما حافظ للقرآن، وهو واعظ، يحضر الدف والش
بابة، والآخر عالم متورع. فأيهما أولي بالإمامة؟
فأجاب:
ثبت في صحيح مسلم عن أبي مسعود البدري أن النبي ﷺ قال: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا).
فإذا كان الرجلان من أهل الديانة، فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر متعينا. فإن كان أحدهما فاجرًا مثل أن يكون معروفا بالكذب، والخيانة، ونحو ذلك من أسباب الفسوق، والآخر مؤمنا من أهل التقوي، فهذا الثاني أولي بالإمامة، إذا كان من أهلها، وإن كان الأول أقرأ وأعلم، فإن الصلاة خلف الفاسق منهي عنها نهي تحريم عند بعض العلماء، ونهي تنزيه عند بعضهم. وقد جاء في الحديث: (لا يؤُمَّنَّ فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسوط أو عصا). ولا يجوز تولية الفاسق مع إمكان تولية البر. والله أعلم.
فصل الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع
وَقَالَ شيخ الإِسلام:
وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، وتفصيل ليس هذا موضع بسطه:
لكن أوسط الأقوال في هؤلاء: أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره. فإن من كان مظهرا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته؛ ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت، فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت، لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت، فلم تنكر، ضرت العامة؛ ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم، وتوكل سرائرهم إلى الله تعالي، بخلاف من أظهر الكفر.
فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة، وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا.
فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع، والأعياد، والجماعة. إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقي ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند السلف، والأئمة من أهل البدع.
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهو أولي من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ، فإذا صلي خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد للعلماء.
منهم من قال: إنه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهيا عنها فيعيدها.
ومنهم من قال: لا يعيد. قال: لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة.
وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة، فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، أعيدت الجمعة خلفه، وإلا لم تعد، وليس كذلك. بل النزاع في الإعادة حيث ينهي الرجل عن الصلاة. فأما إذا أمر بالصلاة خلفه، فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه، لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين.
وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء، فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه. ومن قال: إنه يكفر أمر بالإعادة؛ لأنها صلاة خلف كافر، لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، والناس مضطربون في هذه المسألة. وقد حكي عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان. وعن الإمام أحمد أيضا فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعري فيها قولان. وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل.
وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } 153، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز ألا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلي بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية. هذا الذي عليه أصحاب النبي ﷺ، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام. وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد ﷺ هل رأي ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم على أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
وإن قال الأصول: هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية، هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول ﷺ، وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية، فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ حديث الذي قال لأهله: (إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر الله له). فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.
ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكي طائفة عنهم الخلاف في ذلك، ولم يفهموا غور قولهم. فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا، حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي. وربما رجحت التكفير والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد، ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول ﷺ ظاهرة بينة. ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة.
لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه. ومع هذا، فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: أن القرآن مخلوق، وأن الله لا يري في الآخرة، وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم، ويعاقبونهم، إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم. حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير، لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وغير ذلك. ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك. ومع هذا، فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبن لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك.
وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق كفرت باللَّه العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعي في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم.
وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعي، وأحمد، في القدري: إن جحد علم الله كفر. ولفظ بعضهم: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصِمُوا، وإن جحدوه كفروا.
وسئل أحمد عن القدري: هل يكفر؟ فقال: إن جحد العلم، كفر. وحينئذ، فجاحد العلم هو من جنس الجهمية. وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب. وإن لم يكن في نفس الأمر كافرا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته. وعلي هذا قتل غَيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيها.
فصل فصل فيمن لا يقيم قراءة الفاتحة كالألثغ
وأما من لا يقيم قراءة الفاتحة، فلا يصلي خلفه إلا من هو مثله فلا يصلي خلف الألثغ الذي يبدل حرفا بحرف، إلا حرف الضاد إذا أخرجه من طرف الفم كما هو عادة كثير من الناس، فهذا فيه وجهان:
منهم من قال: لا يصلي خلفه، ولا تصح صلاته في نفسه؛ لأنه أبدل حرفا بحرف؛ لأن مخرج الضاد الشدق، ومخرج الظاء طرف الأسنان. فإذا قال: ولا الظالين، كان معناه ظل يفعل كذا.
والوجه الثاني: تصح، وهذا أقرب؛ لأن الحرفين في السمع شيء واحد، وحس أحدهما من جنس حس الآخر لتشابه المخرجين. والقارئ إنما يقصد الضلال المخالف للهدي، وهو الذي يفهمه المستمع، فأما المعني المأخوذ من ظل، فلا يخطر ببال أحد، وهذا بخلاف الحرفين المختلفين صوتا ومخرجا وسمعا، كإبدال الراء بالغين، فإن هذا لا يحصل به مقصود القراءة.
سئل عن الصلاة خلف المرازقة وعن بدعتهم
وسئل رَحمه الله عن الصلاة خلف المرازقة، وعن بدعتهم.
فأجاب:
يجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة، ولا فسقا، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين. وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال.
ولو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو مبتدع، ففي صحة صلاته قولان مشهوران في مذهب أحمد، ومالك. ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة الصحة.
وقول القائل: لا أسلم مالي إلا لمن أعرف. ومراده لا أصلى خلف من لا أعرفه، كما لا أسلم مالي إلا لمن أعرفه، كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام. فإن المال إذا أودعه الرجل المجهول، فقد يخونه فيه، وقد يضيعه. وأما الإمام، فلو أخطأ أو نسي، لم يؤاخذ بذلك المأموم، كما في البخاري وغيره، أن النبي ﷺ قال: (أئمتكم يصلون لكم ولهم. فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن اخطؤوا فلكم وعليهم). فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم، وقد صلى عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وهو جنب ناسيا للجنابة فأعاد ولم يأمر المأمومين بالإعادة، وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وكذلك لو فعل الإمام ما يسوغ عنده، وهو عند المأموم يبطل الصلاة، مثل أن يفتصد ويصلي ولا يتوضأ، أو يمس ذكره، أو يترك البسملة، وهو يعتقد أن صلاته تصح مع ذلك، والمأموم يعتقد أنها لا تصح مع ذلك، فجمهور العلماء على صحة صلاة المأموم، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين، بل في أنصهما عنه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، اختاره القَفَّال وغيره.
ولو قدر أن الإمام صلى بلا وضوء متعمدا، والمأموم لم يعلم حتي مات المأموم، لم يطالب الله المأموم بذلك، ولم يكن عليه إثم باتفاق المسلمين، بخلاف ما إذا علم أنه يصلي بلا وضوء، فليس له أن يصلي خلفه، فإن هذا ليس بمصل؛ بل لاعب، ولو علم بعد الصلاة أنه صلى بلا وضوء، ففي الإعادة نزاع. ولو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.
ولهذا قالوا في العقائد: إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برا كان أو فاجرا. وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد، فإنها تصلى خلفه الجماعات، فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده، وإن كان الإمام فاسقا. هذا مذهب جماهير العلماء: أحمد بن حنبل، والشافعي، وغيرهما، بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد. ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر، فهو مبتدع عند الإمام أحمد، وغيره، من أئمة السنة. كما ذكره في رسالة عبدوس. وابن مالك، والعطار.
والصحيح أنه يصليها، ولا يعيدها، فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة، وكان يشرب الخمر حتي أنه صلى بهم مرة الصبح أربعا ثم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة! ولهذا رفعوه إلى عثمان. وفي صحيح البخاري أن عثمان رضي الله عنه لما حُصِر، صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان، فقال: إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة. فقال: يا ابن أخي، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا، فاجتنب إساءتهم. ومثل هذا كثير.
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة. فإذا صلى المأموم خلفه، لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين، فإنه يستحق التعزير حتي يتوب، فإذا أمكن هجره حتي يتوب، كان حسنا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتي يتوب، أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه. فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه، كان فيه مصلحة، ولم يفت المأموم جمعة، ولا جماعة. وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة، فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل، وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق، أو بدعة، تظهر مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الرافضة، والجهمية، ونحوهم. ومن أنكر مذهب الروافض وهو لا يصلي الجمعة والجماعة، بل يكفر المسلمين، فقد وقع في مثل مذهب الروافض، فإن من أعظم ما أنكره أهل السنة عليهم، تركهم الجمعة والجماعة، وتكفير الجمهور.
فصل الصلاة خلف المبتدع
وأما الصلاة خلف المبتدع، فهذه المسألة فيها نزاع، وتفصيل. فإذا لم تجد إماما غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج، خلف إمام الموسم، فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة، وإنما تدع مثل هذه الصلوات خلف الأئمة أهل البدع كالرافضة ونحوهم، ممن لا يري الجمعة والجماعة إذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد، فصلاته في الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته في بيته منفردا؛ لئلا يفضي إلى ترك الجماعة مطلقا.
وأما إذا أمكنه أن يصلي خلف غير المبتدع، فهو أحسن، وأفضل بلا ريب. لكن إن صلى خلفه، ففي صلاته نزاع بين العلماء. ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة: تصح صلاته. وأما مالك وأحمد: ففي مذهبهما نزاع وتفصيل.
وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة، مثل بدع الرافضة والجهمية، ونحوهم. فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد، مثل مسألة الحرف، والصوت، ونحوها، فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا، وكلاهما جاهل متأول، فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولي من العكس. فأما إذا ظهرت السنة وعلمت، فخالفها واحد، فهذا هو الذي فيه النزاع، والله أعلم. والحمد للّه رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
سئل عن رجل استفاض عنه أنه يأكل الحشيشة
وسئل عن رجل استفاض عنه أنه يأكل الحشيشة، وهو إمام. فقال رجل: لا تجوز الصلاة خلفه. فأنكر عليه رجل وقال: تجوز، واحتج بقول النبي ﷺ: (تجوز الصلاة خلف البر والفاجر). فهذا الذي أنكر، مصيب أم مخطئ؟ وهل يجوز لآكل الحشيشة أن يؤم بالناس؟ وإذا كان المنكر مصيبا، فما يجب على الذي قام عليه؟ وهل يجوز للناظر في المكان أن يعزله أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز أن يولي في الإمامة بالناس من يأكل الحشيشة، أو يفعل من المنكرات المحرمة، مع إمكان تولية من هو خير منه. كيف وفي الحديث: (من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضي للّه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين).
وفي حديث آخر: (اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله). وفي حديث آخر: (إذا أم الرجل القوم، وفيهم من هو خير منه، لم يزالوا في سَفَال). وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا). فأمر النبي ﷺ بتقديم الأفضل بالعلم بالكتاب. ثم بالسنة، ثم الأسبق إلى العمل الصالح بنفسه، ثم بفعل الله تعالى.
وفي سنن أبي داود وغيره: أن رجلا من الأنصار كان يصلي بقوم إماما، فبصق في القبلة فأمرهم النبي ﷺ أن يعزلوه عن الإمامة، ولا يصلوا خلفه. فجاء إلى النبي ﷺ فسأله: هل أمرهم بعزله؟ فقال: (نعم، إنك آذيت الله ورسوله). فإذا كان المرء يعزل لأجل إساءته في الصلاة، وبصاقه في القبلة، فكيف المصر على أكل الحشيشة، لاسيما إن كان مستحلا للمسكر منها. كما عليه طائفة من الناس. فإن مثل هذا ينبغي أن يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل؛ إذ السكر منها حرام بالإجماع، واستحلال ذلك كفر بلا نزاع.
وأما احتجاج المعارض بقوله: (تجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر)، فهذا غلط منه لوجوه:
أحدها: أن هذا الحديث لم يثبت عن النبي ﷺ، بل في سنن ابن ماجه عنه: (لا يؤمَّن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسوط أو عصا). وفي إسناد الآخر مقال أيضا.
الثاني: أنه يجوز للمأموم أن يصلي خلف من ولي، وإن كان تولية ذلك المولي لا تجوز، فليس للناس أن يولوا عليهم الفساق، وإن كان قد ينفذ حكمه، أو تصح الصلاة خلفه.
الثالث: أن الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق، لكن اختلفوا في صحتها: فقيل: لا تصح. كقول مالك، وأحمد في إحدي الروايتين عنهما. وقيل: بل تصح. كقول أبي حنيفة، والشافعي، والرواية الأخري عنهما، ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته.
الرابع: أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الإنكار على هؤلاء الفساق، الذين يسكرون من الحشيشة بل الذي عليه جمهور الأئمة أن قليلها وكثيرها حرام، بل الصواب أن آكلها يحَد، وأنها نجسة. فإذا كان آكلها لم يغسل منها فمه، كانت صلاته باطلة، ولو غسل فمه منها أيضا فهي خمر. وفي الحديث: (من شرب الخمر لم تقبل منه صلاة أربعين يوما، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها، لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال). قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار). وإذا كانت صلاته تارة باطلة وتارة غير مقبولة، فإنه يجب الإنكار عليه باتفاق المسلمين. فمن لم ينكر عليه، كان عاصيا للّه ورسوله.
ومن منع المنكر عليه، فقد حاد الله ورسوله، ففي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في رَدْغَة الخبال حتي يخرج مما قال، ومن خاصم في باطل وهو يعلم، لم يزل في سخط الله حتي ينزع). فالمخاصمون عنه، مخاصمون في باطل، وهم في سخط الله. والحائلون دون ذلك الإنكار عليه، مضادون للّه في أمره، وكل من علم حاله ولم ينكر عليه بحسب قدرته، فهو عاص للّه ورسوله. والله أعلم.
سئل عن خطيب قد حضر صلاة الجمعة فامتنعوا عن الصلاة خلفه لأجل بدعة فيه
وسئل عن خطيب قد حضر صلاة الجمعة، فامتنعوا عن الصلاة خلفه؛ لأجل بدعة فيه، فما هي البدعة التي تمنع الصلاة خلفه؟
فأجاب:
ليس لهم أن يمنعوا أحدا من صلاة العيد والجمعة، وإن كان الإمام فاسقا. وكذلك ليس لهم ترك الجمعة ونحوها لأجل فسق الإمام، بل عليهم فعل ذلك خلف الإمام، وإن كان فاسقا، وإن عطلوها لأجل فسق الإمام، كانوا من أهل البدع، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
وإنما تنازع العلماء في الإمام إذا كان فاسقا، أو مبتدعا، وأمكن أن يصلي خلف عدل. فقيل: تصح الصلاة خلفه، وإن كان فاسقا. وهذا مذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين وأبي حنيفة. وقيل: لا تصح خلف الفاسق، إذا أمكن الصلاة خلف العدل، وهو إحدي الروايتين عن مالك وأحمد. والله أعلم.
سئل عن إمام يقول يوم الجمعة على المنبر في خطبته
وسئل عن إمام يقول يوم الجمعة على المنبر في خطبته: إن الله تكلم بكلام أزلي قديم. ليس بحرف، ولا صوت، فهل تسقط الجمعة خلفه أم لا؟ وما يجب عليه؟
فأجاب:
الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. وأن هذا القرآن الذي يقرأه الناس هو كلام الله، يقرأه الناس بأصواتهم. فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، والقرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه.
وإذا كان الإمام مبتدعا، فإنه يصلي خلفه الجمعة، وتسقط بذلك. والله أعلم.
سئل عن إمام قتل ابن عمه فهل تصح الصلاة خلفه أم لا
وسئل رحمه الله عن إمام قتل ابن عمه: فهل تصح الصلاة خلفه، أم لا؟
فأجاب:
إذا كان هذا الرجل قد قتل مسلما متعمدا بغير حق، فينبغي أن يعزل عن الإمامة، ولا يصلى خلفه إلا لضرورة، مثل ألا يكون هناك إمام غيره، لكن إذا تاب وأصلح، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. فإذا تاب التوبة الشرعية، جاز أن يقر على إمامته. والله أعلم.
سئل عن إمام مسجد قتل فهل يجوز أن يصلي خلفه
وسئل أيضا عن إمام مسجد قتل: فهل يجوز أن يصلي خلفه؟
فأجاب:
إذا كان قد قتل القاتل أولا، ثم عمدوا أقارب المقتول إلى أقارب القاتل فقتلوهم، فهؤلاء عداة من أظلم الناس، وفيهم نزل قوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 154؛ ولهذا قالت طائفة من السلف: إن هؤلاء القاتلين يقتلهم السلطان حدا، ولا يعفي عنهم. وجمهور العلماء يجعلون أمرهم إلى أولياء المقتول. ومن كان من الخطباء يدخل في مثل هذه الدماء، فإنه من أهل البغي والعدوان، الذين يتعين عزلهم، ولا يصلح أن يكون إماما للمسلمين، بل يكون إماما للظالمين المعتدين. والله أعلم.
سئل عن إمام خبب امرأة على زوجها حتى فارقته
وسئل رحمه الله تعالى عن إمام المسلمين خبب امرأة على زوجها حتى فارقته، وصار يخلو بها، فهل يصلى خلفه؟ وما حكمه؟
فأجاب:
في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها، أو عبدا على مواليه). فسعي الرجل في التفريق بين المرأة وزوجها من الذنوب الشديدة، وهو من فعل السحرة، وهو من أعظم فعل الشياطين. لا سيما إذا كان يخببها على زوجها ليتزوجها هو مع إصراره على الخلوة بها، ولا سيما إذا دلت القرائن على غير ذلك. ومثل هذا لا ينبغي أن يولي إمامة المسلمين، إلا أن يتوب. فإن تاب، تاب الله عليه. فإذا أمكن الصلاة خلف عدل مستقيم السيرة، فينبغي أن يصلي خلفه، فلا يصلي خلف من ظهر فجوره لغير حاجة. والله أعلم.
سئل عن إمام يقرأ على الجنائز هل تصح الصلاة خلفه
وسئل رحمه الله عن إمام يقرأ على الجنائز: هل تصح الصلاة خلفه؟
فأجاب:
إذا أمكنه أن يصلى خلف من يصلي صلاة كاملة، وهو من أهل الورع، فالصلاة خلفه أولي من الصلاة خلف من يقرأ على الجنائز. فإن هذا مكروه من وجهين: من وجه أن القراءة على الجنائز مكروهة في المذاهب الأربعة. وأخذ الأجرة عليها أعظم كراهة. فإن الاستئجار على التلاوة لم يرخص فيه أحد من العلماء. والله أعلم.
سئل عن إمام يبصق في المحراب هل تجوز الصلاة خلفه أم لا
وسئل عن إمام يبصق في المحراب هل تجوز الصلاة خلفه أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، ينبغي أن ينهي عن ذلك. وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ: أنه عزل إماما لأجل بصاقه في القبلة. وقال لأهل المسجد: لا تصلوا خلفه، فجاء إلى النبي ﷺ فقال: يارسول الله؟، أنت نهيتهم أن يصلوا خلفي؟ قال: (نعم، إنك قد آذيت الله ورسوله). فإن عزل عن الإمامة لأجل ذلك، أو انتهي الجماعة أن يصلوا خلفه؛ لأجل ذلك كان ذلك سائغا. والله أعلم.
سئل عن رجل فقيه عالم خاتم للقرآن وبه عذر
وسئل عن رجل فقيه عالم خاتم للقرآن، وبه عذر: يده الشمال خلفه من حد الكتف. وله أصابع لحم، وقد قالوا: إن الصلاة غير جائزة خلفه.
فأجاب:
إذا كانت يداه يصلان إلى الأرض في السجود، فإنه تجوز الصلاة خلفه بلا نزاع. وإنما النزاع فيما إذا كان أقطع اليدين والرجلين، ونحو ذلك. وأما إذا أمكنه السجود على الأعضاء السبعة، التي قال فيها النبي ﷺ: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، واليدين. والركبتين والقدمين)، فإن السجود تام، وصلاة من خلفه تامة. والله أعلم.
سئل عن الخصي هل تصح الصلاة خلفه
وسئل رحمه الله تعالى عن الخصي هل تصح الصلاة خلفه؟
فأجاب:
الحمد للّه، تصح خلفه. كما تصح خلف الفحل، باتفاق أئمة المسلمين، وهو أحق بالإمامة ممن هو دونه. فإذا كان أفضل من غيره في العلم والدين، كان مقدما عليه في الإمامة، وإن كان المفضول فحلا، والله أعلم.
سئل عن رجل ما عنده ما يكفيه وهو يصلي بالأجرة فهل يجوز ذلك أم لا
وسئل عن رجل ما عنده ما يكفيه، وهو يصلي بالأجرة، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الاستئجار على الإمامة لا يجوز في المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد. وقيل: يجوز، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وقول في مذهب مالك. والخلاف في الأذان أيضا.
لكن المشهور من مذهب مالك: أن الاستئجار يجوز على الأذان، وعلي الإمامة معه ومنفردة، وفي الاستئجار على هذا ونحوه، كالتعليم على قول ثالث في مذهب أحمد، وغيره: أنه يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون حاجة. والله أعلم.
سئل عن رجل معرف على المراكب وبنى مسجدا وجعل للإمام في كل شهرأجرة
وسئل رحمه الله عن رجل معرف على المراكب، وبنى مسجدا، وجعل للإمام في كل شهر أجرة من عنده، فهل هو حلال أم حرام؟ وهل تجوز الصلاة في المسجد أم لا؟
فأجاب:
إن كان يعطي هذه الدراهم من أجرة المراكب التي له، جاز أخذها، وإن كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا. والله أعلم.
سئل عن رجل إمام بلد وليس هو من أهل العدالة
وسئل عن رجل إمام بلد وليس هو من أهل العدالة، وفي البلد رجل آخر يكره الصلاة خلفه، فهل تصح صلاته خلفه أم لا؟ وإذا لم يصل خلفه، وترك الصلاة مع الجماعة، هل يأثم بذلك؟ والذي يكره الصلاة خلفه، يعتقد أنه لا يصحح الفاتحة، وفي البلد من هو أقرأ منه، وأفقه.
فأجاب رحمه الله:
الحمد للّه، أما كونه لا يصحح الفاتحة، فهذا بعيد جدا، فإن عامة الخلق من العامة والخاصة يقرؤون الفاتحة قراءة تجزئ بها الصلاة، فإن اللحن الخفي، واللحن الذي لا يحيل المعني لا يبطل الصلاة، وفي الفاتحة قراءات كثيرة قد قرئ بها. فلو قرأ { عليهِمْ }، و { عليهُمْ }، { عليهُمُ }. أو قرأ: { الصراط }، و { السراط }، و { الزراط }، فهذه قراءات مشهورة.
ولو قرأ: { الحمدُ للّه }، و { الحمدُ لُلَّه }، أو قرأ { ربُّ العالمين } أو { ربَّ العالمين }. أو قرأ بالكسر، ونحو ذلك، لكانت قراءات قد قرئ بها. وتصح الصلاة خلف من قرأ بها. ولو قرأ: { ربُ العالمين } بالضم، أو قرأ: { مالكَ يوم الدين } بالفتح، لكان هذا لحنا لا يحيل المعني، ولا يبطل الصلاة.
وإن كان إماما راتبا وفي البلد من هو أقرأ منه، صلى خلفه، فإن النبي ﷺ قال: (لا يؤُمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه). وإن كان متظاهرا بالفسق، وليس هناك من يقيم الجماعة غيره صلى خلفه أيضا ولم يترك الجماعة، وإن تركها، فهو آثم، مخالف للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف.
سئل عن رجل صلى بغير وضوء إماما وهو لا يعلم
وسئل عن رجل صلى بغير وضوء إماما وهو لا يعلم، أو عليه نجاسة لا يعلم بها: فهل صلاته جائزة أم لا؟ وإن كانت صلاته جائزة: فهل صلاة المأمومين خلفه تصح؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
أما المأموم إذا لم يعلم بحدث الإمام، أو النجاسة التي عليه حتي قضيت الصلاة، فلا إعادة عليه، عند الشافعي، وكذلك عند مالك وأحمد، إذا كان الإمام غير عالم. ويعيد وحده إذا كان محدثا. وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم صلوا بالناس ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة فأعادوا، ولم يأمروا الناس بالإعادة. والله أعلم.
فصل في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام
وَقَالَ شيخ الإِسلام:
في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام: الناس فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ارتباط بينهما، وإن كل امرئ يصلي لنفسه، وفائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة، وهذا هو الغالب على أصل الشافعي، لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي، والرجل بالمرأة. وإبطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له: كالكافر، والمحدث. وفي هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه. ومن الحجة فيه قول النبي ﷺ في الأئمة: (إن أحسنوا، فلكم، ولهم. وإن أساؤوا فلكم وعليهم).
والقول الثاني: أنها منعقدة بصلاة الإمام، وفرع عليها مطلقا، فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم: لقوله ﷺ: (الإمام ضامن). وعلي هذا، فالمؤتم بالمحدث الناسي لحدثه يعيد كما يعيد إمامه. وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، اختارها أبو الخطاب. حتي اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن: ألا يأتم المتوضئ بالمتيمم، لنقص طهارته عنه.
والقول الثالث: أنها منعقدة بصلاة الإمام، لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما، فأما مع العذر، فلا يسري النقص، فإذا كان الإمام يعتقد طهارته، فهو معذور في الإمامة، والمأموم معذور في الائتمام، وهذا قول مالك، وأحمد، وغيرهما. وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة، وهو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة الإمام الناقص؛ أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة. فحكم صلاته كحكم نفسه.
وعلي هذا أيضا ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة، إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ، كألا يتوضأ من خروج النجاسات، ولا من مس الذكر، ونحو ذلك. فإن اعتقاد الإمام هنا صحة صلاته، كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث، وأولي. فإنه هناك تجب عليه الإعادة، وهذا أصل نافع أيضا.
ويدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم). فهذا نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطئه عليه، لا على المأمومين. فمن صلى معتقدا لطهارته وكان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة، وقلنا عليه الإعادة للنجاسة، كما يعيد من الحدث، فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد، فيكون خطؤه عليه، فيعيد صلاته. وأما المأمومون، فلهم هذه الصلاة، وليس عليهم من خطئه شيء، كما صرح به رسول الله ﷺ. وهذا نص في إجزاء صلاتهم. وكذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم: مثل أن يمس ذكره ويصلي، أو يحتجم ويصلي، أو يترك قراءة البسملة، أو يصلي وعليه نجاسة لا يعفي عنها عند المأموم، ونحو ذلك. فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا، إن لم يكن مصيبا، فتكون هذه الصلاة للمأموم، وليس عليه من خطأ إمامه شيء.
وكذلك روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من أم الناس فأصاب الوقت، وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا، فعليه ولا عليهم) لكن لم يذكر أبو داود: (وأتم الصلاة). فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ، ومفهوم قوله: (وإن أخطأ فعليه ولا عليهم): أنه إذا تعمد لم يكن كذلك، ولاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا تنبغي الصلاة خلفه.
سئل عن رجل يؤم قوما وأكثرهم له كارهون
فأجاب:
إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه: مثل كذبه أو ظلمه، أو جهله، أو بدعته، ونحو ذلك. ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه. مثل أن يكون أصدق وأعلم وأدين. فإنه يجب أن يولي عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم. كما في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارا، ورجل اعتبد محررا). والله أعلم.
سئل عن أهل المذاهب الأربعة هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض أم لا
وسئل عن أهل المذاهب الأربعة: هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض أم لا؟ وهل قال أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض؟ ومن قال ذلك، فهل هو مبتدع أم لا؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته معه صحيحة، والمأموم يعتقد خلاف ذلك. مثل أن يكون الإمام تقيأ، أو رعف، أو احتجم، أو مس ذكره، أو مس النساء بشهوة أو بغير شهوة، أو قهقه في صلاته، أو أكل لحم الإبل، وصلى ولم يتوضأ، والمأموم يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة، أو لم يتشهد التشهد الآخر، أو لم يسلم من الصلاة، والمأموم يعتقد وجوب ذلك، فهل تصح صلاة المأموم والحال هذه؟ وإذا شرط في إمام المسجد أن يكون على مذهب معين، فكان غيره أعلم بالقرآن والسنة منه وولي: فهل يجوز ذلك؟ وهل تصح الصلاة خلفه أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه. نعم، تجوز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها. ولم يقل أحد من السلف: إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض. ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمتها.
وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم: منهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها. ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها. وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت. ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومنهم من يتوضأ من مس الذكر، ومس النساء بشهوة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومنهم من يتوضأ من القهقهة في صلاته، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومع هذا، فكان بعضهم يصلي خلف بعض:
مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرا ولا جهرا. وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم. وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد.
وكان أحمد بن حنبل يري الوضوء من الحجامة والرعاف، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، تصلى خلفه؟ فقال: كيف لا أصلى خلف سعيد بن المسيب، ومالك.
وبالجملة، فهذه المسائل لها صورتان:
إحداهما: ألا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف، والأئمة الأربعة، وغيرهم. وليس في هذا خلاف متقدم، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين، فزعم أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح، وإن أتي بالواجبات؛ لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها، وقائل هذا القول إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع، أحوج منه إلى أن يعتقد بخلافه. فإنه ما زال المسلمون على عهد النبي ﷺ وعهد خلفائه يصلي بعضهم ببعض. وأكثر الأئمة لا يميزون بين المفروض والمسنون، بل يصلون الصلاة الشرعية. ولو كان العلم بهذا واجبا لبطلت صلوات أكثر المسلمين، ولم يمكن الاحتياط. فإن كثيرا من ذلك فيه نزاع، وأدلة ذلك خفية، وأكثر ما يمكن المتدين أن يحتاط من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد القولين. فإن كان الجزم بأحدهما واجبا فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك، وهذا القائل نفسه ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا، فإنه ليس من أهل الاجتهاد.
الصورة الثانية: أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده: مثل أن يمس ذكره، أو النساء لشهوة، أو يحتجم، أو يفتصد، أو يتقيأ. ثم يصلي بلا وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور.
فأحد القولين لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه، كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
والقول الثاني: تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك، وهو القول الآخر في مذهب الشافعي، وأحمد، بل وأبي حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا. وهذا هو الصواب؛ لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (يصلون لكم فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم). فقد بين ﷺ أن خطأ الإمام لا يتعدي إلى المأموم، ولان المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه، فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه. وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والمأموم قد فعل ما وجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدي ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة.
وقول القائل: إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، خطأ منه، فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وألا تبطل صلاته لأجل ذلك.
ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلم الإمام خطأ، واعتقد المأموم جواز متابعته فسلم، كما سلم المسلمون خلف النبي ﷺ لما سلم من اثنتين سهوا، مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمسا سهوا
فصلوا خلفه خمسا، كما صلى الصحابة خلف النبي ﷺ لما صلى بهم خمسا، فتابعوه، مع علمهم بأنه صلى خمسا؛ لاعتقادهم جواز ذلك، فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحال، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده. وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأ، لم تبطل صلاة المأموم، إذا لم يتابعه، ولو صلى خمسا لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم. والله أعلم.
سئل هل تصح صلاة المأموم خلف من يخالف مذهبه
فأجاب:
وأما صلاة الرجل خلف من يخالف مذهبه، فهذه تصح باتفاق الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة الأربعة، ولكن النزاع في صورتين:
إحداهما: خلافها شاذ، وهو ما إذا أتي الإمام بالواجبات كما يعتقده المأموم، لكن لا يعتقد وجوبها مثل التشهد الأخير إذا فعله من لم يعتقد وجوبه، والمأموم يعتقد وجوبه، فهذا فيه خلاف شاذ. والصواب الذي عليه السلف وجمهور الخلف صحة الصلاة.
والمسألة الثانية: فيها نزاع مشهور، إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يترك قراءة البسملة سرا وجهرا، والمأموم يعتقد وجوبها. أو مثل أن يترك الوضوء من مس الذكر، أو لمس النساء، أو أكل لحم الإبل، أو القهقهة، أو خروج النجاسات، أو النجاسة النادرة، والمأموم يري وجوب الوضوء من ذلك، فهذا فيه قولان. أصحهما صحة صلاة المأموم، وهو مذهب مالك، وأصرح الروايتين عن أحمد في مثل هذه المسائل، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، بل هو المنصوص عنه. فإنه كان يصلي خلف المالكية الذين لا يقرؤون البسملة، ومذهبه وجوب قراءتها. والدليل على ذلك ما رواه البخاري وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (يصلون لكم فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن اخطؤوا، فلكم وعليهم) فجعل خطأ الإمام عليه دون المأموم.
وهذه المسائل إن كان مذهب الإمام فيها هو الصواب، فلا نزاع، وإن كان مخطئا فخطؤه مختص به، والمنازع يقول: المأموم يعتقد بطلان صلاة إمامه، وليس كذلك، بل يعتقد أن الإمام يصلي باجتهاد أو تقليد، إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر، وهو ينفذ حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد، وهذا أعظم من اقتدائه به. فإن كان المجتهد حكمه باطلا، لم يجز إنفاذ الباطل، ولو ترك الإمام الطهارة ناسيا لم يعد المأموم عند الجمهور، كما ثبت عن الخلفاء الراشدين، مع أن الناسي عليه إعادة الصلاة، والمتأول لا إعادة عليه.
فإذا صحت الصلاة خلف من عليه الإعادة، فلأن تصح خلف من لا إعادة عليه أولي. والإمام يعيد إذا ذكر دون المأموم، ولم يصدر من الإمام ولا من المأموم تفريط؛ لأن الإمام لا يرجع عن اعتقاده بقوله. بخلاف ما إذا رأي على الإمام نجاسة ولم يحذره منها، فإن المأموم هنا مفرط. فإذا صلى يعيد؛ لأن ذلك لتفريطه، وأما الإمام، فلا يعيد في هذه الصورة في أصح قولي العلماء، كقول مالك، والشافعي في القديم، وأحمد في أصح الروايتين عنه.
وعلم المأموم بحال الإمام في صورة التأويل يقتضي أنه يعلم أنه مجتهد مغفور له خطؤه، فلا تكون صلاته باطلة، وهذا القول هو الصواب المقطوع به. والله أعلم.
سئل هل يقلد الشافعي حنفيا وعكس ذلك
فأجاب:
الحمد للّه، نعم، يجوز للحنفي وغيره أن يقلد من يجوز الجمع من المطر، لا سيما وهذا مذهب جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد.
وقد كان عبد الله بن عمر يجمع مع ولاة الأمور بالمدينة إذا جمعوا في المطر. وليس على أحد من الناس أن يقلد رجلا بعينه في كل ما يأمر به، وينهي عنه، ويستحبه إلا رسول الله ﷺ، وما زال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلدون تارة هذا، وتارة هذا. فإذا كان المقلد يقلد في مسألة يراها أصلح في دينه، أو القول بها أرجح، أو نحو ذلك، جاز هذا باتفاق جماهير علماء المسلمين، لم يحرم ذلك لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد.
وكذلك الوتر وغيره ينبغي للمأموم أن يتبع فيه إمامه. فإن قنت، قنت معه، وإن لم يقنت، لم يقنت، وإن صلى بثلاث ركعات موصولة، فعل ذلك، وإن فصل فصل أيضا. ومن الناس من يختار للمأموم أن يصل إذا فصل إمامه، والأول أصح. والله أعلم.
سئل عما إذا أدرك مع الإمام بعض الصلاة وقام ليأتي بما فاته
وسئل عما إذا أدرك مع الإمام بعض الصلاة وقام، ليأتي بما فاته، فائتم به آخرون، هل يجوز أم لا؟
فأجاب:
إذا أدرك مع الإمام بعضا، وقام يأتي بما فاته، فائتم به آخرون: جاز ذلك في أظهر قولي العلماء.
سئل عن إمام يصلي صلاة الفرض بالناس ثم يصلي بعدها صلاة أخري
وسئل عن إمام يصلي صلاة الفرض بالناس، ثم يصلي بعدها صلاة أخرى ويقول: هذه عن صلاة فاتتكم، هل يسوغ هذا؟
فأجاب:
الحمد للّه، ليس للإمام الراتب أن يعتاد أن يصلي بالناس الفريضة مرتين، فإن هذه بدعة مخالفة لسنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين، ولم يستحب ذلك أحد من أئمة المسلمين الأربعة، وغيرهم. لا أبي حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل. بل هم متفقون على أن الإمام إذا أعاد بأولئك المأمومين الصلاة مرتين دائما أن هذا بدعة مكروهة، ومن فعل ذلك على وجه التقرب، كان ضالا.
وإنما تنازعوا في الإمام إذا صلى مرة ثانية بقوم آخرين، غير الأولين.
منهم من يجيز ذلك كالشافعي، وأحمد بن حنبل في إحدي الروايتين. ومنهم من يحرم ذلك، كأبي حنيفة ومالك، وأحمد في الرواية الأخري عنه.
ومن عليه فوائت، فإنه يقضيها بحسب الإمكان، أما كون الإمام يعيد الصلاة دائما مع الصلاة الحاضرة، وأن يصلوا خلفه، فهذا ليس بمشروع. وإن قال: إني أفعل ذلك لأجل ما عليهم من الفوائت. وأقل ما في هذا أنه ذريعة إلى أن يتشبه به الأئمة، فتبقي به سنة، يربو عليها الصغير، وتغير بسببها شريعة الإسلام في البوادي، ومواضع الجهل. والله أعلم.
فصل من أدي فرضه إماما أو منفردا فهل يجوز أن يؤم من يأدي فرضه
وَقَال شيخ الإسلام قدس الله روحُه:
وأما من أدي فرضه إماما، أو مأموما، أو منفردا: فهل يجوز أن يؤم في تلك الصلاة لمن يؤدي فرضه مثل أن يصلي الإمام مرتين؟ هذه فيها نزاع مشهور، وفيها ثلاث روايات عن أحمد:
إحداها: أنه لا يجوز، وهي اختيار كثير من أصحابه، ومذهب أبي حنيفة، ومالك.
والثانية: يجوز مطلقا، وهي اختيار بعض أصحابه: كالشيخ أبي محمد المقدسي، وهي مذهب الشافعي.
والثالثة: يجوز عند الحاجة، كصلاة الخوف. قال الشيخ: وهو اختيار جدنا أبي البركات؛ لأن النبي ﷺ صلى بأصحابه بعض الأوقات صلاة الخوف مرتين، وصلى بطائفة وسلم، ثم صلى بطائفة أخرى وسلم.
ومن جوز ذلك مطلقا، احتج بحديث معاذ المعروف: أنه كان يصلي خلف النبي ﷺ، ثم ينطلق فيؤم قومه. وفي رواية: فكانت الأولي فرضا له، والثانية نفلا.
والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة. فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع. كقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه). وبأن الإمام ضامن، فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم، وليس في هذين ما يدفع تلك الحجج، والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال، كما جاء مفسرا، وإلا، فيجوز للمأموم أن يعيد الصلاة، فيكون متنفلا خلف مفترض. كما هو قول جماهير العلماء. وقد دل على ذلك قوله في الحديث الصحيح: (يكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة).
وأيضا، فإنه صلى بمسجد الخَيف، فرأي رجلين لما يصليا، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟) قالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة). وفي السنن أنه رأي رجلا يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟!). فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض في عدة أحاديث، وثبت أيضا بالعكس. فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو النفل ليست بواجبة، والإمام ضامن، وإن كان متنفلا.
ومن هذا الباب: صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلي قيام رمضان يصلي خلفه ركعتين ثم يقوم فيتم ركعتين، فأظهر الأقوال جواز هذا كله، لكن لا ينبغي أن يصلي بغيرهم ثانيا إلا لحاجة، أو مصلحة، مثل أن يكون ليس هناك من يصلح للإمامة غيره، أو هو أحق الحاضرين بالإمامة؛ لكونه أعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله، أو كانوا مستوين في العلم وهو أسبقهم إلى هجرة ما حرم الله ورسوله، أو أقدمهم سنا. فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا). فقدم النبي ﷺ بالفضيلة في العلم بالكتاب والسنة، فإن استووا في العلم، قدم بالسبق إلى العمل الصالح، وقدم السابق باختياره، وهو المهاجر على من سبق بخلق الله له، وهو الكبير السن.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه). فمن سبق إلى هجر السيئات بالتوبة منها، فهو أقدمهم هجرة، فيقدم في الإمامة، فإذا حضر من هو أحق بالإمامة، وكان قد صلى فرضه، فإنه يؤمهم، كما أم النبي ﷺ لطائفة بعد طائفة من أصحابه مرتين، وكما كان معاذ يصلي ثم يؤم قومه أهل قباء؛ لأنه كان أحقهم بالإمامة، وقد ادعي بعضهم أن حديث معاذ منسوخ، ولم يأتوا على ذلك بحجة صحيحة، وما ثبت من الأحكام بالكتاب والسنة لا يجوز دعوي نسخه بأمور محتملة للنسخ وعدم النسخ. وهذا باب واسع قد وقع في بعضه كثير من الناس، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
وكذلك الصلاة على الجنازة إذا صلى عليها الرجل إماما، ثم قدم آخرون، فله أن يصلي بالطائفة الثانية، إذا كان أحقهم بالإمامة، وله إذا صلى غيره على الجنازة مرة ثانية أن يعيدها معهم تبعا، كما يعيد الفريضة تبعا، مثل أن يصلي في بيته، ثم يأتي مسجدا فيه إمام راتب، فيصلي معهم. فإن هذا مشروع في مذهب الإمام أحمد بلا نزاع، وكذلك مذهبه فيمن لم يصل على الجنازة فله أن يصلي عليها بعد غيره، وله أن يصلي على القبر إذ فاتته الصلاة. هذا مذهب فقهاء الحديث قاطبة، كالشافعي وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومالك لا يري الإعادة، وأبو حنيفة لا يراها إلا للولي.
وأما إذا صلى هو على الجنازة، ثم صلى عليها غيره: فهل له أن يعيدها مع الطائفة الثانية؟ فيه وجهان في مذهب أحمد. قيل: لا يعيدها. قالوا: لأن الثانية نفل، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها. وقيل: بل له أن يعيدها، وهو الصحيح. فإن النبي ﷺ لما صلى على قبر منبوذ، صلى معه من كان صلى عليها أولا. وإعادة صلاة الجنازة من جنس إعادة الفريضة، فتشرع حيث شرعها الله ورسوله. وعلي هذا: فهل يؤم على الجنازة مرتين؟ على روايتين. والصحيح أن له ذلك. والله أعلم.
سئل عمن صلى مع الإمام ثم حضر جماعة أخرى فصلى بهم إماما
وسئل عن رجل صلى مع الإمام، ثم حضر جماعة أخرى فصلى بهم إمامًا فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
هذه المسألة هي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل فإن الإمام كان قد أدي فرضه، فإذا صلى بغيره إمامًا، فهذا جائز في مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه. وفيها قول ثالث في مذهب أحمد: أنه يجوز للحاجة، ولا يجوز لغير حاجة. فإذا كان ذلك الإمام هو القارئ، وهو المستحق للإمامة دونهم، ففعل ذلك في مثل هذه الحال حسن. والله أعلم.
سئل عن إمام مسجدين هل يجوز الاقتداء به أم لا
وسئل عن إمام مسجدين. هل يجوز الاقتداء به أم لا؟
فأجاب:
إذا أمكن أن يرتب في كل مسجد إمام راتب، فلا يصلح أن يرتب إمام في مسجدين، فإذا صلى إماما في موضعين، ففي صحة الصلاة الثانية لمن يؤدي فريضته خلاف بين العلماء. فمذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدي الروايتين. أن الفرض لا يسقط عن أهل المسجد الثاني. والله أعلم.
سئل عمن يصلي الفرض خلف من يصلي نفلا
وسئل عمن يصلي الفرض خلف من يصلي نفلا؟
فأجاب:
يجوز ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه.
سئل عما يفعله الرجل شاكا في وجوبه على طريق الاحتياط
وسئل شَيخ الإسْلام رَحمه الله عما يفعله الرجل شاكا في وجوبه، على طريق الاحتياط. هل يأتم به المفترض؟
فأجاب:
قياس المذهب أنه يصح؛ لأن الشاك يؤديها بنية الوجوب إذا، كما قلنا في نية الإغماء، وإن لم نقل بوجوب الصوم. كما قلنا فيمن شك في انتقاض وضوئه يتوضأ.
وكذلك صور الشك في وجوب طهارة أو صيام أو زكاة أو صلاة أو نسك أو كفارة، أو غير ذلك، بخلاف ما لو اعتقد الوجوب ثم تبين له عدمه، فإن هذه خرج فيها خلاف؛ لأنها في الحقيقة نفل لكنها في اعتقاده واجبة، والمشكوك فيها هي في قصده واجبة، والاعتقاد متردد.
سئل عمن وجد جماعة يصلون الظهر فأراد أن يقضي معهم الصبح
وسئل رَحمه الله عمن وجد جماعة يصلون الظهر، فأراد أن يقضي معهم الصبح. فلما قام الإمام للركعة الثالثة، فارقه بالسلام، فهل تصح هذه الصلاة؟ وعلي أي مذهب تصح؟
فأجاب:
هذه الصلاة لا تصح في مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد في إحدي الروايتين عنه. وتصح في مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخري. والله أعلم.
سئل عمن وجد الصلاة قائمة فنوى الائتمام
وسئل عمن وجد الصلاة قائمة فنوى الائتمام، وظن أن إمامه زيد، فتبين أنه عمرو. هل يضره ذلك؟ وكذلك لو ظن الإمام في المأموم مثل ذلك؟
فأجاب:
إذا كان مقصوده أن يصلي خلف إمام تلك الجماعة كائنا من كان، وظن أنه زيد فتبين أنه عمرو صحت صلاته، كما لو اعتقد أنه أبيض فتبين أنه أسود، أو اعتقد أن عليه كساء فتبين أنه عباءة، ونحو ذلك من خطأ الظن الذي لا يقدح في الائتمام.
وإن كان مقصوده أن يصلي خلف زيد، ولو علم أنه عمرو لم يصل خلفه، وكان عمرو، فهذا لم يأتم به. وإنما الأعمال بالنيات.
وهل هو بمنزلة من صلى بلا ائتمام أو تبطل صلاته؟ فيه نزاع، كما لو كانت صلاة الإمام باطلة والمأموم لا يعلم. فلا يضر المؤتم الجهل بعين الإمام إذا كان مقصوده أن يصلي خلف الإمام الذي يصلي بتلك الجماعة، وكذلك الإمام لم يضره الجهل بعين المأمومين، بل إذا نوي الصلاة بمن خلفه جاز.
وقد قيل: إنه إذا عين فأخطأ بطلت صلاته مطلقا. والصواب: الفرق بين تعيينه بالقصد، بحيث يكون قصده ألا يصلي إلا خلفه، وبين تعيين الظن بحيث يكون قصده الصلاة خلف الإمام مطلقا، لكن ظن أنه زيد. والله أعلم.
سئل عمن صلى خلف الصف منفردا هل تصح صلاته أم لا
وسئل رَحمه الله عمن صلى خلف الصف منفردا. هل تصح صلاته أم لا؟ والأحاديث الواردة في ذلك هل هي صحيحة أم لا؟ والأئمة القائلون بهذا من غير الأئمة الأربعة؛ كحماد بن أبي سليمان، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والأوزاعي. قد قال عنهم رجل أعني عن هؤلاء الأئمة المذكورين: هؤلاء لا يلتفت إليهم، فصاحب هذا الكلام ما حكمه؟ وهل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة لمن يجوز له التقليد؟ كما يجوز تقليد الأئمة الأربعة أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، من قول العلماء أنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف؛ لأن في ذلك حديثين عن النبي ﷺ أنه أمر المصلي خلف الصف بالإعادة، وقال: (لا صلاة لفذ خلف الصف). وقد صحح الحديثين غير واحد من أئمة الحديث، وأسانيدهما مما تقوم بهما الحجة، بل المخالفون لهما يعتمدون في كثير من المسائل على ما هو أضعف إسنادا منهما، وليس فيهما ما يخالف الأصول، بل ما فيهما هو مقتضي النصوص المشهورة، والأصول المقررة، فإن صلاة الجماعة سميت جماعة لاجتماع المصلين في الفعل مكانا وزمانا، فإذا أخلوا بالاجتماع المكاني أو الزماني مثل أن يتقدموا أو بعضهم على الإمام، أو يتخلفوا عنه تخلفا كثيرا لغير عذر، كان ذلك منهيا عنه باتفاق الأئمة، وكذلك لو كانوا مفترقين غير منتظمين، مثل أن يكون هذا خلف هذا، وهذا خلف هذا، كان هذا من أعظم الأمور المنكرة، بل قد أمروا بالاصطفاف، بل أمرهم النبي ﷺ بتقويم الصفوف وتعديلها، وتراص الصفوف، وسد الخُلَلَ، وسد الأول فالأول، كل ذلك مبالغة في تحقيق اجتماعهم على أحسن وجه، بحسب الإمكان. ولو لم يكن الاصطفاف واجبا، لجاز أن يقف واحد خلف واحد، وهلم جرا. وهذا مما يعلم كل أحد علما عاما أن هذه ليست صلاة المسلمين. ولو كان هذا مما يجوز لفعله المسلمون ولو مرة، بل وكذلك إذا جعلوا الصف غير منتظم: مثل أن يتقدم هذا على هذا، ويتأخر هذا عن هذا، لكان ذلك شيئا قد علم نهي النبي ﷺ عنه، والنهي يقتضي التحريم، بل إذا صلوا قدام الإمام، كان أحسن من مثل هذا.
فإذا كان الجمهور لا يصححون الصلاة قدام الإمام، إما مطلقا، وإما لغير عذر، فكيف تصح الصلاة بدون الاصطفاف. فقياس الأصول يقتضي وجوب الاصطفاف، وأن صلاة المنفرد لا تصح، كما جاء به هذان الحديثان، ومن خالف ذلك من العلماء، فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة من وجه يثق به، بل قد يكون لم يسمعها، وقد يكون ظن أن الحديث ضعيف، كما ذكر ذلك بعضهم.
والذين عارضوه احتجوا بصحة صلاة المرأة منفردة، كما ثبت في الصحيح: أن أنسا واليتيم صفا خلف النبي ﷺ، وصفت العجوز خلفهما. وقد اتفق العلماء على صحة وقوفها منفردة إذا لم يكن في الجماعة امرأة غيرها، كما جاءت به السنة. واحتجوا أيضا بوقوف الإمام منفردا. واحتجوا بحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف، ثم دخل في الصف فقال له النبي ﷺ: (زادك الله حرصا، ولا تعد). وهذه حجة ضعيفة لا تقاوم حجة النهي عن ذلك، وذلك من وجوه:
أحدها: أن وقوف المرأة خلف صف الرجال سنة مأمور بها، ولو وقفت في صف الرجال، لكان ذلك مكروها. وهل تبطل صلاة من يحاذيها؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، وغيره.
أحدهما: تبطل، كقول أبي حنيفة، وهو اختيار أبي بكر وأبي حفص. من أصحاب أحمد.
والثاني: لا تبطل. كقول مالك، والشافعي، وهو قول ابن حامد والقاضي، وغيرهما، مع تنازعهم في الرجل الواقف معها: هل يكون فذا أم لا؟ والمنصوص عن أحمد بطلان صلاة من يليها في الموقف.
وأما وقوف الرجل وحده خلف الصف فمكروه، وترك للسنة باتفاقهم، فكيف يقاس المنهي بالمأمور به، وكذلك وقوف الإمام أمام الصف هو السنة. فكيف يقاس المأمور به بالمنهي عنه؟ والقياس الصحيح إنما هو قياس المسكوت على المنصوص، أما قياس المنصوص على منصوص يخالفه، فهو باطل باتفاق العلماء، كقياس الربا على البيع، وقد أحل الله البيع وحرم الربا.
والثاني: أن المرأة وقفت خلف الصف؛ لأنه لم يكن لها من تصافه، ولم يمكنها مصافة الرجل، ولهذا لو كان معها في الصلاة امرأة، لكان من حقها أن تقوم معها، وكان حكمها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال.
ونظير ذلك ألا يجد الرجل موقفا إلا خلف الصف، فهذا فيه نزاع بين المبطلين لصلاة المنفرد، وإلا ظهر صحة صلاته في هذا الموضع: لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز. وطرد هذا صحة صلاة المتقدم على الإمام للحاجة، كقول طائفة، وهو قول في مذهب أحمد.
وإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسجود والطهارة بالماء وغير ذلك، يسقط بالعجز، فكذلك الاصطفاف وترك التقدم. وطرد هذا بقية مسائل الصفوف، كمسألة من صلى ولم ير الإمام، ولا من وراءه مع سماعه للتكبير وغير ذلك، وأما الإمام ؛ فإنما قُدِّم ليراه المأمومون فيأتمون به، وهذا منتف في المأموم.
وأما حديث أبي بكرة؛ فليس فيه أنه صلى منفردا خلف الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركا للركعة، فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه في القيام، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة، وحديث أبي بكرة فيه النهي بقوله: (ولا تعد) وليس فيه أنه أمره بإعادة الركعة، كما في حديث الفذ. فإنه أمره بإعادة الصلاة، وهذا مبين مفسر، وذلك مجمل حتي لو قدر أنه صرح في حديث أبي بكرة بأنه دخل في الصف بعد اعتدال الإمام كما يجوز ذلك في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره لكان سائغا في مثل هذا دون ما أمر فيه بالإعادة، فهذا له وجه، وهذا له وجه.
وأما التفريق بين العالم والجاهل، كقول في مذهب أحمد، فلا يسوغ، فإن المصلي المنفرد لم يكن عالما بالنهي، وقد أمره بالإعادة كما أمر الأعرابي المسيء في صلاته بالإعادة.
وأما الأئمة المذكورون: فمن سادات أئمة الإسلام. فإن الثوري إمام أهل العراق، وهو عند أكثرهم أجل من أقرانه: كابن أبي ليلي، والحسن بن صالح بن حي، وأبي حنيفة، وغيره، وله مذهب باق إلى اليوم بأرض خراسان. والأوزاعي إمام أهل الشام، وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة، بل أهل المغرب كانوا على مذهبه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك. وحماد بن أبي سليمان: هو شيخ أبي حنيفة، ومع هذا، فهذا القول هو قول أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهما، ومذهبه باق إلى اليوم وهو مذهب داود بن على وأصحابه، ومذهبهم باق إلى اليوم، فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول، بل القائلون به كثير في المشرق والمغرب.
وليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص، فمالك والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، هؤلاء أئمة في زمانهم، وتقليد كل منهم كتقليد الآخر، لا يقول مسلم: إنه يجوز تقليد هذا دون هذا، ولكن من منع من تقليد أحد هؤلاء في زماننا، فإنما يمنعه لأحد شيئين:
أحدهما: اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذاهبهم، وتقليد الميت فيه نزاع مشهور، فمن منعه قال: هؤلاء موتي، ومن سوغه قال: لابد أن يكون في الأحياء من يعرف قول الميت.
والثاني: أن يقول: الإجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول. وينبني ذلك على مسألة معروفة في أصول الفقه. وهي: أن الصحابة مثلا أو غيرهم من أهل الأعصار إذا اختلفوا في مسألة على قولين، ثم أجمع التابعون أو أهل العصر الثاني على أحدهما، فهل يكون هذا إجماعًا يرفع ذلك الخلاف؟ وفي المسألة نزاع مشهور في مذهب أحمد، وغيره من العلماء. فمن قال: إن مع إجماع أهل العصر الثاني لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر، واعتقد أن أهل العصر أجمعوا على ذلك يركب من هذين الاعتقادين المنع.
ومن علم أن الخلاف القديم حكمه باق؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، فإنه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر للمجتهد الذي وافق اجتهاده.
وأما التقليد فينبني على مسألة تقليد الميت، وفيها قولان مشهوران أيضا في مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما.
وأما إذا كان القول الذي يقول به هؤلاء الأئمة أو غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم، فلا ريب أن قوله مؤيد بموافقة هؤلاء ويعتضد به، ويقابل بهؤلاء من خالفهم من أقرانهم. فيقابل بالثوري والأوزاعي وأبا حنيفة ومالك؛ إذ الأمة متفقة على أنه إذا اختلف مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة، لم يجز أن يقال: قول هذا هو الصواب دون هذا إلا بحجة. والله أعلم.
سئل هل التبليغ وراء الإمام كان على عهد رسول الله صلى الله عليه سلم
وسئل رَحمه الله تعالى: هل التبليغ وراء الإمام كان على عهد رسول الله ﷺ أو في شيء من زمن الخلفاء الراشدين؟ فإن لم يكن، فمع الأمن من إخلال شيء من متابعة الإمام، والطمأنينة المشروعة، واتصال الصفوف، والاستماع للإمام من ورائه إن وقع خلل مما ذكر، هل يطلق على فاعله البدعة؟ وهل ذهب أحد من علماء المسلمين إلى بطلان صلاته بذلك؟ وما حكم من اعتقد ذلك قربة فعله أو لم يفعله بعد التعريف؟
فأجاب:
لم يكن التبليغ والتكبير ورفع الصوت بالتحميد والتسليم على عهد رسول الله ﷺ، ولا على عهد خلفائه، ولا بعد ذلك بزمان طويل، إلا مرتين؛ مرة صرع النبي ﷺ عن فرس ركبه فصلى في بيته قاعدا، فبلغ أبو بكر عنه التكبير. كذا رواه مسلم في صحيحه. ومرة أخرى في مرض موته بلغ عنه أبو بكر. وهذا مشهور.
مع أن ظاهر مذهب الإمام أحمد أن هذه الصلاة كان أبو بكر مؤتما فيها بالنبي ﷺ، وكان إماما للناس، فيكون تبليغ أبي بكر إماما للناس، وإن كان مؤتما بالنبي ﷺ، وهكذا قالت عائشة رضي الله عنها: كان الناس يأتمون بابي بكر، وأبو بكر يأتم بالنبي ﷺ. ولم يذكر أحد من العلماء تبليغا على عهد رسول الله ﷺ إلا هاتين المرتين: لمرضه.
والعلماء المصنفون لما احتاجوا أن يستدلوا على جواز التبليغ لحاجة، لم يكن عندهم سنة عن رسول الله ﷺ إلا هذا، وهذا يعلمه علما يقينيا من له خبرة بسنة رسول الله ﷺ.
ولا خلاف بين العلماء أن هذا التبليغ لغير حاجة ليس بمستحب، بل صرح كثير منهم أنه مكروه. ومنهم من قال: تبطل صلاة فاعله، وهذا موجود في مذهب مالك، وأحمد، وغيره. وأما الحاجة لبعد المأموم، أو لضعف الإمام، وغير ذلك، فقد اختلفوا فيه في هذه، والمعروف عند أصحاب أحمد أنه جائز في هذا الحال، وهو أصح قولي أصحاب مالك، وبلغني أن أحمد توقف في ذلك. وحيث جاز ولم يبطل فيشترط ألا يخل بشيء من واجبات الصلاة.
فأما إن كان المبلغ لا يطمئن، بطلت صلاته عند عامة العلماء كما دلت عليه السنة. وإن كان أيضا يسبق الإمام، بطلت صلاته في ظاهر مذهب أحمد. وهو الذي دلت عليه السنة، وأقوال الصحابة. وإن كان يخل بالذكر المفعول في الركوع والسجود والتسبيح ونحوه، ففي بطلان الصلاة خلاف. وظاهر مذهب أحمد أنها تبطل، ولا ريب أن التبليغ لغير حاجة بدعة، ومن اعتقده قربة مطلقة فلا ريب أنه إما جاهل، وإما معاند. وإلا، فجميع العلماء من الطوائف قد ذكروا ذلك في كتبهم، حتي في المختصرات. قالوا: ولا يجهر بشيء من التكبير. إلا أن يكون إماما، ومن أصر على اعتقاد كونه قربة، فإنه يعزَّر على ذلك لمخالفته الإجماع. هذا أقل أحواله. والله أعلم.
سئل هل يجوز أن يكبر خلف الإمام
فأجاب:
لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي هو المبلغ لغير حاجة: باتفاق الأئمة، فإن بلالا لم يكن يبلغ خلف النبي ﷺ هو ولا غيره، ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لما مرض النبي ﷺ صلى بالناس مرة وصوته ضعيف، وكان أبو بكر يصلى إلى جنبه يسمع الناس التكبير، فاستدل العلماء بذلك على أنه يشرع التكبير عند الحاجة: مثل ضعف صوته، فأما بدون ذلك، فاتفقوا على أنه مكروه غير مشروع.
وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعله على قولين. والنزاع في الصحة معروف في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. غير أنه مكروه باتفاق المذاهب كلها. والله أعلم.
سئل عن التبليغ خلف الإمام هل هو مستحب أو بدعة
فأجاب:
أما التبليغ خلف الإمام لغير حاجة، فهو بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة. وإنما يجهر بالتكبير الإمام، كما كان النبي ﷺ، وخلفاؤه يفعلون، ولم يكن أحد يبلغ خلف النبي ﷺ، لكن لما مرض النبي ﷺ ضعف صوته، فكان أبو بكر رضي الله عنه يسْمِع بالتكبير.
وقد اختلف العلماء: هل تبطل صلاة المبلغ؟ على قولين في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما.
سئل هل تجزئ الصلاة قدام الإمام أو خلفه في المسجد وبينهما حائل أم لا
هل تجزئ الصلاة قدام الإمام أو خلفه في المسجد وبينهما حائل أم لا؟
فأجاب:
أما صلاة المأموم قدام الإمام، ففيها ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنها تصح مطلقًا، وإن قيل إنها تكره، وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك، والقول القديم للشافعي.
والثاني: أنها لا تصح مطلقًا، كمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبهما.
والثالث: أنها تصح مع العذر، دون غيره، مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلى الجمعة أو الجنازة إلا قُدَّام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيرًا له من تركه للصلاة. وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قول في مذهب أحمد، وغيره. وهو أعدل الأقوال وأرجحها. وذلك لأن ترك التقدم على الإمام غايته أن يكون واجبًا من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر. وإن كانت واجبة في أصل الصلاة، فالواجب في الجماعة أولي بالسقوط. ولهذا يسقط عن المصلى ما يعجز عنه من القيام، والقراءة، واللباس، والطهارة، وغير ذلك.
وأما الجماعة: فإنه يجلس في الأوتار لمتابعة الإمام، ولو فعل ذلك منفردًا عمدًا، بطلت صلاته، وإن أدركه ساجدًا أو قاعدًا كبر وسجد معه، وقعد معه؛ لأجل المتابعة، مع أنه لا يعتد له بذلك، ويسجد لسهو الإمام، وإن كان هو لم يسه.
وأيضا، ففي صلاة الخوف لا يستقبل القبلة، ويعمل العمل الكثير، ويفارق الإمام قبل السلام، ويقضي الركعة الأولي قبل سلام الإمام، وغير ذلك مما يفعله لأجل الجماعة، ولو فعله لغير عذر بطلت صلاته.
وأبلغ من ذلك أن مذهب أكثر البصريين، وأكثر أهل الحديث: أن الإمام الراتب إذا صلى جالسًا صلى المأمومون جلوسًا؛ لأجل متابعته، فيتركون القيام الواجب لأجل المتابعة، كما استفاضت السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون).
والناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
قيل: لا يؤم القاعد القائم، وأن ذلك من خصائص النبي ﷺ: كقول مالك، ومحمد بن الحسن.
وقيل: بل يؤمهم، ويقومون، وأن الأمر بالقعود منسوخ.كقول أبي حنيفة، والشافعي.
وقيل: بل ذلك محكم، وقد فعله غير واحد من الصحابة بعد موت النبي ﷺ كأسيد ابن حضير، وغيره. وهذا مذهب حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما. وعلي هذا، فلو صلوا قيامًا ففي صحة صلاتهم قولان.
والمقصود هنا أن الجماعة تفعل بحسب الإمكان، فإذا كان المأموم لا يمكنه الائتمام بإمامه إلا قدامه، كان غاية ما في هذا أنه قد ترك الموقف لأجل الجماعة، وهذا أخف من غيره، ومثل هذا أنه منهي عن الصلاة خلف الصف وحده، فلو لم يجد من يصافه ولم يجذب أحدًا يصلى معه، صلى وحده خلف الصف، ولم يدع الجماعة، كما أن المرأة إذا لم تجد امرأة تصافها، فإنها تقف وحدها خلف الصف، باتفاق الأئمة. وهو إنما أمر بالمصافة مع الإمكان لا عند العجز عن المصافة.
فصل صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد
وأما صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل: فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة. وإن كان بينهما طريق، أو نهر تجري فيه السفن: ففيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: المنع كقول أبي حنيفة.
والثاني: الجواز كقول الشافعي.
وأما إذا كان بينهما حائل يمنع الرؤية، والاستطراق، ففيها عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يجوز. وقيل: لا يجوز. وقيل: يجوز في المسجد دون غيره. وقيل: يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة. ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقًا: مثل أن تكون أبواب المسجد مغلقة، أو تكون المقصورة التي فيها الإمام مغلقة، أو نحو ذلك.
فهنا لو كانت الرؤية واجبة لسقطت للحاجة. كما تقدم، فإنه قد تقدم أن واجبات الصلاة والجماعة تسقط بالعذر، وأن الصلاة في الجماعة خير من صلاة الإنسان وحده بكل حال.
سئل عمن يصلي مع الإمام وبينه وبين الإمام حائل بحيث لا يراه
وسئل عمن يصلي مع الإمام، وبينه وبين الإمام حائل، بحيث لا يراه، ولا يرى من يراه: هل تصح صلاته أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم تصح صلاته، عند أكثر العلماء. وهو المنصوص الصريح عن أحمد، فإنه نص على أن المنبر لا يمنع الاقتداء، والسنة في الصفوف أن يتموا الأول فالأول، ويتراصون في الصف.
فمن صلى في مؤخر المسجد مع خلو ما يلي الإمام كانت صلاته مكروهة. والله أعلم.
سئل عن إمام يصلي خلفه جماعة وقدامه جماعة
وسئل رحمه الله عن إمام يصلي خلفه جماعة، وقدامه جماعة: فهل تصح صلاة المتقدمين على الإمام أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، أما الذين خلف الإمام:
فصلاتهم صحيحة بلا ريب. وأما الذين قدامه: فللعلماء فيهم ثلاثة أقوال: قيل: تصح. وقيل: لا تصح. وقيل: تصح إذا لم يمكنهم الصلاة معه إلا تكلفًا، وهذا أولى الأقوال. والله أعلم.
سئل عن الحوانيت المجاورة للجامع من أرباب الأسواق إذا اتصلت بهم الصفوف
وسئل عن الحوانيت المجاورة للجامع من أرباب الأسواق. إذا اتصلت بهم الصفوف فهل تجوز صلاة الجمعة في حوانيتهم؟
فأجاب:
أما صلاة الجمعة وغيرها: فعلى الناس أن يسدوا الأول، فالأول، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (ألا تصفون كما تَصُفُّ الملائكة عند ربها؟) قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يسدون الأول، فالأول، ويتراصون في الصف). فليس لأحد أن يسد الصفوف المؤخرة مع خلو المقدمة، ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المقدمة، فإن هذا لا حرمة له.
كما أنه ليس لأحد أن يقدم ما يفرش له في المسجد، ويتأخر هو، وما فرش له لم يكن له حرمة، بل يزال ويصلى مكانه على الصحيح، بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد، فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق، صحت صلاتهم.
وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء.
وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف، ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة، فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء.
وكذلك من صلى في حانوته والطريق خال لم تصح صلاته، وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به، بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول. والله أعلم.
سئل عن صلاة الجمعة في الأسواق وفي الدكاكين والطرقات اختيارا
وسئل رحمه الله عن صلاة الجمعة في الأسواق، وفي الدكاكين والطرقات اختيارًا: هل تصح صلاته أم لا؟
فأجاب:
إن اتصلت الصفوف فلا بأس بالصلاة لمن تأخر، ولم يمكنه إلا ذلك.
وأما إذا تعمد الرجل أن يقعد هناك. ويترك الدخول إلى المسجد كالذين يقعدون في الحوانيت، فهؤلاء مخطؤون مخالفون للسنة. فإن النبي ﷺ قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟) قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يكملون الأول فالأول، ويتراصون في الصف). وقال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها).
وأما إذا لم تتصل الصفوف، بل كان بين الصفوف طريق، ففي صحة الصلاة قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
أحدهما: لا تصح، كقول أبي حنيفة.
والثاني: تصح، كقول الشافعي، والله أعلم.
سئل عن جامع بجانب السوق بحيث يسمع التكبير منه
وسئل عن جامع بجانب السوق بحيث يسمع التكبير منه: هل تجوز صلاة الجمعة في السوق؟ أو على سطح السوق؟ أو في الدكاكين أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا امتلأ الجامع جاز أن يصلى في الطرقات.
فإذا امتلأت صلوا فيما بينها من الحوانيت. وغيرها. وأما إذا لم تتصل الصفوف، فلا. وكذلك فوق الأسطحة، والله أعلم.
سئل عن رجل جمع جماعة على نافلة وأمهم من أول رجب إلى آخر رمضان
وسئل رحمه الله عن رجل جمع جماعة على نافلة وأمهم من أول رجب إلى آخر رمضان يصلى بهم بين العشائين عشرين ركعة بعشر تسليمات، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات، ويتخذ ذلك شعارًا، ويحتج بأن النبي ﷺ أم ابن عباس والأنصاري الذي قال له: السيول تحول بيني وبينك، فهل هذا موافق للشريعة أم لا؟ وهل يؤجر على ذلك أم لا والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، صلاة التطوع في جماعة نوعان:
أحدهما: ما تسن له الجماعة الراتبة كالكسوف والاستسقاء وقيام رمضان، فهذا يفعل في الجماعة دائما كما مضت به السنة.
الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة: كقيام الليل، والسنن الرواتب، وصلاة الضحي، وتحية المسجد ونحو ذلك.
فهذا إذا فعل جماعة أحيانًا جاز.
وأما الجماعة الراتبة في ذلك فغير مشروعة بل بدعة مكروهة. فإن النبي ﷺ والصحابة والتابعين لم يكونوا يعتادون الاجتماع للرواتب على ما دون هذا. والنبي ﷺ إنما تطوع في ذلك في جماعة قليلة أحيانًا فإنه كان يقوم الليل وحده؛ لكن لما بات ابن عباس عنده، صلى معه، وليلة أخرى صلى معه حذيفة، وليلة أخرى صلى معه ابن مسعود، وكذلك صلى عند عتبان بن مالك الأنصاري في مكان يتخذه مصلى صلى معه، وكذلك صلى بأنس وأمه واليتيم.
وعامة تطوعاته إنما كان يصليها مفردًا، وهذا الذي ذكرناه في التطوعات المسنونة، فأما إنشاء صلاة بعدد مقدر وقراءة مقدرة في وقت معين تصلى جماعة راتبة كهذه الصلوات المسؤول عنها، كصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب والألفية في أول رجب، ونصف شعبان، وليلة سبع وعشرين من شهر رجب وأمثال ذلك فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام، كما نص على ذلك العلماء المعتبرون ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع، وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام، وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. والله أعلم.
هامش
- ↑ [البقرة: 260]
- ↑ [الأنعام: 75]
- ↑ [الإسراء: 79]
- ↑ [الأحزاب: 36]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [الفرقان: 64]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [القلم: 42، 43]
- ↑ [العلق: 19]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [التوبة: 17]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [السجدة: 16]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [الذاريات: 15 18]
- ↑ [آل عمران: 17]
- ↑ [البقرة: 88]
- ↑ [الذاريات: 17]
- ↑ [المزمل: 2، 4]
- ↑ [السجدة: 15، 17]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [آل عمران: 113]
- ↑ [الإسراء: 78، 79]
- ↑ [المزمل: 2، 6]
- ↑ [الفرقان: 63، 64]
- ↑ [الإنسان: 2326]
- ↑ [الحجر: 97، 98]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [قريش: 4]
- ↑ [الملك: 20، 21]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [آل عمران: 43]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [يونس: 89]
- ↑ [الفاتحة: 6]
- ↑ [سورة الإخلاص ]
- ↑ [الأعراف: 206]
- ↑ [الرعد: 15]
- ↑ [النحل: 48 50]
- ↑ [الإسراء: 107 109]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [البقرة: 58]
- ↑ [الحج: 18]
- ↑ [الفرقان: 60]
- ↑ [النمل: 24 26]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [فصلت: 37، 38]
- ↑ [النجم: 62]
- ↑ [الانشقاق: 20، 21]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [العلق: 91]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [الانشقاق: 20، 21]
- ↑ [المدثر: 49]
- ↑ [الحديد: 8]
- ↑ [النساء: 78]
- ↑ [النجم: 59 62]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [الإسراء: 107 109]
- ↑ [الإسراء: 109]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [ص: 24]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [الإسراء: 107 109]
- ↑ [غافر: 60]
- ↑ [فصلت: 37]
- ↑ [النمل: 24، 26]
- ↑ [فصلت: 38]
- ↑ [الأعراف: 206]
- ↑ [الصافات: 165، 166]
- ↑ [المدثر: 49، 51]
- ↑ [فصلت: 26]
- ↑ [فصلت: 3، 4]
- ↑ [الأنفال: 23]
- ↑ [الأنفال: 21، 23]
- ↑ [الفرقان: 73]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [العلق: 19]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [الإسراء: 110]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [الانشقاق 20، 21]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [سورة الانشقاق ]
- ↑ [الانشقاق: 21]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [الإسراء: 107 109]
- ↑ [الصافات: 103]
- ↑ [الأنعام: 162]
- ↑ [الكوثر: 2]
- ↑ [الحج: 34]
- ↑ [الحج: 36، 37]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [التكوير: 27، 28]
- ↑ [النجم: 62]
- ↑ [مريم: 58]
- ↑ [الأنعام: 90]
- ↑ [الإسراء: 107 109]
- ↑ [التوبة: 84]
- ↑ [الحج: 26]
- ↑ [النساء: 142]
- ↑ [التوبة: 79]
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [الفرقان: 62]
- ↑ [الفرقان: 45]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [البقرة: 187]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 17، 18]
- ↑ [النور: 36، 37]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [الحج: 40]
- ↑ [النساء: 115]
- ↑ [النساء: 102]
- ↑ [البقرة: 43]
- ↑ [التوبة: 119]
- ↑ [آل عمران: 43]
- ↑ [الفتح: 25]
- ↑ [الجمعة: 9]
- ↑ [النور: 30]
- ↑ [النساء: 95]
- ↑ [البقرة: 43]
- ↑ [عبس: 1، 2]
- ↑ [التغابن: 16]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [الفاتحة: 7]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [ق: 39]
- ↑ [هود: 114]
- ↑ [الإسراء: 78]
- ↑ [الأنبياء: 50]
- ↑ [طه: 99]
- ↑ [طه: 124]
- ↑ [الأنبياء: 2]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [النساء: 115]
- ↑ [الأعراف 204]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [المائدة: 118]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [النساء: 10]
- ↑ [البقرة: 178]